كانت تعرف أنه أذا تكلم , فسوف تكون كلماته كلها شتائم ولعنات ........ ولكن كان أسهل أن تحتمل أحتقاره , من أن تدعه يكتشف مبلغ الأضطراب الذي يثيره في كيانها , فأن رجلا قبله لم يكن له هذا القدر من الجاذبية الذي تحسه نحو رامون فيغاس , سبق لها الخروج مع بعض الرجال , ولكن لم يكن لأي منهم أي تأثير عليها أذا قورن بهذه المشاعر التي تنتابها بمجرد أن يلمسها.
منتديات ليلاس
وأرتعدت , وعندما تكلم , تداعى قلبها حزنا وألما لهذه الهزيمة البادية في كلماته القاسية:
" يا آنسة , لقد أقنعتني , لم يعد مظهر شبابك الخادع يقلقني , أن لسانك الحاد كفيل بتهيئة الحماية الكاملة لك , ولن يعاني من أي مشكلة مع أحد من الرجال , وأذا كنت قد سافرت كثيرا فأعتقد أنه لم يعد عندي شك من أنك ستحسنين التصرف , وأعتقد أنك لن تجدي في كلامي لك أي مديح أو تملق , ولتكوني على ثقة من أنني أنفذ ملاحظاتك بكل دقة , وأعدك بأنك لن تشعري بعد اليوم بأنني شخص جذاب.
ثم تركها وأختفى في الظلام , وعندما أستلقت في سريرها المعلق , وقد ألتفت حولها شبكة من القماش الخفيف تحميها من البعوض , لم تكن تفكر ألا في شخص واحد : رامون فيغاس , الرجل الذي يخفي وراء قسوته كل هذه الرقة وهذا الحنان ,ولمساته التي أشعلت نيرانا في عواطفها , ما تصورت يوما أنها ستوقظها بمثل هذا العنف , هذه العواطف التي يجب أن تختفي تماما قبل أن تصبح موضعا للسخرية , سواء من رامون نفسه أو من أنيز والتي سيسعدها أن تعرف هذه الحقيقة ! مهما حدث , يجب أن تبتعد دائما عن طريق فيغاس , أذا أرادت أن تحتفظ لنفسها بهذا الوقار الذي تتظاهر به.
في اليوم التالي شعر أعضاء الفريق بشوق لبداية المرحلة الثانية من رحلتهم , ولم تكن تينا في حاجة لمن يدعوها الى اليقظة , والى ترك هذا السرير المعلق , بعد ليلة أخرى من النوم المتقطع , الذي صاحبه أعتقادها بأن العمل , أي عمل , هو راحة بالنسبة اليها , ولذلك , فعندما أستيقظ الجميع فوجئوا بهذه الرائحة الجميلة للقهوة , وبرغم أن شهيتهم كانت أقل من الأمس , ألا أنهم رحبوا بحرارة بهذه الأطباق الشهية من البوردج.....
وأمتلأت بالفخر لعبارات الأعجاب التي أغدقوها عليها , أمتداحا لطعامها الشهي , وهم الذين كانوا في دهشة من ميلها الى الوحدة , مع أنهم ما زالوا يرحبون بها لتنضم الى هذه المجموعة التي توطدت بين أفرادها روح الصداقة والألفة.
لقد أصبحت معروفة بينهم الآن بأسم ( العروس الثلجية) , وهو تعبير من كثير من التعبيرات والملاحظتت التي تعبر عن رأي الرجال فيها , والتي كانت تستمع اليها في ألم , في بداية الأمر فكرت في أنه لن تهمها ما يساورهم من ظنون فهم مجرد مجموعة من الأفراد لن تراهم مرة أخرى بعد نهاية الرحلة ,ولكنها الآن تشعر بأنها ضائعة , غير مرغوب فيها , وأبنها وحيدة تماما , ومع أنها كانت تعرف أنها هي التي فعلت كل هذا , وأن الخطأ خطأها هي , فهي التي رفضت كل صداقة عرضت عليها , ولكن ذلك لم يحل دون أن تشعر بالألم وقسوة الوحدة.
وبعد الفطور , خلا المكان مرة أخرى تماما , ولم يعد هناك أثر يدل على أن القوم كانوا فيه والمعدات القليلة التي أنزلوها من القارب عادت مرة أخرى اليه , وبدأ زورقهم الطائر في الأنزلاق الى الماء وهم في داخله ,وساد الصمت تماما , وأختنقت الأصوات في صدورهم , بمجرد دخول الكابتن روجرز الى غرفة القيادة , وتشبثت تينا بذراع مقعدها وهي تشعر بأصوات المحركات ترتفع , وكانت كل لحظة تحمل معها خوفا جديدا , وشكوكا متزايدة حول الأخطار المحتملة لكنها تنفست بأرتياح , وأرتخى جسدها عندما أستقر المركب مرة أخرى في الماء , وسمعت صوت هديره !
وشعرت بكل متاعبها تثقل كاهلها , وتحت وطأة أعصابها المتوترة , والنوم الذي قاطعها في الليالي السابقة , سقط رأسها على ظهر المقعد وهي تراقب الأحراش التي لا تنتهي , حتى أصبحت كتلة خضراء بلا نهاية ,وصمت الجميع ,وهم يتصورون الأخطار التي سيواجهونها بعد ساعات قليلة , فعندما يقام المعسكر , يكون لكل منهم عمل كاف يشغله , أما الآن فليس هناك ما يفعلونه سوى الأنتظار.
وتحولت أفكارها الى عمتها , كانت تعرف أنها تنوي أن تتابع تقدم البعثة يوميا على خريطتها , فقد حفظت خطة سيرهم عن ظهر قلب , وشعرت تينا بالحرارة وهي تحس أنه بالرغم من البعد عنها , فأن عمتها معها في كل خطوة تخطوها في رحلتها.
وكانت الأيام الأخيرة التي سبقت رحيلها ثم وصولها الى مانوس مشحونة بالقلق , لدرجة أنها لم تستطع أن تستوعب كل التعليمات التي كانت عمتها توجهها اليها , وكان الخوف يشغلها حتى أنها لم تعرف حقيقة ما تحتويه هذه التعليمات , لكنها الآن وهي تسير فعلا في قلب الأمازون , في أتجاه مخاطر( كازيكوير) , بدأت الذكريات تضغط عليها ......فأغلقت عينيها في محاولة لأستعادة ما قالته لها عمتها وشيئا فشيئا بدأت الصور تتداعى في مخيلتها , حتى أستطاعت وبالتدريج أن تسترجع كل ما قيل لها.
" وصلت الى كيو وبطريقة غير معقولة , ومن بين آلاف الأميال من الكروم الكثيفة أشاعة تقول أنه في مكان ما في أعالي نهر أورينوكو يعيش واحد من المواطنين الذين لم يتلقوا أي قسط من التعليم , ويعرف بأنه أحد أطباء الأعشاب , وأنه يعالج المرضى بمرض النقرس بدواء مصنع من الأعشاب ,وبخاصة من نبات ( الكاسيا) الذي يطلق عليه المواطنون أسم ( سارانغوندين).".
كان من الأحلام الخاصة للعلامائ , بما فيهم عمتها كريس , أن يعثروا على علاج لواحد من أكثر الأمراض أيلاما للأنسان وهو مرض النقرس , ومع أنهم كانوا يتوقعون أكتشاف هذا النبات ,ألا أن الأمر بالنسبة الى تينا لم يكن يعني أنها تبذل جهدا لتعثر على هذا الطبيب , لقد كانت المغامرات والرحلات لا تعني بالنسبة اليها هذه الأهداف التي كانت مهمة بالنسبة لعمتها , أو كما كانت بالنسبة الى عائلتها ولكن تينا وجدت فجأة أن فكرة تحقيق الشفاء للأنسانية بالعثور على علاج لهؤلاء المساكين الذين يشفيهم من المرض , تنبثق فجأة أمام عينيها لتصبح هدفا مثيرا , وفجأة , وجدت نفسها قلقة على هذه السمعة العظيمة التي حققتها عائلتها في حربها ضد الأمراض........ وتركز الضوء عليها ليظهر أنانيتها وعدم فهمها للدور الكبير الذي قامت به عائلتها نحو هؤلاء الذين كانوا في حاجة الى المساعدة , وغمرها شعور بالخجل من هذه الأحاسيس التي أجتاحتها في طفولتها والتي صورت لها أن عائلتها كانت تفضل المغامرات والرحلات على تهيئة الجو العائلي والأستقرار في طفولتها , وكأنها فراشة تحاول الطيران للمرة الأولى! وقد جاهدت للخروج من عقدها الخاصة لتكتشف عائلة جديدة عظيمة , كانت فخورة بهذا الأكتشاف , وشعرت بدافع قوي لأن تتبع خطواتها , وفجأة تبدد كل التعب والأرهاق الذي كان ينتابها , عندما فكرت في الفائدة التي ستعود على آلاف المرضى الذين يعانون من آلآلآم المبرحة .