وأبتسم صاحب المرسى ونجح في مد أبتسامته الى خديه المترهلين وأضاف:
" أعتقد أنك حضرت الى هنا لأخلاء زورقك ستارفش , لقد أسفت جدا عندما أخبرني محاميك أنك سوف تؤجرينه".
" أعرف , ولكن لم تكن هناك فائدة من أبقائه هنا بدون أستعمال".
وأختفت أبتسامتها , كان التخلص من الزورق أشبه بأغلاق الفصل الأخير حول بليك من حياتها .
وقال صاحب المرفأ بأصرار:
" أنه زورق جميل , من يدري , لعلك تحتاجين اليه في يوم من الأيام".
وسعل قليلا وهو يدخل الغرفة الصغيرة ليأتي بالمفتاح.
وقالت دينا وهي تضحك :
" أنت تعرف أنني لست سباحة ماهرة يا كابتن تيت , وأحتاج الى زجاجة كاملة من حبوب دوار البحر لمجرد أن أخرج بها من المرسى من غير أن أصاب بالدوار!".منتدى ليلاس
وقهقه قائلا:
" وأنت تنامين طوال الوقت! لن أنسى تلك المرة التي جاء بليك من الزورق وهو يحملك وقد أستغرقت في نوم عميق , وقال لي فيما أنك لم تستيقظي حتى الصباح التالي".
" كانت هذه آخر مرة أقترح فيها أن أركب معه الزورق".
وأخذت المفتاح الذي أعطاها أياه , وبدأت الذكريات تتوارد على ذهنها وهي تحاول أن تزيحها بعيدا , وقال لها:
"هل تريدين أية مساعدة في أخلاء الزورق مما فيه؟".
" كلا , أشكرك , أستطيع أن أتولّى الأمر وحدي".
قالت هذا وهي لا تستطيع أن تتصور نفسها في القمرة الصغيرة مع كابتن تيت وكرشه البارز , ولوّح بيده المجعّدة وهو يقول:
" يجب أن تستدعيني أذا أحتجت الى أي شيء".
" أجل".
ولوّحت دينا بيدها وهي تسير في المرسى الطويل.
كانت الأعمدة الطويلة والقصيرة والمتوسطة تقف في صفوف متقطعة على طول المرسى , وقد طوى الشراع وأستقرت الزوارق ساكنة على صفحة الماء الهادىء , وقادت الذكريات خطواتها , وبرغم أنها لم تكن قد أبحرت مع بليك ألا نادرا بعد أول محاولتين فاشلتين لها في الأبحار , ألا أن دينا كانت غالبا ما تأتي الى المرسى لتنتظر عودته , أما الآن فأن بليك لن يعود.
كان أسم ستار فيش مكتوبا بحروف بارزة على ظهر الزورق الأبيض , وتوقفت دينا وأحسّت بضسق في حلقها , ثم خطت نحو ظهر القارب وهي تلوم نفسها , كان ظهر الخشبي قاتما ولم يعد لامعا متألقا كما كان بليك يحتفظ به , كانت هناك عقبات فانونية كثيرة تحيط بأختفاء بليك , ثم تحوّلت الى تعقيدات , عند أعلان نبأ وفاته , كانت مزرعته لم تتم تسويتها بعد , ولذلك لم يكن في أستطاعتها بيع الزورق حتى تصدر المحكمة قرارا بالتصرف في ممتلكاته.
كان الزورق ستارفيش مهجورا منذ أختفاء بليك , وكان كل شيء على ظهره في نفس المكان الذي تركه فيه صاحبه بعد رحلته الأخيرة , وفتحت دينا القمرة لتحزم كل حاجياته.
وعندما فتحت الأدراج والأبواب أدركت أن على ظهر الزورق أشياء أكثر مما توقعت , كان منظر أكوام الأطعمة المعلبة في الصوان يبعث السرور في نفس أي شخص يحب الطعام الجيد , فقد كان بليك دائما دقيقا في طعامه وفي الطريقة التي يعده بها.
كان أول أجراء هو أن تأخذ فكرة عامة عما يجب أن تفعله , وأستمرت في فحص محتويات القمرة , وبعثت الملابس النظيفة وأن كانت عفنة الآن , أبتسامة الى شفتيها , كان أمرا مضحكا أن تفتر ذاكرة المرء عن أشياء صغيرة على مدى فترة قصيرة لا تتعدى سنوات قليلة , أن نظرة واحدة الى ملابسه بعثت كل الذكريات , كان بليك دقيقا جدا في ملابسه ويبدو دائما نظيفا أنيقا , ولم تستطع طبقة الغبار الرقيقة أن تخفي البياض الناصع لحذائه المطاط ..... ولم تتذكر دينا مرة واحدة رأته فيها يرتدي ملابسه بطريقة يمكن أن توصف بأنها مهملة , وكان ذلك يضفي عليه قليلا من الغطرسة , ولكن هذه السمة لم تفارقه أبدا , وقد أعتاد بليط الأشياء الطيبة , منزلا جميلا وطعاما شهيا وملابس أنيقة خاصة , هل معنى هذا أنه كان مدللا أو متغطرسا؟ ربما هكذا أعترفت دينا ,كان أقرب الى فتى عابث عندما ألتقت به , يتمتّع بسحر مدمّر أذا أراد أن يتعمله , كان ذكيا ذكاء خارقا , منظما الى أقصى حد ومثيرا ومن الصعب الحياة معه , لم يكن مثل شت في أي شيء , هكذا أعترفت مرة أخرى , ولكن ما فائدة المقارنة بينهما ؟ وما الذي يمكن أن تكسبه من مقارنة حذلقة بليك الناعمة بطبيعة شت البسيطة؟ وهزت كتفيها عندما تشوشت أفكارها وأبتعدت عن الملابس حتى لا تفكر في الأسئلة التي لم تجد جوابا؟منتدى ليلاس
ظلّت تعمل على ظهر الزورق جزءا كبيرا من النهار , تحزم ثم تحمل أمتعة بليك الى السارة البورش , حيث كدستها في كل ركن من السيارة الصغيرة , وبعد ذلك بدأت تزيل آثار الغبار والملح اللذين تراكما على مر السنين , وعرضت الوسائد للشمس والهوا , ولمّعت كل الأجزاء الخشبية في الداخل , وبعد أن أتسخت ثيابها وتصبب منها العرق وشعرت بالأرهاق , أعادت المفتاح الى حارس المرسى المتجهم , ومع ذلك خففت هذه المهمة الشاقة عن نفسها , ومن الغريب أنها تركتها وهي تشعر بالأنتعاش , كانت في الأيام الأخيرة تبدّد كل طاقتها ذهنيا , وشعرت بالراحة في العمل الجسماني الشاق.
كانت تدندن لنفسها ندما أنعطفت بسيارتها البيضاء الى الطريق الذي تقيم فيه مع حماتها.
وعندما لمحت دينا السيارات الكثيرة الواقفة أمام المدخل قطّبت , وهدأت من سرعة سيارتها , وأضطرت الى تركها على مسافة من المنزل.