كان الممر مظلما مليئا بالظلال , وكادت مارييل أن تتعثر على الدرج وهي تتبع خالتها التي يمكن وصف حركاتها الحذرة بأنها كانت غامضة , وهمست مؤنبة مارييل بغضب على أرتطام حذائها بالدرج الحجري:
" ألا يمكنك ألتزام الصمت ؟ وهل يجب أن يعرف الحي كله أننا هنا؟".
وعقدت الدهشة لسان مارييل ولم تعلق على كلام خالتها , فلم تر مبررا لأن تتسلل بهدوء من السلم الخلفي لأحد النوادي الليلية , ألا أن طلب خالتها كان مطابقا لتصرفها الغامض , وأصبح الجو متوترا بحيث أنهم عندما وصلوا الى الممر الضيق , وجدت مارييل نفسها تقلد تلقائيا طريقة مشي خالتها في الأماكن التي يخيم عليها الظلام ,وبدلا من أن تستفسر من خالتها عن سر تحذيراتها الهامسة , وجدت نفسها تطيعها بقلب يسرع في دقاته وهي تأمرها بأن تصحب روم بورو في سيارته بينما تقود هي سيارتها وتأخذ معها الحارس روبا.
ولاحظت مارييل أن روم بورو يضم شفتيه بأصرار وهو ينتظر حتى وصلت سيارة صوفي الى الممر لتنحرف نحو الطريق العام ,ومع ذلك لم يبدأ في تشغيل محرك سيارته , ولكن عندما مرت سيارة أخرى قادمة من جهة مجهولة لتتبع سيارة خالتها مباشرة , بدأت مارييل تشك في عدم بدء روم في تحريك السيارة , توتر صوفي وأصرارها على عدم أحداث أي صوت , وعلى الذهاب للمطعم منفصلين , كل هذا جعلها تشعر بفطرتها أن سيرجي أيفانوف أعطى تعليماته لتعقبهم , وفجأة أعتدلت مارييل في جلستها عندما فهمت الموقف بحذافيره , ومن خلال صوت محرك سيارة روم بورو كانت تستعيد في ذهنها الكلمات التي سبق أن وجهها الى خالتها والتي وصلت الى آذانها عفوا , لكن في هذه المرة كانت تفهم معناها:
" لا بأس يا حبيبتي , سأفعل ما تريدينه لكن تذكري أنني أسدي هذه الخدمة من أجلك فقط وليس لأنني أشعر بالعطف نحو تلك البلهاء التي تتوسلين من أجلها".
أذا كانت هي السبب في أستعطاف خالتها له ومطالبته بمعاونتها , يا لها من غبية لأنها لم تفهم هذه الحقيقة من قبل.
وكانت السيارة قد تركت ضواحي المدينة وأخذت تسرع في طريقها عبر الأراضي الشاسعة , بينما كانت هي تجمع شتات أفكارها الحائرة , وأخيرا سألت روم:
" الى أين تأخذني؟".
منتدى ليلاس
وكان روم منهمكا في قيادة السيارة والأنحراف بها في منحنى خطر فلم يرد عليها مباشرة:
" هل يهمك هذا؟".
وردت عليه بحدة ظهرت في نبرات صوتها:
" بالطبع يهمني , فأنا مرتبطة بالأشتراك في عرض غدا, وسواء رضيت خالتي أو لم ترض لا بد أن أكون في حفل أفتتاح النادي الليلي , فلا تظن أنني لا أفهم خططكما , أن عدم وجود جواز سفري يسبب لها حرجا مع صديقها , لذا قررت أن تبعدني عن طريقه حتى تهدأ هذه العاصفة , فهي ترى ضرورة الأحتفاظ بالتفاهم الموجود بينها وبين ذلك الشخص المسؤول , حتى ولو كان ذلك على حساب الولاء لأحد أفراد أسرتها".
وأخذت نفسا عميقا من شدة التأثر وقالت:
" كيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ وكيف تستطيع أية أمرأة أن تتعاون مع رجل كهذا؟".
وفجأة أدار روم عجلة القيادة بعنف تسبب في أرتطام كتفها بجسم السيارة , ولكن غضبها تغلب على مشاعرها بحيث أنها لم تشعر بالألم ,وبعد أن توقفت السيارة على حافة جزء مزروع من الطريق قال لها:
" أهذا ما تظنينه؟ لقد مضى عليك في هذه البلاد ساعات معدودة فقط ,ومع ذلك تتجرأين وتعارضين آراء الذين يعرفون من تجاربهم المريرة ماذا سيحدث , أن تصرفك هذا مثل تصرف الطفل العنيد يا آنسة مور , فبدلا من تكليفي بمسؤولية تهريبك , يسعدني الآن أن يقع عليّ الأختيار للتخلص منك".
ووقع الصمت بينهما كالسيف الحاد , بينما أخذت السيارة تنهب الأرض متابعة سيرها زمخترقة عددا من القرى الصغيرة والمزارع التي تظهر عن بعد في الظلام بنوافذها التي يشع منها النور , وبدأت عينا مارييل تطرفان بينما أخذ التعب ينال منها , وشعرت بتوتر شديد بسبب الأحداث المثيرة التي مرت بها أثناء النهار , ألا أن دفء السيارة وحركتها الرتيبة جعلاها تشعر بالرغبة في النوم بحيث لم تستطع مقاومته , وأفاقت فجأة عندما تركت السيارة الطريق العام ودخلت في طريق وعر جعلها تهتز بشدة وهي في طريقها الى الغابة , ولم يبذل روم أي جهد لحمايها محاولا التخفيف من سرعة السيارة , بل أستمر في طريقه فوق الأرض الوعرة وعلى وجهه تعبير بالأرتياح والتشفي , أما مارييل فحاولت أن تحتفظ بتوازنها وصممت على عدم الأعتراض , ولكن عندما داس فجأة على فرامل السيارة شعرت كأن كل عضلات جسمها قد قفزت من أماكنها , وأخيرا قال لها بلهجة آمرة:
" سنمشي من هنا ".
وتركها تتلمس خطاها بنفسها بين أشواك الزراعة الكثيفة التي أوقف السيارة فيها , وشعرت أنها لو أتهمته بتدبير الموقف الذي وجدت نفسها فيه لأشار بلا شك الى ضرورة التضليل والتمويه , لذا سارت بمفردها وخرجت من بين الأغصان التي تغلغلت في كل قطعة من ملابسها وشعرها كما تعثرت ووقعت وهي تمشي وراء روم وقد أختفى عن نظرها بين الأغصان , وأخذت تسائل نفسها بمرارة عن سبب ملازمتها لرجل من هذا النوع في بلد عرف رجاله بالشهامة , ثم أسرعت في خطاها عندما سمعت نباحا شرسا لعدد من الكلاب , وبعد دقائق قادها الطريق الى مساحة صفت حولها في دائرة ما يقرب من خمس عشرة عربة من عربات الغجر المغلقة ,ورأت عددا من نساء الغجر جلسن حول النار الموقدة وهن يشرفن على طهو الطعام في قدور تنبعث منها رائحة شهية , وكان المكان موقعا مسرحيا جمي يلائم النساء الجالسات فيه , وكان شعر النساء طويلا أسود لامعا مصففا في ضفائر طويلة , أما ملابسهن فكانت طويلة ذات طيات وصدور عارية , فتحاتها واسعة , وكانت ألوان ملابسهن زاهية متناقضة مع لون أجسامهن السمراء وعيونهن السوداء المعبرة , كما رأت عددا من الرجال مضطجعين في ظل شجرة كبيرة وهم يتبادلون الأخبار أنتظارا لأن تقدم نساؤهم الطعام , وكانوا يلبسون ثيابا رثة قديمة من نفس طراز الملابس التي كان روم بورو يلبسها أثناء عزفه , وقد أثار المنظر خيال مارييل حتى كادت تتصور أن صوت قارعي الدفوف والمغنين سيتصاعد من الدخان المنبعث من النيران.
وعندما حيا روم الموجودين ألتفت الجميع اليه , وفي لحظة كان محاطا بالرجال الذين أبدوا فرحهم بلقائه وهم يحيونه ويربتون على ظهره , كما حيته النساء اللاتي بلغ بهن الحماس ذروته للقائه , ودار الحديث بينهم جميعا بلغة تتخللها الكلمات البولندية لكنها أساسا لغة لم تفهمها مارييل , وللمرة الثانية في ذلك اليوم شعرت بعدم أهتمام الناس بها , بينما أخذ الغجر ذوو المشاعر الملتهبة يتجمعون لتحية روم بورو بدون الأعتراف ولو بنظرة واحدة بوجود الفتاة النحيلة التي تصحبه ةالتي وقفت بينهم مثل الزهرة الصفراء الهادئة في حفل مليء بزهر الخشخاش الأحمر , وأستراحت عندما شرح لهم باللغة البولندية قائلا:
" لقد أصطحبت معي يا أصدقائي زميلة ستشاركنا رحلتنا , وستكون في حمايتي دائما , لذا لا تساوركم الشكوك من جهتها , فأرجو ان ترحبوا بها وتتحملوا عدم درايتها بطباعنا وعاداتنا".
فألتفتت العيون الحذرة تتفقدها , ولم يظهر الموجودون شيئا مما كان يدور في ذهنهم من أرتياب , ومع ذلك أشعروها بوجود عداء نحوها بعث في نفسه الخوف , ودفعت شابة جموع الملتفين حولها وتقدمت منها لتنظر اليها عن قرب بجرأة وقحة , وبدا عليها أنها تعرف جمال نفسها وهي تقف أمام مارييل بخصرها المتمايل وعينيها البراقتين تلتهم كل تفاصيل مظهرها ,وفجأة زمت شفتيها وقالت:
" لا نريد أمرأة غريبة هنا".
وترددت همهمة بين الغجر تعبر عن موافقتهم على قولها , كفاهم تضليل البوليس وغيره من المسؤولين الصغار الذين يتدخلون في حياتهم , وقال روم ببرود:
" قلت أنني سأكون مسؤولا عنها تماما , ألم تعد كلمتي تكفيكم؟".