6- بعض الحنان الفظ
أمضت روزالبا بقية ذلك النهار بعيدة عن جدها , لتتحاشى مواجهته أو الأصطدام به , خرجت من القلعة لتتفقد الأراضي المحيطة بها , فلاحظت أنها مزروعة في معظمها.....ولكنها توحي في الوقت ذاته بأن الفضل الأكبر في منحها هذا الجمال الساحر الخلاب يعود ألى الطبيعة , وليس ألى الأنسان.
المياه غزيرة في القلعة وجوارها , ولكنها لا تستخدم للشرب والسباحة والري فحسب .... بل أيضا كأنغام موسيقية عذبة , ومرايا تعكس أشعة الشمس الذهبية لوحات فنية رائعة , راحت تبحث عن مصدرها , فتبين لها أنها تتفجر من أحد الينابيع الجبلية القريبة , تابعت خط تدفقها بين الصخور , فأكتشفت لاحقا أن قسما يصب في مستوعب زجاجي ضخم تسبح فيه مجموعات كبيرة من الأسماك وتظلله غابة من الأشجار القديمة .... في حين يخترق المجرى الآخر الجهة الجنوبية للغابة وينهمر شلالا قويا فوق الجنائن والحدائق , التي تبدأ من تلك النقطة وتنتهي حول باحة القلعة.
جلست روزالبا على حافة البركة التي تتجمع فيها مياه الشلال , وتتوزع منها ألى النوافير السبع في حديقة القلعة , أغمضت عينيها لحظة لتسمع خرير المياه بروحها وقلبها , فشعرت بعد فترة قصيرة بعودة السكينة والطمأنينة ألى أفكارها المشتتة وأعصابها المتوترة , تطلعت ألى يمينها , فشاهدت تمثالين نصفيين للرمزين الحاميين للأنه , كانا ينظران ألى جهتين معاكستين , وكأنهما يرفضان الأعتراف بوجود بعضهما , تنهدت روزالبا وتساءلت بأسى ومرارة عن سبب هذا الهوس المجنون بعزة النفس والتفاخر , في مثل هذه البلاد الجميلة والطبيعة الساحرة ! الملامح تصورهما , العيون تعكسهما كالمرايا , الكلمات والأشارات تضج بهما , وحتى التماثيل الحجرية تتحدث بعنف عنهما ! نظرت ألى أحد التمثالين , الذي يبدو أقل شراسة وقساوة , وخاطبته بالقول :
" أخبرني , كيف يمكنني الهرب من هنا ؟ أليس من السخافة والسخرية , في عصر حرية الفرد هذا , أن أتخوف من أن جدي يريد أبقائي في صقلية رغم أرادتي؟ أنت وأنا نعرف تماما أن الكونت روسيني لا يزال يعيش في قلعته الجبلية الحصينة كما عاش أجداده في القرون الماضية , عندما كان كل منهم حاكما بأمره وذا سلطة مطلقة , لا فائدة ترجى من أي محاولة للحوار معه أو أستخدام العقل والمنطق , وليس من الحكمة أطلاقا التصدي له أو الأعتراض على أوامره".منتديات ليلاس
أنتظرت برهة وكأنها تأمل في الحصول على رد أو أقتراح من التمثال , ولكنها أنتبهت ألى أنه لم يتزحزح من مكانه أو تتبدل معالمه ولو بنسبة ضئيلة ,ما أغباها! أذا كانت المياه المتدفقة عليه منذ مئات السنين لم تتمكن من تحريكه وأثارته , فكيف ستنجح في ذلك كلمات فتاة غريبة ضعيفة؟ هزت روزالبا رأسها , وقالت له:
" يبدو أنه ليس لدي أي خيار , غير اللجوء ألى السرية , سأحاول الأبتعاد عن جدي وأبنة عمتي قدر الأمكان , لأفكر بطريقة ما , يجب أن أفعل ذلك , وألا فأنني سأجد نفسي عما قريب لعبة خرساء صماء في يديه... يضيفها ألى مجموعته الكبيرة التي يحتفظ بها منذ عشرات السنين!".
تجنبت في المساء مرافقة جدها وأبريل ألى العشاء , بحجة أنها تشعر بصداع شديد , قبل الكونت عذرها فورا وتمنى لها الشفاء عاج , ثم أستدعى ريتا ووجه أليها بعض التعليمات المعينة , وبعد نصف ساعة من ذلك , حضرت مدبرة المنزل ألى غرفة روزالبا ووضعت صينية طعام على الطاولة القريبة منها , ثم أبتسمت وقالت :
" أحضرت لك عشاء خفيفا , يا آنسة , وسأعود في وقت لاحق لآخذ الصينية ,وفيما عدا ذلك فأن أوامر الكونت تقضي بعدم أزعاجك أطلاقا , أتمنى لك نوما هادئا , وتصبحين على خير".
أكلت روزالبا معظم الطعام الذي أحضرته ريتا وشربت كوبين من العصير , وذلك كيلا تتعرض لأستجواب جديد حول فقدانها الشهية وحاجتها ألى زيادة وزنها , خلعت ملابسها وأرتدت ثياب النوم ثم أستلقت على السرير الكبير , تتمتع بالنسيم المنعش الذي يأتيها عبر نافذة عريضة.
شعرت وهي نصف نائمة بأن ريتا تسللت ألى الغرفة بحذر شديد ,ثم غادرتها بالطريقة ذاتها حاملة معها صينية الأكل , أبتسمت روزالبا بأرتياح لتصرفات هذه السيدة اللطيفة , وأدارت وجهها نحو النافذة لتتأمل الستائر الرقيقة التي تتراقص بهدوء مع هبات النسيم الخفيفة , وما أن مرت لحظات معدودة , حتى أغمضت الشابة المرهقة الأعصاب عينيها ..... وأستسلمت ألى النوم العميق.