وشعرت بغصة في حلقها وحاولت أن تفهم سر أهتمامه بها فردت :
" القريبة الوحيدة هي صوفي , لكن لي أصدقاء".
" أصدقاء.......؟ هل ترين أن الصداقة رابطة كافية لأشباع أحتياجاتك الشخصية ؟ أو ربما لك بين هؤلاء الأصدقاء شخص خاص تودين أن توطدين علاقتك به".
ولفت نظره أصطباغ وجنتيها بحمرة الخجل , ومما زاد من حرجها التغيير الذي ظهر على وجهه والذي دل على أنه أستنتج شيئا معينا من خجلها , وردّت عليه قائلة:
" كلا , لا يوجد شخص معين ,لكنني أرجو الحصول على وظيفة جيدة , وهي طبعا أمنية تعتبرها لائقة بأحدة بنات جنسي".
وأستاءت مارييل عندما لم يظهر أي تعبير على وجهه لعبارتها .
"لا يهمني ما تفعلينه بحياتك , فبمجرد وصولنا الى النمسا سيكون من السهل تدبير أمر أنتقالك الى أنكلترا , وبعد ذلك أشك أذا كنا سنلتقي ثانية".
ثم مشى نحو الباب وقال:
" حاولي أن تنامي قليلا فسنسافر طيلة الليل , الطرقات ممهدة وستسرع العربة في سيرها".
وكما تكلم بسرعة خرج بسرعة بدون أن يتيح لها فرصة الرد عليه بطريقة تحفظ بها ماء وجهها .
ونامت حتى تخلل الحر جدران الغرفة , ثم دفعها الفضول وحاجتها الى الهواء النقي للخروج والأنضمام الى روم الذي ترك التعب أثره على عينيه , وعندما رآها مر بيده على وجهه , حيث لم يتسع الوقت لحلاقة ذقنه , وعبرت نظرته عن أعتذاره لمظهره , بينما صعدت مارييل على المقعد الخشبي للعربة وجلست بجواره , وكانت القافلة تسير ببطء صاعدة التل , وكان المطر قد غسل الأرض ونظفها , ولمعت أشعة الشمس على كل ورقة في الأشجار , وكانت جداول المياه تنساب الى أسفل التل بحيوية براقة , ولم تعرف مارييل سببا لشعورها بالحيوية والسعادة وهي تجلس على المقعد المرتفع وترنح من حركة العربة وتشم عبير الهواء المشبع بشذى الزهور , وتستمتع بصحبة روم , بصورة لم يسبق أن شعرت بها من قبل.
أما روم نفسه فبدت عليه السعادة وهو يدخن غليونه, ويدعها تشاركه صحبته بدون أن يوجه اليها نقدا أو تهكما كعادته , وفجأة مدّت مارييل ذراعيها وكأنها تحتضن الطبيعة الجميلة بأكملها وقالت:
" يا لها من طريقة حياة ممتعة , كيف تطيق أن تترك كل هذا الجمال لتدخل النوادي الليلية المغلقة وتعيش في المدن المكتظة بالناس؟".
منتدى ليلاس
فعضّ على مبسم غليونه بأسنانه وقال:
" تعلمت من الغجر أن أعيش في الحاضر وليس في المستقبل , فكل الذكريات والأماني والرغبات والدوافع الخاصة بالغد ,كلها متأصلة في الحاضر , فبدون الآن لا يوجد ما قبل , كما لا يوجد ما بعد".
وتأملت مارييل في معنى كلماته وفلسفتها , وأستعادتها لنفسها وحمدت الله على أتاحة الفرصة لها لكي تشاركه لحظة الحاضر التي كانت تعيش فيها , حتى ولو لم يكن لها مستقبل.
وفجأة سمعت صوت صفارة مرحة , أنتصبت لها آذان الخيول وفردت ظهور السائقين المقوسة من التعب , وكأن موجة منشطة سرت في القافلة باسرها ,وقف سائق العربة الأولى أمام مقعده وأصدر صيحة الفرح وهو يدفع بجواده فوق قمة التل , وحذا حذوه بقية الرجال , وترددت في الجو أناشيد الطيور المختلطة بأصوات العجلات وحوافر الخيول , ورغم خوفها شعرت مارييل بالسعادة وتشبثت بالعربة وهي تتقدم بسرعة وتميل بشدة وكأنها ستنقلب , وكانت الأبخرة تتصاعد من أجساد الخيول المتصببة بالعرق , ألا أن صوت السلاسل والأواني كان يزيد من الشعور بالسرعة , هكذا تقدمت القافلة فوق قمة التل ثم هبطت وأتجهت نحو دائرة من عربات الغجر المعسكرة من قبل في ذلك المكان , وجرت النساء والأطفال الى الأمام , وهم يتعرفون على الشخصيات المألوفة لديهم , ويتبادلون معهم التحيات قبل أن تستقر القافلة الجديدة في مكانها , وبينما كانت المجموعتان تندمجان , تبينت مارييل تشابها واضحا بين أفراد الأسر , فحيا القريب قريبه ,والأخ أخاه بروح مرحة سعيدة , وبسرعة وضعت آنية الطهو على النار التي أعيد أضرامها بينما تولى الشباب أمر الخيول , وتبادل الرجال الأخبار وأخذت النساء بأعداد طعام الأفطار للضيوف.
وتسللت مارييل داخل العربة ولم يلتفت اليها أحد , أذ لم يكن لها مكان أو مجال في هذا التلاقي بين القبيلتين , شعرت بالخجل من مقابلة الأغراب ولم ترغب أن تفرض نفسها عليهم , فجلست وحيدة أمام النافذة تسلي نفسها بالتخمين عن القرابة الموجودة بين الأفراد.
وسرعان ما فترت تسليتها وأنتابتها كآبة طاغية , تذكرت خالتها وكيف أفترقت عنها فجأة وفي ظروف غير ودية , فشعرت لأول مرة بمرارة الوحدة التي تنتاب اليتامى الذين لا قريب لهم , فتمددت على سريرها وأغمضت عينيها , كما تعمدت شغل تفكيرها بعيدا عن الأفكار التي تدور حول الأسرة والأصدقاء , ألا أن الحزن تمكن منها , ولم تستطع مسح آثار دموعها من فوق خديها في الوقت المناسب عندما سمعت صوتا داخل العربة , نظر اليها روم وهي تتظاهر بالتثاؤب ثم تتمطى وكأنها أستيقظت لتوها من النوم , ورغم أن فمه لم ينم عن أية مشاعر ألا أنه عندما وضع يده على كتفها وأشار اليها أن تتبعه , تبعته بدون أي تعليق أو سؤال.
في تلك الليلة أقامت القبيلة المقيمة حفل سمر للقبيلة الزائرة فجلس الرجال حول النار على الطريقة الغجرية يتسامرون بحرية وأنطلاق وأستمتاع ودارت النساء حولهن يقدمن من الطعام لأشباع الشهية التي شحّها الأستمتاع بجمال الصحبة , وحلاوة الحديث , وبعد أن آوى الأطفال الى فراشهم أنضمت النساء لمجلس الرجال حول النار لسماع الأغاني التي تحكي تاريخ الغجر ينشدها تروكا وهو رجل مسن , محترم من رجال القبيلة كلها , وكما لو كان ذلك من حقها , وجدت مارييل أنهم أجلسوها بجوار روم الذي راح يترجم لها الكلمات المنشدة ,وقد قرّب فمه منها وأخذ يهمس بالكلمات في أذنها , وأعجبت مارييل بشاعرية كلمات الأغاني , وكلما سمعت المزيد منها زادت نشوتها بما تحمله من مشاعر عاطفية جيّاشة , وعندما أنتهى الغناء كان المجهود قد أضنى الرجل المسن فجلس متكئا على سواعد أولاده وقد خارت قواه , وساد صمت رهيب بين الجالسين كما لو كان الوقت توقف تحت تأثير سحر الأغاني وجمالها.
ثم بدأ روم يدندن بنغم راقص من أنغام الغجر , الأمر الذي بدد التوتر والوجوم وأستولى أيقاع النغم على الشباب فأشتركوا تلقائيا في ترديده , أما الفتيات فقد أخذن يصفقن على الأيقاع ووثبت أحداهن من وسط الدائرة متأثرة بالنغم وأخذت ترقص وتدور في مرح ونشوة , وأتسعت عينا مارييل عندما أدركت أنها لالا وتضاربت في نفسها مشاعر الكراهية والأعجاب معا عندما بدأت الفتاة تلف وتدور أمام المتفرجين , وكان تعبير وجهها ينم عن الكبرياء وقد بدا التهكم في عينيها وهي تدق الأرض بقدميها الصغيرتين العصبيتين , وشجعها تصفيق الأيدي على الأسراع في حركة قدميها وهي تلف حول الدائرة وقد أنفردت طيات ملابسها بينما كانت نظراتها تجول بين أوجه الحاضرين بحثا عن شخص معين , ولدهشة الجميع توقفت فجأة أمام روم وبدأت تقوم بحركات متماوجة بطيئة متحدية أياه أن يرفض الدعوة الصريحة التي كانت تقدمها بكل وضوح.
وشعرت مارييل وهي بجواره بتوتره وبالغضب المتصاعد من قرارة نفسه , وبعد فترة من التردد قفز الى الحلبة لينضم الى لالا في الرقص , وعندما أحاط بيده خصرها هلّل الحاضرون وصفروا معبرين عن رضاهم , ثم أنضم اليهما أثنان من الراقصين وتلاهما آخران حتى أصبح كل ما تراه مارييل من روم هو وجهه الضاحك كلما ظهر لها من بين الراقصين , وكان الرقص بالنسبة لهم جميعا تحديا شخصيا يتبارون فيه فيما بينهم , وقد تقدم شباب الغجر ودخلوا الحلبة وأخذوا يدقون على ركبهم ويصكون بكعوب أحذيتهم معا في تتالع رتيب على الأرض وهم يدورون بزميلاتهم بحماس شديد بعث الصيحات المرحة من أفواه الفتيات.
وكانت مارييل سابحة في تأملاتها حتى أنها فوجئت بصوت هادىء يقول لها:
" أتقبل الفتاة الأجنبية مشاركتي الرقص؟".
ورفعت رأسها ورأت شابا جادا لم يخف صوته اللطيف حيويته التي حاول أخفاءها , لكنها ظهرت في عينيه الجريئتين .
وفلتت منها الألفاظ قبل أن تتيح لنفسها وقتا للتفكير:
" لا أستطيع..........".
وتابعت نظراته نظراتها التي كانت توجهها نحو روم , وسألها الشاب بتهكم ورأة :
"لا تستطيعين ؟ أو لا تجرؤين؟".
وأسعفها الغضب الذي كانت تحاول كبته , وأخمد النار التي أراد أثارتها بها , وشعرت بدون سبب تعرفه بالأهانة أمام جميع أهل المعسكر عندما هجر روم مجلسها أكراما للالا والرقص معها , وقد أثبت تلميح الشاب الغجري صحة شكوكها لذلك أستدارت بحرارة لم يتوقعها في بنات جنسها وأستجابت لدعوته , مما بعث الأبتسامة المشرقة الى وجهه :
" نعم , سأرقص معك ".
" أسمي كاليا".
" شكرا يا كاليا...... هيا بنا".