كاتب الموضوع :
العنقاء الحزين
المنتدى :
الارشيف
الفصـــــل الثاني
لكن الامر لم يكن سهلاً , فقد كان لكارلو روسي إرادة حديدية لقد تتابعت الأيام وهو رافض لكل اقتراحاتها عليه بالخروج للتجوال في أنحاء المنطقة وذلك بابتسامة هازئة مفضلاً كما يبدو قضاء الوقت بمكتب والدها ، ليعود معه عند المساء ، تاركاً فينيتيا تضرب بقدمها الأرض ثائرة .
وأثناء وجبات العشاء الطويلة البطيئة التي كانت تدوم طوال المساء , كان يحرص على أن يكون حديثه إليها بالغ الأدب وعندما لا يتحدث عن العمل فقد كان يتحدث عن بلاده مذكراً أباها بجذوره المنسية .
ولكن فينيتيا لم تفقد الأمل فقد كانت تفاجئه أحيانا وهو يرمقها بنظرات حيرى وبما أنه كان يقيم حاجزاً بينه وبينها فقد اصبح همها أن تخترق هذا الحاجز .
أن كل يوم كان يمر وكل ساعة منه كانا يقويان حبها ورغبتها فيه . لم يكن يهمها أي شيء آخر فقد تعمقت مشاعرها تجاهه في نفسها حتى شملت كيانها كله . و لأول مره في حياتها لم تحصل على ما تريد .
خرجت بوتي إليها تخبرها بأن ثمة مكالمة هاتفية لها ، وكانت هي تجلس في الشرفة تضرب بقدمها الأرض ساخطة . لقد استيقظت هذا الصباح فارتدت بنطالاً وقميصاً مقفولاً ، كان هذا اليوم هو السبت فهو لن يذهب مع أبيها إلى المكتب ، ولهذا صممت على أن تقنعه بأن يقضي الوقت معها ، إما بالنزهة أو بالخروج إلى المطاعم والمقاهي أو بآي شيء آخر .... ولكنه سبب لها صدمة بالغة عندما علمت من بوتي أنه قد سبق وخرج من المنزل منذ ساعة لكي يتفرج على هذه الأنحاء من الريف .
وبقيت في الشرفة تلعن نفسها لاستغراقها في النوم حتى السابعة بينما لو كانت خرجت من غرفتها قبل ذلك بساعة لأمكنها أن ترافقه لقد كان رجلاً صعباً حقاًَ كيف يمكنها أن تخترق ذلك الحاجز إذا هو رفض البقاء مدة أطول لكي تتمكن من المحاولة ؟
عندما دخلت غرفة المكتبة لتلقي المكالمة ، كانت أفكارها مشغولة تماماً بكارلو روسي وعبست وهي تسمع صوت سيمون الهادئ الرقيق يقول : " آسف لإزعاجك . ولكنني أريد أن اثبت موعدنا لهذه الليلة ." فرددت كلامه دون أن تفهم وهي ترد خصلة من شعرها إلى خلف أذنها قائلة :" هذه الليلة ؟؟ "
أجابها مرحاً : " الليلة يصادف ذكرى مولد صديقتك الثامن عشر هل تذكرتِ ؟ متى آتي لاصطحابك ؟ "
فقالت : " آه تلك الحفلة . " كانت قد نسيت كل شيء عن حفلة ناتاشا . وما كانت عادة لتغفل عن مثل هذه المناسبة ولكن بالنسبة إلى ظروفها غير العادية الآن ليس ثمة شيء يمكنه أن يبعدها عن منزلها مهماً كانت الحفلة رائعة ، فالأمل كان ضعيفاً ورغم هذا فأنها تفضل قضاء الوقت مع كارلو .
وقالت تجيبه : " لقد غيرت رأيي ." واستطردت عندما ساد الصمت الطرف الآخر من الخط لتقول : " أنني آسفة كان علي أن أخبرك قبل ألان ولكن عندنا ضيف في البيت وأنا مشغولة تماماً بالعناية به لابد أنك قابلته انه كارلو روسي .." حتى ذكر اسمه على لسانها يرسل في نفسها الشوق إليه . وتابعت تقول بصوت متقطع : " لقد كان يتبع أبي إلى المكتب كل يوم ."
أطلق سيمون ضحكة قصيرة هازئة وهو يجيب : " انه لا يتبع أحداً انه هو الذي يجر كل شخص خلفه لقد قلب شبكة الأقسام كلها رأساً على عقب ودقق في جميع الحسابات بعدسة مكبرة جاعلاً كل شخص هنا يعمل بأقصى طاقته ."
فقالت تسأله وقد تألقت عيناها : " هل إمكانه أن يقوم بكل ذلك ؟ " ولم تكن تشك في مقدرته على استلام المسؤولية أينما كان . فقد كانت هالة الثقة بالنفس والسيادة التي تحيط به هي من جملة المميزات التي جذبتها أليه .
أجابها سيمون بجفاء : " عليك أن تصدقي ذلك لقد تنازل له والده عن الأسهم التسعة والأربعين التي يملكها في فرع الشركة في بريطانيا مما منحه سلطة كبرى إلى جانب انه نفسه ، شخصية مسيطرة ذلك أن نظرة واحدة منه تحمل كل شخص على اتباع الطريق . فانتبهي ."
وتابع بحقد : " لا جدال في أن إمكانيته على التنظيم فريدة فهو يجد الحل للمشكلة حتى قبل أن يدرك أي واحد منا أن ثمة مشكلة أصلاً ."
كان في إمكان فينيتيا أن تستمر في سماع مثل هذا الحديث لساعات طويلة ولكن سيمون كان له رأي آخر فعاد يسألها : " هل أنتِ متأكدة بالنسبة لهذه الليلة ؟ سيكون هناك الكثير من المرح والتسلية ويمكننا فيما بعد أن نذهب إلى المطعم وليس من الضروري أن يعرف العجوز متى تنتهي حفلة صديقتك ."
ولوت فينيتيا ملامح وجهها عابسة قبل أن تقفل السماعة في وجهه وهي تقول : " ويحك ."
لقد تجاوز سيمون بغروره الحدود حقاً فقد كان عليه أن يدرك أنها تتجاوز محاولاته لتقربها أليه وذلك إذ تقابلها بالهزء فقط لأنها إذا تركته فأنه يتعين عليها البقاء في البيت بعيدة عن كل مرح و تسلية إلى آن يجد لها والدها مرافقاً آخر يمكن أن يثق بسلوكه تجاه ابنته الغالية .
ولكن إذا هو ابتدأ يبدي عدم الاحترام لأبيها بأن يدعوه بالعجوز وعارضاً عليها أن يخدعاه فهي على استعداد لان تلقي به بعيداً دون أسف مفضلة على ذلك البقاء في البيت . ثم آن كارلو هو الرجل الوحيد الذي تريد ان تكون معه وحنت كتفيها وهي تخرج من غرفة المكتب .
وفجأة توقفت عن السير في منتصف القاعة الفسيحة بعد أن طرأت في ذهنها فكرة بناءة فكرة صائبة لا يمكن أن تخيب . لاحت على شفتيها ابتسامة وتألقت عيناها وقد عاودتها الثقة بنفسها التي افتقدتها منذ أيام . واستدارت إلى بوتي التي كانت داخلة من الباب الأمامي تاركة إياه مفتوحاً لكي تدخل الشمس الدافئة فقد كانت تنظف مقبض الباب النحاسي ، استدارت إليها قائلة : " هل ذكر كارلو الوقت الذي سيعود فيه ؟ "
قالت بوتي : " لم يذكر شيئاً ولم أسأله ولكنه يمكن أن يكون هنا في موعد الغداء تقريباً . " وحملت الصندوق الذي يحوي أدوات التنظيف تحت إبطها وهي تتابع قائلة : " ولهذا لو كنت مكانك لما بقيت أطوف طوال الصباح في انتظاره ثم عندي نصيحة لك وهي ألا تظهري تهافتك عليه فما أسرع ما تنسين هذا كله وترين نفسك أنك حمقاء وستندمين على الأوقات التي كنت تدورين فيها حوله ."
وعندما رأت الثورة على وجه فينيتيا الشاحب لطفت من لهجتها وهي تتابع قولها : " أن الذي سيتضرر في النهاية هي كرامتك يا حبيبتي أنني أدرك مبلغ جاذبيته وأية امرأة تنكر هذا ؟ ولكن عدا أنه كبير السن بالنسبة إليك ربما لديه ألان نصف دزينة من النساء الجميلات هن في انتظار عودته و ألان ..." و ألقت نظرة على ساعة الجدار وهي تتابع : " أنها التاسعة والنصف . ألم ينزل والدك من غرفته بعد ؟ ليس من عادته أن يتأخر في سريره إلى هذا الوقت ."
فأجابت فينيتيا ببرود : " أنني لم أره هذا الصباح ." كان الغضب يتملكها كيف تجرؤ على اعتبار شعورها نحو كارلو تهافتاً ؟ أنها ليست طفلة أنها تحب كارلو وستبقى تحبه على الدوام .
وما الذي تعرفه بوتي عن الحب وعمرها خمسون عاماً ؟ واستدارت على عقبيها وقد رفعت كتفيها بعناد ، ومشت نحو الباب الرئيسي شاعرة بأشعة الشمس تلهب ساعديها ، بأن هذا النهار سيكون شديد الحرارة . وعادة في يوم كهذا كان يسرها أن تمضي عدة ساعات في الداخل والخارج عند حوض السباحة خلف المنزل ولكنها كانت من القلق بحيث لم تفكر بمثل هذا الامر .
هذا إلى أنها كانت في حاجة إلى أن ترى كارلو فهي لا يمكن أن تغامر بفقده مرة أخرى بعد عودته . فقد سبق وخططت لفكرة متكاملة لكي تكون معه وهذه الفكرة لا يمكن له أن يرفضها مطلقاً . وجلست على الدرجة الأخيرة التي تقود إلى الباب الرئيسي مسندة ظهرها إلى العمود ذي الأركان الذي ينتهي بقصريه يتدلى منها معرشاً ، نبات إبرة الراعي القرمزية وأخذت تستنشق شذاه العطر وقد صممت على إلا تتزحزح من مكانها هذا مهما طال الأمد عليها ولكنها ما لبثت ان رأت كارلو يظهر من بعيد متوجهاً إلى المنزل وتصاعدت خفاقات قلبها لدرجة أذهلتها ووقفت متصنعة الظهور بمظهر البرود والهدوء . أن كل شيء يعتمد على كيفية عرضها للدعوة فهي ستوجهها بصيغة تجعل من المستحيل عليه رفضها ، وأنه إذا فعل ذلك فسيكون قد تصرف بشكل فظ بالنسبة إلى ضيف عند أبيها .
وببطء ابتدأت تتقدم نحوه محاولة أن تظهر وكأن ليس ثمة ما يبهج في العالم اكثر من الجو الرائع هذا . ولكنها في داخلها كانت في منتهى الاضطراب ، فقد كان قلبها يخفق بشدة كادت تخنقها لأنه إذا رفض دعوتها هذه فستفقد آخر أمل في أن يحبها ولو قليلاً .
وسألته بصوت بارد : " هل استمتعت بنزهتك ؟ " ولم تكن تظهر شيئاً سوى الاهتمام المؤدب . فأجاب بإيجاز : " كثيراً جداً " ولم يظهر عليه ما اذا كان مسروراً برؤيتها أم لا . وتابع يسألها : " هل والدك هنا ؟ أنني في حاجة إلى الحديث أليه ."
قالت : " أنني لم أره هذا الصباح ." وتذكرت بشكل مبهم شيئاً قالته بوتي هذا الصباح عن تأخر والدها في غرفته على غير عادته ، ونبذت هذه الفكرة من رأسها على الفور , إذ أن هذا المشهد بأكمله بدا وكأنه يهرب منها بعيداً .
أسرع كارلو خطواته فاضطرت إلى الإسراع في خطواتها لكي تلحق به وبدا وكأن خطتها في طريقها إلى الفشل . وقالت تسأله : " هل تصنع معي معروفاً ؟ " وكانت أنفاسها تتلاحق وهي تسأله ذلك وقد تلاشت لهجة الدلال التي كانت تعتزم مخاطبته بها وذلك بإسراعه الخطى نحو المنزل .
عندئذ تجمد في مكانه ، وستدار ببطء لمواجهتها وهو يقول ذاهلاً يطمئنها بلهجة جادة مهذبة : " هذا طبيعي إذا كان في إمكاني ."
أرغمت نفسها على الثبات في مكانها . وسألها بعدم اكتراث وعلى شفتيه ابتسامة جافة وهو يدس يديه في جيبي بنطاله : " حسناً ؟ " فقالت : " أنني ... "
وتبخر من ذهنها كل ما أعدته من كلام ولكي تتمالك نفسها ، تنفست بعمق وهي تراقبه شاعرة بالظفر وهي تراه يتأملها .
قالت وهي ترتجف قليلاً : " حسناً في الواقع أن إحدى صديقاتي ستقيم حفلة هذه الليلة في فندق سافوي وقد وعدتها بالمجيء وأنت تعرف كيف تكون .... " وهزت كتفيها قليلاً وهي تتابع : " أنني لا أريد أن أخيب أملها وأبي يخشى أن أضيع إذا ذهبت بمفردي فهل يمكن أن تسدي ألي جميلاً بأن تكون مرافقي ."
حبست أنفاسها وهي تتمنى قبوله وأخذت تراقب وجهه وقد اتسعت عيناها متوسلة دون وعي منها . وعضت على طرف لسانها بعصبية وهي تراقب توتر فمه ليقول بعد ذلك ببرودة : " أنني
|