لكنها توقفت عندما لاحظت هذه الدائرة من الوجوه المشدوهة التي أحاطت بهما , كان هجومها الذي سببته كلمات أنيز المهينة , قد جذب المتفرجين الذهولين , ليحاولوا التحكيم بين الأثنتين , متعاطفين تماما مع أنيز غارسيا التي كانت قد رسمت على وجهها بقدرة رائعة تعبيرا هو خليط من الخجل والضعف وشعرت تينا بالغباء , فتحولت عنها , لكنها توقفت عندما سمعت صوت رامون فيغاس يفرق الرجال , ووسط جمع من المتعاطفين سارت أنيز الى الجانب الآخر من السفينة , تاركين تينا وحدها مع فغاس وقد قابلت نظراته القاسية بنظرة حادة لكنه لم يتكلم حتى جلس الى جوارها , وعندئذ قال محاولا السيطرة على كلماته بأرادة حديدية :
" آنسة دونيللي , لماذا تجدين من الضروري أن تضايقي كل شخص حاول الأتصال بك؟".
" هذا غير صحيح".
" أسمحي لي أنني أستطيع أن أحكم من الطريقة التي يتجنبك بها الزملاء , أنك تعاملينهم بكبرياء , وأذا حمنا لي المثال الذي شاهدته الآن , فأن الغطرسة فيه تزيد عن الحد , أنني أحمل كل أحترام لكل أعضاء مهنتك ,وأيضا للشهرة العظيمة التي بنيتها أنت لنفسك ,ولكنني أريدك أن تعرفي.......".
وصمت , وأنحنى الى الأمام حتى أصبحت عيناه الزرقاوان , الذكيتان في مواجهة عينيها:
"أن نجاح هذه البعثات يعتمد أساسا على مقدرة أعضائها على التكيف مع بعضهم البعض , تماما كما تعتمد على حسن تخطيط الرحلة ومقدرة القيادة , وقد أستطعت أن أتم بكل تفاصيل النقطتين الأخيرتين , لكن الآن يبدو أنني يجب أن أتأكد من أنسجام الفريق كله خلال الرحلة , لذلك أرجوك يا آنسة أن تراعي في المستقبل أختيار عباراتك , وأن تحاولي حتى لو وجدت صعوبة في ذلك- أن تعاملي زملاءك بطريقة أكثر رقة مما تفعلين".
وأنحنى نحوها متوعدا , منتظرا أجابتها , والغضب الجامح يلمع في عينيه الزرقاوين.منتديات ليلاس
أفاقت تينا من الجو الساحر البدائي الذي يفوح منه , وكافحت لتخلص صوتها من عقدة الصمت التي أصابتها , شعرت كأن جوانب السفينة تتقارب بتضيق حولها , في الخارج لم تستطع أن ترى غير جدار من الأدغال الموحشة , ومساقط مياه مندفعة , لكنها كانت قد شعرت بأنها تستطيع أن تجد في الداخل على الأقل بعض الأمن والحماية , أما الآن , وشبح رامون فيغاس يخيم عليها فها هو تهديد محنة الأدغال الوشيكة بدأ بالفعل ,وأنكمشت بجسمها النحيف في ركن مقعدها , وقابلت نظراته بعينين واسعتين أمتلأتا بالرعب وأمام منظر تراجعها , أطلق صيحة تعجب مغمغمة , ووضع يده السمراء ذات الأصابع القوية فوق يدها المرتعدة وسألها برقة:
" ماذا حدث يا آنسة ما الذي يضايقك؟".
وأحمر وجهها , وسحبت يدها من تحت يده , وهي تستعيد نظراتها الحادة التي دربت نفسها عليها وقالت:
" أنني أكره العنف يا سيد أرجوك , لا تلمسني!".
وتراجع في الحال , ووقف ينظر اليها غاضبا , ثم غمغم بكلمات أسبانية , وهمس لها في شبه فحيح:
" أنني أكاد لا أصدق ....... كيف يمكن أن يخفي هذا المظهر الفائق كل هذا البارد , أنك تدهشينني يا آنسة".
وتصورت أنه سيتركها , ولكن بعد دقيقة من الصمت , كانت خيبة أملها شديد عندما أكتشفت أنه قرر أن يعيد المحاولة , وبصوت هادىء , حاول أن يستميلها قائلا:
" يجب أن أعترف بأننا مجموعة من الناس مختلفة الأمزجة والمشاعر , وأن الأنسجام بين الجميع ليس بسيطا .....لكن الأمر يكون سهلا لو أننا كنا غير مستبعدين للأحتكاك ببعضنا البعض , ولو حاولنا الأتصال في ما بيننا بنية صافية للوصول الى مجموعة منسجمة راقية ...... ألا توافقينني على ذلك؟".
وعندما رفضت الجواب , بدا صوته أكثر قسوة وهو يستطرد :
" هناك أتجاه قوي للصداقة ينمو بين أفراد الفريق , وكل منا مستعد للمشاركة في الأعمال التي سنقوم بها في المعسكر الذي سنقيمه عندما نتوقف في المساء , فهل تعدينني بأنك ستتخلين عن تسلطك لتسمحي لروح الصداقة بأن تتشر ؟ أنه شيء علينا جميعا أن نفعله , وسوف ننجح فيه و أذا لم يتعمد كل منا أن يصطدم بالآخر في محاولة لتحطيم معنوياته".
كان يتحدث اليها طالبا منها الصداقة وهذا هو الشيء الذي لا تجرؤ على القيام به , وبأندفاع ظاهر قالت:
" أتيت يا سيدي الى هنا للعمل , وليس للقيام بلعبة العائلات السعيدة , أنني سأقوم بالأعمال التي تطلب مني طبعا , ولكن لا طلب مني أن أكون أجتماعية لأن لا وقت لدي لذلك".
" حسنا , الليلة عندما نقيم المعسكر , سيكون عليك القيام بأعمال المطبخ , ستعدين العشاء وتقدمينه , ثم تنظفين الأواني بعد الأنتهاء من الطعام , ويجب أن تكوني قد أنتهيت من أعمالك قبل الساعة العاشرة , لأنك يجب أن تستيقظي في الخامسة صباحا لتعدي طعام الفطور هل هذا واضح؟".
هزت رأسها بالموافقة دون أن تنطق بحرف , فأستدار عنها في حدة وسار مبتعدا , عائدا الى عمله وفجأة لم تستطع أن ترى شيئا , أذ غمرت الدموع عينيها , فحولت رأسها الى النافذة , وأغمضتهما بسرعة لتتخلص من دموعها , لكن الدموع جرت عبى خديها سريعة وكثيفة وحارة , وكانت حقيبتها على الأرض , فأنحنت فوقها لتخرج منديلها , عندما سمعت صوت برانستون الكريه , لقد وقعت في الشرك , لم يكن أمامها وسيلة ألا أن تمسح بيدها الدموع المتدفقة قبل أن ترد عليه , وألقت رأسها بعيدا , متظاهرة بمشاهدة المنظر أمامها , ولكن ها هي الآن مضطرة لمواجهته بعد أن ألقى بجسمه على المقعد المجاور لها , وسألها بقضوله المعتاد:
" هل أستطاع الرئيس أن يضايقك؟ ".
" كلا , لماذا؟".
" لأنك تجرأت وأهنت سيدته المفضلة , ألا تعرفين أن أنيز أرملة وأنها هي والسيد صديقان حميمان وهناك أشاعة أنهما سيتزوجان بعد أنتهاء هذه الرحلة مباشرة؟".
" أنا لا أهتم بحياة الناس الشخصية , فأذا كان هذا هو كل ما تريد أن تخبرني به يا سيد برانستون , فأسمح لي بالأنصراف , لأن عندي بعض الأعمال العاجلة".
وأخرجت مجموعة من الأوراق , أرتفع حفيفها وهي تقلب فيها لكنه لم يظه أي أستعداد للأنصراف , بل على العكس , فقد أراح نفسه أكثر من مقعده وأستدار في أتجاهها , وبادلها نظراتها المتجاهلة بنظرات حافلة بالأهتمام.