بعد ساعة كاملة , رضخ الطبيب لنصيحة رئيسه , وقادهم وراءه الى قلب الأدغال , وأختار بقعة ليبدأ فيها عمله , قريبة من القرية , حتى يسهل وصول رسول ينقل اليه أخبار طفله الذي ينتظره من يوم الى يوم , وأخبار زوجته التي تنتظر المولود , وشعرت تينا بالقلق , فقد كان يرمقها طوال الرحلة بين لحظة وأخرى بنظرات عدائية , وفكرت في ما يمكن أن يحدث لو وقع مكروه للطفل أو لأمه , وحاولت أن تمحو أية صورة للتوقعات المخيفة , وركزت نظراتها على البندقية التي حرص رامون على أن يحملها معه , وشعرت بالأطمئنان وهي تسير في حماها.
كانا يحملان معهما من الطعام ما يكفيهما ليومين أو ثلاثة , وبما أنهما لم يكونا قادرين على العودة الى القرية يوميا , فقد حمل رامون معه في حقيبته الأسرة المعلقة , والشباك التي تحميهم من الحشرات ........وبعد أن سار ثلاثتهم في الغابة مدة ساعة وصلوا الى ساحة صغيرة , كان من الواضح أنها هي المعمل الذي أختاره الطبيب , فقد كان فيها بعض الأدوات والبقايا التي يستعملها العجوز , وكوخ صغير ينام فيه أختفى في داخله بمجرد وصولهم ,وظل هناك مدة طويلة من الوقت , كانت كافية لأعداد أسرتهم المعلقة التي بقيت تنتظر من يشغلها , بينما ظل الطبيب في داخل كوخه في أنتظار الظلام.
منتديات ليلاس
وكاد صبر تينا يفرغ , كانت قلقة تريد البدء في الحال , ويبدو أن الطبيب كان ما يزال معارضا لوجودها , ولكن أخيرا , أمسك ورقة شجر في يده , وبسطها , ووضعها أمامه , وأدركت أنه يريد منها أن تجمع من الغابة , أكبر عدد ممكن منها , وأبتسمت له لكنه واجهها بوجه متجهم غاضب وبكلمات لم تفهمها , ونظرت الى رامون تطلب منه تفسير ما حدث , فقال لها مهدئا:
" لا تدعي الرجل ينجح في أستفزازك يجب أن تقدري مشاعره , فهو يعتقد أنه أول رجل في قبيلته يضطر الى خيانة تقليد أجداده ويفشي أسرارهم , وهذا يجلب له العار مدى الحياة , وهو يعتقد أعتقادا جازما الآن أنه سيصاب بمحنة كبيرة , عقابا له على ضعفه فينبغي أذن أن تعذره , ونتمنى ألا تخونه شجاعته".
وسارا في الغابة المحيطة بالساحة صامتين , يجمعان الأوراق التي طلبها الطبيب , وكانت تينا سعيدة بهذا الصمت الذي لازمهم , وكانت أية حركة صغيرة بين الأشجار , كفيلة بدفعها لأن تقفز مندفعة الى جواره , ولكنه برغم ملاحظته لما بدر منها , فأنه لم يعلق على ذلك , وظلا يجمعان الأشجار حتى غابت الشمس , ثم قفلا راجعين الى الساحة , حيث كان الطبيب يجلس ساكنا كالتمثال , محملقا بتركيز في كومة من الأعشاب , ورفع رامون يده داعيا تينا الى الصمت , ثم قادها في سكون الى الجانب الآخر من الساحة حيث أقام الأسرة المعلقة , وقال لها محذرا:
" يجب ألا نقطع عليه تركيزه".
وبعد أن وضع أوراق الشجر على الأرض أتجه الى تينا وقال:
" لماذا لا تستريحين , سأحضر لك طعامك !؟".
" شكرا , أفضل أن أحضره بنفسي , أذا كان ذلك لا يضايقك".
أختفت النظرات الرقيقة من عينيه , وعاد الى وجهه الجمود ثم قال :
" حسنا , بما أنك ترفضين أن نكون صديقين , فلا شيء آخر يمكن أن أفعله ".
وتهالك قربها جالسا على جذع شجرة ,ومد لها يده ببعض البلح الجاف , قائلا:
" آسف , ليس أمامنا خيار , ولكنني غدا سأجوب الغابة بحثا عن طعام لنا وسأجد فاكهة , وجوز الهند , وربما عثرت على عسل أيضا".
" أشكرك".
" نحن هنا المتحضران الوحيدان في هذه البقعة المهجورة وعلينا أن نقدم مثلا طيبا أمام هؤلاء المتوحشين الذين يستضيفوننا , فنحاول أن نتناسى كل المشاحنات والحساسيات التي بيننا , على الأقل خلال أقامتنا هنا".
وقفزت واقفة , ودفعت يده بعيدا عنها ليتناثر البلح الجاف على الحشائش , وكان عليها أن تقول أي شيء لتخفي هذه المشاعر التي تجتاحها والتي تصرخ في أعماقها شوقا اليه ........ وخرج صوتها غريبا وهي تقول:
" أنا لا أريد صداقتك , لا الآن , ولا غدا , ولا الى الأبد , الحقيقة أنه بعدما حدث بالأمس فأنني أتمنى ألا أراك مرة أخرى في حياتي , أنني أعرف.........".
أختلج صوتها وأكملت :
" أنك تفتقد صديقتك الجذابة دونا أنيز ,ولكن لن يكون هذا سببا لأن تعاملني كبديلة لها".
" ولكن ألم تكن هذه فكرتك في الأصل؟".
وأستعادت عيناه الزرقاوان نظراتهما الباردة العميقة ,وعندما أحمر وجهها , ضحك ضحكة خالية من المرح وكم كانت دهشتها أذ واصل قائلا:
" تعالي نعلن هدنة بيننا , يكفي هذه البقعة من الأرض وما فيها من مظاهر العداء والحروب والوحشية , هيا تعالي".
ومد يده اليها , قائلا:
" أنني أعتذر اليك عن كل ما سببته لك من مضايقات تعالي نتصافح , ونتعاهد على أننا أذا لم نكن صديقين قادرين على أن نكون فعلى الأقل لنمتنع عن أن يضايق كل منا الآخر , أرجوك قولي أنك موافقة".
وأرتفعت دماء الخجل الى وجنتيها ,وضاعت في حيرة , أما هو فأبتسم ومد يده الى آخرها فأحست كأنها مسحورة تماما , رفعت يدها ببطء حتى أصبحت في متناول يده , وأرتعشت وهي تشعر بقبضته القوية بينما همس هو في رقة:
" تيننا , أشكرك على كرمك..... هل تسمحين بأن أسمع صوتك ينطق بأسمي؟ ستعطيني أملا في أننا قد نصبح يوما صديقين".
في هذه اللحظة ضاعت كل شكوكها , وأدركت أنه يطلب منها أمرا بسيطا جدا , فهتفت:
" حسنا يا رامون".
نطقتها بسعادة وخفة , فرفع يدها الى شفتيه , وأنتظر قليلا , قبل أن يلثمها ثم تنهد معبرا عن أرتياه العميق , وأخذ يراقبها بعينيه نصف المغمضتين وهي تتناول طعامها.
ولم تعد تشعر بالجوع , أكتفت بما أكلت لكن الفترة التي قضتها في مضغ الطعام كانت فرصة لأن تحاول أن تجمع أفكارها , وتسيطر على أعصابها , وتخرج من هذه الحالة السحرية التي جذبتها اليه وأفقدتها وعيها وأستطاعت أن تسيطر على مشاعرها بعض الشيء , بينما كان رامون بجسمه الضخم متمددا على الأرض وهو يدرك تماما كل العواطف التي تعتمل في صدرها.