ودخلا في بهو طويل , أرضه من البلاط الأبيض ومضاء بالثريات البرونز المصقولة بأناقة , وبين الركائز والأعمدة سارا وعينا سوزان تنظران الى السقف في أنبهار أمام هذه العظمة الفنية , وهنا وهناك المرايا المحفورة الموضوعة على الأثاث العاجي والضخم...
وضع بيترو الحقائب وهو ينظر اليها نظرة متسامحة وقال في جفاف:
" أرى أنك تتحسنين الفن والهندسة المعمارية , تعالي الآن , يجب أن تحيي والدتي".
لم تحبذ سوزان هذه الفكرة وهي تنظر الى سروالها الأحمر المخملي الذي يبدو متناقضا مع هذا الأطار والجو , لكن كيف في أمكانها أن تتصور مسبقا ماذا ينتظرها !
وفي هذه اللحظة أنفتح باب على اليسار وظهر شبح طويل مشوه , فتقلصت سوزان وعرفت أنه صاحب المكان , صاحب قصر فالكونيه.
وبادىء الأمر جذبتها عيناه , تلك العينان الرائعتان , بلونهما الأخضر الفاتح , والمحاطتان برموش سميكة سوداء.
كانت تظن أنها سترى رجلا أصغر سنا , ذلك لأن بيترو في العشرين من عمره , وكانت تعتقد أن أبن خاله لا بد أن يكون في سنه , كلا , أن مارشيللو دي فالكونيه يبدو في الأربعين من العمر , وشعره الأسود السميك يحتوي على بعض الشعيرات الرمادية , أنه طويل أكثر من المعدل المعروف عند الأيطاليين ,وجسمه النحيف والمعضل يستند الى عكازتين , خطواته بطيئة وغير واثقة , ويبدو من تقلص ملامحه أنه يشعر بألم حاد , والكدمات في وجهه وعنقه تظهره غريبا وشيطانيا.
قال بيترو وهو يقترب نحو أبن خاله , مشيرا اى سوزان أن تتبعه:
" مساء الخير , يا مارشيللو , لقد وصلنا لتونا , أقدم لك.... صديقتي , سوزان هانت , سوزان ,هذا أبن خالي , الكونت دي فالكونيه".
منتدى ليلاس
قال مارشيللو في لغة أنكليزية جيدة جدا:
" مساء الخير يا آنسة , آسف أنني غير قادر أن أسلم عليك باليد , لكن , أهلا وسهلا بك في قصر فالكونيه".
قالت سوزان وهي تنظر الى بيترو في أنزعاج:
" شكرا , يا سيد فالكونيه ,أنني .... هذا لطف منك أن تسمح لي بالمجيء الى هذا القصر".
" والدتك في الصالون الصغير , يا بيترو , أنها تنتظر وصولك بفارغ الصبر , والآن أرجو أن تعذراني........".
كان يتكلم باللغة الأنكليزية , لكن بيترو قاطعه في شدة قائلا:
" سوزان تتكلم الأيطالية بطلاقة , فلا داعي أن تبرهن لها أن لغتك الأنكليزية رائعة".
أمام هذه الوقاحة المتعمدة , أكتفى مارشيللو دي فالكونيه بالنظر الى أبن عمته في سخرية وقال في لغة أيطالية:
" وهكذا تتمكن من أن تفهم ما نقوله يا بيترو , أليس كذلك؟".
تجهم وجه بيترو , لكن مارشيللو أكتفى بما قاله وبأشارة من رأسه أتجاه سوزان , ابتعد في خطوات متعبة.
فقال بيترو لسوزان , وهو يتأبط ذراعها:
" تعالي يا سوزان , من هنا الصالون الصغير".
وبينما كانت سوزان تمر في الغرفة التي خرج منها مارشييلو دي فالكونيه , أرادت أن تسرق النظر الى هذه القاعة , فلاحظت أن سقف الغرفة مرتفع وأثاثها معتدل , وأحد جدرانها مليء بالكتب المغلفة والموضوعة على سلسلة رفوف عريضة , ولما وصلا أمام الباب , ظهرت منه فتاة تتجاوز العاشرة من العمر وراحت تتعلق بعنق بيترو وتصرخ بفرح وأنفعال:
" بيترو! بيترو! تصورت أنك لن تصل بسهولة!".
وبعد العناق والقبل , وضع بيترو الفتاة أرضا وتوجه نحو أمرأة عجوز جالسة على مقعد قرب مدفأة حطب مصنوعة من الرخام , وقال بحرارة:
" كم أنا سعيد لرؤيتك يا أمي".
وفي هذا الوقت , ألتفتت الفتاة نحو سوزان غير قادرة أن تخفي فضولها , أنها فتاة عادية , بشرتها سمراء كما هي معظم سكان البلدان الحارة , وشعرها الأسود مسرح بلباقة ,لكن ملابسها غير لائقة بها , وتضيف لها عمرا , لدرجة الأهمال , كأن لا أحد يهتم بها كما يجب.
أبتسمت سوزان بقوة وقالت:
" صباح الخير , أدعى سوزان , وأنت؟".
وقبل أن تتمكن لفتاة من الرد , سمع صوت السيدة فيتاليه تقول:
" ايلينا! تعالي الى هنا , في الحال".
أطاعت ايلينا من دون تذمر ولحقت بعمتها , تاركة المرأة الغريبة وحدها على عتبة الباب.
وفكرت سوزان مندهشة : هذا ما يسمونه بالصالون الصغير , أنه كبير وشاسع كصالون فندق درجة أولى ... جدرانه مزينة باللوحات الخشبية المرسومة وجميعها تمثل مشاهد الصيد , وأمام نظرات السيدة فيتاليه المتعالية الجالسة في مقعد ضخم , المغلف بالسجاد العجمي والمصنوع من الخشب المطلي والملمّع , شعرت سوزان أنها تشبه الظبية التي يلحق بها عدد من الكلاب الجائعة.