3- الرجل الغامض
أقتربت أبريل من أحد الضباط المسؤولين عن جوازات السفر , وهي تحمل جوازها بيد وحقيبتها الصغيرة باليد الثانية , وفيما راح الرجل يقارن بين وجه أبريل وصورتها للتثبت من صحة الوثيقة التي تحملها , ويتأكد بعد ذلك من صلاحية الجواز لفترة غير قصيرة , ومن ثم يطبع على أحدى صفحاته الأخيرة أشارة الدخول , أحست روزالبا بأن الدماء تجمدت في عروقها خوفا من نظراته القاسية وملامحه الشرسة .
وعندما جاء دورها , أعطته جوازها بيد مرتجفة وأعصاب متوترة , ولما فتح الضابط جوازها وقارن بين الصورة ووجه صاحبتها , بدأ يتفحص كافة التفاصيل المذكورة على الجواز بدقة وعناية بالغين , وما أن أشار الضابط ألى شخص وراءها , دونما أي أيضاح أو أستفسار , حتى أحست روزالبا بتسارع ضربات قلبها وأزدياد أرتجاف جسمها , وفيما أخذ الرجل الآخر جوازها وراح يدرسه بهدوء وروية , غير آبه بتململ المسافرين الآخرين الذين يقفون صفا طويلا وراء روزالبا , شعرت حفيدة الكونت روسيني بالعرق يتصبّب من جبينها .
أنّبت نفسها على هذا التصرف اللامنطقي , لأنه ليس لديها أي شيء تخافه ولا داعي بالتالي ألى مثل هذا التوتر , ومع ذلك فقد أرعبها الرجل الأسمر الطويل القامة والمفتول العضلات الذي لا يرتدي أي زي رسمي , قد لا يكون أحد المسؤولين في المطار , ولكنه بالتأكيد رجل ذو نفوذ قوي , ماذا أوحى لها بذلك ؟ هل هي الطريقة التي يحرك بها رأسه , وتدل على هيبة وقوة شخصية , أم هي تلك النظرات الحادة التي تنطلق كالسهام القاتلة من عينيه الكبيرين السوداوين ؟ أنهى الرجل تفحصه لجواز سفرها وأعطاها أياه , قائلا لها بلهجة مهذبة أذهلتها :
" شكرا , آمل أن تتمتعي بوقتك في جزيرتنا , يا آنسة روسيني".
منتديات ليلاس
أنذرتها حاستها السادسة بأن الطريقة التي أستخدمها هذا الرجل في ذكر أسمها , وكأنه يداعبه بلسانه ويتلذذ بطعمه , تبدو كأسلوب الفهد الذي يهنىء نفسه على نجاح صيده ولكنه مستعد للأنتظار بعض الوقت قبل الأنقضاض على فريسته لألتهامها , وأشعرتها غريزتها على الفور بوجود روح من العداء أتجاهها , وراء تلك اللهجة المهذبة والأسلوب الهادىء , ولأن حيرتها كانت شديدة وذهولها أشد وأقوى , فأنها لم تتمكن من التطلع ثانية ألى وجهه ..... وأكتفت بتأمل الأبزيم الذي يربط به حزامه الجلدي , والذي يدل بوضوح تام على شراسة هذا الرجل وعنفه , فقد لاحظت روزالبا أنه حفرت بشكل نافر على هذا الأبزيم المصنوع من الذهب الخالص , صورة وحش مجهول يتهيأ للأنقضاض على أفعى مكومة على نفسها وتستعد بدورها لمهاجمته وأبتلاعه , وضعت الجواز في حقيبة يدها , وقالت للرجل متلعثمة :
"شكرا , أيها السيد و..... وداعا".
أحنى الرجل رأسه بشيء من الأستهتار , وقال لها مشددا بنعومة على الشق الأول من جملته المقتضبة :
" ألى اللقاء ,يا آنسة ".
ما أن أقتربت روزالبا من أبنة عمتها , التي كانت تراقب الموقف عن كثب , حتى سارعت أبريل ألى توجيه سيل من الأسئلة :
" من هو هذا الرجل ؟ ماذا أراد منك؟ وماذا قال لك؟".
" لا شيء يذكر , تمنى لي أقامة سعيدة في هذه الجزيرة ".
" هل أمضى كل هذا الوقت ليقول لك ذلك فقط؟".
" يبدو أنه كان مهتما جدا بجواز سفري".
" أوه! لم يكن الكتاب أذن هو الذي جذب أنتباهه , بل العنوان , فأسم روسيني له وزنه ونفوذه , حتى هنا في باليرمو! ويذكرني هذا الأسم في الوقت ذاته , بأن علينا الأسراع في أنهاء معاملاتنا وأخذ حقائبنا , فمن المؤكد أن جدنا ينتظرنا في سيارته قرب قاعة الخروج , ومن واجبنا ألا نبقيه هناك أكثر مما هو ضروري ".
خرجت الحفيدتان من القاعة بعد دقائق معدودة , لتواجها شمسا ساطعة قوية أربكت روزالبا في اللحظات الأولى , وحرمتها من التركيز على الشخص الذي لوحت له أبريل بيدها ثم هرعت نحوه لمعانقته وتقبيله , وعندما تأقلمت عيناها مع الضوء المتوهج وأتضحت لها الرؤية , شاهدت روزالبا رجلا متقدما في السن يقف أمامهما بكامل أناقته وقامته الطويلة الرشيقة ...يرحب بما باسما وفاتحا ذراعيه , تسمرت في مكانها وهي تشعر بمزيج من الأزدراء والأعجاب , أتجاه هذا الرجل الوسيم الذي يشبه والدها الحبيب ألى درجة كبيرة ... ولا يشبهه أطلاقا في الوقت ذاته , فالطول والرشاقة هما نفسهما , وكذلك الرأس والجبين والعينان العسليتان , ألا أن النظرات مختلفة تماما , ففي حين أن عيني والدها كانتا تشعان بالحنان والرقة والمحبة , فأن عيني جدها الكونت قاسيتان باردتان كالفولاذ , ولم تنتبه روزالبا ألى أن الفم هو أبرز نقاط عدم التشابه بين الوالد وأبنه , ألا عندما وجه أليها جدها أبتسامة عريضة فيما كانت أبريل لا تزال بين ذراعيه , فقد لاحظت أن فمه يتسع ببرودة جافة لا تعرف الدفء أو المحبة , وكأنه ينفذ أمرا بالأبتسام , ولما تركته أبريل لتدخل بسعادة فائقة ألى السيارة الكبيرة الفخمة , أقترب منها بهدوء وقال :
" هذه هي الحفيدة روزالبا ! أهلا بك ألى صقلية , أيتها الحبيبة".