الفصل الاخيــــــر:
- باق من العمر خفقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت الساعة حوالي العاشرة عندما غادرت ونظرت نظرة أخيرة إلي لوكاس الواقف عند الباب من نافذة سيارة الأجرة وهي تبتعد بها بعيداً.
وبعد لحظات نظرت إلي الأمام وسمرت نظرها علي الطريق. والدها يحتاج إليها، وولاءها الأول هو له. لن تنظر إلي الوراء بعد الآن. أصبح لوكاس وإيزوبيل من الماضي.
منتديات ليلاس
تأخرت رحلتها، وكان ذلك لصالحها لأنها ما كانت لتلحق بها لو طارت في موعدها، ولكن لسوء الحظ، تأخرت الرحلة أكثر مما توقعت وقضت الليل بطوله تحدق إلي الشاشات تنتظر الإعلان عن موعد الرحلة.
كان النهار قد طلع عندما حطت أخيراًَ علي أرض أربودا. وشعرت بالغرابة عندما أحست بالحرارة صباحاً. لم يتغير شيء علي جزيرتها الصغيرة، فكما لو أن الزمن قد توقف، حتى أنها وجدت سائقي سيارات الأجرة نفسهم يدخنون ويضحكون منتظرين الركاب.
وهي تصعد في سيارة الأجرة التي ستنقلها إلي المحطة الأخيرة من رحلتها، شعرت بالتعب والوهن. أرجعت رأسها إلي الخلف وأغلقت عينيها، وتزاحمت في رأسها ذكرياتها مع لوكاس. ماذا سيفكر عندما يكتشف أنها غادرت؟ وعندما سيقرأ رسالتها التي أخبرته فيها عن عدم عودتها وعن مدى أسفها لما آلت إليه الأمور؟
حاولت عدم التفكير بالأمر. لن يعرف كيف خدعته، ولن يكتشف هويتها الحقيقية... فقد حرصت علي أن تمحي كافة السجلات التي تحمل اسمها في الفندق. فقد تفهمت عاملة الاستقبال موقفها. أما الرجل الذي يعمل أيضاً علي مكتب الاستقبال فبدا أكثر تشكيكاً عندما أطلعته علي الرواية نفسها هذا الصباح، ، لكنها عادت وأعطته بضع دولارات فأومأ وهز كتفيه. وبما أنها لم تعطهم عنوانها في أربودا، ظنت أن سرها بات بأمان.
ولكن حتماً لوكاس لن يبحث عنها. لا بد أنه سيكون منشغلاً جداً فقد تركته في زحمة العمل.
توقفت سيارة الأجرة أمام منزل والدها، ولاحظت أن قصب السكر ما زال مزروعاً في الحقول.
بدا المنزل مهملاً بشكل يثير الحزن في القلب. سألت بيني وقد اقتربت من سائق سيارة الأجرة:
- هل رأيت والدي مؤخراً يا جوشوا؟
- لا آنستي.اضطر إلي صرف بعض عماله، وقد سمعت من السيدة غيلنغهام أن حاله سيئة. فهي تحضر له حساء الدجاج، وتساعده علي قدر استطاعتها.
انقبض قلب بيني. فإن كان والدها يقبل مساعدة السيدة غيلينغهام فلابد أنه بحالة مزرية السيدة غيلنغهام جارة والدها، أرملة تمر أحياناً لرؤيته بالرغم من انزعاجه منها. فهو لا يطيق رؤيتها ويتذمر منها بصوت مرتفع.
- شكراً جوشوا.
وما إن توقفت السيارة حتى قفزت بيني ودفعت للسائق وركضت باتجاه المنزل.
- أبي؟
نادت بصوت مرتفع من عند الباب الأمامي. بدا المكان مرتباً ونظيفاً، وقد استغربت الأمر لأنها كلما أتت في إجازة قضت وقتها تنظف المنزل وترتبه.
- أبي، هل أنت بخير؟
فتح الباب المؤدي إلي المطبخ وخرجت السيدة غيلينغهام. إنها امرأة ممتلئة الجسم في الستينات لها وجها جميل ضحوك.
- آه، هذه أنت عزيزتي. تساءلت عن من حضر في سيارة الأجرة. والدك فوق في سريره. لقد تعرض لحادث منذ بضعة أيام...
سألت بيني قلقة: ( أي نوع من الحوادث؟ هل هو بخير؟).
- تعرض لحادث سيارة وكسر رجله. كان الرجل المسكين في وضع سيء للغاية.
- آه، لا! شكراً لك سيدة غيلينغهام.
وصعدت بيني ركضاً تهرع لرؤية والدها.
وجدته مستلقيا علي سريره يقرأ الجريدة. وضع الجريدة جانباً عندما رآها وصدمت لرؤيته ضعيفاً إلي هذا الحد. لقد اختفي اللون من وجهه وخسر الكثير من الوزن منذ رأته في زيارتها الأخيرة منذ بضعة أشهر.
اقتربت منه تعانقه: ( أبي هل أنت بخير؟).
ابتسم لها بحنان وهي تبتعد قليلاً عنه.
- لقد أصبحت أفضل الآن بعد أن رأيتك. أين كنت؟ لقد حاولت الاتصال بك عبر شركتك فقالوا لي أنك في إجازة.
ردت بيني وقد تملكها الشعور بالذنب: ( كان لدي بعض الأعمال. كان بوسعك الاتصال بي علي هاتفي الخلوي).
- لقد أضعت الرقم، لا أعلم أين وضعت دليل الهاتف؟
- آه يا أبي، ماذا سأفعل بك؟
- والأسوأ من هذا أظنني خسرت المنزل.
- هل تلقيت أمر الإخلاء؟
هز والدها رأسه نفياً: ( ولكنني قد أتلقاه في أية لحظة الآن. فأنا عاجز عن تسديد الدفعات الكبيرة التي يطالبني بها لوكاس داريان. وقد اضطررت إلي صرف بعض العمال، مما يعني أنني لن أحصد محصول السكر في أوانه، وبالتالي سيتراكم ديني).
قالت بيني والأسى يعصر فؤادها: ( آسفة يا أبي).
ابتسم بحزن: ( الغلطة ليست غلطتك، إنها غلطتي لتورطي مع لورانس داريان. فذلك الرجل لم يسامحني يوماً لأنني سلبته أمك).
- ولكنك لم تسلبها منه، كل ما في الأمر هو أنها اكتشفت أنه متزوج وقطعت علاقتها به.
أحنى ويليم كينيدي رأسه وقال: ( لكنها اكتشفت أنه متزوج لأنني أخبرتها بذلك).
- ولكنه كان متزوجاً، فهو الذي تصرف بشكل رديء.
- جسناً، علي كل حال.... لم يسامحني أبداً. والآن يبدو أن ابنه قاس مثله.
فكرت بيني بلوكاس: قاس، لا إنه بعيد كل البعد عن القساوة.
- أنت لست متأكداً من هذا يا أبي!
نظر إليها بعينين مشككتين: ( هذا الشبل من ذاك الأسد. فإن رأيته يوماً سوف...).
واحمر وجهه فخافت عليه.
وفي تلك الأثناء دخلت السيدة غيلينغهام وهي تحمل صينية بيدها:
- هيا يا ويليم... أنت لا تغضب نفسك أليس كذلك؟
وضعت صينية الطعام جانباً واقتربت منه تسوى الوسادات خلفه.
قال لها مضطرباً: ( لا تبدئي يا امرأة، أنا بخير).
- لا، لست بخير. فأنت ترفع ضغط دمك من دون سبب.
تمتم: ( كان ضغط دمك ليرتفع لو كنت تخسرين منزلك).
حدقت رونا غلينغهام إلي بيني: ( ركز انتباهك علي تناول الطعام والتعافي. سأمر بك لاحقاً للاطمئنان عليك).
- سأكون بخير الآن وقد أتت بيني.
- حسناً سأحضر علي كل حال.
قالت بيني وهي تمرر الصينية لوالدها:
- لا تكن مزعجاً يا أبي، أنت محظوظ لأن لك جارة لطيفة.
- أتعرفين؟ لم تتركني أبداً، بقيت هنا صباحاً وظهراً ومساءاً. إنها امرأة جيدة... امرأة جيدة.
ابتسمت: ( أبي، مازالت الحياة تدب فيك بالرغم من هذا الجفصين الموضوع علي رجلك).
ابتسم: ( حبذا لو أستطيع نسيان أمر لوكاس داريان، لكنت نعمت بالسعادة).
- لا أظنك تملك فرصة كبيرة في الحفاظ علي المنزل. الآن لقد عدت إلي المنزل، لذا سأساعدك في توضيب الأغراض.
- لا لن تفعلي. لن أوضب شيئا ما لم أضطر لذلك. ولكن إن ساعدتني علي تنظيم العاملين وحصد السكر فسأكون ممتناً لك، من يدري! قد نستطيع حصد المحصول.
- أتعني إن عملت ليل نهار؟
- هيا يا بيني! افعلي هذا من أجل والدك العزيز. وفكري أننا قد نستطيع تلقين لوكاس داريان درساً فأنا لا أحب أن يستخف أحداً بآل كينيدي
بالرغم من النسيم كان الحر مزعجاً. أحضرت بيني بعض الماء للعاملين في الحقل، وجلست في حقل قصب السكر ونظرت إلي السماء الزرقاء.
مر نحو أسبوعين علي مغادرتها بورتوريكو، ولم يصل أمر الإخلاء بعد. في الواقع، لم يصل أي خبر من لوكاس حتى الآن، وستنتهي رخصة البناء بعد يومين. وتساءلت عما يجري. هل حصل شيء ما للوكاس؟ لعله مريض؟ ولعل إيزوبيل مريضة وقد نسي هموم العمل بسبب انهماكه بها؟
أقفلت عينيها وحاولت طرد هذه الأفكار التي تطاردها منذ بضعة أيام. لوكاس بخير... وإيزوبيل أيضاً. لعلها ستسمع عنه اليوم، وغداً ستصل الجرافات وتبدأ بحفر الأساسات.
هبت ريح خفيفة. آه... كم تشتاق إليه... تفكر فيه كل يوم وتتذكر... وحنت للمساته وابتسامته.
سمعت صوت سيارة تقترب من المنزل، لكنها لم تستدر فهي تحلم بأنها مستلقية بين ذراعي لوكاس.
نادي أحدهم علي واحد من العمال.
- مرحباً، أنا أبحث عن منزل آل كينيدي.
قفز صوت بيني لسماعها صوت الرجل. إنه لوكاس، أتراها تتخيل وجوده هنا؟
استقامت ونظرت عبر الحقل إلي رجل طويل القامة يقف عند الطريق. كان يدير لها ظهره، ولكن جسمه شبيه بجسم لوكاس وشعره أسود. كان يرتدي سروالاً كاكي اللون مع قميص يناسبه.
رأت شريكها ماثيو يدل السائق إلي منزل والدها. استدار الرجل ليصعد في السيارة وشعرت بيني بالدوار، إنه لوكاس داريان. وللحظة سرت لرؤيته كثيراً إلي حد أنها لم تفكر بأي شيء آخر. ولكن ما إن ركب السيارة الحمراء الرياضية واتجه نحو منزل والدها حتى بدأت تضبط نفسها وتحاول التفكير.
ماذا يريد بحق السماء؟ أجاء يستولي شخصياً علي الأرض عوضاً عن إرسال واحد من رجاله؟ وشعرت بالخوف يتملكها، فهذا الأمر كفيل بأن يسبب لوالدها ذبحة قلبية.
عليها أن تعود إلي المنزل وبسرعة أيضاً. ولكن المشكلة هي أن واحداً من العمال قد غادر بالشاحنة منذ أقل من عشر دقائق. ما من حل أمامها سوى الركض. سلكت طريقاً مختصراً عبر الحقول، واستغرقت حوالي نصف ساعة للوصول إلي المنزل. وصلت في الوقت المناسب لترى لوكاس يغادر مكشراً. لم يرها، فقد كان مستعجلاً للصعود إلي السيارة والمغادرة.
دخلت بيني المنزل وقلبها يخفق بقوة وقد جف فمها وهي تتساءل عن الحالة التي ستجد فيها والدها.
وجدته جالساً في الردهة يحدق في النافذة بصمت غريب.
تقدمت بيني منه بحذر: ( أبي! ما الأمر؟ هل كل شيء علي ما يرام؟).
- ماذا؟
نظر ويليم كينيدي إلي ابنته وقد بدا شارد الذهن.
- أكان هذا لوكاس داريان؟
- نعم... أمر غريب.
- ما الغريب؟ ماذا جري يا أبي؟
- لقد اعتذر مني، هل تصدقين هذا؟ أخبرني أنه سيتصل بمحاميه وأن المنزل ملك لي.
جلست بيني علي الكرسي المجاور وقد خانتها رجلاها: ( لماذا؟).
- يبدو أنه كان يراجع ملفات والده وقد وجد ملحقاً للوصية. لقد فكر لورانس مجدداً وقرر التخلي عن محاولته الانتقام مني.
ومد لها رسالة ثم تابع: ( كما أنه ترك لي رسالة كتبها وهو يحتضر، يخبرني بها بمدى أسفه علي ما فعله... وبأنه كان مهووساً بكلارا ولم يتجاوز قط خسارته لها...).
دهشت بيني: ( أحقاً؟ وماذا قال لوكاس؟).
- حسناً، لم يقرأ الرسالة، فقد كانت مغلقة وموجهة إلي، وقال أنه أرتئي تسليمي إياها شخصياً. كما سلمني شيكاً كتعويض عن الخسارة التي تكبدتها. كنت أنوى إحداث جلبة لكنه اعتذر مني بصدق، فلم استطع إخباره رأيي... فهو مهذب جداً... من كان ليصدق...؟
سألت بيني وقلبها يخفق بسرعة: ( هل ذكرني؟).
عبس ويليم: ( ذكرك؟ ولم عساه يفعل شيئاً كهذا؟).
إنه محق، فكيف عساه يفعل هذا وهو لا يعرف علاقتها بالموضوع؟
عضت بيني علي شفتها: ( أنا لم أخبرك يا أبي لكنني ذهبت لرؤيته).
نظر إليها والدها كما لو أنه يراها للمرة الأولي، ثم ابتسم:
- آه! أهو السبب في تعاستك البادية خلال الأسابيع الماضية؟
أومأت بيني.
- حسناً، يستحسن بك اللحاق به إذاً، فهو باق هذه الليلة علي الجزيرة. سينزل في فندق الشيراتون وسيغادر غداً صباحاً.
وقفت بيني وهرعت، وما إن عبرت الردهة حتى رأت نفسها في المرآة، إنها ترتدي جينز أزرق باهت اللون وقميص بيضاء قديمة. وفكرت أنه يستحسن بها تغيير ملابسها.
شعرت بالغرابة وهي تستحم وتغير ملابسها لتلاقي لوكاس. كانت تشعر بالإثارة. وما إن ركنت شاحنة والدها القديمة علي بعد بضعة مبان من الفندق، حتى بدأت تساورها الشكوك...
صحيح أنها تريد اللحاق به... ولكن ماذا لو لم يكن مهتماً بها؟ ... لعله لم يشتق إليها حتى. وقد يكون قد عاد إلي إيما.
ترجلت من الشاحنة ومررت يداً ترتجف علي فستانها الأزرق. ماذا يفترض بها أن تقول له؟ فبالرغم من أنه اكتشف حقيقة والده، فالأمر ليس سهلاً عليه. ولعله ليس في مزاج جيد، واكتشافه أنها ابنة ويليم كينيدي قد يزيد من غضبه.
كانت الشمس تغرب فيما اقتربت بيني علي مهل من الفندق. كانت الأضواء الذهبية تنير الردهة. الآن أو أبداً! قالت في نفسها.
وهي تتجه إلي مكتب الاستقبال مر رجل بقربها لكنها لم تنتبه إليه لشدة انهماكها بتحضير ما ستقوله للوكاس.
لكن ما إن قالت عاملة الاستقبال: ( مساء الخير سيد داريان).
حتى أيقنت بيني أنه لوكاس، إنه الرجل الذي يدير ظهره لها ويبعد عنها بضع خطوات فحسب.
- مساء الخير دومينيك، هل من رسائل لي؟
- اتصالين فقط سيدي.
وناولته المرأة ورقة صغيرة موضوعة في الخزائن الصغيرة خلفها.
ابتسم: ( شكراً).
واستدار، لحظتها وقع نظره علي بيني.
حياها متعجباً: ( بيني، ماذا تفعلين هنا بحق السماء؟).
ردت بهدوء: ( أنا أعيش هنا، أنا..).
- ماذا؟ في فندق الشيراتون في أربودا؟ ماذا تفعلين؟ تنتقلين في مختلف أنحاء الكراييب مستعملة أسماء مستعارة مختلفة؟
- لا تكن سخيفاً!
- سخيفاً!
ضاقت عيناه وأيقنت أنها قالت شيئاً خاطئاً. اقترب منها ببطء وشعرت بقلبها ينقبض مع كل خطوة يخطوها نحوها. ما من شك أنه غاضب جداً منها.... لا بل يستشيط غيظاً.
- ماذا تظنين نفسك فاعلة؟ ألديك أدنى فكرة عما شعرت به عندما قرأت الورقة بعد رحيلك؟
هزت رأسها مرغمة: ( اضطررت للرحيل يا لوكاس).
- ومن دون أن تخبريني؟
هز رأسه انزعاجاً، ثم أمسك بيدها وضغط عليها.
- حاولت إخبارك أنني مضطرة للرحيل. لكنك لم ترد الاستماع إلي.
- حسناً، سأستمع الآن...
وقادها عبر الردهة.
- إلي أين نحن ذاهبان؟
- إلي مكان منفرد تفسرين لي فيه لم فعلت ما فعلت!
توقف عند المصعد ثم ضغط علي زر من الأزرار ففتح باب المصعد. ثم مشي معها إلي داخل المصعد.
ساد الصمت فيما صعد المصعد بهدوء. ونظرت بيني إلي لوكاس، لم يسبق لها أن رأته غاضباً إلي هذا الحد.
همست وهي تنظر إلي يده التي تشد علي ذراعها:
- لوكاس هلا أفلتني!
- لا أرغب بإفلاتك، فعليك أن تفسري لي بضعة أمور.
فتح باب المصعد وقادها علي طول الرواق الطويل الفارغ.
- اسمع، أعلم أن علي أن أوضح لك الكثير من الأمور، لذا جئت، فما من داع لتجرني أمامك كسجينة.
وبالرغم من كلامها هذا لم يفلتها. راقبته يدخل البطاقة في مقبض واحد من الأبواب ويفتحه. ثم دخلا إلي شقة فخمة. رأت في الشقة سجادة ذهبية وكنبة كبيرة، كان هناك بابين من جهة، وشرفة تطل علي البحر.
قال لوكاس بعزم وهو يفلتها: ( حسناً، قلت أن لديك بعض التفسيرات، فهيا قولي...).
مررت يداً ترتجف علي شعرها الأشقر الطويل.
- لديك كل الحق بأن تغضب، أنا أعلم هذا تماماً.
- جيد.
جال بنظره عليها يتأمل حذائها العالي الكعب، وساقيها الطويلتين، وفستانها الأزرق الذي يبرز مفاتنها. تابع: ( لأنني لست غاضباً بل أنا أستشيط غيضاً. والآن أين كنت؟).
- قلت لك أنني اضطررت للعودة إلي المنزل، وأن والدي بحاجة إلي.
وتوقفت عن الكلام للحظة حتى استجمعت قواها، وأردفت:
- والدي هو ويليم كينيدي، لقد حضرت لرؤيته اليوم. أنا بيني كينيدي.
ضاقت عيناه وردد غير مصدق: ( أنت ابنة ويليم كينيدي؟).
- نعم.
وجلست علي ذراع الكنبة وتابعت: ( السبب الأساسي الذي دفعني للذهاب إلي بورتوريكو كان أن أترجاك لترحم والدي).
نظرت لترى إن كان يصدق كلامها، ولكن صعب عليها التأكد، فأكملت: ( لم أنو البقاء...أو خداعك. ولكن عندما اتهمت والدي بأنه عديم الفائدة... ولا يصلح لشيء..).
قاطعها لوكاس: ( لم أقل هذا يوماً).
نظرت إليه: ( ربما لم تقل هذا، لكن هذا ما كنت تفكر به وقد جعلني هذا أغضب كثيراً).
- أحقاً؟
- علي كل حال... عندما أخبرتني أنه يتعين عليك إيجاد صك الملكية قبل نهاية الشهر، خطر ببالي أنه إن استطعت إيجاد المستندات قبلك فستتوقف أعمال البناء، وبالتالي يمنح والدي المزيد من الوقت لتسديد دينه، ويزاح الضغط عنه.
رد ساخراً: ( إذاً كنت تحاولين حماية البيئة والتجسس لصالح والدك).
نظرت إليه مترجية:
- كفى لوكاس، امنحني فرصة. في النهاية لم أقدم علي أي شيء خاطئ، لقد كنت نعمة أكثر منه عبئاً، عليك الاعتراف بهذا.
هز لوكاس برأسه: ( أحقاً؟ أظنك كنت عبئاً كبيراً).
عضت علي شفتها: ( حسناً يؤسفني أن يكون هذا شعورك... ولكن ما كنت تفعله كان خطأ...).
- كنت وبكل بساطة أنفذ شروط وصية والدي، لقد عينني وصياً ومنفذا للوصية وكنت ألبي التزاماتي نحوه ليس إلا.
- نعم، كانت نواياك شريفة تماماً. فلم تكن ستجني مبالغ كبيرة من المال جراء بيع ملكية والدي لمتعهد البناء ذلك.
- أهذا رأيك بي؟ أن همي الوحيد هو المال؟
عبست، ثم أقرت: ( لا، هذا ليس رأيي بك).
- عليك أن تفهمي يا بيني أنني لم أتفق يوماً مع والدي. كنت أعلم أنه زير نساء... وأنه تورط بأعمال غير شريفة علي مر السنين. ولكنا سوينا خلافاتنا قبل وفاته وقد سررت بهذا. لقد اعتذر لي قبل وفاته، وأعرب عن ندمه عن بعض ما قام به، وطلب مني الاعتناء بأعماله، وأخبرني بأنه يريد ترك معظم ثروته لي. وعندما أخبرته أنني لا أريد شيئاً ولا أحتاج لشيء، قال بأنه علي أن أقبل من أجل إيزوبيل، وأنه يريد التعويض عن عدم تواجده بقربها.
تنهد وتابع: ( لقد أطعته وحاولت التقيد بالقانون. تخلصت من محاميه المحتال، ودققت في شؤونه المالية. لم أكن أعلم أن مسألة استملاك الأرض هي مسألة شخصية).
- أعلم هذا.
نظر إلي عينيها: ( كان عليك أن تخبريني).
- لم أظن أن هذا الأمر سيعود بالفائدة، كيف عساي أخبرك بأن والدك...
وتوقفت عن الكلام، صحيح أنه ينتقد والده لكن سيختلف الأمر إن انتقدته هي أيضاً. فتابعت:
- لم يكن طيباً جداً. لم أستطع القيام بهذا يا لوكاس، كما أنني انغمست في الأكاذيب وخفت من إخبارك الحقيقة.
رفع حاجبه: ( أحقاً ما تقولين؟).
حدقت إليه: ( نعم، حقاً. لم أكن أريدك أن تكرهني...).
- لقد هربت؟
- لم أهرب، كل ما في الأمر هو أنني اضطررت للمغادرة. ألا تفهم يا لوكاس؟ لقد كنت عدو والدي، وأنا كل ما يملكه في الوجود. لقد عانى الكثير حتى الآن، وهو قلق حول فقدان منزله، فكيف أخبره أنه سيخسرني أيضاً... وبأنني وقفت إلي جانب عدوه؟ ففي الحالة التي كان فيها، كان مثل هذا الخبر ليودي بحياته.
رد بهدوء: ( إنه رجل محظوظ لحصوله علي شخص يكن له كل هذا الوفاء).
همست: ( لم أشعر دائماً بأنني وفية له).
واحمرت خجلاً، والتقت عيناهما، فأشاحت بنظرها بسرعة وقالت: ( علي كل حال... آمل أن تسامحني).
لم يتفوه لوكاس بكلمة طيلة فترة طويلة، وشعرت بيني بأعصابها تنهار. وبعد طول انتظار سألها: ( هل تشربين شيئاً؟).
نظرت إليه بيني بغضب، أهذا كل ما سيقوله؟
- لا، علي الذهاب إلي المنزل.
- إذاً، هنا ديارك؟
وتراءى لبيني للحظة ذكرى العشاء في منزله علي ضوء الشموع وإيزوبيل تتذمر لرغبتها بالحصول علي رقائق البطاطا. تذكرت وقوفها في المطبخ تتأمل المطر وتسمع ضحك إيزوبيل. لقد شعرت بالانتماء إلي ذلك المنزل، وبأنها جزء من عائلة. وقد تاقت إلي هذا بقدر ما تاقت ليضمها لوكاس بين ذراعيه.
ردت بسرعة: ( نعم أحياناً. ولكنني لا أقيم هنا، فأنا مديرة منتجع سياحي متنقل علي متن سفينة).
- أنت مليئة بالمفاجئات يا آنسة كينيدي.
شعرت بيني بانقباض في معدتها. يبدو أن لوكاس لن يسامحها.
- وقد كنت مساعدة شخصية ممتازة.
عبست: ( لقد أجدت العمل كمساعدة شخصية وأنت تعرف هذا. فأنا ملمة بالكمبيوتر وأستطيع إدارة مكتب كمكتبك بسهولة).
- نعم، هذا ما قلته، كنت مساعدة شخصية ممتازة. فكيف أجدت العمل في مكتبي في حين أن هذا المجال بعيد كل البعد عن مجال عملك؟
- لقد أخذت دروساً في الإدارة منذ بضع سنوات.
تنهدت، لم تشعر برغبة في الحديث عن أمور تافهة. ولكن بعد أن ساد الصمت مجدداً وجدت نفسها تسأله عن العمل: ( هل وجدت من يحل مكاني؟).
ابتسم فجأة: ( لمَ؟ أتريدين استعادة وظيفتك؟).
- لا، كنت أتساءل فقط.
وعبست وتمنت لو لم تسأله، ثم أردفت:
- لدي عمل خاص بي، وهو يرضيني. أتعلم شيئاً؟ يمكنك أن تتصرف أحياناً بكثير من العجرفة.
- إن كنت تصرين علي المعرفة، فقد اشتقت إليك بجنون.
نظرت إليه، وراح قلبها يخفق بسرعة وتساءلت إن كان يتحدث عن اشتياقه لها علي الصعيد العملي أو الشخصي. وقالت بعد جهد بسخرية:
- بالرغم من قولك منذ بعض الوقت إنني كنت عبئاً عليك وأسأت إليك كثيراً.
- هذا صحيح، كنت مصدراً للإلهاء.
تسارعت دقات قلبها وهو يقترب منها.
- وأنت مصدر إلهاء الآن. أحياناً أعجز عن التفكير باتزان حين أنظر إليك... أتعلمين هذا؟
نظرت إليه دون أن تفقه تماماً معنى حديثه.
- أتعلمين؟ هذا تماماً ما أقصده. تنظرين إلي بتلك العينين الخلابتين، فتبدأ الأفكار بالتشتت في رأسي... وقد حصل هذا معي في أول يوم دخلت فيه المكتب. عرفت أن علي أن أطرح عليك المزيد من الأسئلة خصوصاً وأن سيرتك الذاتية لم تكن صحيحة. ولكن كل ما كنت أفكر فيه هو... أريد أن تبقي هذه المرأة معي.
قفز قلب بيني من مكانه. وتابع، وعيناه مسمرتان عليها:
- لم يراودني هذا الشعور منذ وقت طويل.
- أخذت نفساً عميقاً: ( أحقاً؟ إن كنت تريد الحقيقة، حصل معي شيء أيضاً ذلك اليوم... فعندما دخلت ونظرت إلي كدت أن أنسي لم حضرت إلي مكتبك. وأظن بأن هذا أحد الأسباب التي دفعتني للانغماس في الكذبة).
- وبعدها تركتني بكل بساطة. ألديك أدنى فكرة عما شعرت به؟
فتحت فمها لتجيب ولكنها وجدت نفسها بين ذراعيه يعانقها بشغف. اقتربت منه وقد شعرت بمدى توقها إليه.
- لم أرد الذهاب لوكاس... صدقني لم أرد ذلك.
قالت هذا بأنفاس متقطعة وقالت:
- أنا آسفة... آسفة جداً.
ومررت أصابعها في شعره الأسود، وقد سُرت لوجودها قربه، قادرة علي لمسه... وحبه.
همس: ( لا، أنا آسف لأنني تركتك تهربين مني بسهولة. أفهم الآن بأن علي التوصل إلي حل جذري لهذه المسألة...).
ابتعدت عنه، وقد قطبت جبينها، فتابع:
- وأري أيضاً أن علي وضع حد لتغييرك الدائم لأسمك.
- لن أغير أسمي مجدداً يا لوكاس، اسمي بيني كينيدي. ظننت أننا أوضحنا هذه المسألة بشكل نهائي.
- لقد فعلنا.
قبل أنفها وزال العبوس عن وجهها، فقال:
- كل ما في الأمر هو أنه علينا تغييره هذه المرة بشكل دائم.
ابتعدت عنه: ( لوكاس، ما الذي تحاول قوله؟).
قال برقة: ( أقول بأنه علينا تغيير أسمك إلي السيدة بيني زوجة لوكاس داريان. بيني أريدك أن تتزوجيني... فأضمن أنك ستبقين قربي صباحاً ومساءً طيلة أيام حياتي).
دهشت إلي حد أنها عجزت عن الكلام. لاحظ شحوب وجهها.
- بيني؟
- لِمَ تطلب مني هذا؟
أجابها بصدق: ( لأنني مغرم بك ولا أريد أن أخسرك مجدداً).
سُرت لا بل طارت من الفرح لسماعها كلماته. حدقت إليه لبضع ثوان، ثم قال وقد أغرورقت عيناها بالدموع:
- ظننت... أعني أنا أتساءل إن كنت ترى إيما مجدداً..
- ولم تظنين هذا؟
تنهدت: ( لأنك أرسلت لها الأزهار... ولأن ماريا قالت لي بأنك أصبحت سعيداً منذ أن بدأت تخرج برفقتها).
- لم تكن إيما سوى صديقة. لقد أرادت مني أكثر مما استطعت تقديمه لها. لقد أرسلت لها الأزهار بدافع الصداقة بمناسبة عيد مولدها، وقد أوضحت لها غياب أي دافع آخر.
قال هذه الكلمات ثم قربها منه، وتابع:
- إنها إنسانة ممتازة، ولكنها غير مناسبة لي. في الواقع كنت قد فقدت الأمل في إيجاد الشخص الملائم لي إلي أن... دخلت مكتبي.
انهمرت دمعة علي خدها. فخلال الأسابيع التي ابتعدت فيها عنه، حلمت بهذه اللحظة، ولكنها لم تجرؤ يوماً علي الاعتقاد أنها ستحدث.
- اسمعي أعلم بأن وظيفتك رائعة.. وبأنك تحبين حريتك... ولكن أن وافقت علي الزواج بي... فسأفعل كل ما بوسعي لأسعدك. فلو لم أكن متيماً بحبك... لما طلبت يدك للزواج.
- آه لوكاس، أنا متيمة بحبك أيضاً. أعشقك. أظنني أغرمت بك منذ أن وقع نظري عليك.
رأت بريق السعادة في عينيه وهي تقول هذه الكلمات.
همست وقد ابتعد عنها قليلاً لينظر إليها: ( لا أصدق بأن هذا يحصل).
- ولا أنا، انتظري حتى تسمع إيزوبيل بالخبر، ستطير من الفرح.
سرى الدفء في عروقها لسماعها هذه الكلمات. قالت:
- لقد اشتقت كثيراً لإيزوبيل... كيف حالها؟
- إنها بخير، تقضي بعض الوقت مع جدتها، ولكن علي العودة غداً.
وتوقف للحظة عن الكلام ونظر إليها ثم تابع: ( ستأتين معي أليس كذلك؟).
أومأت، ثم همست بلطف: ( حاول أن تمنعني. فكما قالت شونا يوماً، حين تتعرف المرأة إلي الرجل المناسب لها والذي ترغب بقضاء بقية عمرها معه، فهي تريد أن يبدأ بقية عمرها فوراً...).
* * *
تــــــمـــــــت