لقد سلبت العاصمة عقلها مدينة رائعة الجمال أخذت تحدق في الأبنية والأبراج .
لم تأخذ اجازة منذ مدة طويلة وها هي الأيام تذكرها بأنها قد تعدت الثلاثين.. بعد ثلث ساعه شعرت بانتعاش، وارتشفت كوب من الشاي ..
كانت العاصمة تذكرها بذلك الرجل، الذي لم ينفك يراود أحلامها، ولا تتذكر من ملامحه سوى أصابع يده، وهو يشير إلى سيارتها..فأخذت تبتسم بحياء.. وشعرت بنبض قلبها يدق سريعاً
وأوحت لها الشقه بالرغم من بساطتها بالسلام والطمانينة، ولكن جاء
محله شعور بالكآبة و الهم من حيث لا تشعر،فأطلقت العنان لخيالها لم تكن تراودها أحلام كثيره في بناء العش الزوجي لا تدري
لماذا أحست عندما جاءت إلى العاصمة أنها نزلت إلى كوكب آخر لا يشبه ما هى معتادة عليه
كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، فقد رتبت الأوضاع ووجدت
مدارس قريبة لأخوتها، وبالذات لـ سيف وغاية ، اللذان يحتاجان الرعاية الخاصة من الحنان والعطف والحب، وهادي سيكون
في مرحلة أولى ثانوي، فقد حثته على أن يدرس صباحاً ويعمل مساءً
حتى لا يكون عرضة للانحراف، فالفراغ القاتل الرئيسي للشباب، نظرت إليه وقالت في سرها بعد ثلاث سنوات ستكون في سن الزواج،
حتى عبدالعزيز بإمكانه الآن أن يتزوج، فالرجل قادر أن يتزوج من أي عمر وجنسية، أما نحن الفتيات فـ صعب جداً الزواج إلا من نفس البيئة أو من نفس الجنسية، كان الأمر متعب لـ قلب ميّاسه
- ألو من؟ كانت تتكلم مقطبة الجبين بنرفزة شديدة
- حصة ! ههه هل نسيتني يا ميّاسه؟!!
- شعرت ميّاسه بعدم رغبتها أن تتواصل مع حصة،
فـ حصة نزعت ميّاسه من مكان صباها وطفولتها: أهلاً حصة سامحيني أنا مشغولة جداً البيت في حالة فوضى
- أوووه آسفة ولكن أردتُ الاطمئنان عليكِ فأنتِ لم تتصلي منذ ثلاثة أشهر
- ميّاسه تحاول أن تكتم غضبها وتصر على أسنانها :هذا لأننا كنا نبحث عن الشقة وننقل أوراق أخوتي لمنطقة التعليمية فاعذريني
- عذركِ مقبول..وإن شاء الله خير وبركة عليكم
- ردت ميّاسه بمرارة: إن شاء الله اعذريني يجب أن أغلق الهاتف الآن..
لأن ما أن اتصلت بها حصة؛ حتى تأجج قلبها ؛ فهى تشعر أن حصة تبطن أكثر مما تظهر، وحاولت أن تتناسى..
- من كان؟!
- أهلاً عبد العزيز هاه بشر ماذا فعلت بأوراقي؟!!
- اطمئني لقد وعدني صديقي بأن تعملي في شركة أدنوك فهم يحتاجونكِ
- اللهم آمين..هل أنت جائع وضعت يدها على كتفه تربت عليه بكل محبة
- ههه الآن الساعة قاربت العاشرة.. الأفضل أن نطلب الغداء من المطعم على فكرة أين أخوتي ثم نهض يبحث عنهم في الغرفة وقد حولها للعب خاص بهم
- في الغرفة الآخرى يلعبون وأكملت ترتيب باقي الشقة
- ماذا بشأن هادي فقد كبر ؟!
- ابتسمت له : أعلم لذا فكرتُ أن أجعله بعد العصر يعمل في شيء يحبه لنبعد عنه رفقاء السوء ، ولا أجعله يتسكع معهم
- تعلمين هذه المرحله خطرة كلنا نحتاج لرفقة
- أعلم لذا كل اسبوع سنتناقش معه ونصاحبه بالخير والحكمة
- إن شاء الله خير..على فكرة
- هههه لا أدري ما سر كلمتك " على فكرة"
- ههههه ليقال عني متطور
- الحمدالله أنت أفضل عن كثيرين من الشباب ثم ردت بتردد وقلبها يعصر ألماً : وربي يرزقك ببنت الحلال
- هههه أنتِ أولاً ثم أنا هكذا العُرف
- يا عبدالعزيز لا تقل ذلك الزواج قسمة ونصيب..كانت تتوق للزواج فخافت أن تفرط دمعه منها بدون قصد فهربت وغادرت الصالة للمطبخ
شعرت حصة بألم من ميّاسه و طريقة انهاء المكالمة، كانت تريد اخبار ميّاسه بحملها، وأخذت تتأمل سماعة الهاتف وتقلبها بين يدها حتى
دخل زوجها وهى واجمة المحيا..فاستعجب من أمرها ..
- ابراهيم : السلام عليكم..حصة مابكِ هل جاءتكِ مكالمة من أحدٍ ما؟!
- وهى تغالب دموعها: وعليكم السلام ..لا فقط اتصلت بميّاسه..ولم تمهلني لأخبرها بحملي
- اشمئز عندما سمع اسمها: أحسن.
- حصة بصدمة : أحسن!
- ابراهيم وابتسامة طفيفة : نعم أحسن ..لا أدري سر اهتمامكِ بها
- حصة بغضب : هى صديقتي !
- ابراهيم : يفضل أن تصادقي متزوجات مثلكِ ذلك أفضل ولاكتساب الخبرات
- حصة وهى تجرجر: الأفضل أن لا أتناقش معك في هذا الموضوع بالذات
ولا أعلم ما سبب عدم ارتياحك لها..وهى نعم الصديقة..ومن غبائي سمعتُ نصيحتك في أن أحثها بالذهاب إلى أبوظبي لتعمل هناك .. فقدتها وبيدي لا بيد عمرو
- ابراهيم : حصة ليس هناك داع لهذا اللوم والعتاب ..ذلك أفضل لكِ ولها
- حصة : ههههه أفضل!!.. سامحك الله ..ويارب تسامحني ميّاسه
- وضع يده على رقبته يكتم تهوره : تسامحكِ!! وماذا فعلتِ بها؟!!..بل يجب أن تشكركِ ستجد الحياة أفضل عن هنا..
- حصة : لن أتناقش معك سأنصرف هل تريد شيئاً..؟!
- ابراهيم: نعم أن لا تتصلي بها مرة أخرى
- حصة وهى تكظم غيظها: إن شاء الله!
أبوظبي ... في منتصف الليل .. على الشرفة شقة
كانت تتأمل ما حولها من الألوان الساطعة ببهجة وسرور والناس تمشي الهوينى..كل واحد في فلكه وسربه..
صحيح أن السيارات تسبب لها بعض من الضيق وعدم الإحساس بالهدوء.. ألا أنها كانت تشعر أن الفرج قريب..وأن الشعور بالألم سينتهي قريباً..وضعت يدها اليسرى على طرف الشرفة
وهى تحمل كوبها الأبيض المخطط بلون أسود بيد اليمنى، وترتشف من الكاكاو الدافئ واخوتها نيام..لا تدري كم فاتها من الوقت
وهى تتأمل هذه الألوان وتبتسم..كانت تظن أن لا أحد يراقبها فهى في الطابق الثالث..حتى شعرت بعيون سوداء ترتفع تجاهها..
كان يمشي ببطء وهو ممسك بـ يد أثنى أجنبية ذات ملامح طفولية ..
لم تكن شقراء بل ذات جمال ناعم جذاب متوسطة الطول وبعيدة عن النحافة المفرطة شعرها الناعم الفاحم
ينسدل حتى ظهرها باغراء يثير الإعجاب..وثوبها القصير فوق الركبة تتراقص حولها بفعل رياح ..
صدى ضحكاتها وصلت إلى ميّاسه لذا أطلت بدون وعي منها ، كانت تنظر تحت دون أن تنتبه إلى عيونه السوداء الفاحصة..ولم تعي أنها لم تضع خمارها..فتطاريت بضع من خصلات شعرها الطويل البني خارج الشرفة..فاندفعت إلى الوراء بخوف حتى كادت أن تصطدم بطاولة صغيرة.. فنطقت بأول كلمة
- حمقاء حمقاء هل نسيتِ أنكِ تعيشين في شقة بها طوابق متعددة كيف غاب عن بالكِ..
يا لوقاحة هؤلاء الشباب الذين يتباهون بفتيات الليل ..اللهم اهدهم واهدنا
حاولت أن تطل مرة ثانية فقد أصابها الفضول، تريد أن تنظر بشكل مستفيض، أين رأيت هذا الشخص، لا داعي أن أتذكر مستحيل
أن أتذكر ملامحه في الظلام..الأفضل أن أذهب إلى الفراش غداً يوم آخر..
حاولت ميّاسه أن تحث اخوتها على الإسراع فلم يتبق على بداية العام الدراسي إلا اسبوعاً واحداً،فقد وعدت سيف بأن يقضوا ما تبقى
من الإجازة في جزيرة من جزر أبوظبي الجميلة، رحلة استجمام واستعداد، لها ولاخوتها، فهى ستبدأ عملها بعد اسبوع وهذا ما جعلها تحس بالراحة والحيوية،
وقد رتبت كل شيء حتى تستطيع أن توازن بين حياتها الخاصة وحياة اخوتها الصغار..لا تدري كم مر على استقالتها
- امممم أعتقد مر على استقالتي ثلاثة أشهر اوووه كثير،
كل شيء يهون لأجل اخوتي فقد كنت أرتب الشقة وأبحث
عن من يستأجر البيت ومن غير أن لا يوجد موظفات
فالمتدربة تحتاج مني شهر حتى تفهم العمل ..
وسامح الله أبي وأختّيّ كان جل همهم أن يستولوا على الإجار، دون مراعاة لنا، ولذكريات أمنا الغائبة والحاضرة في القلب، والحمدالله أنني كنت قوية بعض الشيء واتفقت
أن يكون هناك محامي يرتب لنا الوضع، ومال الصغار في حسابهم الخاص حتى اشعار آخر..
ابتسمت ميّاسه في خفاء فهى لأول مرة تشعر بأنها قوية ولم تذرف دمعة واحدة عندما رأت أنانية الأب والأختيين..
وأختي ندى حتى الآن لم تتصل بنا وكل اتصالاتها السابقة تشتكي من خيانة زوجها لها، فهى في الخارج وتظن أن همومها أكبر من همومنا،
حتى أنها لم تتنازل عن مال الإجار بالرغم من ثراء زوجها الفاحش.ولكن لا تهمني مهما كان وضعها فهى ليست صغيرة.
كانت المياة قد بدأت تبرد وهى تغطس رجليها في البحر وتداعب أختها الصغيرة فجففت أختها وأخيها سيف ، وبعد ذلك جلست تتأمل غروب الشمس الوادعة بألونها البهية، حتى قال لها عبدالعزيز أنه سيأخذ اخوته لمكان اللعب وبعد أذان العشاء سنبدأ رحلة العودة ، فابتسمت له دون أن تنطق..واستأنفت في تأملها وهى تصرخ في داخلها
- ما أجمل الاسترخاء في هذا المكان ، ما أحوجني لذلك ليت كل اسبوع آتي إلى هنا، لعلي أطرد بعض من الكآبة الجاثمة على صدري، غريب أن لا صديقات لي سوى حصة، ولكنها تغيرت علي بعد الزواج، عليا لا أعلم من أخبارها شيئاً، أشعر بالوحدة القاتلة بالرغم أن حولي أخوتي وجل وقتي لهم،فما هذا الشعور بالوحدة إذن؟
كانت مستغرقة في تأملها حتى توارى لها من قريب صدى ضحكات أنثى، هى نفس الضحكات التي سمعتها تحت العمارة، فخافت أن تلتفت إلى الوراء تتبع صدى هذه الضحكة المجلجلة فقالت في سرها
- ليتني أضحك هكذا! هذه ضحكات من هى خالية البال والكآبة المغرقة ، وازدادت صدى الضحكات قرباً من ميّاسه،
حتى سمعت صوت رجل يشارك ضحكة تلك الفتاة المغناج، وهنا إلتفتت وجلة تحاول أن تبتعد عن هذا المكان الجميل والذي انقلب فجأة إلى مغص وتوتر حاد لأنها
لم تتوقع أن يكون هناك رجال على الجزيرة ظنت أنها لوحدها، ما أن استدارات حتى إلتقت العينان ببعضهما البعض دون قصد منها
- يا إلهي كأنه هو صاحب السيارة الزرقاء،فطأطأت برأسها على الأرض ثم أخذت تحث خطاها على الإسراع،
وهو لا يلقي لها بالاً ، معقولة سيلقي بالاً وعنده من تشغل لبه ووقته!!، نعم فتاة في آية الجمال ، ولأول مرة تراها ميّاسه عن قرب بالفعل إنها جميلة جداً، ويا للصدف الذي جمعها بهما، وخاصة هو! هكذا إذن هذا هو سبب كآبتي بالفعل كان يشغل حيزاً من أفكاري منذ شهور ، ولا أدري هل هو ساكن في نفس العمارة، أم هى فقط، ثم هزت كتفها بخفة تطرد الخواطر التي بدأت تتقاذف عليها، لا تريد أن تناقش ما رأته،
هذه هى المدنية يا معشر الشباب أن تتخذ لنفسك خليلة جهاراً نهاراً،
أشك أنها زوجته، أوووه يا نفسي اتركي عنكِ هذا الأمر ودعيني أفكر في المستقبل وكيف أستطيع أن أؤدي الأمانة الملقاة على عاتقي،
وليس هناك داع لهذه الدموع السخينة، فـلنفكر في الغد، ما إن اقترب اخوتها من الشالية حتى مسحت عن وجهها الدموع ورسمت ابتسامة شبه مشرقة ...وتعالت الأصوات ضاحكة مبتهجه بهذا اليوم الخاص