ونظرت ديليا فرأت أمامها شابا برازيليا وسيما في حوالي الثلاثين من عمره يبتسم لها وهو يحدثها بالبرتغالية ولم تفهم ديليا شيئا من حديثه ولكنها ردّت تحييه بالبرتغالية , فأضاء وجهه وهو يرد عليها بالأنكليزية الركيكة.
ووصل لويز في هذه اللحظة يحيط به الهنود وعندما رأى الشاب هتف قائلا:
" كارلو, لم أكن أتوقع لقاءك هنا".
ثم عانقه وقبّله على الطريقة البرازيلية مشيرا الى ديليا يقدمها له قائلا :
" هذه ديليا تالبوت , صحفية تعمل معنا".
ثم قدّم لويز الشاب اليها قائلا:
" وهذا كارلو سيلفيريا أبن أحد المستكشفين العظام , ويعمل كطيّار تابع لمنظمة حماية الحياة القبلية".
وتساءل كارلو وهو يصافح ديليا:
" تالبوت , هل هذا الأسم له صلة بالدكتور تالبوت؟".
فأجاب لويز وهو يتجه الى الأكواخ:
"نعم , أنها زوجته".
فصاح كارلو متعجبا:
" هل هذا معقول , كم مضى على زواجك من أدموند؟".
فأجابت ديليا وهما يسيران خلف لويز:
" عامان ونصف".
فصاح كارلو من جديد :
" لا أكاد أصدق هذا , لقد أجتمعت بأدموند مرارا خلال العام الماضي , ولم يخبرني أبدا أن له زوجة".
ورأت ديليا أمرأة طويلة القامة , نحيلة , تهبط التل متجهة اليهم , وكانت تبدو في حوالي السادسة والعشرين من عمرها , شعرها أسود طويل , ولون بشرتها برونزي جذاب للغاية, وكانت ترتدي سروالا من القطن الفاتح وقميصا مناسبا .
وتحدثت الى كارلو بالبرتغالية بلهجة سريعة وهي تشير الى ديليا , ورد عليها بنفس اللغة , ورأت ديليا أبتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه وهو يردد اسمها.
وألتفتت المرأة الى ديليا وقد أتسعت عيناها من الدهشة وقالت بالأنكليزية:
" لم أكن أعرف أن أدموند متزوج".
ثم قدمت نفسها قائلة:
" أنا الدكتورة زانيتا ميريللي , وقد أعتنيت بزوجك أثناء أصابته بالملاريا بعد أن ضل طريقه في الغابة".
فمدت ديليا يدها لتصافح المرأة , ولكنها تركتها فجأة نازلة التل مسرعة , ونظرت ديليا وراءها فرأت أدموند يصعد التل وهو يحمل حقيبته.
منتديات ليلاس
ورأت زانيتا تندفع ناحيته , وتوقف أدموند ونظر اليها مبتسما فأندفعت اليه وأحاطته بذراعيها وقبّلته على وجنتيه لأكثر من مرة فضحك أدموند ووضع الحقيبة على الأرض ليبادلها التحية.
وأشاحت ديليا بوجهها سريعا , فرأت كارلو ينظر اليها بأهتمام شديد وكأنه يجد المشهد مسليا , ولكنه لم يعلق بشيء , وسار الى جانبها في الطريق الى الأكواخ.
وقال لويز يحدثها:
" ستتقاسمين أنت وأدموند أحد الأكواخ مع مانويل وريتا , فليس في القرية هنا التسهيلات الموجودة في بوستو أورلاندو , أما نحن فسنبيت فوق الشباك المعلقة في العراء وأذا أردت الأغتسال فيوجد حمام في هذا الكوخ الذي يتوسط المنطقة".
وصحبها لويز الى أحد الأكواخ , وكان متسعا من الداخل وقد ترك نصفه مكشوفا أما النصف الآخر فكان مسقوفا , ووضعت لمبة تضاء بالوقود فوق أحد جذوع الأشجار التي يستند اليها السقف , وعلى ضوئها الضعيف أمكن لديليا أن ترى الهنود وهم يعلقون شباك النوم التي أحضروها معهم في المركب.
وما أن رأى الهنود ديليا تدخل الى الكوخ , حتى نقدموا منها وهم يشيرون الى حقيبتها , وفهمت ديليا ما يريدون ففتحت حقيبتها , وأخرجت بعض الحلوى والسكاكر وأعطتها لهم فغادروا الكوخ مع لويز.
ودخل بعد ذلك مانويل وريتا وأتجها الى الركن الخاص بهما في الكوخ , وجلست ديليا تمشط شعرها بعد أن بدلت ثيابها , وهي تسائل نفسها عن أدموند وأين هو الآن.
بعد ذلك أتجهت ديليا مع مانويل وريتا الى حيث يقدم الطعام , وكان القمر مكتملا , وضوءه يملأ المكان الذي فاحت في أنحائه رائحة زهر الليمون .
ودخلا الى أحد الأكواخ القريبة من النهر حيث وجدا أحد الهنود يقوم بأعداد الطعام
ووقفت ديليا تراقبه للحظة وقالت ريتا:
" يبدو أن الطعام سيكون دسما الليلة , فقد سمعت أن صيادي القبيلة تمكنوا من أصطياد عد من الغزلان البرية".
وفي الغرفة الطويلة التي خصّصت لتناول الطعام, رأت ديليا لويز يجلس وقد أحاط به الهنود يصفون له كيف تمكنوا من أصطياد الغزلان , كما رأت أدموند يجلس الى مائدة مستطيلة مع زانيتا.
وهمست ريتا قائلة لديليا:
" هل تعرّفت بالدكتورة زانيتا ميريللي؟".
فقالت ديليا وهي تجلس الى المائدة:
" نعم, قدمني كارلو اليها , ولكن يبدو أنها صغيرة على كونها طبيبة , هل هي متطوعة؟".
" نعم, أنها في كلية طب سان باولو , وتريد أن تتخصص في الطب الأستوائي , وهي تنحدر من عائلة غنية جدا".
وشعرت ديليا بتعاسة وهي تقول لنفسها : مثل أدموند تماما ولكن ألى أي مدى يتفق أدموند مع هذه الطبيبة الجذّابة المرحة!
وأقتربت ريتا من ديليا وهي تقول بصوت هامس:
" أرجو ألا يضايقك كلامي , ولكنني سأقول لك ما أقول لأنني أشعر بميل اليك وكأنني أعرفك منذ فترة طويلة , أنني أعتقد أن زانيتا تحب أدموند , وقد تعلّقت به أثناء الفترة التي قضتها معنا في بوستو أورلاندو للعناية به".
وقفز سؤال الى ذهن ديليا , ودّت لو نطق به لسانها , وهو: هل هو أيضا يحبها؟ ولكنها لم تحاول أن تحرج ريتا بتوجيه هذا السؤال اليها.
ونظرت خلسة عبر المائدة , وكان أدموند يجلس مستندا بذراعيه الى المائدة , يدخّن سيكارته ويبتسم وهو يستمع بأهتمام شديد الى حديث زانيتا التي كانت تتحدث بأنفعال وهي تلوّح بيدها بين وقت وآخر.
ووجدت ديليا نفسها تتساءا عم يتحدثان , ربما كانت تحدثه بشأن بعض المسائل الطبية , ولكن من يدري ماذا تقول له هذه الطبيبة وما هو رأيه فيها.
وتوقفت زانيتا عن الحديث وهي تنظر اليه فيما يبدو أنتظارا لأجابة منه , فأجابها على الفور بلغة برتغالية سليمة ,وبدا عليهما الأستغراق التام في الحديث لدرجة أن ديليا شعرت أنهما أنفصلا تماما عن أي شيء آخر وأنهما يعيشان في عالم خاص بهما.
وشعرت ديليا بنيران الغيرة تشتعل في صدرها وهي تفكر كيف أن أدموند تجاهل وجودها تماما وهما على المركب , في الوقت الذي يظهر فيه كل الأهتمام بهذه المرأة البرازيلية التي عانقته وكأنه حبيبها.
وأشاحت ديليا بنظرها الى الناحية الأخرى لترى كارلو وقد جلس على يمينها
فأبتسمت له وبادلها الأبتسام.
وقال كارلو:
" ما زلت مندهشا , كيف يحضر أدموند الى بوستو أورلاندو ويقضي طوال هذه المدة بعيدا عنك, لا بد أن يكون , ماذا يقولون مجنون ؟ لا يمكن لرجل عاقل أن يترك زوجة جميلة مثلك وحيدة ليسرقها رجل آخر منه , ولكن لماذا تركته يسافر؟
" لم يكن بأمكاني منعه".
" كيف ذلك؟ ؟ لا أصدق أن أمرأة مثلك لا يمكنها أن تفعل ذلك , لو أنك أردت فعلا بقاءه الى جانبك أو ربما كان زواجكما من النوع الحديث الذي يعيش فيه كل من الزوجين حياته الخاصة ولا يجتمعان ألا أذا سمحت لهما الظروف بذلك".
" تبدو وكأنك لا تؤيد مثل هذا الزواج".
" بالطبع لا , عندما أتزوج , ولا أعتقد أنني سأفعل ذلك الآن , أريد أن تبقى زوجتي في المنزل للعناية بي وبالمنزل وبالأطفال بعد ذلك".
" ولكن لنفترض أنك لم تستطع البقاء معها, أو دعتك ظروفك الى التغيب عنها معظم الوقت؟".
" في هذه الحالة أتوقّع منها أن تبقى في أنتظاري لترحب بي عند عودتي".
ثم نظر كارلو عبر المائدة الى حيث يجلس أدموند وزانيتا وأقترب من ديليا ووضع يده على فمه وهو يهمس قائلا:
" أنني لا أهتم بهذا الطراز من النساء على شاكلة الدكتورة زانيتا فأنها باردة تحب الحديث عن نفسها وعن مهارتها كطبيبة طوال الوقت , ومع كل هذا الحديث , لن يكون هناك وقت لتبادل القبلات؟".
ضحكت ديليا , وأخذت في تناول الطعام وهي تشعر بالسعادة لأنها تجلس الى جانب كارلو الذي أخذ يحدثها طوال الوقت وجذب أنتباهها بعيدا عن زانيتا وأدموند , وجعلها تنسى متاعبها.
وبعد الأنتهاء من تناول الطعم , توجهوا الى الخارج حيث جلسوا في الهواء الطلق على المقاعد الخشبية يراقبون الهنود وهم يقدمون رقصاتهم الشعبية وقد أرتدوا ثيابا من الريش زاهية الألوان.
وجلس كارلو الى جانب ديليا يشرح لها معنى الرقصة التي كانت تقدم , قائلا أنها تعبر عن الغضب, الغضب على المستعمر الأبيض الذي يريد أن يشق طريقا وسط الغابة.
وبعد الأنتهاء من مشاهدة الرقص , أتجهت ديليا بصحبة كارلو الى الكوخ , وكان النسيمم عليلا وضوء القمر ينتش في المكان ويبدو أن هذا الجو الشاعري أثار عواطف كارلو
ذلك أنه أمسك بيد ديليا وهو يودعها على باب الكوخ ورفعها الى شفتيه يقبّلها وهو يهمس قائلا:
"تصبحين على خير , أنني سعيد بوجودك معنا وسأراك غدا".
ثم تركها وأختفى في الظلام.
منتديات ليلاس
دخلت ديليا الى الكوخ , وتحسست طريقها في ضوء المصباح الخافت الى الركن المخصص لها ولأدموند , وخلعت ثيابها ولبست رداء نومها وتمكنت من التسلق الى الفراش المعلق بدون مساعدة أحد وأغمضت عينيها وهي تستمع الى ريتا ومانويل وهما يتهامسان ولكنها لم تستطع النوم فأستلقت بأنتظار عودة أدموند.
عاد أدموند أخيرا الى الكوخ , وسمعته يتحرك ليخلع ملابسه ويستلقي في فراشه , وتمنت ديليا لو واتتها الشجاعة للتحدث اليه لتعرف منه أين كان حتى الآن وماذا كان يفعل.
وفتحت عينيها , فرأت الكوخ يسبح في الظلام بعد أن أطفأ أدموند المصباح.
وعلى الرغم من أن الليل كان يقرّب بينهما لأنهما كانا يجتمعان في مكان واحد , ألا أن ديليا كانت تشعر في ذلك الوقت أنهما بعيدان تماما عن بعضهما البعض , وبدا لها وكأن الهوة التي تفصل بينهما تزداد كل يوم أتساعا, وأستغرقت في النوم وهي تعتقد أنها توصلت الى السبب الحقيقي وراء رغبة أدموند في البقاء في البرازيا , أنه يريد البقاء الى جانب الدكتورة زانيتا ميريللي!
نهاية الفصل الرابع