كاتب الموضوع :
سفيرة الاحزان
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
وترددت دابون لحظة قصيرة ثم ثنت رأسها تجاه ميلودي تحثها على الجري الى الأمام . وقفزت الفرس الصغيرة بطريقة مدهشة في أثر الفرس الأخرى القوية . كانت تجربة مثيرة أن تقفز عبر مساحة كأنها فضاء لانهائي ، دون أن يكون هناك أي اثر للحياة على مرأى البصر .
وبدأ على البعد قطيع من البهائم السوداء ، وكان هو الرفقة الوحيدة لهم على الطريق في ذلك الوقت ، ولم يكن هذا القطيع ليحفل بهم . وانتثر بعض رذاذ الماء المالح الى أعلا ، فبلغ وجه دابون وبلل ذراعيها وشعرت بالسرور لأنها لبست حذاء طويلا برقبة كان يحمي ساقيها من البلل .منتديات ليلاس
وبدأت الفرسان تبطئان السير عندما دخلتا الى مستنقع أكثر عمقا ، وصارتا تخوضان في مياهه دون أن تبديا أي اكتراث بالراكبين فوق ظهرهما وخطر لدابون أن ترفع ساقيها الى أعلى لتتفادى البلل ، ولكن مانويل لم يفعل ذلك ، فقررت أن تحذو حذوه ، اذكانت تخشى أن تفقد توازنها وتسقط في البحيرة . وأبطأ مانويل فرسه ، واستدار لينظر الى وجهها المفعم بالبهجة ، وانحنى ليصلح من ركاب فرسه انتظارا لوصولها الى جانبه، وسألها:
" هل لازلت تشعرين بألياس؟ "
وهزت دابون رأسها ، وهي عاجزة عن أن تخفي سرورها بالصباح الجميل ونظر اليها مانويل لحظة متفحصا . وقبل أن يمد يدة ويتحسس جيبه ليبحث عن السيكار . أخرج واحدة ثم اشعلها . وقال:
" أمل ألا تكوني قد صادفت كثيرا من المتاعب ؟"
وضاقت عيناه أمام وهج الشمس الذي ينعكس على صفحة الماء ، ونظر اليها من جديد نظرة خاطفة وأضاف :
" هل تشعرين بأي تعب "
وهزت دابون رأسها من جديد :
" يهيأ لي أن جسمي لن يستطيع التحرك غدا ، ولكن ..."
وتنفست بعمق ثم تنهدت وهي تكمل :
" أن كل شيء جميل للغاية . لم أجد وقتا للتفكير في نفسي "
وأخذ مانويل يشد أنفاس السيكارة بقوة ، وهو يرسل زفرات الدخان الأزراق الباهت عاليا في الهواء ، فوق رأسيهما ، ثم سألها بحدة :
" لماذا فعلت كل هذا يا دابون ؟"
وحبست دابون أنفاسها:
" لماذا ؟ لماذا فعلت ماذا؟"
وأجاب :
" لماذا سافرت بعيدا دون أن تخبريني على الأقل بأنك ماضية ؟ أما كان ينبغي لي أن أعرف ؟"
ونظرت عيناه اليها نظرة خاطفة أربكت دابون . كانت قد أحست بالأمان لأول مرة منذ أن وصلت الى كامارغ . وجاءت تلك الجملة من مانويل بطريقة حاذقة ولكنها صريحة ، لتدمر شعورها بالأمان الذي أحست به . حاولت أن تجد كلمات ترد بها علية ، وقالت بتوتر :
" لا شك أن أمك قد شرحت لك كا شيء "
ورد مانويل بسرعة :
" أنا لا أتحدث عن أمي . أنني أتحدث عنك أنت ! أريد أن أعرف لماذا تحاولين أن تسخري مني . أريد أن أعرف خطأي . لماذا بعد ما حدث بيننا في تلك الليلة الأخيرة حاولت .... "
وأمسك مانويل بلجام فرسها ، وكنت على وشك أن تستحث ميلودي على السير ، وهو يقول :
" لا، لا ، أنني أوافق على أنه لا شيء يستطيع أن يغير الماضي ، ولكن أريد أن أعرف لماذا وافقت على أن تشاركي في الطقوس ، وكنت تعرفين بالضرورة ..."
وحاولت أن تسحب اللجام من قبضته ، وأن تزيح أصابعه بعيدا ولكنها بدلا من ذلك وجدت أصابعها تقع أسيرة بين أصابعه ، وأحست أن بشرته الرطبة وهي تلمس بشرتها الساخنة كانت قوة حقيقية بل شرارة شديدة الحساسية تشدهما بعضهما الى بعض في جو لم يكن فيه سوى الشمس ، والماء والسماء .
ونطق باسمها :
"دابون "
وأثارها الحاح صوته بشكل رهيب ، وعيناه تأسرانها بنظرة اخترقت أعماقها. وتوقفت أنفاسها.
وبقوة استطاعت أن تنزع أصابعها من قبضته ، ووخزت ميلودي بمؤخرة قدميها ، فأهاجتها ، وانطلقت الفرس مندفعة خارج مياه البحيرة العميقة الساكنة. وعندما اصطدمت حوافرها بالأرض بدات تجري مسرعة ، وصارت دابون تتعلق يائسة بعرف الفرس الكثة .
وقبل أن يستولي عليها الفزع الحقيقي ، كانت الفرس السوداء بجانبها . واستطاع مانويل أن يمد يد ذراعه ويمسك بلجام فرسها بقوة . وبدات ميلودي تستجيب لقوة الجذب المتزايدة ، وأخذت تبطىء من سرعتها ، واستطاع مانويل أن يوقف الفرسين . وعندئذ فقط بدات دابون ترتعش ، لابسبب ما حدث لها على ظهر الفرس فقط ، وأنما من النظرة التي كان يرمقها بها مانويل .
وترجل من على سرجه . وظنت دابون للحظة انه ينوي أن يشدها بالقوة الى أسفل ولكنه اتجه الى الفرس التي كانت تتصبب عرقا . وبدا يهدئها بكلمات لطيفة وهو يربت على مقدمة رأسها حتى خضعت وبدأت تمرغ أنفها في يده .
وترك مانويل الفرس البيضاء ، وبدأ يربت بيده على خاصرة كونسيلو . ثم قفز ثانية الى السرج ونظر الى دابون ، وهو يقول :
"لو أنك تسببت في أحداث عرج بالفرس."
وترك الجملة معلقة في الهواء دون ان يكملها:
" نعم ؟ ماذا كنت تفعل ؟.."
التوت شفتاه ، وهو يقول :
" أعتقد أنك تعرفين "
وارتعشت دابون ، وقد استولي عليها شعور بالغضب ، ثم انطلقت بطريقة طفولية غير مكترثة :
" أنك تعتقد أن قوتك شيء عظيم ، اليس كذلك "
وهز مانويل كتفيه ، ويده تمسد شعره الكثيف الملىء بالحيويه لتستقر أخيرا على مؤخرة رقبته ، وقال لها بلهجة متسامحة تحمل معنى النصح
" لا تتصوري انني صبور الى هذا الحد "
وزاد من حنقها أنه كان يؤكد على أنها مخطئة . ولوح بلجام لوكسيلو فاستدارت الفرس السوداء طائعة ، ولم تقم دابون بأية محاولة لتساعد ميلودي ، ولكنها بدلا من ذلك ظلت جالسة في سكون تحدق في الفضاء بنظرة تنم عن الرفض و العناد .
وسألها وحواجبه السوداء ترتفع بشيء من التهكم :
" هل تحبين أن أقوم بتثبيت اللجام في فرسي لأقودك على الطريق ؟"
" لن يكون ذلك ضروريا"
وهز مانويل كتفيه ، وضغط بمؤخرة قدميه على الفرس ، وبدأ يجري بعيدا عنها وتبعته دابون على نحو اكثر بطئا ، وجعلت الفرس تسير خلال البرك التي تغص بالقصب وهي تلاحظ ادغال من نبات حصى البان البري يفوح عطره مختلطا مع عطر نبات العرعر الأكثر نفاذا . كان كل شيء نائيا وجميلا ، ومع ذلك لم تكن تستطيع أن تحصر تفكيرها فيما يحيط بها . فخلال دقائق قليلة مضت كان الشعور بالأمان قد تحطم وصارت تدرك تماما كنة الرجل الذي يرافقها على بعد مسافة قليلة منها . كان قويا ومتغطرسا على ظهر فرسه ولم يكن شابا متقدا بحب الحياة ، لكنه كان صلبا ومجربا ، وكان يحس بأنه السيد على ما حوله .
|