8- الهدية
في الصباح التالي , كان من الواضح أن طبيب القبيلة قرر أن يتراجع عن وعوده , وهو لم يعلن ذلك صراحة , لكن تصرفاته كانت تدل بوضوح على نيته , فقد أستمر في تجهيز معداته , وبعد أن جمع جذور النبات والأعشاب المطلوبة كلها , ووضعها فوق أوراق الشجر التي جمعها رامون وتينا في اليوم السابق , لم يبد أي رغبة في الأستمرار , وأنما توقف تماما عن العمل , وجلس صامتا يحدق في أتجاه الأدغال , وكأنه ينتظر حدثا معينا ثم يعود ليرفع بصره نحو السماء التي بدأت الشمس تتوسطها , وتشتد حرارتها , ولم يحاول أن يهتم أطلاقا بكلمات رامون الحادة , ولا محاولاته لحثه على الأستمرار في العمل , بل تجاهله تماما , وظل ينتظر أشارة تدل على أنه ليس مغصوبا عليه نتيجة تصرفاته.
بعد لحظات , سمعوا صوت خطوات فوق العشب الجاف تخترق الدغل القريب , المحيط بهم , ثم ظهر رجل يحمل رسالة الى الطبيب , وأتجه اليه فورا , كان الرسول يلهث في أضطراب ويبدو أن الرسالة كانت تحمل مزيدا من المشاكل , فأذا رامون نفسه لم يستطع أن يهدىء من القلق الذي أعترى وجه الطبيب , وظهر واضحا على حركاته وأشاراته وهو يجادل رامون فيغاس.......
ظلت تينا تنتظر , حتى نفذ صبرها , فأسرعت الى حيث وقف الرجال لثلاثة وجذبت رامون من ذراعه وسألته:
" أرجوك أخبرني ماذا حدث , ما هذا الموضوع المثير الذي أثار الجدل؟".
منتديات ليلاس
" وضعت زوجة الطبيب ظفلا ذكرا".
" خبر عظيم , رائع أذن , سيمكننا أن نواصل العمل..........".
" كلا , لقد أعلن الطبيب بأصرار أنه لن يكمل العمل فهو يقول أنه أذا أتمه كما وعدنا فسيمرض طفله ويموت , ويجب أن ينتظر ستة أشهر أخرى قبل أن يجرؤ على مواجهة الأمر ولأن المولود ذكر فهو يخشى أن يضحي به".
" أذن , لن نستطيع أن نفعل شيئا أذا كان قانون الغابة يحرم عليهم هذا".
ولكن يبدو أن رامون لم يكن في نيته أن ييأس أذ قال:
" أن قوانين الغابة هي الحجة التي يحتمون وراءها دائما عندما يريدون أن يمتنعوا عن تقديم عمل لا يرغبون فيه , وأعتقد أنه آن الآوان للتحايل على الطبيب".
وأسرع يستدير الى الطبيب الرافض ويتحدث اليه , وأزدادت دهشة تينا وهي تراه يخرج من جيبه علبة فيها أقراص من النعناع , وضع قرصا أبيض منها في يد الطبيب المفتوحة , وكان طوال الوقت يتحدث بسرعة , وأمسك الطبيب الطبيب القرص بين أصابعه وأداره عدة مرات , بينما كان رامون يواصل حديثه ثم وضع القرص في فمه.
ظل وجه الطبيب فترة جامدا تماما بلا تعبير , ثم تحول شيئا فشيئا الى دهشة شديدة ممزوجة بالخوف , وفتح فمه ليسمح للحرارة التي ألهبت فمه أن تهدأ , وتصارع في نفسه الخوف والسرور , وبدت المعركة على ملامح وجهه واضحة , بينما وقفت تينا مع رامون في صمت تام في أنتظار قراره الأخير , وبعد لحظات مشحونة بالقلق , أنحنى فجأة وركع أمام قدمي رامون , ثم قفز واقفا وأسرع الى كوخه وفي هذه اللحظة , عرفت تينا أنهما أنتصرا في معركتهما مع الطبيب , فأستدارت الى رامون وسألته:
" أرجوك , هل يمكن أن تشبع فضولي , وتشرح لي ماذا قلت له".
" هل تريدين أن أشرح لك التفاصيل, أم تريدين الخطوط العريضة؟".
" أي شيء , فقط أخبرني".
" ذكرته بأن أشهرا عديدة مرت , وقومه يعلمون أن كلامي معهم دائما هو الصدق والخير , وأن البضائع التي أحضرتها اليهم لم تكن فاسدة ,والسكاكين التي قدمتها اليهم تعمل أفضل من أي شيء قاطع لديهم ,وذكرته أيضا باليوم الذي أستعملت فيه عصاي النارية ضد القوى الشريرة في الغابة , وأخيرا قلت له أنه لو وضع أحد أقراصي اللاذعة على لسانه , فلن يحدث أي مكروه لولده الذكر , بأذن الله".
وأشار بيده جهة الطبيب الذي كان مشغولا في العمل , وأردف :
" أنني أحمل أقراص النعناع معي بأعتبارها الورقة الأخيرة الرابحة , ولو أنها فشلت في أقناعه لما أستطاعت أية قوة في الوجود أن تقنعه".
وأنقضى اليوم وهما يراقبان عمل الطبيب ..... كان يضع قطعة مسطحة من الحجر في مكان معين ومعها قطعة كعينة من الخشب , يدق ببها النباتات التي جمعها , وبين لحظة وأخرى كان يسرع الى كوخه ليستريح قليلا , ثم يعود منتعشا ليواصل عمله , وبعد أن أنتهى من هذا الجزء من العمل , أسرع الى الأدغال يبحث عن نوع معين من الأغصان يوقد بها نيرانه , وبعد أن أشتعلت النيران وأرتفع لهيبها , وضع القدر عليها في زاوية معينة , ثم وضع فيها بعض الماء أستعدادا لأضافة النبات المطحون الذي كان قد أعده.
والى هنا كان العمل يسير كما تريد تينا , ولكن عندما بدأ في الأستعداد لأضافة النباتات المطحونة , صاحت بصوت مرتفع:
" لا, ليس الآن............".
فقفز من مكانه خائفا , بعيدا عن النار , وأحست أنها تكاد تموت خوفا , ونظرت الى رامون مستنجدة وقالت:
" يجب أن أزن هذه النباتات المسحوقة التي سيضيفها , فبدون الميزان لن يكون لملاحظاتي أية فائدة , أرجوك أشرح له هذا".
وأستدار بعد أن أومأ برأسه موافقا , وبدأت مناقشة حارة بينه وبين الطبيب المذعور , وراقبتهما تينا وهي تحاول جاهدة أن تفهم شيئا , وشعرت باليأس يغمر قلبها عندما أشار الطبيب أشارة رفض قاطعة وثمة كلمات أخرى شديدة قيلت , وردةد غاضبة أرتفعت , قبل أن يجلس طبيب الأعشاب مرة أخرى ,وهو يرمقها بنظرة كراهية – ثم قدم مجموعة المساحيق التي معه الى رامون الذي نظرت اليه تينا مستفهمة , فقال لها بلهجة شديدة الجدية:
" رفض أن تلمسي عقاقيره ولكنه سمح لي أخيرا بأن أقوم بما تريدين , بنفسي , أشرحي لي بسرعة ما يجب أن أقوم به قبل أن يغير رأيه".
وسارت تينا تشرح له طريقة أستعمال الميزان الدقيق الصغير الذي أحضرته معها , وكان ينفذ تعليماتها بدقة شديدة , وفي اللحظة التي كان هو يقوم فيها بمراقبة الميزان , كانت هي تقيد ملاحظاتها بالأرقام , كل وزن على حدة , قبل أن يعيده الى الطبيب الذي يضيفه الى مياه القدر.