1- لقاء الجذور
توقفت مارييل على الرصيف الأوسط للشارع تعزلها عن الجانب الآخر حركة المرور المسرعة وأبواق السيارات الصاحبة , ونظرت الى المباني المحيطة بها : أذا هذه هي وارسو المدينة التي وصلت اليها بعد مشاق ومخاطر عديدة , أعصابها كانت لا تزال تهتز كلما أطلقت لنفسها عنان التفكير في الأحتمالات التي يمكن حدوثها.
كانت الخدعة أو ل الأمر تبدو بسيطة , لا ضرر منها , حين عثرت شارون , زميلتها في السكن , وأعز صديقة لها , على وظيفة مع فريق من الراقصات يعمل في النوادي الليلة في جميع أنحاء أوروبا , وصلت مارييل متأخرة على موعد المقابلة المخصصة لأختيار الراقصات , وبرغم أعذارها لم تنجح في تغيير الواقع , وهو أن جميع الأماكن الخالية في الفرقة شغلت , وأن الأدارة لم تعد تهتم بمزيد من المقابلات رغم تشوّق المتقدمات لزيارة أوروبا , وقبل مضي 24 ساعة على موعد سفرها , أنزلقت شارون في الشارع وسقطت , مما تسبب بكسر عدة عظام في قدمها , وعندما زارتها مارييل في المستشفى نظرت اليها بأبتسامة ضعيفة وهي تحمل لها حقيبة بما ستحتاج اليه في المدة التي علمت أنها ستطول في المستشفى.
وتنهدت شارون وقد تغلب القلق على آلامها وهي تقول:
" من الذي سيحل محلي في فترة وجيزة كهذه؟".
فطمأنتها مارييل وهي تقول:
" سيعثرون على غيرك , فكثيرا ما تقع الحوادث للراقصات أكثر من سواهن هكذا يخيّل اليّ , فأهدأي يا عزيزتي , فلا بد أن لديهم أسماء أحتياطية في سجلاتهم".
منتدى ليلاس
وحاولت أن تصرف ذهن شارون عن هذه المشكلة بتغيير الموضوع ألا أن جبين صديقتها ظل مقطبا من القلق بالرغم من ردها على أستفسار مارييل عن كيفية وقوع الحادث.
وفجأة قالت شارون بطريقة تلقائية وهي تقاطع كلام مارييل , التي كانت تستنكر أهمال الناس بتركهم الشحم يتسرب من ساراتهم على الأرض , معرّضين بذلك المشاة للخطر , مما أدى الى أنزلاقها :
" لماذا لا تحلين محلي؟".
وفتحت مارييل فمها من الدهشة , ولكن الصمت الذي تبع ذلك كان مليئا بالأسئلة , وأخيرا تمتمت قائلة:
" كيف أستطيع أن أفعل ذلك؟".
كانت عيناها تنمان عن حاجتها الى أن يطمئنها أحد ويرشدها الى طريقة تمكنها من الوصول الى ما تصبو اليه.
فجلست شارون فجأة وقد نسيت ضرورة الحذر من الحركة نظرا لحالة قدمها وقالت:
" تستطيعين بكل سهولة , أن السيدة غلوري المسؤولة عن الفرقة تعرفنا جيدا ,لكنك تعرفين أيضا كيف تنسى الأسماء والأشخاص بسرعة , فكثيرا ما خلطت بيننا عندما عملنا معها في الماضي ,ولن تكون مشكلة بالنسبة الينا أذا خدعنا تلك السيدة العجوز".
فأومأت مارييل برأسها للدلالة على موافقتها على فكرة صديقتها , ألا أن تعبير وجهها حمل معنى التردد وهي تعترض على رأيها.
" لكن هناك أنطوني جيمس , سيعرفني وسيفهم أنني غريبة عن الفرقة ".
أستخفت شارون بتعليق صديقتها وقالت:
" أنطوني جيمس! أن كل أهتمامه منصب على سيقان الراقصات , فبرغم أنه قام بمهمة الأختبار وله الرأي الأخير في الأختيار لكنه لا يعرف الوجوه أبدا".
فضحكت الفتاتان من هذا الوصف الذي ينطبق على ذلك الرجل المعروف بشغفه بالسيقان الطويلة , وأستمرت الفتاتان في مزاحهما بحيث لم يكن في وسعهما التفكير السليم أو الجاد ,فكثيرا ما سمعتا جيمس يقول أن اللاتي تقبلهن الفرقة هن الفتيات الأنكليزيات الشقراوات ذوات السيقان الطويلة .
وفجأة تلاشى الضحك وتلاشى الأمل المتصاعد عندما تذكرت مارييل أن ليس عندها جواز سفر , وأخذت الفتاتان تفكران بقلق في هذه المشكلة الجديدة ,وبدا الأمر وكأنه بسيط مجرد جواز سفر , يمكن الحصول عليه بسهولة , لكن لم يكن هناك متسع من الوقت , وتملّك الفتاتين عناد وتحد , وتبرمتا من القيود الروتينية الرسمية وقد عبرت شارون عن ذلك قائلة لصديقتها:
" تبا للقيود! , أستخدمي جواز سفري فنحن متشابهتان بحيث يمكننا أستعمال نفس الصورة ويمكن التأثير على السيدة غلوري لتقديمك على أنك شارون شين , هيا أفعلي هذا وأراهنك على نجاح الفكرة , طالما كنت تتمنين زيارة خالتك في وارسو".
وهكذا وجدت مارييل نفسها في الدولة التي علمتها أمها أن تحبها عن طريق وصفها لها , فكانت كطفلة تتخيل نفسها وهي تصحب والدتها في زيارتها لمنزل الأسرة الكبير في الميدان الذي قضت فيه طفولة سعيدة مع والديها وأختها الصغرى صوفي , التي كانت والدتها تؤكد بأنها تتصف بالحيوية الجامحة , وبينما كانت مارييل تتجول في الشارع بدون أن تلتفت للمرور أطلاقا , كانت تذكر ملامح أمها الحبيبة , فحتى تلك اللحظة , أي بعد أنقضاء ستة أشهر على وفاتها , لم تتقبل مارييل فكرة عدم سماع ذلك الصوت العذب الهادىء وعدم أمكانها تبادل الذكريات الحلوة والمرة معها عن تلك المدينة التي أحبتها , وعن والد مارييل الذي أحبته الأم , منذ أول قلاء لهما , ومما زاد من أرتباطها به وقوع الحرب وكان تشارلز مور قد درس الحقوق في جامعة أنكلترا وأتاحت له المنحة الدراسية التي حصل عليها أن يتابع دراسته في أوروبا , ولما كان مهتما أهتماما خاصا بالنظام القانوني في بولندا , قرر أن يقضي كل المدة المحددة لبعثته الدراسية في وارسو , وبمجرد وصوله اليها تعرّف على أيفا , الفتاة التي أصبحت فيما بعد زوجته , وفي غضون ستة أشهر من السعادة والهنا نما حبهما وأزدهر في المدينة التي كانت تردد ألحان شوبان العاطفية معتبرة موسيقاه نبضا للشاعرية الهادئة في ألحان أعظم أبنهائها ,وفجأة وقعت بولندا فريسة للغزاة , وحاول تشارلز أن يهوّن من مخاوف أيفا التي شعرت بعدم قدرتها على التكيف في وطن جديد وأحتمالها لفراق أسرتها , ولما كان ولاؤه مرتبطا بوطنه وولاؤها مرتبطا به هو , أصرّ على أن تبقى بجواره لتوفر له الراحة والحب , اللازمين للرجل الذي يخوض غمار الحرب , وبطريقة لا تعرفها مارييل , فرّالزوجان الى أنكلترا حيث أنضم تشارلز الى السلاح الجوي في وطنه , ألا أن زواجهما السعيد لم يطل به الأمد فأنتهى بعد سنة واحدة بوفاة الزوج في العمليات الحربية تاركا وراءه أرملة شابة في بلد غريب ومعها طفلة رضيعة.
وفجأة صحت مارييل من تأملاتها وذكرياتها على صوت آلة تنبيه سيارة يقودها شخص عصبي , فأسرعت خطاها لتبتعد عن طريقه , وبينما هي سائرة أنتابتها نوبة من خيبة الأمل , ألم يبق شيء من المدينة الساحرة التي أحبها والدها؟ بدا لها أن الموسيقى الوحيدة الباقية هي وقع الأقدام على الأسفلت الصلب , أما أقرب شيء للشعر فكان السجع المكتوب على اللافتات المهملة , وأدركت الحقيقة وهي عدم وجود أي شيء ساحر في تلك المدينة على الأطلاق , وهزت كتفيها ونظرت الى الورقة التي كانت تطبق يدها عليها , وحسب الوصف الذي أعطي لها , كان العنوان المكتوب في الورقة على مسيرة عشرة دقائق من حيث كانت.
ومما أثار دهشة مارييل أكتشافها أن العنوان الذي معها كان عنوانا لمصنع , ومع ذلك أجتازت البوابة ومشت بين جموع النساء اللاتي كن في طريقهن الى الكانتين لتناول وجبتهن , وأخيرا لمحت مكتبا بدا لها وكأنه مخصص للأستقبال , فدخلته وهي ما زالت مم*** بالورقة المدوّن عليها العنوان وكأنها وثيقة مرور تبيح لها الدخول , فسألها شاب باللغة البولندية وهو ينظر اليها بدهشة:
" هل من خدمة أسديها أليك؟".
فردت عليه قائلة وهي تحمد الله على بعد نظر والدتها وأصرارها على تعليمها تلك اللغة التي أتقنت الكلام بها بطلاقة:
" نعم ........ أريد خالتي صوفي باروسكا , وقد أعطي لي هذا العنوان فأذا كانت تعمل هنا , أرجو أن تسأل لي عن الموعد الذي تنتهي فيه من عملها حتى أنتظرها في الخارج".
فأرتجفت شفتا الشاب وهو يقول لها:
" لا داعي لذلك , فخالتك هي أحدى مديرات المصنع ويسيئها أن تترك أبنة شقيفتها تنتظر في الخارج , فأذا تبعتني سأصحبك الى مكتبها".
وتبعته الفتاة وهي مشدوهة في صمت صاعدة وراءه السلم , كانت والدتها قد أعطتها فكرة عن صلابة رأي خالتها , أما أن تكتشف أن شقيقة والدتها الرقيقة اللطيفة هي رئيسة لقطاع صناعي فهذا ما لم تتوقعه أطلاقا , ومع ذلك تمالكت مشاعرها المضطربة وقالت للشاب وهو يمد يده ليفتح مقبض الباب.
" أرجو ألا تعلن حضوري فأنني أريد أن أفاجئها بزيارتي".
وبالأدب البولندي المعروف أحترم رغبتها وصك كعبي حذائه معا وأنحنى لها قائلا بأبتسامة تنم عن فهمه لموقفها:
" كما تريدين".