3- النوبة
كان سرير هيلين مريحا جدا , وذكرتها زجاجات المياه الساخنة بطفولتها عندما كانت والدتها تضعها في السرير وتحكي لها قصة قبل النوم.
لم تكن تتوقع أن تنام , لكن التعب عمل مفعوله! وعندما أستيقظت كانت الغرفة مليئة بضوء الشمس وأنعكاس الثلج , وللحظات لم تستطع أن تتذكر أين هي ولكن على الفور عادت كل الذكريات تتزاحم عليها ,وبرغم ذلك لم تكن تعرف بالضبط أين هي عدا أنها في منزل في منطقة البحيرات وتذكرت مضيفها وكل أحداث الليلة الماضية الغريبة.
ونظرت الى ساعتها " التاسعة والنصف تقريبا , طرقت عيناها بأستغراب ,فقد نامت أكثر من أثنتي عشرة ساعة , ودفعت الأغطية بعيدا وقامت من سريرها وسارت نحو النافذة , فالآن وفي ضوء النهار يمكنها أن ترى المكان وقد ترى منازل أخرى.
منتديات ليلاس
لكن المنظر أمامها كان مخيبا للآمال , فكل ما أستطاعت أن تراه هو حديقة خلفية مغطاة بالثلوج ووراءها حقول بيضاء , أما تحت نافذتها مباشرة فكان هناك فناء قام شخص بتنظيفه ولا شك أنه بولت , وكانت هناك آثار أقدام تدل على أن شخا ما قد خرج , أغلقت الستائر ونظرت الى الغرفة حولها , لم تكن أقل جمالا في ضوء النهار برغم أن الملابس الخارجة من حقيبتها كانت تبدو غير منظمة , كانت متضايقة في اليلة الفائتة ولم تستطع أن تفعل شيئا ألا أن تجد قميص نومها وتدخل في الفراش ,وتجاهلت الفوضى في حقائبها , ودخلت الحمام لتأخذ دوشا ,ولكنها لم تجد دوشا في الحمام فأغتسلت وعادت الى الغرفة لترتدي ملابسها , وبينما كانت تلبس سروالا برتقاليا مضلعا سمعت طرقة خفيفة على الباب , وخفق قلبها بشدة ووقفت ساكنة للحظة تتساءل من الطارق.
ثم سمعت صوت بولت المطمئن:
" آنسة جيمس ؟ أنسة جيمس , هل أستيقظت؟".
" نعم... ماذا تريد؟".
" أحضرت لك أفطارا يا آنسة , فكرت أنك قد تكونين جائعة".
ترددت هيلين , خطر لها أن تأمره بالذهاب وأن يخبر سيده أنها مضربة عن الطعام حتى يتركها تذهب ولكنها فكرت أن هذه الطريقة لن تجدي مع رجل مثل دومينيك لاول , أنه يستطيع أن يتركها حتى تسقط من الأعياء قبل أن يفكر في الأهتمام بها , وحتى في هذه الحالة فهي تشك أنه سيستلم لطلباتها .
فصاحت وهي تسحب بسرعة بلوفر أخضر وتدخله في رأسها:
" لحظة واحدة".
وفتحت الباب وهي تخرج شعرها من فتحة البلوفر , كان بولت أمام الباب بجسمه الضخم الذي أصبح معروفا لها وأكمام قميصه مطوية فوق ذراعيه وقد ظهرت عضلاته البارزة من تحتها , لم يكن يشبه مدبرة منزل ومع ذلك فالصينية التي أحضرها ووضعها على المنضدة قرب سريررها كانت منسقة أحسن تنسيق.
وقال بأبتسامة ساخرة:
" كورنفليكس وبيض وشرائح الخبز والمربى وقهوة , هل هذا يعجبك؟".
نظرت الى الصينية ثم الى بولت وأحمر خدها قليلا ثم قالت بصراحة:
" عظيم- أنني أموت من الجوع!".
قال بولت بلهجة جافة :
" السيد لايول كان يظن ذلك".
أطبقت شفتا هيلين :
" أوه... هو يظن ذلك؟".
وتنهد بول ثم قال:
" الآن هل ستطلبين مني أن آخذ كل شيء ثانية؟".
ترددت هيلين ثم قالت بتمرد:
" ليتني أفعل....".
" هل ستقطعين أنفك لتغيظي وجهك؟ السيد لايول لن يهمه أذا جوّعت نفسك".
وهزت كتفيها قائلة:
" أعلم ذلك".
" أذن لا تكوني عنيدة , تناولي أفطارك وسأحضر لآخذ الصينية فيما بعد".
نظرت هيلين الى الخادم الضخم بشك:
" الى منى يريد...".
ورفضت أن تنطق اسم السيد لايول :
" الى متى ينوي أبقائي هنا؟".
سار بولت نحو الباب وقال ناصحا وهو يخرج:
" تناولي أفطارك يا آنسة".
بعد أن أغلق الباب نظرت هيلين بعجز نحو النوافذ , لماذا أفترضت أن بولت يتعاطف معها؟ كان يجب أن تعرف أنه لا فائدة من كسب ثقته.
وفي أي حال فأن رائحة الطعام في هذه اللحظة كانت أقوى من أن تقاوم , رفعت الأغطية وأندفعت تأكل بنهم , كان أفطارها المعتاد , الخبز المقدد والقهوة , لكنها اليوم أكلت كل ما أحضره بولت وكانت القهوة جيدة فشعرت بالشبع الطيب , بعد أن أنتهت من طعامها قامت وذهبت مرة أخرى الى النافذة , ما المفروض أن تفعل الآن؟ قال بولت أنه سيحضر ليأخذ الصينية فهل هذا يعني أنها يجب أن تبقى في غرفتها؟ كان كل كيانها يتمرد على هذه الفكرة , وبرغم كل الجوانب السيئة في وضعها فأن الصباح كان جميلا , وكانت تتمنى أن تخرج في الهواء الطلق ... فكرت في الفندق الصغير في باونيس الذي كانت تنوي الذهاب اليه , كانت تنوي أن تقضي أيامها في التنزه وقيادة السيارة وتتمتع بالتحرر غير العادي من سيطرة والدها المتزايدة, لكنها الآن تبدو في وضع أسوأوقيود أشد كثيرا مما يمكن أن يتصور والدها.
وجعلها تفكيرها في والدها تتساءل أذا كان قد أستلم الكلمة التي كتبتها له , لقد وضعتها في صندوق البريد في لندن اليوم السابق وهي في طريقها الى الشمال , لم تكن تريد أي أختام بريدية تبين وجهتها , أما الآن فهي تتمنى لو لم تكن قد أخفت آثارها بكل هذه الدقة.
لن يحلم أحد بالبحث عنها هنا , وحتى لو فكروا فكيف سيجدونها ؟ أذا كان دومينيك لايول قد عاش هنا في عزلة السنوات الفائتة فأن أحدا لن يفكر في تعكير عزلته الآن ,وفي الواقع أنها تشك أن أحدا يعلم بوجوده أصلا...
وقطبت جبينها لكن لا بد أن أحدا يعلم بوجوده , لا بد أن هناك من يمدهم بالطعام ,وماذا عن البريد؟ أرتفعت روحها المعنوية قليلا , أذا كانوا سيبقونها هنا فلا بد أنهم سيحتاجون لمؤن أكثر وسيلاحظ من يمولهم بمواد البقالة ذلك.
تنهدت , ولكن بولت يستطيع أن يقول أن لديهم ضيفا ولن يشك أحد في كلامه , أن فرصتها الوحيدة في هذا الأتجاه تبدو في حضور أحد الى المنزل , ساعي البريد على سبيل المثال.
وأخذت تفكر في طرق تلفت النظر اليها , رافضة أن تفقد الأمل , كانت ذكية بما فيه الكفاية لتعرف أن دومينيك لايول لن يسمح لأحد أن يراها , لذلك كان يجب عليها أن تبحث عن المساعدة بطريق آخر , يمكنها مثلا أن تكتب ورقة وتلقيها من النافذة العليا .... لا .... ستختفي تحت الثلوج أو سيطيرها الهواء , وقد تكون هذه فكرة جيدة ..... لكن شعورا باليأس ملأ نفسها فأي عنوان يمكن أن تكتبه؟ أنها لا تعرف أين هي ولا أين يوجد هذا المنزل؟ تفكيرها لا يسفر عن نتيجة , أنها لا تستطيع حتى أن تتذكر أسم القرية التي سألت فيها عن أتجاهها اليوم السابق.
عاودها الأمل مرة أخرى , نعم الناس في تلك القرية , مدير مكتب البريد قد يتذكر سيدة صغيرة غريبة تسأل عن الطريق , بالتأكيد لا يأتي غرباء كثيرون الى هذه المنطقة في هذا الوقت من السنة , نعم أنها متأكدة أنه لو سئل سيتذكر وسيدلهم على الأتجاه الذي ذهبت فيه.
وتقلصت يداها في جيبيها , أنها تبحث عن ذرة أمل في موقف يائس ,ولكنها لا تخدع أحدا ,كل شيء متوقف على بحث والدها عنها , وقد قرر أن ينتظر ليرى الى متى ستتغيب عن المنزل ولكن أذا بحث عنها وأستنفد الأماكن التي قد يتصور أن يجدها فيها , ثم فجأة تذكر الأجازة التي قضياها في منطقة البحيرات وأتجه شمالا ووجد القرية التي سألت فيها...
وسمعت طرقة على الباب مرة ثانية:
ط نعم؟".
فتح بولت الباب وأطل برأسه:
" هل أنتهيت؟".
هزت هيلين رأسها وأشارت الى الصينية :
" نعم أشكرك كان الطعام لذيذا – وقد أكلته بنهم".
وضحك بولت:
" هذا حسن , كل شيء يبدو أكثر أشراقا عندما تكون المعدة مليئة".
" هل تظن ذلك؟".
وفتح بولت الباب ودخل:
" بلا شك- هل ستنزلين الى الطابق الأرضي؟".
" هل مسموح لي بذلك؟".
" يمكنك أن تفعلي ما تريدين يا آنسة".
" هل هذا صحيح؟ أين... أين مخدومك؟".
ورفع بولت الصينية :
" أنه في المكتبة يا آنسة- يستحسن عدم أقلاقه".
ونظرت الى أعلى :
" هل تصورت أنني قد أقلقه؟".
وهز بولت كتفيه ثم نظر الى حقائبها غير المنظمة ثم قال:
" سأتولى أمر أغراضك فيما بعد عندما أرتب السرير".
" لا... لا ... تتعب نفسك".
" أن ذلك لا يتعبني يا آنسة".
" أستطيع أنا أن أرتبها".
لم يرد بولت على ذلك وسار نحو الباب .
" أنه يوم جميل- ألا تحبين الخروج؟".
وحملقت فيه هيلين:
" في الخارج ؟ ماذا يقول الرجل في ذلك , قد أهرب....".
كان تعبير بولت ساخرا:
" لا أنصحك بالمحاولة يا آنسة , أن شيبا مدربة على أصطياد الغزلان ولا أحب أن أراك فريسة لها".
صاحت هيلين رغما عنها:
" أذن من حسن حظي أنك لم تكن معنا بالأمس".
قالت وهي تقشعر عند تذكرها لحوادث الأمس المخيف.
" نعم , لقد سمعت يا آنسة".
قالها بولت وهو ينصرف بأيماءة خفيفة برأسه.
ونظرت هيلين حول الغرفة ثم تبعته على السلالم العريضة الى البهو المشمس في الطابق السفلي , ودخل بولت من باب مغطى بالمخمل الأخضر خلف السلالم فدخلت بدون تفكير وراءه.
ووجدت نفسها في مطبخ فسيح, الأرض مغطاة بالخشب تلمع من كثرة تنظيفها , وبرغم أن المطبخ كان قد تم تجديده بألواح صلب وبحوض من الصلب ألا أن الفرن الضخم الذي كان آداة الطبخ الوحيدة فيما مضى بقي كما هو ., كذلك المدفأة من الرصاص الأسود , والنار تزأر فيها , وكان هناك باب مفتوح يؤدي الى المخزن.
ووضع بولت الصينية على لوح التصفية وبدأ يضع الأطباق المستعملة في الحوض , ونظر الى هيلين وهو يبتسم قائلا:
" لا بد أنك تظنين أن هذا العمل غير معتاد بالنسبة الى الرجل , أليس كذلك؟".
هزت هيلين كتفيها بلا تحديد , وذهبت ناحية المنضدة الخشبية النظيفة التي تتوسط المطبخ , ثم قالت بصراحة:
" لا أظن أنه عمل غريب بالنسبة الى رجل هذه الأيام , ولكنني أعترف أنك لا تبدو الشخص المناسب لهذا العمل".
وضحك بولت قائلا:
" لا... لا أظن أنني كذلك".
ونظرت اليه هيلين:
" ولكن هذا لم يكن عملا دائما.... أقصد أن هذا ليس عملك الوحيد, أليس كذلك؟".
" أنه الآن".
وقال بولت وهو يغمس يديه في صابون الحوض:
" ولكن أظن يمكنك أن تعتبريني صاحب سبع مهن , ففي ابدابة كنت في الجيش وألتحقت به وأنا ما زلت صبيا , ثم عندما تركت الخدمة عملت مصارعا لفترة ,ولكن هذا العمل كان مملا ولم يعجبني , ثم أصبحت ميكانيكي سيارات ".
ثم توقف لحظة وأستطرد:
" والآن أنا مدبر منزل".
وتجرأت هيلين وقالت:
" أنك تحب مخدومك كثيرا... أليس كذلك؟".
قال بهدوء وتأكيد:
"أنه رجل عظيم ".
قالت هيلين:
" نعم . .... ولكن أعذرني أذا أحتفظت بحكمي لنفسي- وهل تعرفه من مدة طويلة؟".
" من حوالي عشرين سنة".
" ولكنك لم تعمل لديه كل هذه المدة؟".
" لديه أو من أجله هذا لا يهم , كان والده هو الضابط الذي أعمل تحت أمرته في الجيش".
" آه.... فهمت".
زذهبت هيلين نحو الحوض , كانت النوافذ العريضة تطل على فناء خلف المنزل وعلى جانبيه بعض السقائف والمباني البسيطة.
وقالت وهي تحاول أن تجعل سؤالها يبدو عاديا:
" أخبرني ... كيف تحضرون المؤن , الأشياء الطازجة مثل اللبن والبيض , وماذا عن الرسائل؟".
" بالنسبة الى الرسائل فأننا نحضرها من صندوق بريد خاص بنا".
هكذا أجاب بولت بهدوء محطما كل آمالها في هذا الأتجاه.
" ولدينا بقرتان وبعض الدجاج ... وفي الصيف تزرع خضرنا وفاكهتنا ونجلدها لنستعملها فيما بعد , لدينا أكتفاء ذاتي , وحنى خبزنا فأنا أقوم بخبزه , لكن لماذا تسألين؟".
" الآنسة جيمس تبحث عن طرق لتتغلب بها علينا يا بولت".
هكذا علق صوت متكاسل ساخر من خلفهما , وأستدارت هيلين فوجدت دومينيك لايول يستند بلا مبالاة على الباب , كان قد عاد الى ملابسه السوداء ,وبرغم لون شعره الفاتح كان مظهره شيطانيا لدرجة مقلقة , وأحنى رأسه بأدب نحو هيلين وأستطرد قائلا:
" صباح الخير يا آنسة جيمس , أظن أنك نمت جيدا , أخبرني بولت أنك كنت مستعدة لتناول أفطارك , هل أستمتعت به؟".
كانت هيلين تتمنى لو أستطاعت أن تقول له أنها لم تذق طعامه ولكن هذا كان مستحيلا بالطبع , وبدلا من ذلك حاولت أن تتخذ موقفا متحديا.
" ماذا تظن أن والدي سيفعل بالضبط , عندما يكتشف بعد حين أنك أستبقتني هنا رغما عني؟".
أعتدل دومينيك وقال:
" أتصور أن هذا سيخلق متاعب لك".
صرخت هيلين بدهشة وأستنكار:
" لي- أنا ! تقصد لك!".
" لماذا يخلق لي متاعب؟ لن أكون موجودا هنا بل أنت".
تحمست هيلين قائلة:
" هل تظن أنه سيترك الموضوع هكذا ببساطة؟ أنه سيجدك أينما كنت".
قال دو**** بسخرية:
" حقا؟ أعذرني أذا كنت أشك بقدرات في مجال البحث والتحري , أذا كان وسط الصحافة بأكمله لم يستطع أكتشاف مكاني منذ عدة سنوات , فلا يمكن أن أشعر بقلق كبير بخصوص جهود والدك".
" يستطيع أن يعطي القصة للصحافة! ويستطيع أن يستأجر أي عدد من المخبرين".
" هل يستطيع ذلك؟".
وقال مفكرا:
" هذا جدير بالأهتمام ,وخاصة أنه يصدر من أنسانة كانت بالأمس فقط تحاول أن تؤكد لي أنني أذا تركتها تذهب فلن تخبر أحدا بمكاني".
أندفع الدم في وجنتيها وردت قائلة:
" كنت أعني ما أقول؟".
" حقا؟ ولكنك الآن غيرت رأيك".
" نعم ... لا ,.... أقصد...".
وبحثت عن الكلمات .
" أحاول فقط أن أبين لك أنك أذا وقفت في طريق والدي فستدفع الثمن".
وهزت هيلين رأسها بعجز:
" لا توقعني في الكلام , أذا تركتني أذهب سأنسى أنك هنا ... أما أذا لم تفعل .... فأنا لست مسؤولة عن النتائج".
ولوى دومينيك شفتيه :
" نعم... هذا طريف جدا , بالتأكيد".
ثم نظر الى بولت قائلا:
" هل تظن أننا نستطيع أن نشرب القهوة ,أود أن أستريح قليلا".
ووافق بولت قائلا:
" بالطبع".
وجرت هيلين قدميها وهي تشعر كطفلة متعبة.
نظر دومينيك الى وجهها العابس وأقترح بهدوء:
" هل تشربين القهوة معي؟".
حملقت فيه وردت بوقاحة:
" لست عطشى!".
" كما تشائين ".
هز دومينيك كتفيه وخرج وترك الباب ينغلق وراءه , وعندما خرج تمنت هيلين لو لم تكن قد تصرفت بهذا التعجل , فرصتها الوحيدة في الهرب تكمن في محاولة أقناعه بتغيير رأيه وطالما أنها تتصرف كتلميذة صغيرة مددلة فلن تتمكن من الوصول الى هدفها.
وجلست بضيق على طرف أحد الكراسي الخشبية أمام المنضدة النظيفة وأخذت تراقب بولت وهو يعد القهوة ويضع فنجانا وحليبا وسكرا على صينية من الفضة
وأتجهت نظرة بولت اليها مرة , ثم كأنه شعر بالشفقة عليها قال:
" هل تريدين تقديمها؟".
نظرت اليه قائلة:
" ماذا تعني؟".
" تعرفين ما أعني , صينية القهوة هل تريدين أخذها للسيد لايول؟".
هزت كتفيها ثم قالت بضيق:
"أن أردت".
نظر بولت الى وجهها المكفهر وقال:
" هل تريدين نصيحة مني؟".
فقطبت جبينها :
" أي نوع من النصيحة؟".
" لا تكثري من التهديدات , السيد لايول ليس ذلك الصنف من الرجال الذي يتقبل هذا الموقف ببساطة".
" آه.... حقا؟".
ورفضت هيلين أقتراحه بأن السد لايول يجب أن يطاع دائما .
" وماذا تريدني أن أفعل؟ هل أجلس وأنتظر حتى يقرر أن يتركني أذهب؟".
" قد يكون هذا أفضل شيء تفعلينه ".
" لا بد أنك تمزح".
وهز بولت كتفيه العريضتين:
" لا تقللي من شأنه يا آنسة جيمس , لا تظني خطأ أن أصابته تنقص من رجولته".
أحمر خداها وقامت واقفة:
" لا أفهم ماذا تعني؟".
" أعتقد أنك تفهمين".
وقال وهو يصب القهوة :
" أن كونه يقضل العيش هنا بمفرده لا يعني أنه لا يشعر بالأحتياجات الطبيعية لأي رجل !".
أحكمت قبضتها وقالت بغبط:
" كنت أظن أنك تستطيع أن تسد جميع أحتياجاته يا بولت!".
نظر اليها بولت نظرة طويلة متفحصة:
" لا يا آنسة جيمس , أن السد لايول ليس ذلك النوع من الرجال".
لم تعرف هيلين أين تخفي وجهها , لم تتصرف بهذه الطريقة السيئة من قبل , وكون بولت الذي عاملها بمنتهى الطيبة والعطف كان هو الذي حمل ثورتها وسوء أدبها تشعر بالخجل الشديد.
وصاحت وهي تضغط يديها على خديها الملتهبين :
" أنني آسفة , أنه خطأ لا يغتفر".
وضع بولت الغطاء على أبريق القهوة ودفع الصينية أمامها عبر المنضدة وقال برقة:
" أعصابك مشدودة , أرجو أن تهدئي نفسك , لا شيء من السوء بالدرجة التي تتوقعها , والآن هل ستدخلين القهوة للسيد لايول؟ ستجدينه في غرفة الجلوس وقد وضعت قدحين من باب الأحتياط".
سقطت يداها الى جانبيها وأبتسمت قليلا:
" أنك لا تستسلم أبدا , أليس كذلك؟".
" لنقل أنني متفائل بطبعي , هل تعرفين من أي باب تدخلين؟".
هزت رأسها بالأيجاب:
" أظن ذلك".
ألتقطت الصينية وسارت الى باب المطبخ ثم أستدارت قائلة:
"أشكرك يا بولت".
" أنه جزء من عملي".
عندما فتحت هيلين باب غرفة المعيشة وجدت دومينيك لايول مستلقيا على الأريكة وعيناه مغلقتان , ولكنه فتحهما عند دخولها وعندما رأى أنها هي التي تحمل صينية القهوة أنزل ساقيه الى الأرض وحاول القيام , ولكن وجهه تقلص من المعاناة وسقط مرة أخرى على الأريكة ويده تضغط على جبهته من الألم.
وحبست هيلين أنفاسها ثم وضعت الصينية وأسرعت اليه قائلة بقلق:
" هل أنت بخير؟".
سقطت يده الى جانبه وأطبق فكه بمرارة وهو ينظر اليها ثم قال بتجهم:
" نعم... أنني على خير ما يرام – أشكرك".
وقفت هيلين بتردد تحدق فيه وتفرك يديها بقلق – كان يبدو شاحبا ومتعبا وتمنت لو أستطاعت أن تفعل شيئا من أجله – أن رؤيتها له في هذه الحال لم تخفف بأي شكل من ضيقها برغم أعتقادها أن ذلك كان المفروض أن يكون شعورها- أنهما عدوان برغم كل شيء وكان المتوقع أن تشعر بالسعادة لأن القدر يقتص منه بطرق أخرى , ولكن هذا لم يكن شعورها , كل ما شعرت به هو أحسا مقلق بالعطف عليه ووعي متزايد بأنجابها اليه .
صاح بخشونة:
" بحق الله لا تحملقي فيّ هكذا كأنك لم تري مثل هذه البشاعة من قبل؟ أنني أعاني من الصداع النصفي- هل تفهمين؟ صمن أشياء أخرى!".
ولوى شفتيه .... ثم تحركت هيلين بقلق تحت نظراته الصفراء مع أنها رأت أنساني عينيه يصبحان كالزجا وحبات العرق تنضح على جبهته بعد المجهود الذي قام به في محاولة القيام.
وقالت محاولة مسادته :
" هل هناك شيء أستطيع عمله؟".
نظر اليها بأحتقار ثم سألها:
" ماذا تقترحين؟ رصاصة في رأسي أم طعنة؟".
أجابت بسرعة وهي تنظر بعجز حول الغرفة:
"لا هذا ولا ذاك- هل لديك دواء تتناوله؟ أأستدعي بولت؟".
وافق أخيرا وهو يغلق عينيه:
" لديّ أقراص".
" أين هي؟".
" لست مضطرة لأن تساعديني – بولت يمكنه أحضرها".
صاحت فيه :
" بحق السماء- سأحضرها- أنني أريد ذلك- فقط أخبرني أين هي".
وفتح عينيه قليلا وهو يسند رأسه على الوسائد- للحظة نظر اليها من خلال رموشه الكثيفة , كانت تجربة مقلقة- جعلت أطرافها تتخاذل والدم يجري بسرعة في عروقها.
ثم أغلق عينيه مرة أخرى وقال:
" أنها في زجاجة في الدرج العلوي لمكتبي".
تحركت هيلين ثم توقفت بتردد : أين مكتبه؟ هل كان يعني ذلك المكتب في ركن الغرفة , المكتب الذي رأت صورة الحادث فوقه؟ عندما بدأت تسير نحوه قال بتعب:
" مكتبي في غرفة المكتب".
" غرفة المكتب!".
ترددت هيلين أين غرفة المكتب؟ فتحت فمها لكنها صمتت , لا بد أنها تفتح على الصالة وقد أصبحت تعرف أغلب الأبواب المطلة على الصالة.
خرجت بسرعة من الغرفة سعيدة لأن الفهدة لم تكن موجودة ثم نظرت حولها , ولاحظت بسرور أنه لم يكن هناك سوى باب واحد عدا الأبواب المعروفة لديها , أدارت المقبض ونظرت الى الداخل , هناك مكتب ضخم من خشب الماهوغني , عليه كثير من الأوراق والكتب , وعلى أحد جوانبه آلة كاتبة , لكن المكتب لم يكن هو الذي أستحوذ أهتمامها ,بل فوق أفريز الشباك – مخبأة تقريبا بالستائر الحمرار الثقيلة – ألة تليفون!
وكان أول رد فعل لها هو أن ترفع السماعة وتستغيث ولكن الأحداث الأخيرة علمتها أن تكون أكثر حذرا , أذ لو تأخرت ولو قليلا لأجراء مكالمة تلفونية فأن دومينيك لايول سيشك فيها وأذا حضر وراءها ... كما أن بولت لا بد سيحضر ليأخذ الصينية فأذا علما أنها تنبهت لوجود التلفون لن يكون لديها الفرصة لأستعماله ولكن أذا أظهرت أنها لم تره...
أبعدت عينيها عن تلك الصلة المغرية بالعالم الخارجي , ثم ذهبت الى المكتب وجلست على الكرسي الجلدي البني خلفه , لا عجب أذن أنه لم يكن يريدها أن تحضر له الأقرا , ولكن من الواضح أن حاجته الشديدة تغلبت على حسن تقديره , وتذكرت وجهه الذي مزقه الألم ففتحت درج المكتب الأعلى على الجانب الأيمن , وبرغم أن مشاعرها كانت ثائرة ضده لموقفه منها لم تستطع تجاهل آلامه.
ونظرة سريعة الى الدرجالذي فتحته أكدت لها عدم وجود زجاجة الأقراص فيه أغلقته ثانية ثم فتحت الدرج الأيسر فوجدته مليئا بالملفات ولكن في أقصى الداخل وجدت ما كانت تبحث عنه , زجاجة بنية فيها أقراص بيضاء.
ونظرت بدون فهم الى الأوراق المكومة على المكتب ثم أغلقت الدرج وقامت لتذهب ,عندما وصلت الى الباب كان بولت خارجا من المطبخ , تخاذلت ركبتاها عندما فكرت أنها لو أستعملت التلفون لضبطها بولت , وقطب جبينه عندما رآها تغلق باب غرفة المكتب وقال:
"هل تبحثين عن شيء يا آنسة؟".
أحمر خداها وبدا عليها الشعور بالذنب , ورفعت يدها بالزجاجة وقالت وهي تشير ناحية غرفة الجلوس متظاهرة بالثبات:
" مخدومك مصاب بصداع نصفي وقد أحضرت له الدواء".
قال بولت وقد بدا عليه الأهتمام:
" آه ... سأحضر بعض الماء".
تحرك كتفاها رغما عنها وقالت برعشة :
" أذا أردت".
وعاد بولت الى المطخ ودخلت هي غرفة الجلوس , كان دومينيك لايول ما زال مستلقيا على الأريكة وعيناه مغلقتان , أجبرت نفسها أن تتذكر أن هذا هو الرجل الذي يبقيها هنا رغما عنها.
وسارت نحو الأريكة ونظرت اليه قائلة بهدوء:
" هل هي الأقراص , بولت سيحضر لك بعض الماء".
وفتح عينيه التعبتين , وقال وهو يرفع نفسه ويأخذ الرزجاجة:
" أشكرك, أنها غلطتي لقد أجهدت نفسي في العمل".
وقطبت هيلين وهي تراقبه يفتح الزجاجة ويخرج منها قرصين.
" في العمل؟"
ونظر الى أعلى ورد:
" نعم – في العمل – هل ظننت أنني أقضي وقتي بالتكاسل؟"".
وهزت كتفيها وسارت بعيدا عن الأريكة , كانت نظراته تتغلغل فيها من ههذه المسافة القريبة حتى وهو في حالة ضعفه.
وأجابت غير صادقة:
" أنا.... لم أفكر في الأمر".
وأنفتح الباب ودخل بولت وهو يحمل أبريقا وكوبا , وسار على الفور الى الأريكة ونظر الى دومينيك برقة ونفاذ صبر .
قال وهو يصب له بعض الماء:
" خذ هذا وأظن أنك يجب أن تستريح في الفراش".
ألقى دومينيك الأقراص في فمه ثم أبتلعها ببعض الماء وأعاد الكوب لبولت قائلا بجفاف وهو يمسح فمه بظهر يده:
ط لا أظن ذلك".
ونظر اليه بولت بلؤم :
" أنت تعرف أنك يجب أن تذهب الى الفراش".
ونظر دومينيك بسخرية في أتجاه هيلين وقال:
" ماذا تقول؟ وأترك ضيفتنا تتناول القهوة بمفردها؟".
وشهقت هيلين بسخط ولكن بولت هز رأسه قبل أن تقول شيئا وقال بحزم:
" أذن بعد القهوة".
ولكن دومينيك أغلق عينيه مرة أخرى كأن مجرد فتحهما يتعبه ثم قال بتسليم:
" حسنا- سأخبرك".
وتنهد بولت وبسط يديه نحو هيلين في حركة عاجزة , أحست بشعور سخيف من التحالف مع بولت في قلقهما المشترك على الرجل , وقال دومينيك فجأة وبعنف كأنه على علم تام بالعلاقات الصامتة بينهما:
" بحق السماء- كفا عن هذه الأشارات التي تخفيانها عني".
وسار بولت فجأة نحو الباب وهو يقول:
" سأحضر بعد خمس عشرة دقيقة".
بعد أنصرافه وقفت هيلين في مكانها تتساءل :
" لماذا لم تذهب هي أيضا ".
فمن الجائز أنه سيذهب الى فراشه لأن هذا في النهاية هو أضمن علاج للصداع , مجرد التفكير فيه في قراشه جعل السخونة تسري في جسمها , كان ضعفه المؤقت مغريا بشكل خطير , وأجبرت نفسها أن تتذكر أنه كالحيوان المفترس الذي يحتفظ به ويدللفهو بلا رحمة , ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته , ومع ذلك كان قميصه مفتوحا حول رقبته , وكانت ترى بدايات الشعر الذي ينمو أسفل عنقه ,وشعرت برغبة قوية في أن تلمسه , وودت لو أستطاعت أن تدلك جانبي رأسه بأطراف أصابعها وترى عضلاته تسترخي تحت يديها.
وفتح عينيه فجأة فوجد عينيها عليه , قال آمرا:
"أجلسي- أنني أستطيع أن أتحمل , لن يغمى علي أو أي شيء سخيف من هذا القبيل".
وأخفت جفونها نظرتها المكشوفة وأنتقلت بصعوبة الى الكرسي الذي يواجه المدفأة وجلست على حافته وهي تدفىء يديها , وفكرت أنه من الأفضل أن تستعمل التلفون بمجرد أن تستطيع ذلك , أذ بدأت تهتم بدومينيم لايول أكثر من اللازم.
وعندما تذكرت التلفون أخذت تفكر في الوقت المناسب لأستعماله , الوقت المضمون يبدو بعد ذهابه للنوم هذه الليلة ألا أن العائق الوحيد قد يكون أنطلاق شيبا في ذلك الوقت.
أيقظها صوته الهادىء من أفكارها فجفلت بعنف:
" ماذا ؟ آه.... أذا أردتني أن أفعل".
وأستدارت ناحية المنضدة المنخفضة ووضعت الأقداح في أطباقها بقرقعة عالية , أنعشتها رائحة القهوة ولكن يديها كانتا ترتعشان وهي تحمل الأبريق.
" حليب وسكر؟".
" لا- كما هي".
أجاب وهو يعتدل في جلسته ليتناول القدح الذي قدمته له.
" أشكرك".
وصبت القهوة لنفسها ووضعت السكر وأخذت تقلبه بشدة.
وسألها فجأة :
" لماذا غيرت رأيك؟".
" غيرت رأيي ؟ عن أي شيء؟".
وللحظة أختلط عليها الأمر .
" بالنسبة لشرب القهوة معي".
" آه.... فهمت".
قالت وهي تتنفس برعشة وهو ت كتفيها:
" كان يبدو من غير المجدي أن أدع أي فرصة لأقناعك بتغيير رأيك".
وضاقت عيناه:
" هل تعنين أنك تستطيعين ذلك؟".
وضعت قدحها الفارغ بحركات مضطربة:
" لا أعلم".
" ولكن ليس لديك مانع من المحاولة ؟".
تنهدت :
" قد آمل أن أحتكم لشعورك بالشرف".
" الشرف؟".
وهز رأسه :
" هذا مفهوم أنقضى زمنه , وكيف تنوين أن تفعلي ذلك , بأن تجعليني أشعر بالأمتنان نحوك؟".
" لا أفهم ماذا تقصد".
" أظن أنك تفهمين أن أهتمامك من لحظات كان يبدو حقيقيا".
كانت هيلين تتفادى عينيه ولكنها الآن نظرت اليه مباشرة:
" يا له من تفكير كريه!".
هز كتفيه:
"أنك تجيدين التمثيل , أنا أشهد لك بذلك ,ولكن من الأفضل أن أخبرك أنني لا أنخدع بسهولة ,ولا أحب أن تضعي نفسك في موقف قد تجدين الخروج منه أصعب من الموقف الأول".
سألت بعدم ثبات:
" وما معنى ذلك؟".
كانت عيناه مغلقتين تقريبا:
"ببساطة لا حاجة بك الى محاولة أغرائي وأستعمال حيلك معي على أمل أن أضعف من ناحيتك".
وهبت واقفة:
" أنك .... أنك تشبع غرورك!".
" لا , أنا لا أفعل".
وقال بجفاف:
" لهذا أنا أحذرك ... أنه أقل خدمة أستطيع تقديمها بعد أهتمامك بي".
كانت سخريته واضحة فأطبقت قبضتيها , كانت ستفشي معرفتها بوجود التلفون في حجرة المكتب وأنها على الأقل ليست كاذبة مثله , ولكنها ظلت صامتة , وما آلمها بشكل خاص أنه شعر بأنجذابها اليه وفسر ذلك تفسيرا خاطئا ,تصور أنها تفكر في أستغلال شبابها وجمالها لتغريه وتثنيه عن هدفه , لكن هذا كان أبعد شيء عن الحقيقة , ففي الواقع مجرد كون هذا الرجل المتجهم القاسي بجسمه المشوه أستطاع أن يحرك أشواقها ورغباتها الدفينة جعلها تشعر بالأشمئزاز من نفسها , أنها لا تريد أن تنجذب الى دومينيك لايول , لا تريد أن تشعر بالأرتباط بشخصيته المقلقة , وعلى الأخص لا تريد أن تفكر في التنفيذ الحسي لهذا الأنجذاب الذي قد يثيره الشعور بيديه القويتين وجسمه النحيل.
قالت وهي ترتعش :
" أظن أنك كريه.... أنك فاسد.... سمحت للتشويه الذي في جسمك أن يشوه روحك!".
فتح عينيه على آخرهما فكانتا قاسيتين كالحجر , ثم قال بخشونة :
" نعم- هذا صحيح ومن الأفضل لك أن تتذكري ذلك دائما!".
نظرت اليه هيلين نظرة أخيرة ثم أتجهت الى الباب , كانت تشعر برغبة في القيء وبصداع في رأسها , للحظة بدا أنسانا , وقد أستجابت بغباء لتلك الشخصية الرقيقة.