أبتسمت الأم ونظرت ألى أبنتها بعينين حالمتين , ثم قالت :
" كم أنت مخطئة يا حبيبتي! على أي حال ,فأنا لا أنوي الأسترسال في هذا الموضوع ...... وكل ما سأقوله لك أننا أحببنا بعضنا وتزوجنا فور أنتهائها الحرب.... والآن , يا روزالبا , ما رأيك في أعداد أبريق آخر من قهوتك الطازجة اللذيذة ؟ لقد جف حلقي ولساني من كثرة الكلام".
" الآن , ولكنني أريد معرفة رد فعل جدي .... وعما حدث بالنسبة للفتاة التي كان يفترض بأبي أن يتزوجها , هل......".
" سأخبرك ذلك في وقت لاحق , يا بنيتي ! أنني أرفض الأستمرار في سرد هذه القصة , ما لم تحضري لي بعض القهوة".
هبت روزالبا واقفة , وقالت بلهجة مرحة تحمل شيئا من الجدية :
" حقا , يا أماه , هل تعرفين أنك قادرة أحيانا على أزعاج الآخرين بطريقة ذكية ...... وخبيثة ؟".
أرتاحت الأم قليلا بعد ذهاب أبنتها ألى المطبخ , ففتح الجروح القديمة مسألة مرهقة للأفكار والأعصاب , لم تكن بحاجة ألى القهوة , بل ألى فترة تأمل وراحة , أرادت تقوية القلب الذي كاد ينهار فجأة أمام أستعادة ذكريات رجل شاطرته حبا عظيما , كان عشية مماته أقوى وأعمق مما كان عليه يوم زواجهما , ولأنها لا تريد في الحياة شيئا أكثر من تحقيق سعادة مماثلة لأبنتها , فقد جاء رد فعلها عنيفا , على فكرة قيام روزالبا بزيارة قلعة الينابيع , التي عاش فيها زوجها السنوات العشرين الأولى من حياته , والتي لم يعرف بين جدرانها وفي حقولها سوى الألم والعذاب والتعاسة.
أرتجف جسمها فجأة عندما تذكرت ما قالته يوما لزوجها , بعد المصاعب والمصائب المتعددة والمتلاحقة التي تعرضا لها منذ قراره أختيار بريطانيا موطنا دائما له:
" ألى متى ستظل هكذا , يا أنجيلو , قبل أن تشعر بالندم لزواجك مني ؟ ألى أي مدى ستقبل بهذا العذاب قبل أن تتمنى العودة ألى موطنك الأصلي.. ألى بيتك الرائع تلك القلعة التاريخية التي تتوج أعلى جبل في صقلية ؟".
ضمها زوجها الحبيب بين ذراعيه , وأجابها برقة وحنان :
" لم تكن قلعة الينابيع أبدا موطني وبيتي , بل مسرحا كبيرا لوالدي يكتب نصوص رواياته ويحدد أدوارها حسب أمزجته المتقلبة ومشاعره المتضاربة , موطني هنا وبيتي هنا , حيث أنا دون سواي النجم الأول والأخير لكافة المسرحيات والتمثليات , وجمهوري العاشق المحب مؤلف من أعز شخصين على قلبي ...... أنت وروزالبا !".
منتديات ليلاس
عادت أبنتها مع القهوة التي تفوح منها رائحة طيبة ولذيذة , وصب لها فنجانا كبيرا .......ثم جلست على الأرض وأتكأت على ركبتها قائلة بلهفة واضحة:
" والآن أكملي , يا أمي , فأنا أتحرق شوقا لمعرفة المزيد من هذه التفاصيل ".
" لم يعد هناك الكثير يا عزيزتي , فكل ما في الأمر أن والدك كتب ألى جدك يبلغه بأمر زواجه وقراره البقاء في بريطانيا , أستشاط غضبا وأرسل عمتك كاترينا وزوجها ألى هنا , في محاولة يائسة لأقناع والدك بالعودة , وعندما فضلا هما أيضا فقر الحرية على ثراء العبودية , وأختارا البقاء هنا بدلا من العودة ألى صقلية , قرر جدك التنكر لولديه وحرمانهما من كل شيء...... بما في ذلك أمتعتهما وثيابهما التي تركاها في القلعة.
تعذبنا كثيرا لبضع سنوات , ولم نتمكن من جني القليل من الأرباح , ألا بعد مرور فترة طويلة , وعندما أحتفلنا بالذكرى العاشرة لزواجنا , ووجدنا أن الفرن ومعمل الحلويات يحققان دخلا جيدا وثابتا , قررنا التحول من زوجين كادحين ألى عائلة صغيرة قادرة على مواجهة تحديات الحياة ومصاعبها".
صبت الأم فنجانا ثانيا من القهوة , ومضت ألى القول:
" فوجئت عمتك كاترينا قبل حوال أربع سنوات بأستلام رسالة من جدك , يستفسر فيها عما أذا لديه أي أحفاد ويتمنى قيامهم بزيارته , ومع أنه لم يوجه أي دعوة مماثلة لأي من ولديه في تلك الرسالة التي صاغها بعبارات حزينة , فقد شعرت عمتك بالأسى والمرارة وأمضت بضعة أشهر في حالة يرثى لها من البكاء والعويل وطلب الغفران ..... لأنها أهملت والدها العجوز , والغريب في الأمر أن أباك لم يتأثر أطلاقا بتلك الرسالة , ورفض السماح لك بزيارة جدك , لم يكن قراره ذاك نابعا من حقد أو كراهية , بل من عدم ثقة بدوافع جدك , لم يكن قراره ذاك نابعا من حقد أو كراهية , بل من عدم ثقة بدوافع جدك وأهدافه , هذه هي القصة بكاملها ,أيتها الحبيبة الغالية".
" أعتقد أن الجد روسيني شخص مقيت ومثير للأشمئزاز سأبلغ أبريل بأن عليها السفر وحدها , لأن التفاصيل التي سمعتها الآن محت من نفسي أي رغبة ضئيلة كنت سأشعر بها أتجاه الزيارة المحتملة ".
" حسنا تفعلين , يا عزيزتي , لأن جدك يعد بالتأكيد خطة لعقد قرانك على أحد أبناء العائلات الثرية هناك , الأفضل لك أن تبقي هنا وتتزوجي شابا بريطانيا هادئا ,لا ........".
أختفت الأبتسامة الخفيفة من عيني الأم وشفتيها , عندما قفزت روزالبا من مكانها وقاطعتها بأنفعال قائلة قبل خروجها :
" لن أتزوج أبدا , يا أمي , وهذا قرار نهائي لا رجوع عنه".
صعقت أمها لدى سماعها هذا الكلام الخطير , الذي كشف النقاب عن أمور بالغة الأهمية , وقالت مناجية روح زوجها الغائب :
" كم كنا متطرفين ومجنونين في أنانيتنا يا أنجيلو! أنظر ألى ما فعلت بها حمايتنا العمياء لها , فهي لا تزال حتى الآن سمكة صغيرة لا تعرف العيش ألا في هذه البركة الصغيرة , ساعدني على أخراجها ألى بحر الحياة ! ساعدني , أرجوك!".