وصلا ألى الكنيسة الصغيرة التي بنيت قبل مئات السنين , فبدا سلفاتوري كحيوان شرس قيّد بسلاسل حديدية موجعة ووع لتوه داخل قفص صغير ضيق , أحس بدخولهما , فتوقف فورا عن الحركة وأخذ يحدق بروزالبا .... فيما كانت تسير نحوه بخطى بطيئة عبر الممر القصير , كانت نظراته قاسية جدا , فشحب وجهها ولم تعد ترى أحدا أو تسمع شيئا , وعندما بدأت ترد على أسئلة الكاهن المعتادة بكلمة نعم , أحست روزالبا بأنها في عالم آخر يلفه الظلام الدامس والصقيع المميت , ولكن .... ما أن أمسك سلفاتوري بيدها وألبسها خاتمه , حتى شعرت بنار حارقة تشتعل في داخلها وبدأت تسمع أصوات أجراس وأنغام ملائكية حنونة وناعمة .
لم تنتبه ألى أنتهاء المراسم , ألا عندما أصبحت في منتصف الطريق نحو الخارج , ولاحظت أنها تتعلق بذراع ...... زوجها بقوة , لم يعد هناك وجود لروزالبا روسيني , أصبحت الآن السيدة ديابولو .... الأمرأة التي تجمدت على وجها ملامح السكينة والهدوء , وبدا أن قلبها الذي يخفق بقوة جنونية هو الجزء الوحيد الذي لا يزال حيا في جسمها !
خرجا ألى باحة الكنيسة , فركض نحوهما الصبية الصغار وأخذوا ينثرون الورود والرياحين أمامهما .. فيما كان أهلهم الواقفون كحرس شرف حتى أولى الدرجات المؤدية ألى القلعة , يحييونها ويصفقون لهما , توقفت روزالبا قبل دخول القلعة , وأستدارت نحو المهنئين لتوجه أليهم تحية شكر وأمتنان , كانت تأمل في أن تؤدي هذه البادرة , وما رافقها من أبتسامات توحي بالفرح والسعادة والهناء , ألى أخفاء الصدمة القاسية والحزن الشديد اللذين تشعر بهما.
منتديات ليلاس
لقد قالت لأبنة عمتها أن مراسم الزواج ستكون صورية بحتة , ولن يضطر أي من العروسين ألى الشعور بالألتزام بها , ولكنها تحس الآن بأنها ربطت نفسها بشكل تهائي لا رجوع عنه , وهي ترد بجدية تامة قسم الزواج والمحبة والأخلاص ........ وتسمع سلفاتوري يقول الكلام ذاته , ولو بلهجة قاسية وحادة , بدا لها آنذاك , وكأنه يتقبل العقاب على خطاياه... أو كأن زواجه منها حكم صارم للغاية يرحب به كثمن لأنتصاره , ومع ذلك .... فأن الكلمات الأولى التي وجهها أليها , أثناء أنفرادهما لفترة وجيزة في القاعة الكبرى , لم تنم عن أي شعور بالمصالحة والوفاق ...... بل ببقاء أحساس قوي بالحقد والأحتقار في أحدى زوايا قلبه , فقد أمسك ذقنها بأصابع شرسة وحدق بوجهها الشاحب لحظات مطولة , قبل أن يقول لها :
" والآن.... هل ستتمكنين أيتها الزوجة العزيزة ,من أقناعي بأنك بديل عادل وثمن معقول لحريتي ؟ أظهر الثعبان العجوز تصميما على التخلص منك , لا يشكل أي أطراء لك ! ولكنني لا أستغرب ذلك , لأنه من الأشخاص المستعدين لبيع حصتهم من الشمس والهواء بغية تحقيق أغراضهم وأهدافهم البعيدة المدى !".
تجرأت على مواجهة غضبه الحاقد وسخطه المؤذي , بالقول:
" أنا لست قطعة أثاث يملكها جدي!".
أجابها قائلا , بلهجة ثابتة وأكيدة جمدت الدماء في عروقها :
" لا , طبعا لا , فالملكية الكاملة والتامة أصبحت لي دون سواي! ولكن.... لماذا أشعر بأن الصفقة لم تكن لصالحي , وبأنني وقعت فيها ضحية خداع شرير؟ هل لأنني حصلت على الطريدة بطريقة سهلة , وحرمت لذة المطاردة والصيد؟".
ساد التوتر الشديد أجواء المأدبة , التي أقامها الكونت في قاعة الطعام الكبرى , لم تتحدث أبريل ألا قليلا , وأكتفت بتوجيه نظرات العداء الصامت ألى سلفاتوري ..... الذي تجاهلها بصورة شبه تامة , وركز أهتمامه كاملا على عمته , وفي حين جلست العمة جيوسبينا كأبي الهول ورفضت تناول أكثر من لقمة واحدة من كل طبق طعام يقدم أليها , حاول الكونت التظاهر بتناسي الفوارق الكبيرة بين الطبقتين الأجتماعيتين ...... وأخذ يتحدث بمرح عن مواضيع مختلفة ومتعددة , ولكن حديثه لم يدم طويلا , لأنه هو نفسه وقع بعد دقائق قليلة حية الصمت المطبق الناجم عن التوتر البالغ والنظرات القاسية.
ظل هذا الوضع على حاله لبعض الوقت , فأحس سيد القلعة بأن تقاليد اليافة تفرض عليه القيام بخطوة مجاملة نحو عمة ....صهره ! قال لها, مشيرا ألى أبريق عصير أحضر للتو :
" هل تودين مشاركتنا بكوب من هذا العصير النادر , الذي أحضرت منه كمية محدودة من روما ... للمناسبات الخاصة فقط؟".
" ر شكرا..... فنكهته وطعمه يليقان بالمتحضرين الأثرياء ..... وليس بالفلاحين الفقراء مثلي , أنني أفضل العصير العادي , البدائي الذي نصنعه نحن بأيدينا ومن فاكهة أرنا وجبالنا ,والذي يشبه بحدته وعدم رقته طبيعة أبناء قومنا وشعبنا".