وأعترتها الدهشة , وتصورت أن آذنها خدعتها , فسألته ببطء:
" أتقصد أنك ستصحبني الى القرية؟".
" أفكر في ذلك , أذا أستطعت أن تعديني بأنك لن تتجولي بعيدا عني ولو لحظة واحدة خلال الرحلة ".
ثم أستطرد مؤكدا :
" وأن تنفذي بدقة كل ما أقوله لك دون سؤال أو تردد , منذ اللحظة التي نغادر فيها هذا المعسكر حتى نعود اليه , عانيت كثيرا من حماقتك , ومحاولاتك لأقناعي بأنك جديرة بالسير وحيدة في هذه المناطق وبما أنني سأحتاج الى البحث عن الأثر في كل خطوة , أذا كنا نريد أن نصل سالمين الى القرية , فيجب أن أتأكد من أنك لن تصارعي غوريللا , أو تشتبكي مع فهد وراء ظهري , أذا أدرته لك".
أندفعت دماء الغضب تصبغ وجهها , وأشتعلت عيناها بالثورة فقد أغضبتها كلماته الساحرة , وأوشكت أن ترفض العرض الذي يقدمه اليها , لكنها أستردت توازنها وأدركت أنه يمنحها الفرصة لتسير في الطريق الذي بدأه والدها وعليها ألا تترك شيئا يعوق بينها وبين التعلق بهذه الفرصة.
سألته:
" لماذا غيرت رأيك؟ بالأمس رفضت أن تسمح لأحد من الرجال بأن يرافقني في هذه المهمة , خوفا من الأخطار الرهيبة , والآن تعرض أن تذهب أنت معي , فهل تبددت هذه المخاطر؟ ".
" بل ما زالت موجودة , ولكن أذا ذهبنا وحدنا فأن الخطر سيكون أقل كثيرا مما لو ذهبنا في مجموعة , أنني أعرف أفراد هذه القبيلة , وهم أيضا يعرفونني , ولن يحدث لك أي ضرر ما دمت معي".
ثم أنتصب واقفا وقال آمرا:
" أذا كنت ترغبين في تنفيذ كل ما عرضته عليك , فينبغي أن تكوني مستعدة في خلال عشر دقائق , خذي معك كل ما ترينه ضروريا لأحتياجاتك , أعددت الأشياء الضرورية التي سنحتاج اليها في هذه الرحلة".
" عشر دقائق؟ وماذا عن الباقين , أية أفكار ستراودهم حين يعلمون أننا رحلنا؟".
" ناقشت هذه الخطة فعلا مع فيلكس وجوزيف روجرز , أنني لا أريد أية مناقشات , لا من صديقك برانستون , ولا من أنيز وكلاهما يرغب في الذهاب معنا وقد أصدرت أوامري الى فيلكس ليشرح لهما كل شيء حين يعودان".
وأصبح صوته هامسا وهو يقول:
" أطمئني يا آنسة , لن تفارقي برانستون لمدة طويلة , أتوقع أن نعود مساء غد على أبعد تقدير".
وأسرعت تينا والأنفعال يطغى عليها , تملأ جيوبها بما تصورت أنه ضروري لها , ولم تمض سوى خمس دقائق حتى كانت تضرب الأرض بقدميها أمامه في وقفة الأستعداد , منتظرة أوامره وبدا عليه الرضى , وأستدار مشيرا الى قارب صغير في النهر , قائلا:
" هذا القارب سيكون مفيدا لنا في رحلتنا ما دمنا نسير في النهر , فهو أسرع من السير على الأقدام , هيا أصعدي اليه ولكن لا تضعي أصابعك في الماء".
وأستدارت اليه بوجه شاحب وهمست بتردد:
" يا سيد رامون لا أستطيع أن أعبر لك عن أهمية هذه الفرصة بالنسبة الي , أشكرك من كل قلبي لأنك حققت هذه الأمنية العزيزة عليّ".
وبرغم أنها لاحظت أن وجهه المتصلب أخذ يلين بعض الشيء , ألا أن عينيه ضاقتا وهو يرد:
" لا تخدعي نفسك , أنني لا أقوم بهذه الرحلة من أجلك , دوافعي شخصية بحتة , فأنا بدوري أريد أن أقدم خدمة للعلم".
حاولت تينا بكل قواها أن تخفي عنه ألمها العميق الذي شعرت به طوال رحلتهما في الطريق قاصدين قرية الجواهاربيور , وتمنت لو أنها لم تبدأ الرحلة على الأطلاق , كان الجو المحيط بها لا يطاق , وهي مع شريك صامت ,يتعمد تجاهلها , جاءت معه وفي يدها غصن زيتون تتمنى أن تقدمه له , لكنه تحطم عند هذه الفجوة العميقة التي أصبحت تفصل بينهما , وكان بتجاهله وجودها ينسف أية جسور يمكن أن تعبرها اليه , ونظرة واحدة منها الى وجهه المتجهم , أقنعتها بأن أية محاولة منها لتفسير ما حدث لن تقابل ألا بالرفض أو عدم التصديق.
وشد أنتباهها انحراف القارب في أتجاه واحدة من القنوات المائية العديدة التي تتفرع من النهر , ولم يحاول رامون تقديم أي تفسير لها , وأيقنت أنهما يتجهان الى قلب المنطقة التي لم تذكرها خريطة من قبل والتي تسكنها قبيلة طبيب الأعشاب , وأستمر القارب يسير في المجرى المائي طوال ساعات عديدة وبدأ التوتر يصيب تينا بالخوف , ولم يكن هناك ما يخفف توترها ,فلم يبد رامون أي أستعداد أو رغبة في الحديث معها , بينما هو سائر بثبات الى أعماق الأعماق وأستغرقت في أفكارها : تصورت أن وراء كل كتلة من الأشجار الكثيفة يختفي وحش كاسر , وأن على كل فرع من فروع الأشجار مجموعة من الحشرات تنتظر لتنقض عليها , وأن كل غصن رقيق ليس ألا أنبوبة رقيقة ستنطلق منها السهام السامة , ومع أنها لم تر في الحقيقة غير هذه الفراشات الرقيقة المسالمة والطيور ذات الألوان الرائعة , ألا أنها كانت تشعر بشعور غريب جعلها متأكدة من أن هناك عيونا متلصصة تراقبهما من خلال الأغصان المتشابكة على طول الطريق.
وفجأة قاد رامون القارب الصغير الى شاطىء النهر , ومد يده اليها ليساعدها على الأنتقال الى الشاطىء , وأرتعشت يدها وهي تلامس يده , وقالت:
" ما أجمل هذه الأدغال , أنظر.........".
وأشارت الى مجموعة رائعة من زهور الأوركيد بألوانها التي في لون اللهب ,وقد ظهر جمالها واضحا أزاء هذه الخلفية من الأغصان القاتمة الخضرة.
" أليست في غاية الروعة؟".
وتابعت بأصابعها طائرا متعدد الألوان يحلق في الفضاء , مستطردة:
" وهذا لكم يبدو جميلا الى درجة لا تصدق".
وأطلقت زفرة أرتياح , وهي ترى ظل أبتسامة يتلاعب على شفتيه , لقد نجحت في شد أنتباهه ,ولكن عينيه كانتا شديدتي الخطر , يجب أن تأخذ منهما الحذر , وعندما أستطاع أن يثبت القارب في أرض ثابتة , أستدار اليها قائلا:
" يا آنسة أتبعيني كالظل , سيري فوق آثار خطواتي ومهما حدث لا تحاولي النظر وراءك , هل تفهمين؟".