شعرت أبريل بتأثر بالغ وبخجل عميق لأنها حاولت التشكك ,ولو جزئيا أو هامشيا , بسيدة أحبتها وأحترمتها أثناء طفولتها ..... ألى درجة أنها كانت تمضي الساعات الطوال بأنتظار ظهور هالة القدسية فوق رأس زوجة خالها..... أو خالتها , كما تسميها وتناديها دائما , ومما زاد في تعلقها بهذه القريبة الطيبة الكريمة , أن أمها الأيطالية كانت ولا تزال تلقى من زوجة أخيها معاملة أنسانية ورقيقة للغاية كلما أستنجدت بها أو لجأت أليها ..... وكم كانت تلك المرات عديدة ومتلاحقة ! وهل يمكنها أن تنسى الجملة المأثورة , التي كانت ترددها والدتها مرارا كتعبير عن أمتنانها اللامتناهي لزوجة أخيها؟
" شكرا , شكرا , يا أغلى أنيتا في الدنيا , أنت ملاك لتتحملي أعبائي ومتاعبي , ولا أدري ماذا سيحل بي لولا وجودك أيتها الحبيبة ".
ومع أن روزالبا ورثت عن أمها الطباع الهادئة والتعقل والحنان , ألا أنها ليست بعيدة جدا عن التفاخر والعناد أياهما اللذين حالا دون رأب الصدع القائم بين أفراد عائلة روسيني , فأذا أرادت أبريل الحصول على تلك المكاسب والمكافآت المغرية التي علقها جدها أمامها , كما يعلق الطعام أمام عيني الحمار ليركض بسرعة وأندفاع نحو الهدف , فما عليها ألا أقناع أبنة خالها بمرافقتها ... ولو أضطرت لتحقيق ذلك ألى أستخدام كافة أنواع الكذب والأحتيال , وضعت يدها على كتف روزالبا ثم تنهدت وقالت لها مناشدة متوسلة:
" أتمنى أن تعيدي النظر في موقفك هذا , يا عزيزتي , فالأمر هام جدا بالنسبة ألي كشابة في مقتبل العمر ,ذلك أن رحلة القطار من هنا ألى لندن , وبخاصة عندما تكون الشابة وحدها , مملة وموحشة ........ ومخيفة أحيانا , فبعض الرجال يعتبرون الفتاة الوحيدة لقمة سائغة وفريسة سهلة , وفي كل عام تزيد الأمور سوءا عن الأعوام السابقة , قد أقرر ألغاء رحلتي هذه السنة , أن لم توافقي على الذهاب معي , فمجرد التفكير بالذهاب وحدي وأحتمالات تعرضي للأعتداء , وربما للقتل , يرهق أعصابي ويوترها بشكل غريب.
منتديات ليلاس
أخفت أبريل الأرتياح والسرور , عندما شهقت روزالبا وسألت أبنة عمتها بأنفعال ظاهر :
" لماذا تذهبين أذن؟".
أستخدمت أبريل جميع طاقاتها ومواهبها التمثيلية والأحتيالية لأقناع قريبتها بمرافقتها ألى صقلية , فقالت لها بصوت حزين جدا وعينين شبه دامعتين :
" أذا أختبرت يوما مثلي مدى سرور الجد روسيني وسعادته أثناء ترحيبه بي وملاقاته لي , لو شاهدت نظرات التفاؤل والفرح في عينيه كلما تطلع نحوي وتحدث معي , أو سمعت كلامه الرقيق العذب ألى أصدقائه عن أقدام حفيدته كل عام على القيام بهذه الرحلة المرهقة لا لشيء ألا لرؤية جدها العجوز والتخفيف مؤقتا عن عذاب وحدته وشيخوخته , أو رأيت الحزن والألم العميقين في عينيه المتعبتين كلما حان موعد ذهابي وشعرت بالآمال الضخمة التي يعلقها على أحتمال عودتي في السنة المقبلة. .... أذا حدثت معك هذه الأمور مرة واحدة , يا روزالبا , فصدقيني أنك لن تضطري أبدا بعدها ألى توجيه سؤال كهذا!".
أزداد تفاؤل أبريل بنجاح خطتها وأسلوبها , عندما شاهدت أبنة خالها تقطب حاجبيها وتغرق في التفكير والتحليل العميقين , فعدم الرفض الفوري والقاطع ,هو , بحد ذاته , خطوة كبيرة نحو الأنتصار , لم تحاول قطع الصمت المطبق الذي خيم عليهما فجأة , بل راحت تتأمل بهدوء وروية التبدل الواضح والمتلاحق في ملامح قريبتها الجميلة , كان التمنع في بداية الأمر سيد الموقف ,ثم تحول ألى تردد وعدم قدرة على أتخاذ القرار المناسب , ومنهما ألى صراع نفسي وتأثر وأنقباض .... ثم ألى أستسلام وقبول , فحتى روزالبا نفسها كانت تجهل أنها مؤمنة كليا وحتى التطرف بمبدأ الأخلاص للعائلة , الذي يوليه أبناء صقلية أهمية فائقة ويطبقونه دون تردد , وأنطلاقا من أيمانها بالروابط العائلية القوية , وخوفها مما قد يحدث لأبنة عمتها أثناء الرحلة الطويلة , رفعت روزالبا رأسها بتمهل وقالت :
" لن أعدك بشيء, يا أبريل , ولكنني سأتحدث مع أمي بصدد الشعور ذاته بالنسبة ألى موضوع الأخطار التي قد تتعرضين لها ,أذا سافرت بمفردك ".
رقصت أبريل فرحا وبهجة , وهي تتخيل الهدايا الثمينة التي سيغدقها عليها جدها , وقالت لروزالبا بسرور بالغ:
" أنه قرار عظيم! شكرا , شكرا , يا روزالبا , أذا تمكنت من أقناع والدتك على ذهابك معي , فلن تندمي على ذلك أطلاقا ... لا بل أنك ستتمتعين جدا بهذه الرحلة , بحيث أنك ستظلين ممتنة لي طوال حياتك!".