الفصل الحادي والعشرون
شجار مؤقت
لو قدر لذلك المنزل الوقور في ريتشموند أن يستحيل مزاراً للأرواح حين أموت , فلا شك أن شبحي سيكون من زائريه . آهٍ لليالي والأيام العديدة التي كانت روحي المعذبة تزور ذلك المنزل حين كانت استيلا تعيش هناك !
ففي داخل المنزل وخارجه , كنت أعاني كل أنواع العذاب الذي تسببه لي استيلا ؛ فطبيعة علاقاتي معها التي وضعتني موضع الألفة بدلاً من موضع التفصيل , كادت تدفعني إلى الجنون . فكانت تستخدمني لمضايقة باقي المعجبين , وكان لها معجبون كثر . كنت أشاهدها غالباً في ريتشموند وتبلغني أخبارها في المدينة , وغالباً ما كنت أصطحبها مع عائلة براندلي التي تقيم معهم للتنزه وحضور المسرحيات والحفلات الموسيقية وحفلات الأنس والسمر وسائر أنواع اللهو , حيث كنت ألاحقها ــ وكان كل ذلك مصدر عذاب وشقاء . ولم أنعم بساع من السعادة بصحبتها , ورغم ذلك فقد بقيت أفكر على مدار الساعة بالسعادة الناجمة عن وجودها معي حتى الممات .
ذات مساء أخبرتني استيلا أن الآنسة هافيشام تود أن تستضيفها ليوم في (( ساتيس هاوس )) , وأن علي اصطحابها إلى هناك والعودة إذا شئت . فوافقت بكل طيبة خاطر , وذهبنا بعد يومين لنجد الآنسة هافيشام في الغرفة حيث رأيتها أول مرة .
كانت هذه أكثر ولعاً باستيلا نحوي بنظرة ثاقبة , وسألتني بتوق حتى على مسمع استيلا : " كيف تعاملك يا بيب , كيف تعاملك ؟ " لكن عندما جلسنا بالقرب من موقدها ليلاً , كانت غريبة للغاية , إذ فيما ظلت تمسك بيد استيلا , جعلتها تذكر أسماء وأحوال الرجال الذين تجتذبهم , وفيما كانت الآنسة هافيشام تصغي باهتمام , جلست تتكئ باليد الأخرى على عصاها وتحدق إلي كالشبح .
استنتجت من ذلك أن استيلا كانت تستخدم لتثأر الآنسة هافيشام من الرجال , وأنها لن تكون من نصيبي إلا حين تثأر لها . واستنتجت من ذلك سبب إبعادي طيلة ذلك الوقت , وسبب رفض وصيي الإقرار بأية معلومات تتعلق بأنها ستكون من نصيبي .
وحدث في هذه الزيارة أن تبادلت استيلا والآنسة هافيشام كلاماً قاسياً , وكان هذه أول مرة أراهما تتعارضان .
كنا نجلس قرب الموقد , والآنسة هافيشام ما تزال تتأبط ذراع استيلا , حين بدأت هذه تسحب يدها تدريجياً .
فقالت الآنسة هافيشام وهي تنظر إليها بحدة : " ماذا ! هل سئمتي ؟ "
أجابت استيلا : " بل سئمت قليلاً من نفسي . " وهي تحرر ذراعها وتتجه نحو المدفأة , حيث وقفت تحد إلى النار .
فصرخت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها بعصبية : " قولي الحقيقة أيتها الجحودة ! لقد سئمتي . "
نظرت استيلا إليها بهدوء تام , ثم حدقت إلى النار ثانية .
فقالت الآنسة هافيشام : " يا لك من جماد وحجر ! يا لقلبك البارد , البارد . "
قالت استيلا : " ماذا ؟ وهل تلومينني لأنني باردة ؟ أنتي ؟ "
فكان الرد العنيف : " ألست كذلك ؟ "
قالت استيلا : " عليك أن تعلمي بأنني كما صنعتني . خذي المديح كله , خذي الملامة كلها , خذي النجاح كله , خذي الفشل برمته , وباختصار خذيني . "
صاحت الآنسة هافيشام بمرارة : " أوه , أنظر إليها , أنظر إليها ! أنظر إليها حيث تربت , كم هي قاسية وجاحدة من رباها ! حيث وضعتها إلى هذا الصدر البائس حين كان ينزف من الطعنات التي أصابته,وحيث أغدقت عليها سنوات من الحنان والعطف."
قالت استيلا : " ماذا تريدين ؟ لقد كنت طيبة جداً معي , وإنني مدينة لك بكل شيء . فما الذي تريدينه ؟ "
أجابت الأخرى : " الحب . "
" لديك إياه . "
قال الآنسة هافيشام : " كلا . "
" والدتي بالتبني , لقد قلت بأنني مدينة لك بكل شيء , كل ما بحوزتي هو لك مجاناً , وكل ما منحتني , لك استرجاعه عند الطلب , وإن سألتني أن أمنحك ما لم تمنحيني إياه , فإن إقراري بالجميل والواجب يتعذر عليه المستحيل . "
صاحت الآنسة هافيشام وهي تلتفت نحوي بغضب : " ألم أعطها الحب أبداً ! ألم أعطها الحب متقداً , فيما هي تتحدث إلي هكذا ! لتدعوني مجنونة , لتدعوني مجنونة ! "
أجابت استيلا : " ولماذا أدعوك مجنونة أنا من دون سائر الناس ؟ هل من أحد يعرف نواياك نصف ما أعرف ؟ وهل من أحد يعرف ذاكرتك الثابتة نصف ما أعرف ؟ أنا التي جلست بجانب هذا الموقد بالذات أتعلم دروسك وأنظر في وجهك , حين كان وجهك غريباً يخيفني . "
فانتدبت الآنسة هافيشام تقول : " منسية بسرعة ! أحوالي باتت طي النسيان ! "
" كلا , لم تنس , لم تنس , بل هي مخزونة في ذاكرتي . متى وجدتني أخالف تعليماتك ؟ ومتى وجدتني أوافق على ما تعارضين عليه ؟ كوني عادلة معي . " ثم لمست صدرها بيدها .
انتدبت الآنسة هافيشام تقول : " مغرورة جداً , مغرورة جداً . "
قالت استيلا : " من علمني أن أكون مغرورة ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
وزعقت الآنسة هافيشام تقول : " قاسية جداً , قاسية جداً . "
" ومن علمني أن أكون قاسية ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
صاحت الآنسة هافيشام وهي تمد ذراعيها : " لكن لتكوني مغرورة وقاسية معي . استيلا , لتكوني مغرورة وقاسية معي . "
نظرت استيلا إليها بتعجب هادئ , ثم عادت تنظر إلى النار ثانية . واستقرت الآنسة هافيشام , لست أدري كيف على أرض الغرفة , فانتهزت الفرصة لأغادر الغرفة وأتمشى تحت ضوء النجوم مدة ساعة أو أكثر في الحديقة المهملة . وعندما استجمعت شجاعتي في النهاية لأعود للغرفة , وجدت استيلا تجلس على ركبة الآنسة هافيشام . بعد ذلك لعبت الورق مع استيلا كسابق عهدنا , وبذلك انتقضت الأمسية , فذهبت للنوم.
قبل أن نغادر في اليوم التالي , لم يتجدد الشجار بين الآنسة هافيشام واستيلا , ولم يتجدد في أي مناسبة مماثلة .
يعتذر علي قلب هذه الصفحة من حياتي دون أن أذكر فيها اسم بانتلي درامل , وإلا كنت في منتهى السعادة .
ففي ذات مناسبة , حين كنت أنا وهربرت مجتمعين مع بعض الأصدقاء في نادينا , تراءى لي أنني رأيت بانتلي ينظر باستهزاء نحوي بطريقة مشينة , وما لبث أن عرض على الحاضرين نخب استيلا . سألت : " استيلا من ؟ "
فأجاب درامل : " لا عليك . "
قلت : " استيلا من أين ؟ "
" من ريتشموند أيها السادة , ذات الجمال الفريد . "
فقال هربرت عبر الطاولة بعد أن شُرب النخب : " أعرف تلك السيدة . "
فقال درامل : " حقاً ! "
قلت مضيفاً وقد احمر وجهي : " وكذلك أنا . "
قال درامل : " حقاً ! يا إلهي ! "
أثارت هذه الإهانة غيظي فدعوته بالإنسان الوقح على التجرؤ بشرب نخب فتاة لا يعرف عنها شيئاً , وأفصحت عن استعدادي للمبارزة معه : لكن الحضور قرروا أنه في حال أحضر درامل شهادة من السيدة تفيد أنه يحمل شرف معرفتها , فسيتوجب علي الاعتذار له بصفتي سيداً , نظراً لأنني فقدت صوابي . وفي اليوم التالي جاء درامل يحمل اعترافاً موجزاً بخط استيلا , يفيد أنها حازت شرف الرقص معه عدة مرات , مما لم يترك لي أي خيار سوى الاعتذار له .
يعجز لساني بالتعبير عن الألم الناشئ عن التفكير بأن استيلا تبدي إعجابها بمثل هذا الإنسان الحقير الأخرق . لذا اغتنمت أول فرصة للقائها في حفل في ريتشموند ومفاتحتها حول هذا الموضوع ــ وكان درامل بين الحاضرين .
قلت : " استيلا , أنظري إلى ذاك الرجل في الزاوية لذي ينظر إلينا . "
قالت استيلا : " لماذا أنظر إليه ؟ وما المثير فيه لأنظر إليه ؟ "
قلت : " ذلك السؤال بالذات الذي أريد توجيهه إليك . فما زال يحوم حولك طيلة الليل . "
فأجابت استيلا وهي ترمقه بنظرها : " أن ألعث وسائر المخلوقات الكريهة تحول حول الشمعة المضاءة , فهل يسع الشمعة القيام بشيء ؟ "
" كلا , لكنني أشعر بالخزي يا استيلا إذ تشجعين رجلاً مقيتاً للغاية مثل درامل . رأيتك تمنحينه نظراتك وابتساماتك هذه الليلة بالذات , كما لم تمنحينيها أبداً . "
قالت استيلا : " وهل تريدني إذن أن أخدعك وأوقع بك ؟ "
وهل تخدعينه وتوقعين به يا استيلا ؟ "
" أجل , وبالكثيرين غيره ـ جميعهم ما عداك . ها هي السيدة براندلي مقبلة , لن أقول أكثر من ذلك . "
يتبع ...