الفصل الثالث:
- ضاع الأمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
استيقظت بيني من الفجر واستحمت بسرعة ثم ارتدت تنوره بيضاء اللون مع قميص زهري. وضعت بعض التبرج علي وجهها محاولة إخفاء علامات عدم النوم، ثم نزلت علي السلالم إلي مكتب الاستقبال.
حزنت عندما رأت أن السيدة التي اعتادت بيني رؤيتها في مكتب الاستقبال غير موجودة، بل جلس مكانها الرجل الذي سجل أسمها وبياناتها يوم وصلت إلي الفندق.
منتديات ليلاس
حياها مبتسماً عندما وصلت إلي مكتب الاستقبال:
- صباح الخير سيدة كينيدي، لقد استيقظت باكراً هذا الصباح.
حاولت بيني عدم ملاحظة اهتمامه الظاهر بها وابتسمت له:
- فكرت في الذهاب في نزهة قبل أن تزداد أشعة الشمس قوة.
- فكرة ممتازة، ألديك مشاريع معينة لهذا اليوم؟
- في الواقع، أنا خارجة لتمضية النهار.... مع صديق.
حافظت علي ابتسامتها مرغمة:
- في الواقع، سيمر لاصطحابي بعد بضع ساعات، هل ستبقي في العمل حتى هذا الوقت؟
- نعم، أنا باق حتى العاشرة.
- سأكون ممتنة لو تتصل بي عندما يصل.
ثم رمته بابتسامة من ابتساماتها الساحرة، وقالت:
- آه! كدت أن أنسي. سيسأل عني تحت أسمي المهني ميلدريد بانكروفت.
سأل الرجل بسرعة قصوى: ( ولم تستعملين أسماً مهنياً؟).
- في الواقع أمارس مهنة الكتابة في وقت فراغي تحت أسم ميلدريد بانكروفت لذلك أنا في بورتوريكو، لإيجاد موضوع لكتابي الجديد. وسأكون ممتنة إن قمت بإعلام بقية موظفي الاستقبال إن ورد اتصال باسم ميلدريد بانكروفت بأن يحولوه إلي غرفتي أو يأخذوا رسالة بالنيابة عني.
أوشك عامل الاستقبال طرح المزيد من الأسئلة حول أنواع كتاباتها، لكنها لم تشأ المغالاة في الكذب أكثر.
- علي كل حال، أفضل أن أمضي، فالوقت يمر بسرعة، ولن أستطيع الذهاب في نزهتي ما لم أسرع.
كان قلبها يقفز من دون انتظام وهي تغادر الفندق نحو الشمس المشرقة. كانت تكره كل هذه الأكاذيب، وتساءلت إذا أقنعت الرجل بقصتها.
وجدت ساحة قبالة الفندق ومقهى صغير يقدم القهوة.
جلست قرب النافذة ليتسنى لها رؤية سيارة لوكاس إن حضر باكراًً، ثم طلبت فنجان كابوتشينو.
كانت تحتسي فنجان القهوة الثاني حين رأت سيارة لوكاس تركن قرب الفندق. وبسرعة وضعت بعض الأوراق النقدية علي الطاولة وخرجت من دون أن تنتظر الفكه.
- صباح الخير يا لوكاس.
نادت عليه من الشارع المقابل وهو يهم بإغلاق باب سيارته. وخيل لها للحظة أنه لم يسمعها، ثم ما لبث أن استدار نحوها.
- صباح الخير.
استند إلي سيارته وراح يراقبها وهي تتجه نحوه، جالت عيناه عليها، تلاحظان ساقيها الطويلتين تحت البذلة الأنيقة، وارتدائها حذاء عالي الكعب يعيق تقدمها علي الطريق المليء بالحصى.
قال لها ما إن وصلت إليه: ( أنت جاهزة والوقت لا يزال مبكراً).
- فكرت في استنشاق بعض الهواء النظيف قبل أن يزداد حر النهار.
- فكرة ممتازة.
ابتسم لها. بدا دافئاً وحنوناً. ثمة شيء غريب في لوكاس داريان يجعل نبضها يتسارع . حاولت إقناع نفسها بأن السبب وراء توترها هو الأكاذيب التي لا تنفك تلفقها، ولكن لا، ففي قرارة نفسها تعرف أن السبب مغاير لما تحاول إقناع نفسها به. فالمشكلة أنها تجده جذاباً بشكل خطير.
قال لوكاس وهو يتوجه ليفتح لها باب السيارة:
- لطالما اعتبرت أن الصباح هو الفترة الأفضل في اليوم.
وافقته الرأي وهي تحاول جاهدة التركيز علي الحديث لا عليه:
- نعم، وخاصة إن كنت تنوي قضاء بقية اليوم داخل المكتب.
- هل تتمنين لو أنك لم توافقي علي العمل لساعات إضافية خلال عطلة نهاية الأسبوع؟
- لا، أنا لا أمانع.
- حسناً، أعدك بأن لا أدعك تكدين في العمل. سنتوقف عند الظهيرة ونتناول غداءً شهياً، ما رأيك بهذا الاقتراح؟
ردت من دون أن تلتزم بوعد: ( فلنر كم سننجز من الملفات اليوم قبل أن نقرر لكم من الوقت سنستريح).
قال ممازحاً: ( إن كنت تحاولين إثارة إعجابي بمدى التزامك بالعمل آنسة بانكروفت، فلقد نجحتِ).
صعدت إلي السيارة، ونظرت إليه يسير في الاتجاه المعاكس ليوافيها. المشكلة أنها تركز علي الأمور الخطأ عندما يكون بجوارها. إنه يشتت انتباهها كثيراً، كما أن ملابسه هذا الصباح تزيد من تشتت انتباهها. كان يرتدي سروال جينز أزرق فاتح مع قميص يظهر عرض كتفيه.
وبصعوبة أشاحت بنظرها عنه. لا تفكري بأمور كهذه يا بيني! ركزي انتباهك علي سبب وجودك هنا! لوكاس داريان هو العدو.
صعد إلي السيارة وابتسم لها، فبادلته الابتسامة. يا إلهي يا لروعة عينيه!
- لا تنسي وضع حزام الأمان.
- لا، طبعاً لا.
وبسرعة استفاقت من حلمها ومدت يدها لتتناول حزام الأمان. فالغريب بالأمر هو أنها لم تشعر منذ سنوات بانجذاب كهذا نحو رجل ما. فآخر رجل أثار اهتمامها كان نيك، وانتهت علاقتهما بكارثة حقيقية، وكانت السبب الرئيسي لمغادرتها أربودا والذهاب للعمل في البحر.
كانت متيمة بحب نيك. وظنت أنه يبادلها الشعور نفسه. وصدمت صدمة كبيرة عندما عرفت أنه يقابل امرأة أخرى خفية عنها. وبأن الليالي التي كان يدعي فيها العمل لساعات متأخرة لادخار المال لزواجهما، كان يقضيها مع امرأة أخرى في السهر واللهو. لقد تألمت لخيانته، وأقسمت ألا تغرم بأحد مجدداً.
بالرغم من مرور عامين علي انفصالها عن نيك، ما زال التفكير بالموضوع يزعجها. وبحزم وجهت انتباهها إلي المناظر الطبيعية علي طول الطريق. لقد غادرا المنطقة الآن، وكانت السيارة تتجه صعوداً نحو طرقات جبلية ضيقة. كان الجبل أخضر واستوائياً، وبدا المنظر من الجبل الأخضر نحو البحر الأزرق خلاباً يخطف الألباب.
اتجه لوكاس بالسيارة نحو ممر ضيق يقود إلي حدائق مزينة تسورها أشجار جوز الهند قبل الوصول إلي منزل قائم علي تل. كان الدرج يقود إلي شرفة كبيرة تلف المبني مفروشة بكراس من قصب وأرجوحة موضوعة تسمح للجالس عليها بالتمتع بمنظر الأشجار والبحر خلفها.
أول ما لفت انتباه بيني عندما ترجلت من السيارة كان الصمت والسكون المحيطان بالمكان.
قالت وهي تصعد الدرج برفقته وصولاً إلي الشرفة: ( منزلك جميل هنا).
- كان بحاجة إلي الكثير من التصليح عندما اشتريته، واحتاج إلي الكثير من العمل ليعود إلي جماله، ولكن أظن بأننا نجحنا أخيراً.
فتح لها باب المدخل وأدخلها قبله إلي ردهة استقبال كبيرة. لاحظت بيني فوراً أنه لم يوفر أي مال في سبيل إعادة المنزل إلي رونقه وجماله. كانت الأرض من الخشب الصلب مغطاة بسجادة فارسية، ودرج كبير واسع وضعت قبالته ساعة حائط كبيرة وقديمة. لاحظت إلي اليمين غرفة للرسم مفروشة بأثاث أزرق وذهبي، أما إلي اليسار فغرفة الطعام تتوسطها طاولة ضخمة من خشب الماهوغاني.
- مكتبي في الجهة الأخرى من المنزل.
وتوقف لوكاس عن الكلام عندما فتح باب وركضت فتاة صغيرة في الرواق يتبعها كلب لابرادور ينبح فرحاً.
قالت الفتاة وهي تركض نحو لوكاس وتتوق ليحملها: ( أحزر ما حصل اليوم صباحاً؟).
حملها بين ذراعيه، ثم انحنى يداعب الكلب: ( ماذا جري؟ أصمت يا فلينت).
فصمت الكلب فجأة وهو يهز بذنبه وينظر إلي لوكاس.
سأل لوكاس الفتاة مجدداً: ( إذاً، ما سبب كل هذه الحماسة؟).
- كانت السيدة غوردن تخبز قالب حلوى فاحترق وبات أسود كالفحم، وتصاعد الدخان من الفرن وانطلق جهاز إنذار الحريق وراحت تصرخ وتصرخ من دون توقف.
استدار لوكاس نحو بيني:
- ما من صباح ممل في هذا المنزل! ميلدريد أقدم لك ابنتي ايزوبيل.
للوكاس ابنة... دهشت بيني دهشة ما بعدها دهشة. أيعني هذا أنه متزوج أيضاً؟ إذ عندما ذكرت شونا انفصاله عن صديقته، استنتجت بيني أنه عازب. ولكن كان حرى بها أن تعلم، فهو زير نساء تماماً كما كان والده.
نظرت الفتاة إليها بعينين واسعتين ملؤهما الفضول. تبدو في السادسة من عمرها وهي رائعة بوجهها الناعم وشعرها الأسود اللماع الناعم، وعينيها السوداوين كالفحم.
ابتسمت بيني لها: ( مرحباً ايزوبيل).
بادلتها الابتسامة: ( مرحباً).
ظهرت امرأة في الرواق تضع واحدة من يديها علي خصرها ووجهها مقطب: ( ايزوبيل، تعالي ونظفي الفوضى التي أحدثتها من فضلك).
- حاضر سيدة غوردن.
لم تسر ايزوبيل بما طلب منها إلا أنها أذعنت للأوامر ونزلت من بين ذراع والدها علي مضض وتوجهت نحو السيدة الأخرى.
قال لوكاس ممازحاً: ( أظنك عرفت نشاطاً غير عادي في المطبخ هذا الصباح سيدة غوردن!).
ردت المرأة وهي تهز رأسها: ( لا بد أن منبه الوقت في الفرن معطل، لم يسبق أن حصلت معي كارثة مماثلة).
ونظرت إلي الكلب الذي حاول اجتيازها ليتبع الطفلة خلسة:
- كما وقلت مراراً أن المطبخ ليس بمكان يدخل إليه الكلب.
ثم قالت مشيرة بأصبعها إلي الكلب: ( هيا اذهب من هنا!).
ابتعد فلينت ثم جلس يراقب الباب بحسرة بعدما أغلق وراء المرأة والفتاة.
قال لوكاس مبتسماً وهو يدل بيني إلي رواق:
- هذه السيدة غوردن مدبرة منزلي... ومربية ايزوبيل. لا تنخدعي بمظهرها القاسي، فهذه المرأة كنز ثمين وتدير المنزل بفعالية تامة... حسناً غالباً ما تفعل هذا، فهي لم تحرق شيئاً من قبل.
تمتمت بيني: ( نمر كلنا بأيام صعبة. لا بد أن زوجتك ممتنة للحصول علي مساعدة فهذا المنزل كبير ويصعب تولي أمره).
- لسوء الحظ توفيت زوجتي منذ أربع سنوات.
- أنا آسفة جداً.
نظرت إليه بيني بأسي، وشعرت بالذنب لاعتقادها أنه زير نساء كوالده.
فتح لوكاس الباب لتظهر غرفة كبيرة فسيحة ملئي بالصناديق وخزائن الملفات التي تحجب رؤية النافذة الكبيرة الفرنسية الطراز.
قال لوكاس عندما استدار ورأي التعابير التي ارتسمت علي وجهها:
- قلت لك أنه ثمة الكثير من العمل.
لكن بيني لم تكن تفكر في كمية الملفات بل في أن من الخطأ أن تخدع هذا الرجل.
وقبل أن تتمكن من قول أي شيء، رن هاتف المكتب فأجاب لوكاس:
- مرحباً...لا، لم أجد الملفات بعد. آمل أن أجدها اليوم فنطرد ويليم كينيدي في نهاية الشهر وتتمكن الجرافات من بدء العمل.
شعرت بيني بقلبها ينقبض عندما سمعت أسم والدها يذكر بتلك الطريقة الباردة.
- سأتصل بك وسأعلمك بما يجد يا سلفادور. نعم.... ما من مشكلة، كيف حال ماريا؟ حسناً أرسل لها سلامي.
أغلق لوكاس سماعة الهاتف ونظر نحو بيني: ( هل أنت بخير؟).
ولاحظت أنها تقف مسمرة في مكانها تحدق إليه.
ردت بسرعة وهي تغلق الباب خلفها وتدخل: ( نعم... بخير).
- إنه سلفادور، صديق العائلة، ومحامي. تنتظر زوجته طفلها الأول، لذا فالجو في منزلهما مليء بالإثارة.
قالت بيني وهي تتجه نحو المكتب: ( يفاجئني أن يفكر بالعمل نهار السبت إذاً).
- نعم، أنه رجل ممتاز. أنا ممتن له لأنه قبل الحلول محل محامي والدي السابق. فذاك الرجل كان محتالاً للغاية ولم أثق به يوماً.
ولعل هذا هو السبب الذي دفع والده لتوظيفه.
- إذاً سيحرص صديقك علي تنفيذ أمر الإخلاء بحق السيد كينيدي.
- إن استطعت إيجاد المستندات اللازمة.
حاولت بيني إفساح المجال علي المكتب حتى تبدأ العمل وسألت:
- هل تراودك الشكوك حول هذا الأمر؟
- حول ماذا؟
- حول طرد رجل عاجز من ممتلكاته!
لم يجب لوكاس فوراً، ونظرت إليه وأيقنت أنها تريد من كل قلبها أن يجيب بالإيجاب. وإن أقر بهذا، فقد تخبره الحقيقة.
ابتسم ابتسامة جافة: ( تطرحين سؤالاً غريباً).
- أحقاً؟
تملكها الرعب وخافت أن تكون قد تجاوزت الحدود.
وقف لوكاس قرب خزانة الملفات وحدق إليها متسائلاً:
- نعم، لم تطرحين هذا السؤال؟
- لقد تذكرت بأنك قلت لي أن الرجل كان شريك والدك في العمل، وكنت أتساءل إن كنت تشعر ببعض التردد لاتخاذ الأمور هذا المنحي، ليس إلا.
- حسناً تعرفين ما يقال ميلدريد... لا يمكن للمشاعر أن تلعب دوراً في الأعمال.
جاء جوابه مطابقاً للجواب الذي كان سيدلي به والده لو طرح عليه السؤال عينه، فخاب أملها. أرادت أن تقول له بأن ما يجري ليس عملاً، بل هو انتقام مدبر ضد رجل عجوز ضعيف، انتقام أصر والده القاسي القلب علي المضي قدماً فيه حتى بعد وفاته. ولكن أن تقول هذا يعني أن تكشف الحقيقة، ولم تكن واثقة من رغبتها بالإقدام علي هذه الخطوة، وخاصة الآن بعد أن سمعته يتحدث إلي محاميه.
- حسناً، أظن أن علينا البدء بالعمل.
قالت هذا وهي تخلع سترتها وتتناول ملفاً من الملفات. تباً له علي كل حال! فكرت وهي تفرغ محتويات الملف علي المكتب، وتنظر إليها بحثاً عن صك ملكية منزل والدها. يستحسن بها استغلال الفرصة إلي أقصي حد. فهذه هي الفرصة الوحيدة التي يملكها والدها للخروج من مأزقه.
طارت الساعة تلو الأخرى بسرعة جنونية، وبدا البحث عن الملفات دون جدوى. وعندما اقترح لوكاس التوقف عن العمل لأخذ استراحة الغداء، رفضت بيني وتمتمت:
- علينا أن نكمل، فالوقت يداهمنا ولا يعمل لصالحنا.
- حسناً، اسمعي، سنأكل ونحن نعمل، بشرط واحد.
نظرت إليه: ( ما هو هذا الشرط؟).
ابتسم: ( أن تبقي لتناول العشاء معي هذه الليلة).
ثمة شيء في الطريقة التي وجه فيها الدعوة إليها جعلت قلبها يتوقف للحظة. ردت بتسرع: ( لا أظن أنني أقدر).
- ولم لا؟
- هذا لطف بالغ منك... ولكنني لا أريد أن أتطفل.
- أنت لا تتطفلين، فأنا أريدك أن تبقي.
والمزعج في الأمر أنها أرادت أن تبقي، بالرغم من أنها تدرك ضرورة إبقاء مسافة بينهما والحفاظ علي علاقة عمل فحسب.
- أظن أننا نستطيع عندها متابعة العمل بعد العشاء.
محاولة أن تبرر لنفسها سبب قبولها الدعوة.
- هل تتكلمين بجدية؟
نظر إليها لوكاس ممازحاً. جعلها سؤاله ونظراته تحمر:
- حسناً، أحاول أن أتصرف بطريقة مسئولة. فالوقت يمر بسرعة.
- أظن بأننا سنكون قد أنجزنا كمية كبيرة من العمل حتى وقت العشاء. والآن اعذريني، سأذهب للبحث عن السيدة غوردن لأطلب منها أن تعد لنا شيئاً خفيفاً نتناوله هنا ريثما يحل وقت العشاء.
رجعت بيني إلي الوراء علي كرسيها وتنهدت عندما غادر الغرفة. حبذا لو أنه بارد وقاس لكان سهل عليها مهمتها. نظرت إلي الملفات التي يعمل عليها وفكرت أن تلقي نظرة سريعة عليها قبل عودته.
كانت بيني تنظر إلي كومة من الرسائل حين عثرت علي رسالة بعثها والدها في العام الفائت. وبسرعة نظرت أكثر في الملف، فإن وجدت فيه رسالة لوالدها، فلا بد أن هناك المزيد.
وما إن استغرقت في البحث حتى سمعت وقع خطوات لوكاس. وبسرعة البرق دمجت هذا الملف بالملف الذي كانت تعمل عليه وعادت إلي مقعدها.
دخل لوكاس ما إن جلست علي الكرسي.
- كيف تجري الأمور؟
- بخير.
وضع كوباً من القهوة بجانبها: ( هل وجدت شيئاً؟).
- ليس بعد!
- لعلي سأكون محظوظاً بهذا الملف. لاحظت وجود بعض الرسائل من ويليم كينيدي، فربما تكون المستندات هنا أيضاَ.
- هذا مبشر فعلاً.
شعرت بيني بانقباض في معدتها. فهي لم تعي أنه سبق له أن نظر إلي علبة الملفات. سيعرف حتماً أنها أخذتها.
تمتم وهو يبحث في الملف: ( غريب أعجز عن إيجاد الرسائل).
- لا بد أنك تنظر في الصندوق الخطأ.
وقفت بيني ونظرت إلي خزانة من خزائن الملفات الموضوعة خلفه، تشغل نفسها في ترتيب أوراق سبق أن فرزتها. لن تستطيع تحمل الجلوس قبالته لأنه إن نظر إليها مباشرة وسألها إن هي أخذت الملف، فسيصبح وجهها أحمر كالدم.
فتح باب المكتب ودخلت السيدة غوردن تحمل السندوتشات. ووقفت ايزوبيل عند الباب خلفها.
قالت بخجل: ( لا تنس أنك وعدتني بأن تسبح معي بعد الظهر).
نظر لوكاس إلي ابنته: ( لا، لن أنسي يا حبيبتي).
ابتسمت الفتاة وهرعت إلي داخل المكتب لتجلس علي حضن والدها.
- لكم من الوقت ستعمل بعد يا أبي؟
- امنحيني ساعة من الوقت وسأكون بتصرفك.
وأزاح شعرها الأسود الناعم عن وجهها ثم سألها: ( هل تناولت الغداء؟).
أومأت إيزوبيل: ( نعم، تناولت البيتزا).
سألها وهو يرفع حاجبه: ( وهل تناولت بعض السلطة معها؟).
حكت إيزوبيل أنفها، فقال لوكاس بحنان:
- تعرفين أن عليك تناول بعض الخضار يا إيزي، سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع... أتذكرين؟
- نعم.
دغدغها لوكاس وضحكت ثم قال:
- يستحسن أن تتناولي الخضار أيتها الآنسة الصغيرة وإلا ستقعين في مشكلة كبيرة.
- حسناً.... حسناً...
قبل جبينها وقال:
- أنت فتاة مطيعة، والآن أذهبي ودعي والدك يعود إلي عمله. سأوافيك بعد قليل لنسبح.
لفت الفتاة ذراعيها حول والدها وقبلته: ( أحبك أبي).
- وأنا أيضاً يا صغيرتي.
وهرعت إيزوبيل نحو الباب حيث كانت السيدة غوردن تنتظرها.
- عذراً للمقاطعة. لكن كما استنتجت حتماً أنا مضطر لتركك لبضع ساعات لأقضي بعض الوقت مع ابنتي.
- لا بأس.
عادت بيني إلي مقعدها. لقد أثر بها ما جري بينه وبين ابنته.
- لا بد أن الأمر متعب أن تكون مدير شركة ووالد أعزب في الوقت عينه.
- الأمر ليس سهلاً، وأكره حين أضطر إلي العمل لساعات إضافية. لكن السيدة غوردن قادرة علي تحمل المسئولية، وإيزوبيل تحبها كثيراً، مما يخفف عني الضغط.
ومد يده إلي الملف الموضوع أمامه.
توقعت بيني أن يعلق علي الرسائل الضائعة، لكنه لم يعاود ذكر الموضوع.
نظرت إليه فإذا به غارق في قراءة مستند ما. وعلي مضض. عادت إلي كومة الأوراق الموضوعة أمامها.
ساد الصمت في الغرفة لا يقطعه سوى حفيف الأوراق، وصوت قلمها وهي تبوب المستندات. وتساءلت بم هو منهمك إلي هذا الحد.
وفجأة قال لوكاس: ( حسناً، هذا أمر مثير للاهتمام!).
- ماذا؟
- وجدت بعض الأوراق المتعلقة بالشراكة بين والدي وكينيدي.
- أحقاً؟
- كما وجدت صك ملكية كينيدي.
وحمل مستندات صفراء اللون ولوح بها عالياً.
اتسعت عينا بيني. لم تصدق ما تري. تباً! يا لحظها السيئ!
حاولت إبداء بعض الحماسة:
- آه، رائع، أيعني هذا أنك ستمضي قدماً في عملية الإخلاء فوراً؟
- لا، فبحسب سلفادور، أحتاج إلي المزيد من الأوراق، كنسخ عن الإنذارات السابقة، وغيرها. ولكن حصولي علي صك الملكية يسهل علي الكثير من الأمور.
أبعد لوكاس كرسيه عن المكتب:
- سأضعها في مكان آمن لآخذها إلي سلفادور صباح الاثنين أو ربما غداً إن كان متفرغاً.
راقبته بيني يتجه نحو الدرج الأعلى ويضع الملفات فيه، ثم يغلقه بالمفتاح ويضع المفتاح في جيب سرواله. قال لوكاس ببرودة: ( سأقضي بعض الوقت مع ابنتي. إذاً أستطيع تركك تعملين علي الملفات وتبحثين عن الإنذارات ...).
- طبعاً.
راقبته يغادر الغرفة وقد تبعه فلينت عن كثب. ثم رجعت في كرسيها إلي الوراء وأنت.
ظنت أن كل ما تستطيع فعله الآن هو محاولة إيجاد بقية الأوراق. جالت بعينيها علي الغرفة تنظر إلي الصناديق والخزائن المعدنية. وفجأة أحست بصعوبة مهمتها أكثر فأكثر، وانتابها شعور مزعج إذ أحست بأن ميلدريد الحقيقية ستظهر قبل أن تجد تلك الأوراق.
* * *