كانت شوارع المدينة هادئة لذا أحدثت عربتهما وهي تسير عليها دويا كبيرا , وحتى شاطىء النهر بأوناشه الساكنة المصطفة عليه ما يدل على أهمية هذا المرفأ الذي يصدر عنه يوميا أطنان عديدة من القمح والذرة والشمندر , وكلها تنمو في تربة خصبة عند وادي نهر الدانوب , وخاب ظن مارييل في الدانوب نفسه فلم يكن أزرق بل كان رماديا بلون التراب , ألا أن الشوارع التي أخترقاها كانت جذابة , وعندما رأي روم غبطة مارييل تمهل قليلا ليتيح لها فرصة مشاهدة كنيسة من طراز الباروك يرجع تاريخها ألى القرن الثامن عشر وتشرف على حديقة تتوسطها نافورة من الحديد .
وكان المنزل الذي سيقضيان فيه ليلتهما يقع في الحي الفقير المزدحم من المدينة , الحوانت مصطفة على ثلاثة جوانب من ميدان فهمت مارييل أنه يتحول في النهار ألى سوق , وفوق الحوانيت تقع مساكن أصحابها وأسرهم , وقاد روم العربة في شارع صغير ضيق يؤدي ألى ساحة واقعة خلف الحوانيت , ومن الساحة يصعد الدرج ألى المنازل , ورأيا رجلا طويلا يسرع نحوهما من أحد المنازل ويحييهما بلغة الغجر التي رد عليه روم بمثلها , ونظر الرجل الذي قدمه روم بأسم جان بيلسكي ألى مارييل وقال :
" أذا لم تكذب الأشاعات! فعلا تزوج صديقي القديم!".
وأبتسم الرجل عندما أرخت مارييل أهدابها من الخجل .
" لقد أنتظرنا طويلا هذه البشرى يا روم , ألا أن حسن أختيارك كان يستحق الأنتظار , هيا نشرب نخب الزواج".
وتقدمهما ألى مسكنه الذي بدا لهما لأول وهلة كأنه يعج بالأطفال , ولكن بكلمة منه تركوا لعبهم , وبعد أن سمح لهم بتحية الزائرين أنصرفوا بهدوء ألى فراشهم , وعندما صبت آنا , زوجة جان الجميلة ذات العينين الحزينتين , الشراب في الكؤوس دس جان عملة ذهبية في يد روم وشرب نخبه قائلا :
" هذا مبلغ بسيط أقدمه لك , لكنني أدعو الله أن يمنحكما الكثير!".
منتدى ليلاس
وأضافت الزوجة ألى كلماته عبارة بلغة الغجر المتعثرة كما لو كانت تتكلم لغة غريبة عنها , وسرعان ما ذاب خجل مارييل بفعل الشراب والجو العائلي وترحيب الزوجين لهما , وأنساب الحديث العذب بينهم ليضيف ألى لذة الطعام بأصنافه الشهية جوا حميما .
وكانت لمناظر المدينة فعل السحر في مارييل , جذبها منظر الصنابير , والمياه التي تجري في المواسير , وصوت الصحون وهي ترتطم بحافة الحوض ,وفهمت آنا مشاعرها الفطرية التي جعلتها تعرض أستعدادها لمساعدتها في غسل الصحون .
" طبعا أرحب بمساعدتك , فلنترك الرجلين يستعيدان ذكرياتهما بينما ننعم ننحن بالغسيل والكلام ما شئنا".
وأغلقت آنا باب المطبخ الصغير حتى لا يفسد صوت غسيل الصحون حديث الرجلين وحتى لا يسمعهما أحد .
وكانت نبرة صوت آنا يائسة عندما سألت مارييل أثناء الحديث قائلة :
" أرجو أن تفهمي تلهفي , فأن غبطتك الواضحة بما حولك يشجعني على سؤالك , هل أنت سعيدة لأنك أصبحت غجرية رحّالة , عليها أن تقضي بقية حياتها في الترحال المستمر عبر أوروبا في صحبة أناس ,بالرغم من طيبتهم , لا يحترمون الأغراب ولا يتعاطفون معهم ؟".
وعندما أبدت مارييل دهشتها لتدخلها في شؤونها الخاصة قالت :
" ما كنت لأسأل لو لم أكن أنا أيضا أجنبية , حاولت في أول زواجنا أن أكيف نفسي لحياة أهل جان لكنني فشلت , فقد كرهتها كلها بشدة , وحتى على الرغم من حبي الشديد لجان , فعندما أكتشفت أنني حامل في طفلنا الأول تركته للعودة ألة والديّ , هنا حيث نشأت وسعدت بحياتي , حتى أقنعني جان بأن مكان أقامتنا ليس مهما طالما نحن معا".
ووضعت الصحن الذي ظلت تمسحه في غضبها حتى لمع , وحاولت أن تغالب الدموع وهي تقول :
" أكره نفسي أحيانا لما فعلته له , تبعني ألىهنا لكنه ظل معي بجسده فقط أما روحه فكانت تحوم في أوروبا مع قبيلته , هل لاحظت السعادة التي لاحت على وجهه عندما رحّب بروم ؟ فهو عادة ليس بالأنشراح الذي غمره الليلة , ماذا ستفعلين يا ماريل ؟ هل حبك لروم يفوق حبي لجان ؟ وهل ستتنازلين طواعية عن أسلوب حياتك وعقائدك وسعادتك أذا كان في ذلك أملك الوحيد في البقاء بجانبه؟".
وبسرعة جففت مارييل يديها ومدتهما لتهدئة الفتاة المطربة التي أثارتها أسئلتها , غير أن مارييل لم تحاول الرد على هذه الأأسئلة لأنها شعرت أن آنا تدرك أجوبتها , ولكن عندما تكلمت لتهدىء من روعها ظهرت الجدية في عينيها الرماديتين وهي تدرك لفرط دهشتها أنها تواجه الحقيقة التي حاولت أن تتحاشاها حتى الآن , كانت توقن بكل خلجة من نفسها , وعن أيمان راسخ , بأنها أذا وضعت في نفس الموقف لتنازلت عن كل شيء وتبعت روم ألى آخر العالم .
وكان أثر الصدمة ما زال باديا على وجهها الشاحب عندما أنضمت ألى مجلس الرجلين , وحين دخلت مارييل الغرفة لاحظ روم على وجهها علامات القلق , وفي الحال وقف وقطع حبل حديث صديقه بقوله :
" أن زوجتي متعبة , لذا أرجو أن تسمحا لنا بالأعتكاف في غرفتنا , وفي الصباح سأكون قد تذكرت الكثير من أنباء أقاربك وأصدقائك".
فدق جان على جينه وقال :
" كم أنا عديم التفكير ! أنك تعرف مدى لهفتي على شؤون أسرتي وقبيلتي , كان يجب عليك أن تنبهني ألى واجبي كمضيف لكما ".
وألتفت ألى مارييل وأستطرد يقول :
" أرجو المعذرة يا عزيزتي فأنك تبدين متعبة , أن غرفة النوم التي نخصصها لكما صغيرة لكنها مريحة ".