2- بداية الرحلة
أرتفع صوت الطائرة مدويا ! وهي تدير محركاتها لتجري على مدرج مطار لندن,وكان دوي المحركات النفاثة يصرخ في أذني تينا : غبية , عمياء , أنانية , بلهاء , وملأت الدموع عينيها وهي ترسل نظرة أخيرة الى الشخصين اللذين تشعر نحوهما بكل هذا الحب , وبتأنيب الضمير , لكن الطائرة أستدارت فجأة لتعترض نظراتها , وتستقر في طريقها الى ميامي , ومنها الى البرازيل , لتهبط في مطار مدينة مانوس حيث كان من المقرر أن تلتقي مع أعضاء الفريق الذي يشترك في ما أسمته عمتها ( آخر رحلة عظيمة على الأرض).
أسترخت تينا تماما في مقعدها , وأراحت رأسها على الوسادة الصغيرة , أغمضت عينيها , وأسترجعت مرة أخرى تلك الأيام الأليمة التي سبقت رحيلها , تداعت الصور أمام عينيها وهي تسترجع الأحداث التي أخرجتها من حياتها الهادئة , وكادت تكذب نفسها : هل صحيح أن كل هذا حدث في أسبوع واحد , فقط منذ سمعت كريس تفضي بحبها الى أليكس؟
وأهتزت الطائرة أهتزازة عنيفة أثر سقوطها في أحد المطبات الهوائية , وأرتفع الضجيج حولها , ولكن ذلك لم يستطع أن يطغى على آلامها النفسية التي كانت ترهقها , كان رد فعلها الأول عندما أستمعت الى صوت عمتها الهامس وهي تناجي أليكس , أن تراجعت بهدوء الى المطبخ , وهناك نظرت حولها في ذهول , أمتلأ قلبها بالأسى ثم بالأحتقار لنفسها , ولأنانيتها , هذه الأنانية التي جعلتها تتعلق بالمرأة التي بقيت طوال سنوات تمثل لها طوق النجاة , مضحية بسعادتها وسعادة الرجل الذي تحب وبالمستقبل العائلي والبيت والأولاد , وأخذت تينا تلوم نفسها , أنها السبب في التفريق بين أثنين هما أحب الناس الى قلبها , ووضعت رأسها الملتهب على حائط المطبخ الرخامي البارد , لتهدىء الحمى التي تلهب عقلها , وترغمها على مواجهة الحقيقة المرة , أن حل مشكلتها بين يديها , صحيح أنها لا تستطيع أن تنكر أنها كانت تتمنى لو تبقى سنوات طويلة مع عمتها , شريكتين في العمل , سعيدتين معا , طالما أعتقدت أن كريس وهبت حياتها لعملها الذي أحبته , لكن يبدو انها كانت مخطئة وواهمة , وشيئا فشيئا , كان عليها أن تتخلى أحلامها , وأن ترغم نفسها على خطة جديدة , خطة بلغت من النجاح حدا أوصلها الى هذه الطائرة المتجهة الى مكان تعرف مسبقا أنها ستكرهه , ولكن...... لا يهم , لا شيء يهمها ألا النتيجة التي حققتها , وهي أجبار كريس وأليكس على تحديد موعد زفافهما بعد أسبوع واحد من عودتها.
وقطعت المضيفة عليها سيل خواطرها , قائلة:
" آنسة دونيللي , هل تريدين بعض القهوة؟".
"لا".منتديات ليلاس
ردت بصوت بارد , صدم الفتاة في الحال , وبرغم شعورها بخشونة الرد ألا أنها لم تستطيع أن تعذر لها , أدارت وجهها الى النافذة , ومرة أخرى عادت الذكريات تطاردها , وأخترقت الطائرة سحابة قاتلة , جعلت الغيوم حولها تتحول الى شاشة سوداء تستعيد عليها ذكرياتها , وكأنها ترى أحد الأفلام السينمائية تعرض أمامها , أنها تشاهد الآن رأس كريس بتاجه الذهبي الأحمر , معتمدا على كتف أليكس , ونظرة الذنب في عيونهما عندما عادت الى الغرفة في المرة الثانية , بصوت مسموع , ورأت نفسها في ردائها الأزرق , وقد نجحت في رسم أبتسامة عريضة على شفتيها , وسمعت صوت عمتها مرحبا:
" أهلا عزيزتي تينا , هل أعددت قهوة , أنني في حاجة شديدة الى فنجان منها!ّ".
ووضعت تينا القهوة في الفناجين الثلاثة ,قبل أن تتجه الى عمتها قائلة:
" كريس , هل يمكن حقا أن أذهب بدلا منك الى تلك البقاع؟!".
وأمسكت أنفاسها قليلا قبل أن تواصل كذبتها:
" كم أتمنى لو أذهب الى هناك؟".
وساد الصمت , وأنتابت الجميع دهشة كاملة , ثم قالت كريس:
" ماذا؟ ذلك ممكن طبعا , لكنني أعتقد أنك تكرهين السفر كما كنت تقولين..........".
فقاطعتها تينا وهي تحاول أن تتصنع اللباقة:
" نعم أعرف ما كنت أقول , غيرت رأيي الآن , وفي أي حال فهذه تقاليد العائلة , أليس من الطبيعي أن يكون كل آل دونيللي من المكتشفين ؟ عشت مستقرة في مكاني مدة كافية".
ورفعت يديها أمامها محاولة أن تزيد من أقناعهما , ونجحت في أن تكتم أنينا صامتا في صوتها وهي تستطرد:
" أنا الآن في مرحلة الشباب , وأشتاق الى أن أرى مزيدا من العالم , وأعتقد أنك تفهمين شعوري يا عمتي , أليس كذلك ؟ لعل اللهفة الى المغامرة والحنين الى الترحال يجريان في دمائنا , هل يمكن أن تساعديني على القيام بهذه الرحلة!".
وفي الحال , بدت الحماسة الشديدة على وجه كريس وقالت:
" بكل سرور يا عزيزتي , أذا كانت هذه حقا رغبتك , كنت دائما أتمنى أن يأتي هذا اليوم , كنت أعتقد أنك تكرهين فكرة السفر".
وتحول تعبير وجهها الى الدهشة وهي تردف:
" ولكن كيف حدث هذا التغيير المفاجىء ؟ منذ لحظات عندما أقترح أليكس الفكرة , خيّل ألي أنك ترفضينها بشدة , والآن تخبرينني أنك في غاية الحماسة للأشتراك في الوفد!".
ورأت تعبيرا على وجه تينا , جعلها تنقل نظرها الى باب المطبخ , الذي كان ما يزال يهتز , ولكن قبل أن تصل الى الربط بينه وبين ما حدث , أسرعت تينا الى النافذة , وجذبت الستائر التي تحجب الجو القارس في الخارج وأشارت قائلة بحماسة:
" أنظري الى الطقس".
ثم أضافت بصوت مسرحي أخاذ:
" من لا يرفض أن يترك هذا الجو الى شمس البرازيل الساطعة , أذا سنحت له الفرصة؟".
ونجحت الخدعة , منذ تلك اللحظة بدأ التخطيط أو التحايل كما أطلق عليه الدكتور أليكس , فقد صدم بتجاهل كريس لقواعد الأخلاقيات وهي تعد تينا لتحل محلها لدرجة أدهشته , فقد رفضت أن تخبر السير هارفي هانيمان بهذا التبديل , وعندما أعترض أليكس قالت بصوت صارم:
" لا , لن نخبره الآن , أنه راحل في الصباح الباكر الى الولايات المتحدة الأميركية , وهذا هو السبب في أنني قضيت اليوم كله معه لأنهي كل تنظيمات الرحلة , وسأشرح له ما حدث بعد عودته !".
وعاد أليكس يعترض:
" وماذا عن بقية أعضاء الفريق , ألن تكون مفاجأة لهم أن يجدوا شخصا غريبا عنهم تماما ينضم اليهم ؟".
فأجابته كريس بصوت منتصر:
" لن يعرفوا فأنا لم أقابل أحدا منهم , وتينا وأنا نحمل الأسم نفسه كريستينا دونللي , لن ينتبه أحد للتغيير , وكل ما يمكن أن أطلبه من تينا هو الصمت والأبتعاد قدر الأمكان عن أعضاء الفريق".