الفصل السابع
الآنسة هافيشام
حين كبرت , عُهد بي إلى جو للتدرب لديه , وحتى ذلك الحين كنت غريباً في دكان الحداد , وعلاوة على ذلك , فكلما احتاج الجيران إلى صبي إضافي لتخويف الطيور أو جمع الحصى أو القيام بمثل هذه المهام , كان الاختيار من نصيبي على الدوام .
خلال هذه الفترة , كنت أحضر مدرسة ليلية تديرها عمة والد السيد ووبسيل . كان لها أسلوب غريب في التعليم , إذ كان من عادتها أن تذهب للنوم من السادسة حتى السابعة كل مساء , فتترك التلاميذ يجتهدون بمراقبتها وهي تفعل ذلك .
إضافة إلى هذه المؤسسة التربوية , كان لدى العمة ـ في نفس الغرفة ـ دكان عام صغير . لم تكن لديها فكرة عما لديها في الدكان من بضاعة , أو عن أسعار السلع في الدكان , بل هناك سجل ملوث بالزيت , تحتفظ به في أحد الأدراج وتستخدمه كدليل للأسعار , فكانت بيدي , لاتي تربطها قرابة بعيدة بالسيد ووبسيل ؛ تستعين به لتدبير كافة عمليات الدكان . كانت يتيمة مثلي . وكمثل حالي قد أنشئت على اليد .
وبمعونة بيدي , أكثر من معونة يد عمة والد السيد ووبسيل,مررت في كفاح مع الأحرف الأبجدية , ولقيت القلق الشديد من كل حرف . لكنني بدأت في النهاية , بطريقة عشوائية عمياء , أقرأ وأكتب وأحسب على أقل المستويات .
لم يسبق لجو أن ذهب للمدرسة في طفولته . وفي إحدى الأمسيات , فيما كنا جالسين سوياً قرب النار , كتبت له رسالة على لوح حجري قدمته له . ورغم أنه لم يستطع أن يقرأ سوى اسمه , قال إنني عالم كبير , وأفصح عن إعجابه بما لدي من علم ومعرفة . ثم أخبرني عن فترة من تاريخ حياته . فقد كان والده مدمناً على الشراب , وغالباً ما كان يضرب جو ووالدته , وقد هربا منه عدة مرات , وكان عليهما العمل لكسب قوتهما , لكنه كان يعيدهما إليه في كل مرة . كان على جو العمل حداداً مكان والده الكسول , وأعال والده إلى أن وافته المنية , وما لبثت والدته أن لحقت بزوجها .
ثم تعرف جو إلى شقيقتي وطلب يدها للزواج , ورجاها أن تحضرني معها إلى المنزل , قاءلاً إن هناك مكاناً يتسع لي في دكانه . وقال جو في ختام روايته : " فأنت عترى يا بيب , ها نحن الآن ! فحين تساعدني في التعلم يابيب ( وأخبرك سلفاً بأنني بليد للغاية ) , لا ينبغي أن تلاحظ السيدة جو ما نقوم به . بل ينبغي أن يتم ذلك , إذا جاز لي القول , في الخفاء . ذلك أن شقيقتك تحب التحكم , ولن تقبل بوجود مثقفين في البيت ,ولن ترضى على الأخص أن أصبح مثقفاً , خشية أن أقف في وجهها ."
كدت أسأله " لماذا " حين قاطعني جو قائلاً : " تمهل قليلاً , أعرف ما ستقوله , تريد أن تعرف لماذا لا أقف في وجهها . حسناً , إن لشقيقتك عقلاً فذاً , لكنني لست كذلك . إضافة إلى ذلك يا بيب , إنني أرى كثيراً في والدتي المسكينة كامرأة تستبعد وتحطم قلبها الشريف دون أن تحصل على قدر من الطمأنينة في حياتها , حتى إنني أخشى أن أخطئ بعدم انتهاج ما تراه المرأة صحيحاً . وأفضل كثيراً أن أعاني شخصياً من التضايق بعض الشيء . حبذا لو أنني بمفردي أعاني من ذلك , حبذا لو لم يكن هناك إزعاج لك يا صديقي , ليتني أستطيع تحمل الأمر كله بنفسي , لكن هذا هو الحال يا بيب . آمل أن تتغاضى عن العيوب . "
رغم صغر سني , أظن أنني سجلت تقديراً جديداً لجو ابتداءً من تلك الليلة .
كانت السيدة جو تقوم بالتجول مع العم بامبلتشوك أيام التسوق لمساعدته في شراء حلجات المنزل التي تتطلب حكمة المرأة . كان ذلك يوم التسوق , وقد خرجت السيدة جو في إحدى هذه الجولات .
وها قد وصلا . قالت السيدة جو : " والآن . " وهي تخلع أغطيتها بسرعة وشيء من الإثارة , فتلقي بقبعتها إلى الوراء على كتفيها حيث تتدلى بسلاسل . " إن لم يكن هذا الفتى , شكوراً هذه الليلة , فلن يكون كذلك أبداً . "
بدوت شكوراً بأفضل ما يستطيعه فتىً , دون أن يعلم بعد لِم يجب أن يكون كذلك .
فقالت شقيقتي : " لنأمل فقط ألا يطاله الفساد , لكن لدي مخاوفي . "
قال السيد بامبلتشوك : " من غير المحتمل أنها ستفسده ,
سيدتي . فهي تعرف أكثر . "
هي ! نظرت إلى جو وأنا أحرك شفتي وحاجبي متسائلاً , " هي ؟ " فنظر جو إلي وهو يحرك شفتيه وحاجبيه .
قالت السيدة جو بطريقتها الفظة : " حسناً , بماذا تحدقان ؟ هل المنزل يحترق ؟ "
فأشار جو بأدب قائلاً : " هناك شخص ما ـ ذكرها . "
فقالت زوجته : " وهي هي , على ما أعتقد ! إلا إذا كنت تدعو الآنسة هافيشام هو . وأشك أنك ستذهب إلى هذا الحد . "
قال جو : " الآنسة هافيشام في المدينة ؟ "
قالت شقيقتي : " وهل يوجد في المدينة آنسة هافيشام؟إنها تريد من هذا الفتى أن يذهب ويلعب هناك . ولا شك سيذهب . فالأفضل له أن يلعب هناك . " وأضافت وهي تهز رأسها لي تشجعني أن أكون خفيفاً ورياضياً : " وإلا فسأتدبر أمره . " ... كنت قد سمعت أن الآنسة هافيشام في المدينة ـ والجميع على بعد أميال سمعوا أن الآنسة هافيشام في المدينة ـ سيدة في غاية الثراء والحزم , تعيش في منزل فخم كئيب وتحيا حياة منفردة .
فقال جو مندهشاً : " حسناً , أستغرب كيف لها أن تعرف بيب ! "
صاحت شقيقتي : " أيها الأحمق ! ومن قال إنها تعرفه ؟ "
أشار جو بأدب ثانية : " هناك من ذكر أنها تريده أن يذهب ويلعب هناك . "
" ألا يمكنها أن تسأل العم بامبلتشوك إذا كان يعرف فتى ليذهب ويلعب هناك ؟ ألا يحتمل أن يكون العم بامبلتشوك مستأجراً لديها , وأنه يذهب إلى هناك أحياناً لتسديد إيجاره ؟ وألا يستطيع العم بامبلتشوك , كونه طيباً تجاهنا دائماً ,أن يتكلم عن هذا الفتى الذي كنت منذ زمن خادمة مطيعة له؟ "
فصاح العم بامبلتشوك : ط أحسنت ثانية , أسلوب جيد . حسناً عبرت ! جيد حقاً ! والآن يا جوزيف فإنك تعلم بالأمر . "
فقالت شقيقتي : " كلا يا جوزيف , فأنت لا تعلم أن العم بامبلتشوك , علماً منه أن مستقبل الفتى سيتحقق بذهابه إلى الآنسة هافيشام , قد عرض أن يأخذه إلى المدينة هذه الليلة , وفي عربته الخاصة , وأن يستبقيه لديه هذه الليلة ثم يأخذه إلى بيت الآنسة هافيشام في الصباح التالي . "
بعد أن أوضحت هذا , أمسكت بي فجأة , فوضعت رأسي تحت حنفيه وغسلت رأسي بالصابون , ونشفتني حتى بدوت غير نفسي . ثم ألبستني ثياباً نظيفة من أجمد الأنواع , ثم ارتديت أضيق بذلاتي , وعُهد بي إلى السيد بامبلتشوك الذي ألقى علي خطاباً كنت أعلم أنه يحترق لإلقائه : " يا بني , كن مستحباً أبداً للأصدقاء , وخاصة الذين أنشؤوك على أيديهم . "
قلت : " وداعاً يا جو . "
" ليباركك الله يا بيب , أيها الصديق القديم . "
لم يسبق أن افترقت عنه من قبل , وماذا بشأن مشاعري وماذا بشأن رغوة الصابون , ولم أستطع رؤية نجمة من خلال العربة المكشوفة . لكنها راحت تلمع واحدة إثر أخرى , دون أن تلقي ضوءاً على التسائل : لماذا بالله أنا ذاهب لألعب عند الآنسة هافيشام , وماذا تراني ألعب ...
الفصل السابع
زيارات المذلة
يتبع ...