أرتجف جسمها وهي تلقي الآن , عبر هذه التفاصيل المذهلة والمرعبة , نظرة جديدة على نفسية جدها البغيضة , لم تكن أمها مخطئة أطلاقا في وصفه بالطاغية المستبد , ولكنه ليس وحده المسؤول عن تلك الأحداث الدموية التي أوصلت سيلفاتوري ديابولو ألى هذه المرحلة المتطرفة والمذهلة من الحقد الأعمى والسعي المجنون ألى الثأر والأنتقام , لا شك في أن ماريا بيشيوتا كذبت وشوهت الحقائق لتنقذ ما تبقى من كرامتها وعزة نفسها , ولكن , كيف يمكنها أن تقول ذلك لأبنها المصمم على الأنتقام .... والقادر على حرمانها من الحياة واحدة؟ ستحاول , وألا فأين أخلاصها وحبها لوالدها !قالت له بلهجة هادئة:
" أذا أحبت المرأة وأكتشفت أن الرجل الذي تحبه لا يبادلها الشعور ذاته , فأنها تلجأ في كثير من الأحيان ألى خداع نفسها.... وألى السماح لقلبها بالأحتيال على ضميرها , لم يعلم أبي أطلاقا بموضوع الخطوبة , ألا عشية دخوله الجندية , أتخذ جدي القرار وأعد الترتيبات اللازمة , دون أستشارته أو مباحثته في الأمر ..... لا بل أن أبي وجد صعوبة في معرفة صاحبة الأسم الذي ذكره له جدي , كان والدي أنسانا طيب المعشر حسن السيرة , ويأخذ دائما مشاعر الآخرين بعين الأعتبار , أنت مخطىء تماما أذا كنت تفترض بأنه ورث طبيعة الكونت روسيني ونفسيته , فقد كانا مختلفين تماما .... و ....".
قاطعها بصوت أقوى من الرعد , قائلا:
" هذا كلام فارغ .... هراء , فالشر لا يلد ألا الشر... والذئاب لا تلد ألا الذئاب!".
منتديات ليلاس
تنهدت روزالبا عندما لاحظت أنه لا فائدة ترجى من محاولة أقناعه بشيء , أو حتى بمناقشته في هذا الموضوع , فسألته بصوت يرتعش خوفا:
" ماذا تنوي أن تفعل بي ؟".
" سأجعلك تعيشين كما عشنا نحن ".
" نحن...؟ ماذا.... ماذا تعني .... بذلك؟".
" أعني نفسي , ووالديّ المسكينين , والعائلة الوحيدة التي أعرفها.... تلك المجموعة الصغيرة من الرجال الشجعان الأشداء الذين أرغمهم طغاة مستبدون أمثال جدك على اللجوء ألى هذه الجبال وهذه الكهوف , دفاعا عن كرامتهم وطموحاتهم وأفكارهم , ستشعرين بالبرد كما شعرت أمي , وتعانين من قساوة الحياة والوحدة والخوف مثلما عانت هي , أن لم يعجبك الطعام الذي ستعدينه بنفسك على نار الموقد , فسوف تجوعين! وأن لم تحضري بذاتك الكمية التي تحتاجين أليها من مياه الشرب والغسيل , فستعطشين وتصبح رائحتك قذرة ونتنة , وأذا وجدت أثناء النوم أن الأرض قاسية جدا تحت ظهرك , فسوف تستيقظين متوعكة متألمة ....أو يصيبك السهاد والأرق فتشعرين كل صباح بالتعب والأرهاق الشديدين ! ولكن مهمتك الأساسية تكمن في حمل تلك الحية الرقطاء السامة على الخروج من جحرها , حتى يتم أنتزاع أنيابها".
" ماذا؟ هل تنوي أن تقتله؟".
" " لا , لا يمكن أن أقتله ... مع أنني أحب ذلك من صميم قلبي , ألا أن أشخاصا آخرين يقدرون على القيام بهذه المهمة .... وسيقومون بها , أما أنا , فسوف ينتهي عملي بمجرد تسليمهم أياه".
" لا ! لا يمكنك أن تفعل ذلك ! أنت توحي بأنك لست قادرا على قتل أنسان ببرودة أعصاب وعن سابق عمد وتصميم , فكيف تقبل بتسليم جدي ألى من سيقتله بصورة أكيدة؟ ألا تعلم بأن ذلك يجعلك شريكا كاملا في الجريمة , مثل الرجل الذي يغمد الخنجر ؟ مهما حاولت جاهدا أقناع نفسك بأن الأنتقام على هذا النحو عمل وواجب شريفان , فأنك في الواقع تغرق نفسك في مزيد من الحقد والكراهية ولذة الأنتقام , لا يصح تبرير عمل أي أنسان يحاول تطبيق القانون بنفسه , فمثل هذه الحالات تؤدي ألى أنتشار الجرائم والعنف والسموم , أرجوك! حاول أن تغفر لجدي ما قام به , والأفضل من ذلك أن تغفر له فورا وبشكل نهائي! أذا مضيت قدما في خطتك هذه , فستكون من الناحيتين المعنوية والخلقية مسؤولا عن أرتكاب جريمة قتل.... لا بل جريمتين , لأن عملية الثأر والأنتقام لن تحقق نتائجها التقليدية المعتادة ما لم يعمل رفاقك على قتلي أنا أيضا ! وهل سأظل عندئذ مجرد أداة لأستدراج جدي , أم تحول ألى ضحية بريئة لا ذنب لها سوى أنها حفيدة الكونت روسيني ... الذي لم تكن تعرفه حتى يوم أمس؟".
لم يكن لتدفق كلامها بتلك الطريقة غير المعتادة أي صدى في أذنيه , أو أي رد فعل في عينيه الفولاذيتين المتحجرتين غير النادمتين , ثم قال بصوت هادىء ألى درجة الكسل والبرودة:
" من المؤكد أن الرجال الفقراء الذين يتضورون جوعا , يرحبون بالتغييرات التي قد تحدث في نمط حياتهم بين الحين والآخر .... أكثر من ترحيبهم بالطعام , وبما أن غريزتهم البدائية سترفض بعناد وأصرار شديدين فكرة أهدار مواهب شابة نشيطة وقوية وذكية مثلك".