نامت روزالبا نصف المدة التي وعدت نفسها بها , فأستيقظت في السادسة والنصف مساء وهي تشعر بالراحة التامة..... ولكن بشيء من التململ وعدم الأستقرار , وعندما أحست بأن المدينة تدعوها لأستكشافها ,حثها ذلك الشعور العميق بعزة النفس الموروث عن والدها بتلبية الدعوة دون تمنّع أو وجل , فهذه هي الأرض التي تم جذور عائلة والدها منذ مئلات االسنين , وهي الأرض التي بدأت تشعر نحوها فعلا بتعاطف قوي , ولو أنها توقفت قليلا لتحليل مشاعرها أتجاه هذه الجزيرة , لتبين لها أنها مماثلة لمشاعر منفي عاد أخيرا ألى موطنه بعد غياب طويل .
أستحمت وأرتدت ثيابها , ثم وضعت كافة المبلغ الذي تحمله بالعملة الأيطالية في حقيبة بيضاء صغيرة بهدف شراء هدية جميلة لوالدتها , وتسللت بهدوء ألى الغرفة المحاذية التي خصصت لأبنة عمتها , كانت تأمل في أيجاد أبريل مستيقظة وراغبة في مرافقتها خلال جولتها القصيرة المرتقبة , لكنها فوجئت بأن قريبتها لا تزال تغط في نوم عميق , ترددت قليلا , ألا أن نداء المدينة التي بدأت تستفيق من غفوة ما بعد الظهر وتستعد لسهرتها الطويلة , كان قويا جدا ويصعب رفضه.
خرجت ألى الحديقة ومنها ألى الطريق , وهي تعلم أنه كان عليها أبلاغ ريتا أو جدها نفسه عن عزمها على القيام بهذه الجولة القصيرة , ولكنها أقنعت عقلها , الذي بدأ يحذرها من مغبة الضياع في هذه المدينة الغريبة , بأنها لن تضل طريقها أطلاقا طالما بقيت قريبة من تلك الساحة الصغيرة .
منتديات ليلاس
سارت روزالبا لمدة خمس دقائق فقط , فوصلت ألى سوق شعبي يعج بالحركة والنشاط , وقفت في أحدى الزوايا , وراحت تتأمل أوجه المارة وعربات الخضار والفاكهة التي تملأ الأرصفة والشارع الضيق , المخصص بأكمله لعمليات البيع والشراء , أعجبتها تفاحة حمراء كبيرة , فأقتربت من البائع المسن ورفعت أصبعها قائلة :
" واحدة !".
أعطاها الرجل أكبر تفاحاته وهو يبتسم لها , فسألته عن ثمنها , وعندما لم يفهم ماذا قالت له , تذكرت بعض الكلمات الأيطالية التي علمتها أياها أبنة عمتها وحاولت أستخدامها .... ألا أنها لم تنجح في مهمتها الصعبة , فتحت حقيبتها أمامه وأشارت ألى الكمية الكبيرة من الأوراق النقدية الأيطالية , داعية أياه ألى أخذ ما يراه مناسبا كثمن لتلك التفاحة .
لبى الرجل دعوتها بسرور , ولاحظت أنه لم يأخذ ألا المبلغ الذي تصورته ثمنا معقولا , سارت قليلا داخل الحشد الكبير من الناس , وغرزت أسنانها البيضاء الصغيرة بقوة في تلك التفاحة الجميلة ..... لتفاجأ بكمية من العصير اللزج ينطلق منها ويغطي أنفها وفمها وذقنها , كان الناس يتدافعون حولها من كافة الأتجاهات , فتبين لها أنها لن تتمكن من فتح حقيبتها بالسهولة التي تتوخاها لأخراج منديل تنظف به وجهها , شاهدت زقاقا مهجورا في أحد أطراف السوق , فشقت طريقها نحوه بصعوبة شديدة , وعندما وصلت أليه , أسندت ظهرها ألى جدار وتنهدت بأرتياح , ثم بدأت تعبث في حقيبتها بحثا عن المنديل المطلوب.
كانت متضايقة جدا من الذباب الذي بدأ يحوم حولها , ومنهمكة في البحث عن أي شيء يمكنها أستخدامه لتنظيف وجهها , فلم تلاحظ وجود شخص بقربها ألا عندما غطى ظله عينيها , رفعت رأسها بسرعة , فتجمدت الأبتسامة على شفتيها , شاهدت مراهقا في حوالي السادسة عشرة من عمره يرتدي ثيابا وسخة , وينظر أليها بعينين شريرتين , أدركت روزالبا على الفور ما يخطط له هذا الوغد الصغير , فأغلقت حقيبتها بسرعة وضمتها ألى صدرها ..... في اللحظة ذاتها التي أمتدت فيها يداه لسرقتها , وعلى الرغم من مشاهدتها الخطر الواضح في نظراته القاسية والحادة , ألا أنها صممت على عدم التخلي عن حقيبتها دون مقاومة , حرر الفتى الفتى أحدى يديه ورفعها عاليا لصفع هذه الغريبة , التي تتصور أنها قادرة على الدفاع عن نفسها , نزلت يده على خدها كمطرقة حداد , ولكنها لم تستسلم أو تتراجع عن عزمها على الأحتفاظ بحقيبتها مهما كلف الأمر .... كما أنها لم تصرخ مستنجدة , مع أنها على بعد ثلاثين أو أربعين مترا عن سوق يعج بالناس , رفع الفتى يده مرة أخرى ليضرب بحافتها معصم الشابة العنيدة , فأغلقت فمها بسرعة وأغمضت عينيها.
ألا أن معصمها لم يتعرض للضربة القاسية المرتقبة , بل سمعت عوضا عن ذلك حشرجة في صوت مهاجمها ولاحظت أن يده الأخرى تخلت عن حقيبتها , فتحت عينيها في اللحظة المناسبة لتشاهد قبضة تنهال بلكمة قوية على فك المعتدي , الذي أطلق صرخة ألم عالية وهو يقع أرضا , ولكنه ما أن لامس الأرض , حتى هب واقفا بخفة القرود وفر مسرعا نحو الأسواق التجارية.