الفصل الخامس:
في ضباب المشاعر
عادت بيني إلي الردهة ووقفت تنصت لتسمع أي صوت من إيزوبيل، لكنها لم تسمع إلا دقات الساعة. من الواضح أن الفتاة الصغيرة مستغرقة في النوم. نظرت إلي غرفة الطعام، فرأت الصحون مبعثرة علي الطاولة ولاحظت ضرورة ترتيب المكان.
لم يستغرق ترتيب غرفة الطعام الكثير من الوقت. ثم مسحت أرض المطبخ وجففتها كيلا تقع المزيد من الحوادث. وسرها أنها وجدت شيئاً تلهي نفسها به كيلا تفكر بلوكاس وبالمشاعر التي اجتاحتها ما إن لمسها.
انتهت من ترتيب المطبخ وعادت إلي الردهة. شعرت بغرابة لوجودها في المنزل بمفردها. ظنت أن عليها الاستفادة من الوقت والذهاب إلي المكتب والبحث عن تلك الأوراق، لكن لم تتمكن من التفكير بهذا وخيانة لوكاس والعمل من وراء ظهره، فيما ذهب إلي المستشفي لتأدية عمل إنساني.
ما إن أمسكت بمقبض الباب حتى دوى صوت قوي في أرجاء المنزل. ظنت للوهلة الأولي أنه جرس إنذار، ثم أيقنت أنه صوت الهاتف. ضحكت لسخافتها، ثم هرعت تجيب علي الهاتف:
- مرحباً، هذا أنا.
بدا صوته رخيماً دافئاً.
- مرحباً، كيف حال السيدة غوردن؟
- حسناً الخبر السار هو أنها لم تكسر شيئاً في جسمها، أما الخبر السيئ فهو بأن ثمة خطب ما في وركها ويريدون إبقاءها هنا للمراقبة.
- آه، لا! يا لها من امرأة مسكينة.
- نعم، أنها مرعوبة! فهي تكره المستشفيات. علي أي حال، لقد اتصلت بأختها وهي في طريقها إلي هنا، ولكن أظن أنه يستحسن بي أن أبقي حتى تصل.
- لا بأس، لوكاس، سأنتظر وصولك.
- كل ما في الأمر هو أنني قد أتأخر لبضع ساعات بعد، ولا بد أنك مرهقة. فلم لا تنامين في الغرفة الإضافية؟ إنها حاضرة.
- لست متعبة إلي هذا الحد، سأنتظر عودتك.
- ولكن عندها ستضطرين العودة بسيارة أجرة إلي الفندق لأنني لا أستطيع ترك إيزوبيل بمفردها. استعملي الغرفة الاحتياطية، إنها الباب الأخير إلي يمين السلالم. تصرفي وكأنك في منزلك.
وأغلق الخط قبل أن تتمكن من مجادلته أكثر. جلست إلي حافة المكتب وحدقت إلي خزانة الملفات. بحسب ما يبدو، لديها بضع ساعات بعد لتراجعها.
وقفت وفتحت الدرج الأول. ( تصرفي وكأنك في منزلك)، تردد صوت عبارة لوكاس في رأسها وهي تنظر إلي الأوراق. كانت كلماته حنونة وجعلتها تشعر بالذنب.
- تباً!
تمتمت وأغلقت الدرج مجدداً، ثم استدارت وغادرت الغرفة.
توقفت أمام باب نصف مغلق. إنها غرفة إيزوبيل. كان ضوء صغير مضاء ينير الجدران الزهرية والبيضاء والشراشف الزهرية التي تغطي سريرها. دخلت بيني لتطمئن علي الفتاة الصغيرة، إنها نائمة. غطتها بيني جيداً ولاحظت أن الدب الصغير قد وقع بين السرير والطاولة، فلمته عن الأرض ووضعته قرب إيزوبيل علي السرير. وبهدوء خرجت من الغرفة نحو الرواق.
من الواضح أن الغرفة المجاورة هي غرفة السيدة غوردن نظراً للرداء الأرجواني المعلق بجانب الخزانة. أما غرفة لوكاس فهي في الجهة المقابلة. عرفت أنها غرفته لأنها تدل علي طابع رجولي محض. وجدت فيها سريراً كبيراً، وضع عليه غطاء رمادي فاتح، ورأت جهاز كومبيوتر في الزاوية وكتب مكدسة، وكرسي وضع عليه سروالي جينز.
مشت أكثر وفتحت باباً آخر في الرواق، كانت الغرفة مزينة باللون الليلكي والأبيض، وبفرش أبيض يبعث شعوراً جميلاً. وبدا السرير مريحاً للغاية. ففكرت بأنه يفترض بها العمل بنصيحة لوكاس والنوم.
أغلقت الباب وخلعت ثيابها. وما إن وضعت رأسها علي الوسادة حتى غطت في نوم عميق. جاءت أحلامها تلك الليلة مضطربة تماماً كما كانت أفكارها طيلة اليوم. فتارة كانت تخبر لوكاس الحقيقة..... وطوراً تهرب من المنزل، وقد سرقت صك ملكية الأرض. واستيقظت من حلمها مذعورة.
كانت الغرفة مظلمة. ومرت لحظات قبل أن تتذكر أين هي. وسمعت صوتاً أشبه بالبكاء. عرفت أنها إيزوبيل، وبسرعة ارتدت تنورتها وقميصها وهرعت إلي غرفة الطفلة.
كانت الفتاة جالسة علي حافة السرير تبكي من دون وعي.
قالت بيني بنعومة وهي تتجه نحوها: ( ما الأمر يا عزيزتي؟).
- أريد أبي.
- سيعود والدك قريباً. أضطر إلي اصطحاب السيدة غوردن إلي الطبيب لأنها لوت رجلها، ولكن لا تقلقي.
نظرت إليها إيزوبيل بعينين مغرورقتين بالدموع: ( لم لوت السيدة غوردن رجلها؟).
سوت بيني غطاء السرير وقالت:
- لأنها سقطت علي أرض المطبخ، ولكنها ستكون بخير، وسيعود والدك قريباً إلي المنزل. والآن لم لا تعودين إلي السرير وتحاولين أن تنامي قليلاً؟ فأنت ستخرجين مع جدتك غداً أليس كذلك؟
أومأت إيزوبيل ولكنها لم تتحرك لتعود إلي السرير.
- هل ستذهب السيدة غوردن إلي السماء كما فعلت أمي؟
وانهمرت دمعة كبيرة من علي خدها.
انقبض قلب بيني وضمت الفتاة الصغيرة إلي صدرها بحنان:
- لا يا عزيزتي، ستكون السيدة غوردن بخير.
- أتعدينني؟
نظرت إيزوبيل إليها، وحين أومأت بيني تغلغلت فرحة بين ذراعيها.
همست: ( والآن كفاك بكاءً، فما من شيء مخيف).
همست إيزوبيل: ( قد يكون هناك غول تحت سريري، أنا أخاف منه).
- ما من شيء أسمه غول، فهذه مجرد خرافات.
- هل أنت واثقة؟
ابتسمت بيني: ( مئة في المئة عليك أن تنامي الآن، لقد أصبح الوقت متأخراً...).
نظرت بيني لسماعها حركة، وإذا بلوكاس يقف عند الباب يتفرج عليهما. وابتسم لبيني ما إن التقت عينيهما.
سألت متفاجأة: ( كم مضي علي وجودك هنا؟).
- بضع دقائق، عدت لتوي من المستشفي.
استدارت إيزوبيل ما إن سمعت صوت والدها. وصرخت فرحة وقفزت من السرير نحوه: ( أبي، أبي).
قال وهو يحملها بين ذراعيه: ( يفترض بك أن تكوني نائمة يا آنستي الصغيرة، إنها الثالثة فجراً).
- راودني حلم مزعج فاستيقظت، ظننت أن ثمة غول تحت سريري.
قال لها لوكاس بلطف: ( ميلي محقة فيما قالته لك. الغول غير موجود. والآن عودي إلي السرير).
ابتعدت بيني عن السرير لتفسح المجال للوكاس لوضع ابنته في الفراش، وراقبته وهو يغطيها.
- أحلاماً سعيدة يا عزيزتي.
- عمت مساءً أبي، عمت مساءً ميلي.
ابتسمت بيني: ( أحلاماً سعيدة عزيزتي).
بدت إيزوبيل وكأنها تجاهد لإبقاء عينيها مفتوحتين، أما لوكاس وبيني فاستدارا وغادرا الغرفة.
سألت بيني ما إن خرجا من الغرفة: ( إذاً، كيف حال السيدة غوردن؟).
أغلق لوكاس باب الغرفة: ( ليست جيدة، يبدو أنها تعاني آلاماً حادة في وركها منذ أشهر، وهي خائفة من زيارة الطبيب. والآن زادت هذه السقطة الأمور سوءاً).
- يا لها من امرأة مسكينة! ماذا قال الأطباء؟
- قال واحد من الأطباء بعد أن أجرى لها صورة أشعة بأن هناك مشكلة في مفصل الورك، مشكلة ناجمة عن التهاب المفاصل. ولكننا سنعرف المزيد غداً بعد أن يراها الأخصائي.
أخفض عينيه إلي جسمها وسأل: ( هل ارتديت ملابسك علي عجلة؟).
نظرت إلي نفسها فوجدت أن أزرار قميصها غير سوية. وفجأة أدركت كم تبدو غير مرتبة. شعرها الأشقر الطويل منسدل علي كتفيها، وهي لا تضع أي تبرج علي وجهها، ولم تكن ثيابها سوية حتى.
وبسرعة حاولت تسوية أزرار قميصها وهي تقول: ( لا بد أنني أبدو بحالة مزرية.... كنت نائمة عندما سمعت إيزوبيل تبكي).
- لا أظن أنك قد تبدين يوماً بحالة مزرية، بل علي العكس أنت امرأة جميلة جداً.
أحست بأن حرارة جسمها قد انخفضت بسبب المديح الذي وجهه لها والطريقة التي ينظر فيها إليها.
- شكراً... لم أكن أبحث عن مديح.
- أعلم هذا.
لاحظ أنها تعيد إغلاق قميصها بطريقة خاطئة، فسألها ممازحاً: ( أتريدين مساعدة؟).
- لا، شكراً.
أسدلت يديها، فهما ترتجفان ولن تساعداها علي إغلاق قميصها وقالت:
- علي كل حال، الوقت متأخر... أظن أن علينا الخلود إلي النوم.
- نعم، أظن ذلك.
لم يتحرك من مكانه وبقيت هي مسمرة أيضاً تنظر إليه وهو ينظر إليها.
قال برقة: ( شكراً لاعتنائك بإيزوبيل نيابة عني. كنت رائعة معها).
- لم يكن الأمر صعباً، فهي فتاة رائعة.
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت الإشاحة بنظرها عنه، لكنها عجزت عن ذلك.
- علي كل حال، لا بد أنك متعب، فقد كان النهار طويلاً.
همس: ( أنا لا أشعر بالتعب).
مد يده وأزاح خصلة من شعرها عن وجهها. فشعرت برعشة لم تعرفها سابقاً، وهمست: ( ولا أنا).
- أعلم، ثمة جاذبية بيننا... أليس كذلك؟
كان كلامه تصريحاً أكثر منه سؤالاً لذا لم تجب.
- وكنت أتساءل كيف سنتابع من حيث تمت مقاطعتنا سابقاً عندما وصلنا إلي هذه المرحلة؟
- أحقاً؟
ووجدت نفسها تقترب منه، وتتساءل عما سيكون شعورها إن عانقها.
- كما تساءلت إلي أي درجة يجدر بنا أن....
اقترب منها وهمس وهو يعانقها: ( ظللت أحاول إقناع نفسي بأن هذه فكرة سيئة، وبأنك تعملين لدي، وبأن دمج العمل بالأمور الشخصية قد يؤدي إلي تعقيدات...).
فهمست: ( أنت محق، تعقيدات جمة).
حاولت أن تبتعد عنه، فهي هنا تحت اسم مزيف وبصفة مزيفة، ولم يحن الوقت بعد لتتعلق به وتغرم وهي ليست ممَن يحبذن العلاقة العابرة. أعطي عقلها الأمر لجسمها بالانسحاب إلا أن ذلك الأخير أبي التنفيذ.
- لكن لعلها مخاطرة تستحق العناء.
اقترب منها وطوقها بذراعيه فشعرت بالدم يغلي في عروقها، وعجزت عن التفكير بوضوح.
همس: ( كنت أتساءل ما سيكون شعوري إذا عانقتك منذ اللحظة الأولي التي دخلت فيها مكتبي).
- وأنا أيضاً.
كان قلبها ينبض بسرعة هائلة كما لو كان حيواناً يرغب بالخروج من الأسر. أما عقلها فينبؤها بأن ما تقوم به خطأ.
أيقظت فيها لمساته أحاسيس لم تعرف بوجودها من قبل. لم يشعرها أحد بهذه السعادة يوماً، ولا حتى نيك، وقد كانت متيمة بحبه. ولكن ما يجري كان غلطة، فلوكاس داريان هو العدو.
كانت تعيش صراعاً داخلياً، فتارة تشعر بأن ما تقوم به خطأ.... وبأنها تفقد التركيز وتضيع السبب الذي جاءت من أجله. وطوراً تحاول تجاهل هذه الإنذارات لأنها ترغب به بشدة. لم تعش يوماً صراعاً مماثلاً، بل كانت محكمة السيطرة علي مشاعرها وأحاسيسها.
همست: ( وجودنا هنا معاً غلطة كبيرة).
رد: ( ولم هذا؟).
لم تلاحظ حتى أنها تكلمت بصوت مرتفع إلا عندما وجه لها السؤال:
- لنفس الأسباب التي قلتها. إن أي شيء قد نقدم عليه سيكون مجرد علاقة جسدية.
- لم أكن أعرف أنك متحررة إلي هذا الحد.
شعرت بأنها تحمر خجلاً. فالمضحك في الأمر هو أنها ليست متحررة أبداً.... ولكنها واقعية بما فيه الكفاية لتدرك بأن التعرف علي لوكاس عن كثب وتوطيد علاقتها به أمر مستحيل في حالتهما.
وكيف يعقل لما يحصل بينهما أن يكون أكثر من علاقة عابرة في حين قد كذبت عليه كذبات لا تحصي؟ كما أنه الرجل الوحيد في العالم الذي لا يفترض بها إقامة علاقة معه، ففي كل دقيقة تمضيها بين ذراعيه تخون والدها وتطعنه في الصميم. وتسارعت الحقائق الباردة والمزعجة إلي عقلها بسرعة جنونية.
يستحيل أن يكون لعلاقتهما مستقبل!
منتديات ليلاس
همست وهي تحاول عدم الاهتمام:
- كل ما قصدته هو أنه ما من داع لتوجيه الملامات غداً...
وافقها الرأي: ( لن يوجه أحد منا الملامة للآخر).
نظر إلي وجهها المحمر، وحدق إلي عينيها الخضراوين.
- لقد تعلمت منذ سنوات ألا أقلق لما سيحدث في المستقبل.... بل أن أهتم بالحاضر وحده.
أخذ يعانقها أولاً علي مهل ثم بقوة وبشغف ثم قربها منه. وفجأة انتابتها موجة من الغضب. إنها تتصرف بجنون. فقد أتت إلي بورتوريكو كي تساعد والدها، وفقط كي تساعده. وإن لم تسرع بالرحيل من هنا فقد تفضحها ميلدريد بانكروفت الحقيقية. وهي واثقة بأن لوكاس لن يضمها بين ذراعيه ولو لثانية بعد أن يكتشف الحقيقة. بل سيستشيط غضباً ولا تستطيع لومه علي ذلك.
حاولت أن تبتعد عنه ولكنه منعها من الابتعاد فقالت: ( أرجوك... دعني!).
أفلتها ببطء وتردد... وقد أيقظت لهجتها الرافضة كرامة الرجل فيه.
- حسناً... لك ما تريدين.
ابتعدت عنه ثم انسحبت إلي غرفتها وهي تفكر في أن عليها أن تذكر أن ولائها الأول هو لوالدها ليس إلا.
عندما جاء الصباح بقيت في السرير تفكر في ما عليها القيام به فما عليها فعله اليوم هو البحث عن تلك الأوراق وإيجادها ثم وضعها في مكان لا يخطر ببال لوكاس التفتيش فيه ثم الرحيل. لا يمكن لها التفكير بلوكاس داريان علي الصعيد الشخصي.
نزلت بيني تحت الماء تستحم ووضعت وجهها تحت الرذاذ محاولة تصفية ذهنها. شعرت ببعض التحسن بعد أن استحمت وارتدت ثيابها. وبعد أن غادرت الحمام أضحت شبه مقتنعة بأولوياتها. نزلت إلي الأسفل نحو المطبخ. وما إن التقت عيناها بعيني لوكاس حتى لم يعد من معني لكل الكلام الذي حاولت إقناع نفسها به.
- صباح الخير.
ابتسم لها وشعرت بدوار فابتسمت له ابتسامة مقتضبة ثم أشاحت بنظرها عنه.
- صباح الخير.
وسرت لأنها ليست بمفردها معه في الغرفة، فإيزوبيل جالسة إلي الطاولة وأمامها كوب من الحليب.
سالت محولة انتباهها إلي الطفلة: ( كيف حالك هذا الصباح يا إيزوبيل؟).
بالكاد نظرت إليها الفتاة، وهمست: ( أنا بخير).
قال لوكاس مبتسماً:
- أعد الفطائر المحلاة المفضلة لدى إيزوبيل، أترغبين بتناول واحدة؟
- لا شكراً، فأنا لا أتناول الفطور عادة.
قالت لها إيزوبيل: ( طبعاً لن تكون هذه الفطائر لذيذة كالتي تعدها السيدة غوردن).
رد لوكاس: ( بلي، طبعاً ستكون لذيذة. أراهنك بأنني أصنع ألذ فطائر تذوقتها في حياتك. هيا تذوقي واحدة يا ميلي، لا بد أنك جائعة).
- لا، شكراً، لكنني سأعد لنفسي بعض الشاي إن كنت لا تمانع.
ومن دون أن تنتظر رده توجهت نحو الركوة. ستشرب الشاي بسرعة وتتوجه نحو المكتب. فآخر ما تحتاجه الآن هو فطور حميم.
رد لوكاس مزحاً: ( هذا رائع ولكنني سأتناول بعض القهوة).
- حسناً.
شغلت نفسها بفتح الخزانات بحثاً عن الأكواب.
سكب لوكاس بعض العجين في المقلاة، وتصاعدت رائحة الطعام الزكية.
فكرت وهي تنظر إليه بأنه يبدو صامتاً بعض الشيء. كان يرتدي سروال جينز أزرق اللون مع قميص أزرق ويضع علي كتفه فوطة مطبخ، كما لو أنه قضي الصباح بطوله يحضر الأطايب. راقبته يرقع أطراف الفطيرة ثم يقلبها كمحترف.
قالت وهي تنظر إلي إيزوبيل وتتوقع أن تضحك:
- ستندهش السيدة غوردن إن رأتك.
ولكن للأسف إيزوبيل لم تضحك بل بقيت جالسة عابسة. كانت تسند ذقنها إلي يدها، وقد ارتسمت علي وجهها علامات الحزن.
نظرت بيني متسائلة قلقة إلي لوكاس تستفسر عن سبب حزن إيزوبيل، فهز رأسه.
فسر لوكاس بلطف: ( اضطرت جدة إيزوبيل إلي إلغاء مشروعهما لليوم، فخاب أمل إيزوبيل قليلاً).
نظرت بيني إلي إيزوبيل: ( آه عزيزتي، هل خاب أملك؟).
قالت إيزوبيل بصوت منخفض: ( كانت جدتي ستصطحبني إلي البحر).
وبالنظر إلي فستان البحر الذي ترتديه، كانت إيزوبيل مستعدة للرحيل عندما وصلها الخبر. كما أن هناك حقيبة خاصة وضعت فيها منشفتها ومشطها وأغراضها الشخصية، وبجانبها وضعت الرفش والمعول الصغيرين.
قالت بيني بأسي: ( ياللأسف، لعلها ستأخذك في يوم آخر).
عبست وظهر القلق علي وجهها.
- ربما... ولكنها ليست بخير. آمل أن لا تضطر للذهاب إلي المستشفي كالسيدة غوردن .
رد لوكاس بسرعة: ( لا أظن ذلك يا عزيزتي. والآن أسديني خدمة واذهبي إلي الخارج ونادي علي فلينت).
ردت الفتاة: ( لا تسمح السيدة غوردن لفلينت بدخول المطبخ).
- حسناً، سنجري اليوم استثناءاً نظراً للظروف.
- حسناً يا أبي.
ونزلت الفتاة عن الكرسي وركضت نحو الباب. وما هي إلا بضع ثوان حتى سمع صوتها تنادي علي الكلب.
- هذا أفضل، ظننت أننا بحاجة لقضاء دقيقة منفردين.
ابتسم. ووضع فوطة المطبخ جانباً، وأطفأ الغاز، وفي الصمت شعرت بيني بقلبها يتوقف عن الخفقان فيما أقترب منها لوكاس. بدا وسيماً جداً وواثقاً من نفسه، وفجأة لم تعد واثقة من شيء.... سوى أن الكلمات التي قالتها لنفسها وهي تستحم قد تبخرت في الهواء.
ابتسم لها: ( إذاً كيف تشعرين هذا الصباح؟).
- بخير.
ومرر يديه علي خصرها بتملك.
- بخير تماماً.
وابتعدت بنعومة. كيف تمكن أن يبدو بهذه الجاذبية هذا الصباح؟ حاولت التركيز علي أمور أخرى.
- يا للأسف أن يلغي مشروع إيزوبيل.
- نعم.
إنه يدرسها عن كثب وعيناه تراقبانها بشكل يثيرها ويضيع تفكيرها. فبسبب نظرته هذه أرادت أن تنسي كل شيء وتغرق بين ذراعيه، فهي تتوق إليه توق العطشان للماء. وبصعوبة تمكنت من الابتعاد عنه والتركيز علي إيزوبيل.
- خاب أملها كثيراً.
خيل إليها للحظة أنه لن يحذو حذوها، بل سيحول الحديث إلي أحداث الأمس، ولكن بعد بعض التردد قال: ( للأسف باتت بام تلغي المواعيد مع إيزوبيل بشكل متكرر هذه الأيام).
- هل صحتها سيئة؟
هز لوكاس رأسه: ( علي العكس، صحتها ممتازة. فمشكلة بام هي أن لديها صديقاً أصغر منها بكثير ويبدو أنها لم تخبر بأنها جدة. أظنها تخشي أن يهرب إن عرف بالأمر).
- فهمت. لن يكون شخصاً جيداً إن أبعده شيء بسيط كهذا فالجدات يصغرن سناً يوماً بعد يوم.
- هذا تماماً ما قلته لها، ولكنها معجبة به كثيراً ولا تريد المخاطرة بإفساد علاقتهما. بالنهاية هذه حياتها الشخصية، وأنا ما كنت لأهتم لو لم تكن تخذل إيزوبيل مرة تلو أخرى. تتصل بها وتضع المشاريع ثم في اللحظة الأخيرة تتصل وتلغي المشروع لأنه قد وصل. لا يمكن للمرء التصرف بهذه الطريقة مع الأولاد، فهم لا يفهمون. ولذا اضطررت أن أكذب وأخبر إيزوبيل بأن جدتها مريضة.... بالرغم من أنني لا أحب هذا أبداً.
- إنه موقف صعب، ولكنك محق، لا يفترض بالمرء أن يعد الأولاد إن لم يكن سيفي بالوعد. أنا متفاجئة لعدم شعور جدة إيزوبيل بالمسئولية حيالها. فقد ظننت بأن فقدانها لأبنتها سيقدم لحفيدتها مكانة مميزة في قلبها.
- أنت محقة.
- ولكن لعلها تشعر بالحزن علي ابنتها. ولهذا سلكت هذا المنحى في الحياة. فالحزن يؤثر في الناس بطرق شتي كما تعلم.
ابتسم لوكاس لها: ( ربما).
سألت بفضول: ( لم تبتسم هكذا؟).
اقترب منها وقد بدا الفرح في عينيه:
- أنت... أنت تحبين رؤية الجهة الإيجابية في الناس أليس كذلك؟
- لا أعلم... أأنا هكذا؟
- أظن ذلك، كما أنك تتمتعين بحسنات كثيرة.
أرادت بيني الابتعاد عنه، لكنها لم تستطع. فلمسته لها تجعلها تشعر بالضعف والوهن. إنها لا تعلم إن كانت ترى إيجابيات الناس، بل كل ما تريده هو أن تنسي أن لوكاس عدو والدها وترى إيجابياته فحسب.
وفجأة لم تعد قادرة علي المضي قدماً بكذبتها وتمثيليتها الصغيرة.
- لوكاس، علينا أن نتكلم...
لم تكن تعلم ماذا ستقول، لكن بغض النظر عما كان فقد قوطع عندما فتح باب المطبخ ودخلت إيزوبيل يرافقها فلنت.
ابتعد لوكاس عن بيني فوراً، ثم انحنى ليلاعب فلينيت الذي راح يقفز عليه ويهز بذيله.
قالت إيزوبيل وهي تحمل باقات من السوسن في كل يد:
- أنظرا ماذا أحضرت، هذه للسيدة غوردن، وهذه لجدتي، و...
وبصعوبة فصلت الباقات وأعطت بضع زهرات لبيني قائلة: ( هذه لك).
قالت بيني وقد تأثرت بمبادرة الطفلة: ( شكراً لك، هذه مبادرة جميلة منك).
أخذت الأزهار من يدها وشمتها. كانت رائحتها زكية منعشة.
قالت إيزوبيل: ( يشتري والدي الأزهار للناس أحياناً، فقد اشتراها مرة لإيما).
وتساءلت بيني من تكون إيما، أهي صديقة ما؟ فبلغة الأزهار تقدم تلك الأخيرة كعربون للحب. أكان لوكاس مغرماً بامرأة ما. لعله ما زال مغرماً... ودهشت لشعورها بالغيرة. يستطيع لوكاس رؤية من يشاء... وإرسال الأزهار إلي من يشاء... فهذا الأمر لا يعنيها.
- فلنضع هذه الأزهار في الماء حتى تظل نظرة.
قالت بيني هذا محاولة تشتيت انتباهها وتفكيرها عن لوكاس وغرامياته.
- ثمة مراطبين فارغة تحت المجلي.
فذهبت بيني لإحضارها. وضعت الأزهار في الإناء فبدت جميلة ثم وضعته قرب نافذة المطبخ، وعادت تعد القهوة للوكاس وتعد لنفسها فنجان شاي.
سألت إيزوبيل وهي تعاود الجلوس إلي طاولة المطبخ:
- هل تعتقد أن جدتي قد تمر لاصطحابي لاحقاً هذا اليوم؟
وضع لوكاس صحن الفطائر أمامها: ( لا أظن هذا يا عزيزتي).
- آه.
حدقت إيزوبيل إلي صحن الطعام بحزن.
سألها لوكاس: ( هل تريدين أن أضيف السكر أو الشراب إلي فطائرك؟).
- الشراب، شكراً. هل تظن أن جدتي ستأخذني إلي الشاطئ الأسبوع المقبل؟
- لا أعلم، ولو كنت مكانك لما وعدت نفسي كثيراً.
عضت إيزوبيل شفتها السفلي.
سألت بيني محاولة تغيير الموضوع وهي تضع قهوة لوكاس أمامه:
- هل وردتك أي أخبار عن السيدة غوردن؟
- شكراً ميلي. نعم لقد اتصلت بها صباحاً. لقد نامت جيداً وهي تنتظر تقرير الأخصائي بعد ظهر اليوم، كما أن أختها عندها.
سألت إيزوبيل: ( هل نستطيع الذهاب لرؤيتها يا أبي؟ أريد أن أقدم لها الأزهار التي قطفتها لها).
- ليس اليوم حبيبتي، فالسيدة غوردن بحاجة إلي بعض الراحة.
وفجأة سألت إيزوبيل: ( هل ستتمكن السيدة إيزوبيل من أخذي للتسوق من أجل مسرحية المدرسة غداً بعد الظهر؟).
- لا أظن ذلك، عليك أن تكتفي بمساعدتي وحدي هذه المرة.
بدت إيزوبيل مذهولة: ( لا تكن سخيفاً يا أبي. فأنت لا تعرف ما علينا شراءه، هذه أمور خاصة بالفتيات).
- أظنني أعرف ما هي الثياب الرائجة للحفلات هذه السنة، يمكنك الاعتماد علي.
ضحكت بيني لكلامه، إلا أن إيزوبيل ظلت حزينة وقالت: ( لن تعرف شيئاً! سيلبس الجميع الثياب الملائمة إلا أنا! وستسخر مني جينا فريدريك وسيضحك الجميع علي!).
- هيا يا إيزوبيل، أنت تضخمين الأمور، فهذه مسرحية مدرسية، وأنت في السادسة من العمر. ولا يهم فعلاً ماذا ترتدين. فكل ما تحتاجينه هو عباءة طويلة وصولجان. لن يضحك أحد عليك.
- بلي! ستضحك جينا فريدريك علي!
بدت إيزوبيل علي وشك البكاء، وتابعت:
- تبدو جينا جميلة دوماً، فوالدتها تأخذها للتسوق حتى تبدو رائعة دائماً.
- وأنت أيضاً تبدين رائعة دائماً.
- لا، لا أفعل. فقد كنت أرتدي الحذاء الخطأ لرحلة المدرسة الثلاثاء الماضي. قالت جينا أن حذائي قديم الطراز.
وفجأة، أبعدت إيزوبيل الصحن عن المائة وخرجت من الغرفة.
- أعتذر عن هذا يا ميلي! أظن بأن إيزوبيل قد نالت أكثر من خيبة أمل في يوم واحد.
- أفهم تماماً ما تمر به. ولكن لا أظن أنه كان يفترض بك أن تقول لها بأن ما ترتديه في الحفلة أمر غير مهم. فبالرغم من أنها في السادسة فقط، فهي تعرف أن هذا الكلام غير صحيح.
رفع يديه في الهواء: ( إنها مسرحية مدرسية يا ميلي...).
- وإن يكن. من المهم أن تشعر إيزوبيل بأنها تنتمي إلي رفاقها.
تنهد: ( أظنك محقة! ولكن إن كانت تقلق إلي هذا الحد وهي في السادسة فماذا سيجري عندما تصبح مراهقة؟).
شعرت بالأسى نحوه، فليس سهلاً عليه تربية فتاة بمفرده.
- إن شئت أستطيع اصطحابها للتسوق غداً.
لم تع ما الذي عرضته إلا بعد فوات الأوان.
بدا لوكاس متفاجئاً، وتفاجأت هي أيضاً.
- أحقاً؟ سيكون هذا لطفاً كبير منك يا ميلي. أقدر لك هذا فعلاً.
ماذا تفعل؟ صحيح أن لوكاس بحاجة إلي المساعدة وأن إيزوبيل قد عانت كفايتها من خيبات الأمل، ولكن بظل الظروف الراهنة، لا يسعها التورط أكثر.
تأكد لوكاس: ( أحقاً لا تمانعين؟).
ماذا لو ظهرت ميلدريد بانكروفت غداً؟ ماذا ستفعل عندها؟ لن تقع عندها في مشكلة فحسب بل ستكون إيزوبيل قد خذلت مجدداً. يفترض بها أن تركز علي إخفاء الأوراق ومغادرة هذا المكان لا التركيز علي أي شيء آخر.
نظرت إلي الباب ورأت إيزوبيل تنظر. لا بد أنها سمعت عرضها وتنتظر الجواب بفارغ الصبر.
أخذت بيني نفساً عميقاً، وقالت برقة: ( لا، لا أمانع).
ويا للغرابة، فهي لم تكن تمانع أبداً.
سمعت إيزوبيل تطلق صيحة فرح، وبعدها هرعت الفتاة إلي المطبخ ورمت نفسها علي بيني، وسألتها بحماسة: ( أحقاً ستأخذينني للتسوق؟).
- نعم إيزوبيل، سآخذك غداً.
إن كانت تملك بعض التحفظات عما ستفعله، فقد تلاشت كلها عندما رأت الفتاة تصعد إلي الكرسي وتطوق عنقها فرحة.
صرخت الفتاة فرحة: ( شكراً.... شكراً).
سرت بيني كثيراً بردة فعل إيزوبيل. فبالرغم من كل شيء، لو كانت الظروف مختلفة، لما ترددت للحظة بمساعدتها.
قالت إيزوبيل بانتصار: ( سيكون فستاني أجمل من فستان جينا فريدريك).
- حسناً، آمل ذلك).
والتقت عينا بيني بعيني لوكاس فابتسم لها وشعرت بأن قلبها سيتوقف عن الخفقان.
أملت ألا يكون فكرة خاطئة عما يجري. صحيح أنها تحب ابنته، وتريد المساعدة، ولكنها لا تريده أن يخال أنها تحاول إقامة علاقة جديدة معه.
وما إن أفلتت الفتاة عنق بيني، حاولت تلك الأخيرة التصرف بعملية، فنظرت إلي ساعة يدها.
- قد أستطيع الذهاب إلي الفندق وتغيير ملابسي قبل أن تبدأ العمل يا لوكاس، سأتصل بسيارة أجرة.
- سأوصلك، علي الذهاب علي أية حال لإيصال الأوراق إلي منزل سلفادور كي يدقق فيها.
أحست بيني بالامتعاض لمجرد ذكر هذه الأوراق الموضوعة في خزانة الملفات.
قال لوكاس: ( اسمعي، سنتناول الغداء في مطعم " سماغلزز إن" ثم نتنزه علي الشاطئ فتتمكنين من اللعب هناك يا إيزوبيل).
صرخت إيزوبيل صرخة فرح وبدأ فلينت بالنباح.
- حسناً، ربما يمكنك إعطائي مفاتيح المنزل فأعود إلي هنا بعد أن أغير ملابسي وأبدأ البحث عن تلك المستندات.
- لدينا ما يكفي من الوقت للعمل بعد ظهر اليوم، تناولي الغداء معنا يا ميلي.
سرت بيني بالدعوة، لكنها لا تستطيع الاسترخاء، فهدفها الأول هو إيجاد الأوراق، قالت:
- لكنك بحاجة ماسة إلي هذه الأوراق يا لوكاس.
قال لوكاس وهو ينهي قهوته: ( يمكن للأوراق أن تنتظر بضع ساعات بعد).
أيقنت أنه يستطيع الاسترخاء الآن بعد أن أصبح صك الملكية الخاص بأرض والدها بحوزته. يا ليتها وجدته قبله! لكانت غادرت قبل موعد العشاء أمس، ولكانت أصبحت في المطار الآن.
- إذاً ماذا قلت؟ هل ستتناولين الغداء معنا؟
- حسناً، أنا...
قالت إيزوبيل وقد اتسعت عيناها: ( أرجوك ميلي، تعالي معنا).
نظرت بيني إلي لوكاس ثم إلي الطفلة، وذكرته بصرامة وهي تحاول ألا تضعف:
- لديك مهلة محددة من الوقت لإيجاد الأوراق يا لوكاس.
- قد لا أحتاج إليها. يعتمد هذا علي ما سيقوله لي سلفادور بعد أن يراجع الأوراق الأخرى.
- فهمت..
يبدو أنها قد فوتت علي نفسها فرصة مساعدة والدها، لذا يستحسن أن تقلل قدر الإمكان من خسارتها وتحجز لنفسها علي أول طائرة متجهة إلي أربودا لتساعد والدها علي حزم الأغراض في المنزل.
نظرت إلي إيزوبيل فإلي لوكاس الذي ينتظر ردها بفارغ الصبر. وفجأة لم تعد تحتمل فكرة الرحيل. وقررت أن تمنح نفسها يومين بعد ريثما تعرف بالمستجدات التي ستطرأ مع لوكاس بعد أن يطلع سلفادور علي الأوراق، وتأخذ إيزوبيل للتسوق.
ردت: ( يبدو الذهاب للغداء فكرة جيدة، يسرني أن أنضم إليكما).
* * *