كاتب الموضوع :
العنقاء الحزين
المنتدى :
الارشيف
الفصـــــــل الرابع
ما أن أغلقت فينيتيا باب غرفة النوم خلفها ، حتى شعرت بالخجل البالغ من نفسها ذلك الخجل المدمر الذي تمنت معه لو تنشق الأرض وتبتلعها ، بينما أحاطت ذراعاها بجسمها المرتجف . أي دافع تملكها وجعلها تقول مثل تلك الأشياء؟ وتتصرف بتلك الطريقة؟ فكارلو روسي لا يعني لها شيئاً لها الآن ومنذ سنوات لم تفكر فيه فلماذا نظرة عدائية واحدة من تلك العينين السوداوين تجعلها تتصرف وكأنها امرأة مغامرة دون قلب ولا مبدأ؟ وفي يوم جنازة أبيها ... لقد جعلها هذا وحده تشعر باحتقار لنفسها!
غالبت دموعها ثائرة وهي تتنفس بعمق وترتجف ثم اعتدلت في وقفتها وهي تسمع نقراً خفيفاً على الباب الخشبي تبعه صوت بوتي يناديها . أجابت بلهجة آلية :" ادخلي " ثم مشت بخطوات مهتزة إلى منضدة الزينة حيث خلعت قبعتها إنها لا تريد أن تراها أو ترى ذلك الطقم الأسود مرة أخرى إنها لا تريد أن يذكرها شيء بهذا اليوم المخيف .
قالت مدبرة المنزل بصوت فيه لمحة من العتب : " كنت أتساءل أين عسى أن تكوني ." وتجاهلت فينيتيا عتبها هذا وهي تنظر في انعكاس صورة عينيها في المرآة كانتا تبدوان كبيرتين بالنسبة إلى وجهها الشاحب .
عادت بوتي تقول : " لقد خرج المتعهدون وفكرت في انكِ والسيد روسي قد تفضلان عشاء مبكراً . لم اعد شيئاً كثيراً ولهذا سأقدمه إليكما في غرفة الطعام حيث المكان لطيف مريح ."
هزت فينيتيا كتفيها بعد أن فككت أزرار جاكتتها وهي تفكر في انه على كارلو أن يتناول عشاءه من صندوق القمامة في فناء المنزل فهي لا تهتم له مثقال ذرة وقالت بصوت جامد : " لا أريد أن آكل شيئاً إنني لست جائعة وسأغتسل ثم آوي إلى فراشي باكراً ." قالت بوتي بمرارة : " ولكنك كنت ستأكلين لو أن سيمون ذلك بقى هنا كما كان يريد انك لا تحسنين التصرف بالنسبة إلى نفسك أبداً ." وخرجت وهي تصفق الباب خلفها بعنف تخفف بذلك من توترها .
أطبقت فينيتيا شفتيها بشدة لا تريد أن تفكر في ما قالته بوتي . أنها لا تريد أن تفكر بشيء ليس هذه الليلة على الأقل وإذا هي فعلت فستنهار كلياً ... ستحاول غداً ان تعالج الأمور وقررت أن تتصل بسيمون وتتفق على موعد لتتناقش معه في كل شيء وهو سيعطيها نصائحه بكل تجرد ونزاهة . صممت على هذا ومن ثم صرفت ذهنها تماماً وهي تتابع خلع ثيابها . خرجت من الحمام بعد ذلك بنصف ساعة وهي تنشف شعرها بمنشفة وقد أبرز طول قامتها قميص نوم من الساتان الأبيض وبعد أن ألقت بالمنشفة على الكرسي مشطت شعرها بسرعة ثم سارت لتزيح الستائر جانباً في محاولة منها لتخفيف الضيق الذي تملكها . كان الليل شديد الظلمة ولم يكن ثمة ما يذكرها بأنها تسكن كوكباً مأهولاً سوى أضواء بعيدة تنبعث من اكواخ المزارعين ولم تكن هنالك نجوم لا بد إذن أن الغيوم كثيفة وكانت نشرة الأنباء الجوية قد تنبأت بسقوط الثلج كما سمعت من أحد الأشخاص في الجنازة معلقاً بأن من حسن الحظ أن تأخر سقوط الثلج . ولكنها لا تريد ان تفكر بالجنازة . مشت بسرعة الى رف الكتب بجانب السرير حيث اختارت كتاباً مشوقاً لقد اشترته بدافع الفضول بعدما سمعت ان كاتبه قبض مليون دولار مقدماً ولكنها لم تستطع انهاء قراءته قط .
هذه الليلة ستحاول ان ترى كيف يمكنها ان تنام دون ان يتملكها الارق ساعات من الحزن و القلق والهم ، وهي تفكر في كيفية معالجة مستقبلها ولكنها ستقرأ كل كلمة من هذا الكتاب مهما أصابها الملل من المغامرات التي يحفل بها الكتاب نابذة من ذهنها كل شيء الى ان تخلد الى النوم . وما أن اندست بين الاغطية حتى عاد ذهنها دون وعي منها الى تلك الليلة منذ ست سنوات الليلة التي رحل فيها كارلو لقد القت بنفسها على أغطية الفراش القرمزية المصنوعة من الساتان والقطيفة .
وانتزعت افكارها بعنف من تلك الذكريات السوداء و أصلحت من وسادتها خلفها ثم فتحت كتابها . ان الليلة ستكون طويلة ..... طويلة جداً ...
وما كادت تصل الى نهاية الفصل الاول حتى سمعت قرعاً على الباب جعلها تلقي بالكتاب جانباً بشيء من الارتياح وفكرت باستسلام انها بوتي قد عادت لتضايقها بمعاتبتها لعدم تناولها عشاءها . ولكن من دق الباب لم يكن مدبرة المنزل . كان كارلو ولم يكن مزاجه هادئاً كما بدا من صفقة الباب خلفه بعنف .
كان يحمل صينية ، ورفعت فينيتيا وجهها وجسدها يهتز من الغضب وقالت بعنف :" لا اتذكر انني دعوتك الى غرفتي ، اخرج من هنا ." ولكنها أخذت تتساءل بعد فوات الاوان ، عما جعله يستحق مثل هذا العنف منها وندمت اذ اظهرت له مرة اخرى السهولة التي يستطيع بها دفعها الى موقف التحفز للدفاع فهو الان لا يعني لها شيئاً على الاطلاق ......
وهكذا حاولت ان تغير من لهجتها لتقول بعدم اكتراث :" اذا كنت قد احضرت لي شيئاً لاكله ، يمكنك أن تعيده فأنا لا اريد آسفة ." حاولت ان تمد يدها الى الكتاب ولكنه تقدم نحوها دون تردد بالرغم من جوابها البارد ، ووضع الصينية على حضنها وهو يأمرها : " كلي أو سأرغمك على ذلك ولا أظن أياً منا يريد هذه النتيجة ." ، قطبت حاجبيها وهي تنظر الى إناء الحساء الذي يتصاعد منه البخار ولم تشأ إظهار عصيانها صراحة فقد كان يعني تماماً ما يقوله عندما هدد بإطعامها بالقوة وضعت ملعقتها في الإناء تحرك الحساء وهي ترمقه بنظرة جامدة قائلة :" لا حاجة بك إلى الوقوف فوق رأسي ."
وجدت في فمه الملتوي بسخرية ، وعينيه السوداوين الرائعتين ونظراتهما الحادة المتأملة ، من الضيق ما سلبها هدوءها النفسي ، ولم تستطع مقاومة الرجفة التي اعترتها عندما قال بجفاء : " لقد أخبرتني بوتي بأنك لم تأكلي في المدة الأخيرة ما يكفي ذبابة لكي تعيش ولهذا سأبقى هنا إلى أن أتأكد من انك ستشربين آخر قطرة من هذا الحساء . "
فكرت بتمرد انه يتكلم بصفته ذلك المستبد العاتي وأخذت تراقب عينيه وهما تتنقلان بين غلاف ذلك الكتاب وجهها الغاضب .
يبدو انه يراها تستحق الازدراء ... إذ أن رأيه فيها قائم على ما حدث منذ سنوات وعلى تعليقاتها الحمقاء عصر هذا النهار . فهو ما كان ليهتم إذا هي ماتت من الجوع أمام عينيه فلماذا يصر الآن على أن يكسر ما تعودت عليه طيلة الأسبوع الماضي عندما حطمت صدمتها بوفاة أبيها حتى تلك الشهية الضئيلة التي روضت نفسها عليها بكل قسوة ؟ وجعلها هذا التفكير تكف عن إنهاء ما تبقى في الإناء من الحساء ليعود إليها شعورها بمقدار خسارتها ويمزق أعماقها و أبعدت الصينية عنها ثم غطت وجهها بيديها لتتصاعد شهقاتها من صدرها وقد مزقها الألم .
كان حزنها شيئاً خاصاً بها ولم تكن تريد له أن يظهر بهذا الشكل فالانهيار أمام الرجل الذي حطت كرامتها أمامه منذ ست سنوات ، كان فيه الإذلال النهائي لها ولكنها لم تعد تستطيع أن تمنع دموعها من الانهمار مثلما عجزت عن إخراج كارلو من الغرفة . وفي غمرة هذه العاصفة من المشاعر شعرت به ماداً يديه مبعداً يديها عن وجهها ، برفق وإنما بثبات بينما أخذت عيناه السوداوان تمعنان النظر في ملامحها الحزينة .
اغمض عينيه فجأة وقد تجهمت ملامحه الوسيمة , و أمسكت هي أنفاسها وهي تشعر بانسحابه من شيء مجهول لم تدرك كنهه . وارتجفت وهو يقول بصوت خشن :" ابكي ... ابكي أباك ولا تخفي أحزانك يا فينيتيا ... فليس هذا بالذي تخجلين منه ."
وأطلقت كلماته هذه لدموعها العنان وللمرة الثانية في حياتها تبكي أمام هذا الرجل بكت الحب الضائع ، والفراغ المؤلم الذي تركه ذلك الضياع . وتعلقت هي تلك التعزية الغريبة الحلو المرة وقد محت هذه النفحة من دفء الإنسانية وتفهمها آثار الذل و العار . وفي النهاية هدأت شهقات فينيتيا تاركة إياها في منتهى الإرهاق إنما مغمورة بسكينة غريبة ، وداخل ذلك الفراغ كان ثمة شيء يتسلل ليزيل كل تلك التحصينات التي انطبعت في ذهنها .
كانت قد حدثت نفسها بأنه لم يعد يعني لها شيئاً ... وان الحب الذي تصورته لا يخمد لم يكن سوى تصورات رسمتها فتاة مراهقة وقد حدثت نفسها بذلك مراراً وتكراراً حتى لم يعد أمامها خيار سوى الاعتقاد بذلك ولكن ها هو ذا اضطرابها يحدثها بشيء آخر مختلف تماماً . انه يحدثها بأنها متناغمة مع دقات قلبه وكيانه الذي لا نظير له , لتتجاوب مع كل هذا كبرعم يتفتح في أشعة الشمس ، هادماً الحصون العالية التي شيدتها بكل حرص لتغطي الجرح الناشئ عن حبها القديم ذاك وكاشفاً الألم الناشئ عن ذلك الجرح الذي لم يكن لينسى أبداً .
أسندها برفق إلى الوسائد وهو يقول وقد لوى شفتيه : " يالك من فتاة غامضة يا فينيتيا لقد جئت إلى غرفتك متوقعاً ما وجدته ... امرأة جميلة قد خاب أملها في قضاء الليلة مع حبيبها ولكني وجدتك تشهقين باكية أمامي كطفلة صغيرة ."
كان يتحدث واضعاً يديه في جيبي بنطاله وتابع قائلاً : " لم اكن أظن انك تملكين روحاً حساسة ."
و ارتجفت وهي ترى هذا التغيير المخيف فيه فجذبت غطاء السرير إلى ذقنها وقد غشى عينيها عدم الفهم إلى أن أمكنها استرداد قدرتها على التفكير نوعاً ما ففهمت ما يعنيه لتجيبه بحدة : " إن سيمون ليس .......... "
فقاطعها بخشونة : " لا تكذبي فان لم تكونا أنتِ وكيرو حبيبين منذ ست سنوات فقد كنتما على وشك أن تكونا كذلك وقد رأيت كل ذلك من حيث كنت واقفاً ورغم أن له زوجة الآن فان الصلة بينكما لا يمكن أن تخفى ."
ولم يكن ثمة ما تستطيع قوله دفاعاً عن نفسها . لم يكن هناك دليل كاف يمكنها به ان تمحو هذه الأفكار المغلوطة التي تأصلت جذورها بنفسه ، فيتأكد من الحقيقة ولكن وتساءلت بينها وبين نفسها بكآبة ما أهمية ذلك ؟ ولماذا تكلف نفسها عناء الشرح أصلاً ؟ ولكن ألمها لم يكن محتملاً عندما أدار إليها ظهره ومشى مسرعاً نحو الباب و كأنه لم يعد يستطيع تنفس هذا الهواء لحظة واحدة . وامتزج هذا الألم والعجز بمنتهى التحقير والإذلال عندما توقف عند عتبة الباب وهو يقول بسخرية مهينة :" سأطلب من بوتي أن تحضر إليك الحساء طازجاً حاراً لكي تتمكني من النوم ."
وفي الصباح التالي أخذت فينيتيا تفكر منطقياً في أن تركه لها بكل تلك القسوة له ما يبرره وقد جعلها تهورها الغبي ذاك وهي تتبجح بالادعاء ، تنكمش من شدة الاحتقار لنفسها .
ارتدت جاكتة صوفية فوق التنورة الرمادية التي أخرجتها من خزانة ثيابها بشكل اعتباطي لتضع بعد ذلك شيئاً من الزينة على وجهها بشكل متحفظ وهي تحدث نفسها بأن عليها أن تصلح الأمور ، على الأقل لتجعله يصدق ما هي عليه من العفة . إنها لم تعد في الثامنة عشر من عمرها وتصرفاتها منذ ست سنوات رغم ما تشعرها من إحراج كانت ، على الأقل صادرة عن براءة فقد اعتقدت تماماً في ذلك الحين بأنها كانت تحبه . بينما أمس تعمدت أن تكذب عليه لقد كان سلوكها رخيصاً عدا عن انه يطال سيمون أيضاً الذي حسب ما تعلمه ليس لديه أية رغبة في خداع زوجته وسيتملكه الغضب و الاشمئزاز حتماً إذا هو اكتشف توريطها له بهذا الشكل .
في إمكانها فقط أن ترد ذلك الانحراف المريع دون ذكر لحظة جنونها الأخير عندما ظنت خطأ أن صبابة المراهقة البلهاء تلك ما زالت حية في نفسها إلى الإرهاق النفسي الذي تعانيه ، واستمرار شعورها بالصدمة لموت أبيها الحبيب لقد كان معها تلك الليلة ، يتناقشان في شؤون العمل لنهارها ذاك ، ثم يقترحان أن يمضيا الوقت يلعبان الشطرنج بدل مشاهدة التلفزيون وكانت نفسه كالعادة عامرة بالهدوء والمحبة وفي الصباح التالي ، كان قد رحل لقد تسلل دون أن يمسك به أحد ليواسيه أو يودعه .
وأخذت تصلح فراشها لتبعد عنها هذه الذكريات المؤلمة وتنظم غرفتها مما أعاد إليها السيطرة على مشاعرها . فهي ستذهب غداً إلى العمل ومن ثم تعود إلى حياتها العادية وهذا النهار ستخبر كارلو بالحقيقة . إن عليها أن تقوم بذلك ولو لتستعيد من احترامها لنفسها .
قالت بوتي تجيبها عن سؤالها : " لقد خرج منذ اكثر من ساعة فماذا تريدين لفطورك ؟ إنما إياك أن تخبريني مرة أخرى انك لست جائعة ؟ إنني سأستقيل من العمل إن فعلت هذا وأنا أعني ما أقول ."
وأذعنت فينيتيا رغم علمها أن بوتي لا تعني حقاً ما تقول . إن عليها أن ترغم نفسها على الطعام وإلا فستمرض ، وهذا لن يكون فيه فائدة لأحد . وهكذا ردت عليها بفتور قائلة : " أي شيء خبز محمص ، فاكهة ، حبوب ... أي شيء من عندك ." وأخذت تمشي في أنحاء المطبخ الفسيح وهي تتمنى لو استطاعت التخلص من أسباب هذا القلق ، . ثم عادت تسألها بشيء من الأمل : " هل رحل نهائياً؟ أعني كارلو هل أخذ معه أمتعته؟ " وتساءلت عما جعلها تشعر بالهدوء ، باعثاً
|