لكن كوري طمأنتها قائلة:
" بل سيكون فخورا بذلك , فنحن نتقاسم الثروات التي تأتي لنا بفضل كرم قائدنا روم , من سنوات قليلة كانت قبيلتنا من أفقر قبائل الغجر , عانينا من الفقر والمتاعب الكثيرة , ولم يكن لنا بارقة أمل في طريقة لنغير بها حظنا العثر , لكن روم صمم على أن يبحث لنا عن مصدر للمال , ليس لنفسه بل لنا نحن عشيرته".
ثم أتمت كلامها قائلة بفخر وأعتزاز:
" والآن لدينا بطون مليئة , وأطفال أصحاء , وعربات وماشية ممتازة , أن روم رجل غني جدا , أو مليونير".
فأستغرب مارييل لهذا النبأ , وبالرغم من أن كوري لم تذكر نوعية ثروة روم , ألا أن أشارتها الى الثراء الكبير أدهش مارييل كثيرا فسألت صديقتها قائلة:
" أذا كان روم قد أنفق كل نقوده عليكم فكيف يكون غنيا؟".
فبدت على كوري الدهشة وهي ترد قائلة:
" أن المليونير وحده هو الذي يستطيع أن ينفق مليونا".
قالت ذلك بمنطق بسيط حتى أن مارييل لم تحر جوابا , ثم أستطردت تقول وهي تثبت الأساور والعقود حول معصم مارييل ورقبتها:
" روبا يحصل على قسط أكبر من ثروة روم لأنه يصحبه الى كل مكان يذهب اليه , ويتقاسم معه متاعب العالم الغربي , فبعد أن يفي بجميع أحتياجاتنا , يحول المبالغ المتبقية الى قطع ذهبية للضمان ضد الحاجة والعوز".
لم تندهش مارييل من حب عشيرة روم له وأعترافهم له بالجميل , فأن اليتيم الخائف الذي ألتقطه الغجر من بين جموع اللاجئين الهاربين , قد جازاهم على صنيعهم الأنساني نحوه خير جزاء.
وبمرور ساعات النهار أعتادت مارييل ملابسها المستعارة من صديقتها , ونسيت تدريجيا أنها لم تكن في بادىء الأمر مريحة , وقضت معظم وقتها في مساعدة كوري في أعمالها , كما حاولت أن توطد علاقتها ببقية النساء , ففي بادىء الأمر كم حذرات في تعاملهن معها والأستجابة لمحاولتها التقرب منهن , ألا أن رغبتها الأكيدة في أقامة صداقات معهن , بالأضافة الى محاولاتها المتعثرة المضحكة في التخاطب معهن بلغتهن سرعان ما أذابت التحفظ الموجود بينهن.
منتدى ليلاس
وعندما عاد الرجال الى المعسكر في آخر النهار بعد يوم قضوه في المقايضة في سوق للخيل , لم يكن مستغربا ألا يلتفت أحد لمارييل في بادىء الأمر وهي بين جموع النساء المتهكمات في الطهو والمرهقات بسبب مشاغبة الأطفال المحيطين بهن , فعندما تقدم روم الى الجزء المضيءمن المعسكر , لم يلحظ مارييل بالرغم من كونها قريبة جدا منه , أقترب من النار ووقف يرقبها وهي تحرك محتويات آنية حديدية بمغرفة كبيرة ,وبدون أن تلحظ وجوده مرت بأصبعها على حافة المغرفة لتلعق شيئا من الصلصة العالقة بها , وكانت النيران المهتزة تضيف الفضة , أما الظلال فقد ضمت قوامها وأخفت تفاصيله بلال يثير لرجال , وكانت تضع الملح على الطعام عندما قال لها مازحا:
" أذا كنت تتنكرين في زي شخصية مجهولة , فهل أخمن من هي؟".
ووقعت المغرفة من يدها في الأناء , كما شلت المفاجأة حركتها , وأثار وجوده الضاحك خجلا بدد رقتها وسلب كل الرشاقة من حركاتها , وأخيرا زاد من حرجها وخجلها بعبارته القاسية وهو يقول:
" لقد حرمت المرأة الغربية نفسها من أنوثتها بسبب كفاحها في سبيل التحرر , لذا يجب التمسك بأرتداء البنطلون".
وأندلعت شرارة وأنعكس ضوؤها في أعماق العينين الرماديتين الباردتين فقالت:
" هل تتكلم عن ثقة , أم هذا مجرد أستنتاج؟".
فضحك وأقترب منها وقال:
" لديّ عينان ولديّ بعض التجارب , فأن مغازلة المرأة الغجرية مثير مثل أصطياد النمور , أما أنت فصيدك هين مثل صيد الغزال الصغير".
فقالت بحدة وأعتداد:
" أنني أعرف كل شيء عن العلاقة بين الجنسين".
" ربما..... لكن ما زلت في حاجة الى تعلم كل شيء عن الحب , فالعلاقة بين الجنسين كلمة عملية باردة لا محل لها عندما تستخدم لوصف عملية صهر قلبين وجسدين وفكرين معا , لذا يجب التخلي عن كل فكرة للتحرر أذا أردت الأندماج في الوحدة الكاملة التي تعتبرها نساؤنا حقا لهن , فأن الرونق الخارجي الذي يرضي الرجل لا يهمنا نحن رجال الغجر , فلا حاجة بنا لشمعة بدون لهب".
وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة , وتحت جنح الليل والمطر , تحركت ناقلات عربات الغجر من مكانها , وسارت في سكون وقد غطيت حوافر الخيل بالقش ,وربطت بقطع من القماش الملون , وسارت وهي تتجنب الطرق العامة مخترقة البلاد عبر الطرق الوعرة التي لا تستطيع السير عليها غير العربات ذات العجل الكبير, وشعرت ماريلل بوخز الضمير لأنها كانت مستريحة في عربتها الوثيرة وهي تتمتع بالدفء , بينما جلس روم في الجزء الخارجي منها تحت المطر المنهمر وهو يحث الخيول على التقدم للأمام , وأحيانا كانت القافلة تبطىء في سيرها فيضطر روم للقفز من مكانه الى الأرض وقد غطى الطين قدميه حتى كاحليه ليدفع العجلات المتعثرة بكتفه , وأحيانا تندفع العربة الى الأمام وتطيح بمارييل لتترنح بين الأواني والحلل التي تحدث بها كدمات لم تشعر بها في بادىء الأمر , وكان شباب القبيلة منهمكين في مساعدة المتعثرين في الوحل الكثيف.
وبعد ساعات من السفر الشاق سمعت مارييل صوتا متكررا لصفارة منبعثة من العربة الأولى للقافلة ,وكان صوت الصفارة مطمئنا وهي تسمعه مختلطا بصوت وقع حوافر الخيول على الوحل , وصوت بكاء الأطفال أحيانا , من العربات القريبة , وبعد ذلك مباشرة أدهش مارييل صوت وهي تسرع في سيرها على أرض صلبة مرة أخرى , وكانت حوافر الخيول قد فقدت القش المربوط بها من مدة طويلة.
وفتح باب الغرفة ودخل روم كما دخلت معه لفحة من الهواء البارد , وظهرت أبتسامته العريضة وهو سعيد لأنتصاره على الطبيعة القاسية , ولمعت عيناه من بين خصلات شعره الأسود المدلى على جبينه , وقال بأرتياح ظاهر:
"عبرنا الحدود ودخلنا تشيكوسلوفاكيا , فمع أننا ما زلنا في أرض روسية , ألا أن أميالا كثيرة تفصلنا عن سيؤجي أيفانوف , وغدا , أذا لازمنا الحظ سنبتعد عند أكثر".
وزادت أبتسامته أشراقا وهو يقول:
" بعد قليل يا عزيزتي سنفترق الى الأبد".
يا عزيزتي....... لقد سبق لمارييل أن سمعت هذه العبارة الحانية باللغة البولندية من والدتها , لذا لم يكن مستغربا أن تلقى تلك العبارة صدى في قلبها , وبدت لها العربة صغيرة عندما أخذ روم يتقدم منها , لكنها أخذت تتراجع وتبتعد عنه , وقد طغى ظله الكبير على الحائط على ظلها الدقيق , ألا أنها شعرت بالحرج لخجلها منه ,فألتفتت اليه بتحد , ومع ذلك لم تستطع أخفاء الرجفة التي ظهرت في صوتها.
" أنا أيضا تواقة للعودة الى وطني , فسعادتك لا تفوق سعادتي بذلك".
ومما زاد من وطأة السكون الذي ساد بينهما , صوت دقات ساعة كبيرة معلقة في العربة , ولبرهة قصيرة تلاقت نظرته الواعية السوداء بنظرتها الغامضة الرمادية , وسألها روم فجأة وكأنه يدرك لأول أنها ذات شخصية مستقلة.
" هل لديك أقارب في أنكلترا؟".