وظل جان في المقهى فيما عاد روم ألى مكان الأجتماع أنتظارا لمالكة صوفي , وقررت آنا أن تستريح في المنزل مع مارييل , وكانتا تتبادلان الحديث وتتناولان القهوة عندما سمعتا أصواتا آتية من المقهى , فأنتفضت آنا ونظرت لمارييل بينما سمعتا جان وكأنه ينذرهما :
" نعم أيها الرفيق , كان لدينا غريبان حضرا ليلة أمس يستجديان طعاما فعطفت عليهما زوجتي وقدمت لهما وجبة وسريرا مقابل قيام الزوجة برعاية طفلتنا بينما عمل الزوج في المطبخ , وقد رحلا من ساعة وقالا أنهما سيعودان ألى قبيلتهما وأجهل وجهتهما.
وعندما وجه أليه مستجوبوه سؤالا رد جان بصوت أكثر أرتفاعا:
" سيدة أنكليزية؟ لا بد أنك مخطىء , هل رأيتها هنا في المقهى؟ ألم تكن سمراء؟".
فأرتاعت مارييل ورفعت يدها تلمس العصابة التي تغطي شعرها الأشقر , كم هي غبية لأخفاء مقابلتها للضابط الروسي ! فلو ذكرت الحادث لأستعد جان بردود مقنعة ؟ ماذا لو دخل المقهى وأثبت كذب جان وطرأت الفكرة نفسها لآنا فأمسكت مارييل وناشدتها أيجاد حل للمأزق.
حينئذ وكأن الله أستجاب لدعائهما , سمعتا روم يقود العربة داخل الفناء , فلحقت به مارييل وهي تلهث:
" جنود ........ بالقهى!".
وبسرعة أنتزعها من الأرض وأجلسها بجانبه وضرب الحصان بالسوط , وأنطلقا نحو حدود المدينة , ولم يتسع الوقت لتوديع آنا وهي واقفة ترقب ما يحدث من وراء الستار , وعندما ألتفتت مارييل ألى الوراء رأى الجنديان العربة وهي تسرع مبتعدة عن المنزل , لكنها لم تشعر بالخوف لأنهما قد أبتعدا بمسافة كافية ليتفاديا أيقاع الشك بأصدقائهما .
وكان الكلام مستحيلا بينهما بسبب أصوات حوافر الحصان وسرعة العجلات , لذا تشبثت بالعربة متحملة ميلها ومطبات الطريق , حتى أن أسنانها ضغطت على لسانها فأدمته .
وعندما جاءت الطلقة الأولى كانا قريبين من الأشجار , فشعرت بخوف سمّرها في مكانها بدون حركة , حتى أن روم مد ذراعه وجذبها ضاحكا :
" أثبتي ولا تخافي , كدنا نصل ألى بر الأمان".
منتدى ليلاس
وعندما مرت رصاصة أخرى بجوار رأسه جزعت مارييل , ألا أن روم قاد الحصان بأقصى سرعة محاولا الدخول ألى الأشجار ليحتمي فيها , وتنفست مارييل الصعداء عندما دخلا بين الأشجار وأصبحا في أمان , وظل يتوغل في الغابة ألا أن كثافة الأعشاب جعلت التقدم مستحيلا , لذا قفز من العربة وأشار أليها أن تتبعه , ثم ربت على الحصان وتركه يعود من حيث أتى.
أمسك روم بذراع مارييل وأخذا في العدو , وسمعا أصداء أصوات بين الأشجار عرفا أن هناك من يتبعهما عن قرب , ولمدة ساعات حاولا أختراق الأشجار الكثيفة فكانا يتعثران ويتعرضان لوخز الأشواك التي تشبه الأفاعي في لدغها , وأخيرا شعرا أن المطاردين قد أبتعدوا عنهما , وكانت دراية روم بالغابة وحدّة نظره وحكمته خير عون لها ,وفجأة توقف روم عن جريه ونصح مارييل بالراحة , فأطاعته وهي مطمئنة ألى أنهما في أمان .
ثم أرتمت على الأرض المغطاة بالحشائش وراحت تدلك وجنتيها بالأوراق النادية , شعرت بدقات قلبها وهو يلامس الأرض , وعندما هدأ الصوت وأسترخت عضلاتها قالت :
" هذه غلطتي يا روم , شعرت وأنا في المقهى هذا الصباح أنني أثرت شك أحد الضباط لكنه ترك المكان دون أن يقول شيئا ولم أظن أن الحادثة بالأهمية التي تجعلني أذكرها لأحد".
فصوب نظراته ألى وجهها وقال :
" لم تظني أن الحادث هام؟".
وجاءت كلماته بطيئة معبّرة عن غضبه ودهشته , فأرتبكت وتوسلت أليه بألا يقسو عليها , وتوقعت أن يثور عليها , لكنه من فرط تعبه تنهد وترك جسده يستريح قائلا:
" بعد بضعة أميال سنكون في أمان , هذه الغابة تقع عبر الحدود , دخلناها في تشيكوسلوفاكيا وأستطرد يقول:
" بمجرد وصولنا ألى فيينا سأعيدك ألى خالتك الموجودة هناك منذ أسابيع بأنتظار أخبارك".
فرددت كلماته بدهشة وقالت:
" خالتي في فيينا ؟ لكن....... كيف؟ ........ ولماذا؟".
" كيف..... بالطائرة..... ولماذا ..... لأنه بمجرد معرفة سيرجي أيفانوف بتحركاتها لم يعد لها أمان في وارسو".
" أتعني أنها أضطرت ألى ترك بيتها وعملها وأصدقائها بسبب تدبيرها لفراري؟".
قال:
" لقد ظلمت خالتك كما ظلمها الكثيرون".
وأثارت الدهشة التي بدت عليها غضبه وحفزته على الأستطراد في كلامه.
" أنها أكبر مني بقليل , ولكنها لم تكن قد تعدت مرحلة الطفولة , بعد عندما أندمجت في منظمة , هيأت الهرب ألى الحرية أمام آلاف اللاجئين , وجاءتها فرصة الهرب مرارا لكنها فضّلت البقاء حيث أعتقدت أن الناس في حاجة أليها , أي في وارسو , وخالتك تناهض العنف , وأستطاعت بالصداقة القائمة بينها وبين سيرجي أيفانوف وأمثاله , أدخال تعديلات خففت العبء عن كاهل الذين تتعاطف معهم , وهو الطبقة العاملة الذين أصبحت حياتهم جرداء , لا تختلف عن حياة الحيوانات ".
فجخلت وسألته :
" هل فعلت خالتي هذا؟".
فرد عليها وقد أثارت غضبه :
" وأكثر من ذلك , صوفي ساعدت على قيام ثورة بيضاء , جعلت بعض الذين كانوا يفكرون في الهرب يعدلون عنه , ويبقون لمعاونتها في النضال من أجل أبقاء العادات القديمة أستعدادا ليوم التحرر الحقيقي ".
وأتضح لها كل شيء, فقالت:
" وأنت الذي عاونتها ! أنت وقبيلتك كنتم طريق الهرب الذي ذكرته , الآن فهمت سبب ولاء عشيرتك لخالتي , كما فهمت نتيجة عنادي !لقد أفسدت كل ما عملته من أجل تحقيق رسالتها ".
وودت مارييل لو دفنت نفسها من الخجل, ولم تفلح نظرته القاسية في التخفيف عنها , أستمر يمعن في أيلامها غير آبه بعينيها المعذبتين.