5- عاصفتان في قلبها
وحشرت زوي نفسها حشرا في أحدى زوايا الزورق الصغير وأختبأت هناك , وأملت ألا يراها ألا بعد أن يقلع من الميناء , وعندئذ لا يمكن له غير القبول والرضوخ , فيتسنى لها أن ترافقه في نزهته.
وبعد حين سمعته يستقل الزورق ويدير محركه , وشعرت كأنه ينوي الأبحار على جناح السرعة , وبدا لها أن الطقس لن يبقى صافيا , وأن كان لا يزال دافئا على غير عادته في ذلك الوقت من السنة , غير أنها كانت تثق بمهارة مكادم وقدرته على مجابهة الصعوبات مهما أشتدت , وبفضل هذه الثقة أستسلمت ألى الراحة , ثم سرعان ما غلبها النعاس.
وكانت تنوي في الأساس , أن تبقى حيث هي , أذا لم يكتشف مكادم وجودها خلال ساعة أو ساعتين , وبذلك يصعب عليه العودة بها ألى ألى الشاطىء , بل حتى لو عاد بها فأنها تكون قضت جانبا من النزهة , على أنها نامت أكثر مما توقعت , ولم تستفق ألا حين شعرت بحدوث خطر مفاجىء .
وكان الزورق يعلو ويهبط بشدة , مما جعلها تعتقد أنه في وسط العاصفة , وسرعان ما سمعت صوت الرعد ورأت سهام البرق تخترق نوافذ الغرفة التي أختبأت فيها .
منتدى ليلاس
ولكن أين مكادم ؟ وفجأة , بدأت ترتجف وترتعش من الخوف , لا على نفسها بل عليه , وكانت تعرف أن هبوب العاصفة على حين غرة قد يعرض أمهر البحارة ألى الخطر المداهم , ومع أن ما يحدث الآن قد جابهته مع مكادم مرارا من قبل , ألا أن ذلك لا يعني أن التغلب على الخطر سيحالفها هذه المرة أيضا , وكان أكثر ما أفزعها وأثار مخاوفها ذلك الصمت القاتل الذي كان يلف الزورق , فهل يا ترى أصيب مكادم بمكروه ؟ وفي تلك اللحظة , أمام شعورها بالقلق عليه , أكتشفت أنها واقعة في غرامه.
على أن هذا الأكتشاف يحتاج ألى وقت لأستيعابه , ولكن الظروف أجبرت زوي على تجاوز عامل الوقت والتصرف بما يمليه عليها ذلك الغرام , فحياة مكادم قد تتوقف على مثل هذا التصرف.
وتأكد لها أنه لا بد أن يكون في غرفة القيادة , فخرجت من مخبأها بحذر , لئلا تجتاحها العاصفة وترمي بها في البحر , وفيما هي تندفع في وجه الرياح العاتية , أذ بها تعثر على مكادم ملقى ظهر الزورق من دون حراك , وفي الحال أدركت أن السارية وقعت على جانب رأسه فأغمي عليه , وحاولت عبثا الوصول أليه , فوقفت تحدق أليه بخوف شديد من أن تحمله العاصفة وتلقي به في خضم الأمواج .
وفجأة قذفته العاصفة بأتجاهها , بحيث أصبح في وسعها الأمساك به , وتعجبت كيف أن الزورق لم ينقلب رأسا على عقب , على الرغم من فقدانه توازنه .
وبدأت , وهي غارقة في الماء ألى خاصرتيها , تشد مكادم ألى غرفة القيادة , يساعدها على ذلك تمايل السفينة مع الأمواج .
وما أن أوصلت مكادم داخل الغرفة حتى تنفست الصعداء وأخذت تربطه بعمود المقود , فعلت ذلك عفو الخاطر وتبعت الأرشادات التي كانت تلقنتها منه , وأحست برغبة جامحة في تطويقه بذراعيها وحمايته من الأمواج , ألا أنها تمالكت نفسها وأستخدمت عقلها لا عاطفتها .
وبعدما أيقنت أنه في مكان مريح , أخذت تنعم النظر في الجرح الذي أصيب به رأسه , وبدا لها أنه بسيط وسيستعيد وعيه في وقت قصير , ورأت أنه عليها الآن أن تقوم بكل ما في طاقتها لأبقاء الزورق عائما على وجه الماء.
وحاولت أدارة المحرك فلم تستطع , فعزت السبب ألى وجود خطأ ما , ولم تكن متأكدة من مكان وجودهما ألا على وجه التقريب , ولاحت منها ألتفاتة فرأت الجزر الممتدة على طول الساحل والتي لا تزيد مساحة بعضها عن موطىء قدم , وكانت هذه الجزر خلابة المنظر , خصوصا للسواح الذين كانوا يتأملونها وهم في البر , غير أنها كزورق وحيد تائه في البحر لم تكن ألا مصدر خطر مداهم . منتدى ليلاس
حاولت مرة ثانية أن تدير المحرك , ولكن عبثا , وتنهدت ووضعت المفتاح في جيبها أتقاء للمحاذير , وحارت ماذا تفعل , فأكتفت بالأنتظار فيما الزورق يعلو ويهبط مع الأمواج.
وعاد مكادم ألى وعيه , ولكن بعد أن أصبحت الجزيرة على مرمى النظر , وشعرت زوي بوجود الجزيرة على مسافة قريبة ,وذلك من أزدياد حركة المد والجزر بفعل الريح التي كانت تنطلق من الساحل .ومعأنها كانت تعرف ماذا تعمل وكيف تجابه الوضع المستجد , ألا أنها أحست بالرعب يتصاعد في داخلها حتى كاد يخنقها , وأزدادت رعبا حين لمحت أن الجزيرة تغص بالصخور ولكن لا شاطىء لها يرى , وحتى لو كان لها شاطىء , فالسفينة التي تدخل أليه في تلك الأحوال قد تنقلب بسهولة , وعندئذ كيف لها أن تخرج مكادم منها ؟ وأجتاحها الخوف وتساءلت ماذا لو مات مكادم ؟ ألا تموت هي أيضا , لأن الحياة بدونه لا تستحق أن تعاش .