جده
القصر
في نفس اللحظات
عادت إلى الصالة الرئيسية .. كانت تشعر بالتعب حقًا ، فلم تذق طعم النوم منذ أن وصلت إلى جده.
سارت نحو قسمها وعيناها تجولان فيما حولها ، لم يتغير فيه الكثير بعد الحادث ، و ما أسعدها أن تركي لم يمحي قسمها من الوجود بل رممه فقط و أعاده بفضل الله كما كان .
دلفت إلى حجرة نومها و ابتسمت حينما رأت زوجها : هاه .. فقت دحين ؟؟.
ألقى بجسده على السرير و هو يجفف شعره بالمنشفة : آآخ .. و الله جسمي مهدوووود .
توجهت إلى المشجب و علقت عباءتها مغممة : آه .. عمّار ؟؟.
أجابها و هو مغمض العينين : هممم .
ابتلعت ريقها و هي تتجه إلى السرير ، جلست إلى جواره و قالت : أنا ..امم ..
حارت بأي الكلمات تبدأ حديثها .. فأطبقت شفتيها ، فتح إحدى عينيه و نظر إليها قائلاً : اش عندك ؟؟ .
رفعت بصرها بخجل و همست : شكلك تعبان .. نخليها بكره .
همت بالنهوض و لكنها تسمرت في مكانها عندما أمسك كفها و قال : ترى ما راح أنام .. اش تبغين ؟؟.
فغرت فاها للحظة ثم عاودت الجلوس مجددًا و هي تغمم: الصراحه .. يمكن الموضوع ما يعجبك .. بسسس
و أغمضت عينيها قائلةً بتوتر : أبغى أجلس هنا إلين أحل مشكلة تركي و رهف .
توقعت أن تسمع اعتراضه المباشر و لكن أذناها لم تلتقطا شيئًا ، فتحت عينيها بحذر فوجدته هو الآخر مغمض العينين ، هتفت و هي ترفع حاجبيها : عـــــمّار ؟؟!!! نمت ؟؟.
زفر و هو يقول : لا .. أسمعكِ .. كملي .. هذا الطلب و ين التبرير ?? .
لمعت على شفتيها ابتسامة ضاحكة ، و همست : و الله يا سيدي انتا عارف إنه بالي من أول مشغول على رهف و شفتني طول الطريق للقصر و أنا أكلم هديل و أسألها عن الوضع و الصراحه .
و أطرقت برأسها تداعب أظفارها في توتر : قلبي مو معطيني أسافر و أخلي الحال كذا .
وضع يديه فوق صدره و قال بهدوء : ميمي .. تركي إذا حط شي فـ راسه ما في أحد يقدر يجبره عشان يغيره .
هزت رأسها نفيًا و هي تهتف باندفاع : هذاك أول .. تركي دحين تغير.
فتح إحدى عينيه و غمم مداعبًا : مره ..!!! مالك ساعه معاه و تقولين تغير.
تنفست الصعداء ثم همست : لوماني شايفه أمل إن الموضوع ممكن ينحل ما كان شغلتك و شغلت نفسي فيه.
أغمض عينيه مجددًا وأدار ظهره لها، تململت في مكانها و هتفت بغيظ طفولي : عــــــــــمـّااااار..الله يخلييييييييك.
تمتم بهدوء : شهر.
رفعت حاجبيها في دهشة و هتفت :ايش ؟؟.
أجابها بهدوء : شهر واحد بس و بعدها نرجع لألمانيا .
صاحت في فرحة و هي تهب لتقبل وجنته بسعادة عارمة : شكرًا شكرًا شكرًا يا حبيبي يا عمّوووووووووووووووور .
ضحك و هو يهتف :عفوًا يا مرومتي .. خلاااص خليني أنام .
نزلت من على السرير و قلبها يخفق بسعادة : أخيرًا راح أقدملهم شي .
تثاءب بنعاس ثم هتف : مـيميييييييي طفي النووووووور .
هتفت بمرح : حاااااااااضر .
أطفأت الأضواء و خرجت إلى حجرة الجلوس و هي تغلق الباب بهدوء ، سارت على عجل إلى الهاتف لتأخذ التفاصيل بصورة أوضح من هديل ، كل ما عرفته و ما أدمى جوارحها أن رهف قد وقعت في شباك الحب و طلبها الوحيد أن ترى تركي قبل الطلاق ، أمسكت بسماعة الهاتف و هي تجلس على الأريكة هامسة : سبحان الله ، صحباتي في الجامعه و ما جا على بالي فـ لحظه إنهم بيآخذون عيال أولاد أختي .
و زفرت بإرهاق و هي تضع السماعة على أذنها : و أنا اللي وقعت بينهم مصلحه إجتماعيه .
.
.
.
و في جناح تركي
تقدم للداخل قليلاً و هو يمسك بكوب من عصير الليمون بالنعناع ، ابتسم لمنظر البراء النائم في حجره و خصلات شعره متناثرة على وجهه الملائكي ، رفع بصره إلى الآخر النائم بإرهاق شديد على الأريكة المريحة و أمامه النافذة المطلة على الحديقة ، زفر و هو يجلس على الكرسي أمامه .. النوم يجافيه لأجل هذا المعذب .. لا قدرة لديه على إغماض جفنيه و هو يعلم أن رفيقه يعاني .. لن يرتاح قلبه حتى يعلم بالسبب بل و يجاهد لحله .. وضع الكوب على الطاولة و نظر إلى الساعة ليتأكد من موعد الدواء .. لقد أصر على البقاء وحيدًا و رفض تناول أي نوع من الطعام .. طلب منهم فقط أن يتركوا البراء برفقته .. رفع رأسه بحدة لتلك التنهيدة التي ندت من بين شفتيه ، زوى ما بين حاجبيه و الآخر يحرك رأسه بانزعاج كأنه يعيش حلمًا مفزعًا .. قطب جبينه و أنفاسه تعلو و .. : أمـــي .. أمــــي .. أمـ .. لا .. أبـ .. أبويه .. أنـ .. وقـ .. وقف ..أنـ .. أنـ
اشتدت ملامح وجهه أكثر مما أثار قلق أحمد الذي خفق قلبه و هو يمد يده برفق و يربت عليه هاتفا : تركي .. تركي .
هز رأسه بعصبية أكبر فرفع أحمد صوته هاتفًا : تـــــــــــــركــي !!!!!!.
فتح عينيه على اتساعهما و أنفاسه مخنوقة في حنجرته ، ابتسم أحمد مهدئًا و الألم يعتصر قلبه : كنت تتحلم .
ظل على حاله للحظة ثم ما لبث أن زفر بحرارة و هو يشيح بوجهه و الشحوب يكسو ملامحه الحزينة ، مد أحمد يديه مغممًا : هات البراء عشان تريح جسمك شويه على السرير .
هز تركي رأسه نفيًا و هو يضم البراء النائم إليه هامسًا : خليه .
وضع أحمد يديه على ركبتيه .. كم تمنى لحظتها لو أن السعادة شيء محسوس .. يمسكها بكفيه ليزرعها في قلب تركي .. ليمحي كل ألم أرهقه .. كل جراح أدمت قلبه .. كل عناء واجهه .. كل دمعة ذرفها .. كل هم كتمه .. و كل كرب شتته .
ساد الصمت بينهما و تركي يشغل نفسه بالنظر إلى البراء كأنه يهرب من النظر إلى عيني رفيقه .. ابتلع أحمد غصته و هو يمسك بكوب العصير و يمده إليه : اشرب شويه .. عشان يهدي أعصابك .
هز تركي رأسه رفضًا : شكرًا .. بكمل صيامي .
ارتـــــــــــــــــدت روحــــه فـــي عــنــف لخــاطــر جـــال فــي باله فقبض على صدره بــــــــــألــم و آهة مــــــــــوجـــــــــــوعــــة تند من بين شفتيه و هو ينحني للأمام ، انتفض أحمد في مقعده و هب هاتفًا في قلق : اشبــــــــك ؟؟!!!.
صك تركي على أسنانه بألم رهيب و هو يغمض عينيه و يهز رأسه هامسًا بصوت مخنوق : لا تخاف .
نبض قلب أحمد بخوف رهيب و هو يضع يده على ظهر تركي الذي التقط أنفاسه بصعوبة ثم أسند ظهره للخلف مغممًا بوجهه الشاحب : أحمد روح ارتاح و خذ البراء .. خليني لوحدي و لا تشيل همي .
زوى أحمد ما بين حاجبيه و الغضب يشتعل في أعماقه ، غمم بخفوت لا يعكس ما بداخله و هو يقبض على كتف تركي : علمني باللي فيك .
حدق تركي في عينيه المترقبتين للحظات و نزاع روحه ينخر فؤاده ، غمم بخفوت : قلت خليني لوحدي .
تفجرت صيحة أحمد الغاضبة و هو يمسك به مع تلابيبه ليهزه بعنف : تـــــــــركــــي .. تــــــــــــركي اطلـــــــــــع من اللي انتـــــــــــــــا فيــــــــــــــه .. تـــــركــي اصحـــــــــــــى .. قــــــــــــوووووووووووم ... مو انتـــا اللي تطيح و تنهار كــــــــذااااا .. مو انتــا اللي تضـــــعف و تخلي المصيبة تــــــــشـــلـــك و تـــنهـــــــــيك ، طول عمرك صابــــــر و صــــــــامد .. اش اللي صار لك دحــــــــين .. فـــــــــــــــــهمنييييييييييييييي .. لا تخليني زي المــــجنون أتقطع عشان أعرف اللي فيك .. إذا انتا مي هامتك نفســــــــــك .. فأنا تهمـــــــــــــــني .. أبيع عمري عشان أشوف البسمه على وجهك .. أضحي بكل شي عشان راحتك .. تـــــــــــكــــلم يا تــــــــــــركي .. انـــــــــــــــــــــطق .. اش اللي صــــــــــــــــار ؟؟؟!!!!!!!! .
تطلع إليه تركي بصدمة عارمة و أحمد محتقن الوجه و كل خلجة من خلجاته تنبض بقهر عجيب ، حرك تركي حدقتيه للحظة ثم فتح شفتيه ببطء لينطق و .. انهارت عزيمته و الشحوب يكتسح وجهه ، أطرق ببصره و هو يضع كفيه على يدي أحمد الممسكتان به مغممًا بخفوت: خليني و خذ البراء .
تركه أحمد و الغضب يعربد في أعماقه ، رفع البراء على الفور و سار به إلى السرير و تركي ينهض من مكانه في ذات اللحظة هو يشعر بروحه تتضاءل و تتضاءل .. و فراغ مهيب يحتل مساحات شاسعة من كيانه.. سيرحل .. سيترك كل شيء و يهرب إلى طريق مجهول .. كنسبه تمامًا .. كعائلته .. سيرحل .. لينسى من هو و من يكون .. لينسى لحظة موته بمقصلة من ظنه والده .. سيرحل .. ليبقى وحيدًا .. سيرحل .. ليموت بؤسًا و كمدًا .. .. سيرحل .. فلا مكان له هنا .. سيرحل .. فلا وجود لتركي إلا في مخيلتهم فقط !! ، رفع بصره للباب وصك على أسنانه بحنق و هتاف أحمد الذي اعترض طريقه يتفجر في وجهه : مـــــــــــــــــــا راح تـــــــــــــــــطــــــــــــلــع .
احتقن وجه تركي و هو يرمي عليه بسهام من نار: أحمـــــــــــــــد ابـــــــــــــعد عن طـــــــــــــريقـــــي .
فرد أحمد يديه ليمنعه من مواصلة الطريق و صاح بعصبية : قلت ما راح تطلع و فـ صدري نفــــــــــــــس ، دحين تعلمني باللي صـــــــــــــار .. تـــــــــــــــــركي انــــــــــــــطق !!!!!!.
تفجرت صيحة تركي كالحمم و الدموع تتجمع في عينيه : اش تبـــــــــــغاني أقلـــــــــــــــــك ؟؟!!!.. تبغاني أقلك إني مو أخو جوري من لحمها و دمها ؟؟!!!!!!!! تبغاني أقلك إني انخطفت من المستشفى و أنا رضيـــــــــــــــــع !!!!!!!!!!!!!! تبغــــــــــــــــاني أقلــــــــــــــــــــــك إني ما أعرف مين أمي و مين أبويـــــــــــه ؟؟!!!!!!!!!!!!!.
جحظت عينا أحمد بذهول و تركي يردف بصعوبة بالغة و هو يجاهد لالتقاط أنفاسه و دموع حارة تنساب على وجنتيه : اش تبغاني أقلك يا أحمد ؟؟!! تبغاني أقلك .. خـ .. خـطفني من حضانة المستشفى .. و حط على سريري ولده الميت .. و .. و ماقلي من هما أهلي .. انقطع الشريط .. و مـ .. ما قلي من هما أهلي .
تهاوت يدا أحمد و أشاح تركي بوجهه بعيدًا عن رفيقه .. ليموت ألف و ألف مرة.
تراجع أحمد إلى الخلف و هو يتطلع إليه بقلق رهيب .. قلبه يخفق بانفعال ، و خلايا عقله عاجزة عن التصديق .
انتشر الألم المرير في صدره مجددًا فأغمض عينيه بقوة و أعصابه تتأوه من حمم الذكرى القاتلة ، فتح عينيه بصعوبة و هو يلهث هامسًا : : أحمــــد ابـــــعد عن طـــــريقي .. خليني أروح .. خليني أمـوت .. أنا مو منكم .. أنا ما لي حــق فــ شي و أنا ولـ ..و ..
أعتمت الدنيا في عينيه و الكلمات تنبض من مآقيه المحمرة قبل شفتيه : و أنا الولد من الرضاعه !! .
و كأنما استنفدت الكلمات آخر ما تبقى في جسده من طاقة ، شعر بجسده ينهار أرضًا و صيحة أحمد القلقة تهتف باسمه ، أمسك به أحمد فوضع يده على جبينه و غمم بصوت متحشرج : سيبني ، خليني أطلع .
تجاوز أحمد صدمته و هتف بحرقة للحال التي وصل إليها : انــــــــــــــــــــــتـــا تــــــــــــــبــغـــى تــــقتـــل نفسك ؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!.
أقعده عنوة على الكرسي خلفه و هو يجثو على ركبتيه أمامه و يهتف بحزم : انتا مو قلتلي أول إن القصر باسم جوري .. يعني اسكت دحين و ريح جسمك .
انعقد لسان تركي في فكيه لشدة الضعف الذي يعربد في أطرافه ، و ذلك الدوار .. رباه .. مالذي أصابه ؟؟!! .. و لماذا هذا الألم الغريب الذي يمزق نياط قلبه و يوشك أن يفقده حياته في أي لحظة ؟؟!!! ،استكان في مكانه لدقيقة ثم فتح عينيه بضعف ليواجه نظرات أحمد التي تنطق بأسمى آيات القلق و الاهتمام ، أحمد الذي هتف بحرقة من أعمق أعماق قلبه :
و اش الـــلي بــيــتــغــيـر يا تــــــركي ؟؟ .
حدق فيه تركي باستنكار الدنيا كلها ، و أحمد يهتف بذات النبرات و هو يتطلّع إلى عينيه : ما في شي بيتغير لا طيبتك و لا قلبك الكبير ولا الناس اللي يحبونك بيتغير حبهم لك .. و أنا أولهم .
لم يحر تركي ردًا و لم ينبس ببنت شفته .. بل تعلق بصره بأحمد الذي أردف و هو يشد من قبضتيه على ركبتي رفيقه : أنا حاس بحرقة قلبك و ضياعك ، صعب الانسان يعيش و هوا ما يعرف أهله .. لكن .. هذا ما بيغير تركي .. ما بيغير صـــحــيفــة أعـــمـــالـــك و لا بيمسح ذاكرتك و ينسيّك البراء اليـــــتيــــم اللي ربيته و اعتنيت فيه كأنه ولدك .. ما بينسّيك جوري اللي حبيتها و وقفت جنبها و هيّا بنت اللي عذبتك و كرّهتك فـ حياتك .. ما بينسّيك تساهير اللي ساعدتها فـ محنتها و لا بينسّيك أمها اللي ما رديت لها طلب و غطتها جمايلك إلين اندفنت فـ قبرها .
توهجت الدموع في حدقتيه الذابلتين و أحمد يهتف : الوليد سوا اللي سواه و انتهى الموضوع ، انتا ما بيدك ترجع 28 سنه ورا و تغير الحادثه .. كنت طفل .. و الله اختارك من بين الكل عشان يصيبك هذا البلاء .. اصبر .. اصبر و احتسب .. و قول .. حـــســبــي الله ونـــعـــم الـــوكــيـل .
أطرق تركي برأسه في انهيار تام .. تهدج صوته و الدموع تخنق أنفاسه : و وين ألاقيهم يا أحمد بعد 28 سنه .. و ين ألاقيهم و يـــــــــــــــــــــــــــن ؟!!!!!!!!!!!.
صاح بها و آلام الفقد تتأجج في صدره .. ضمــــــــــــه أحمــــــــــــــد بعمق إخوة جمعتهما لسنين طويلة ، و ربت على ظهره هاتفًا : ما فــي شي مستحيـــل .. ما فـــي شي مستحيل يا تركي و ربك الـــــــــــــلـــــــه !!.
تدفقت الدموع من بين عينيه و هو في غمرة ضعفه .. يبكي ؟؟!!! .. لطالما كانت الدموع في عينيه معنىً لضعف يكرهه .. وطّن نفــسه على كبتها .. نحرها .. و ها هي و بعد كل تلك الأعوام تفر لتدق نواقيس موته على قارعة التـــيـــــه و التــــخــــــــبط ، أنّت أنفاسه الملتهبة و أحمد يبتعد عنه و عيناه هو الآخر تحبسان أنهارًا من الدموع : أنا جنبك يا تركي .. جنبك .. ، لا تتوقع و لو للحظه إن الاخوه اللي جمعتنا لأنك ولد الوليد .. لا .. اللي كان بيننا لأخلاقك ، لقلبك .. لـــــــــذاتـــك .
زفر في حرارة ثم استطرد و تركي يمسح وجهه المنهك بكفيه : لا تفقد الأمل بالله ، خلينا نجلس سوا و نحلل الموضوع و بإذن الله راح نلاقي خيط يوصلنا للي نبغاه .
أومأ تركي برأسه في ضعف فابتسم أحمد و رنين هاتفه المحمول يتعالى ، أخرجه من جيب بنطاله و اعتدل واقفًا و هو يجيب المتصل : السلام عليكم .. يا هلا !! .. حياك الله .
رفع حاجبيه بدهشة عارمة و هو يهتف في السماعة : ميــــن ؟؟!!.
حرك بصره بدهشة أكبر و هو يقول : طيب .. طيب .. لا .. دحين يفتحون الباب .
و أنهى المكالمة على الفور و هو يبتسم في وجه تركي : ممكن ترتاح على السرير ؟؟.
عاونه على النهوض و تركي يسأله بحيرة خانقة : اش فيه ؟؟ .
قاده أحمد إلى حيث السرير الوثير و هو يهتف بابتسامته العريضة : كل خير إن شاء الله .. ارتاح بس و ثواني و أنا عندك .
اطمئن على راحته ثم خرج من الجناح على عجالة و تركي يسند ظهره إلى الوسائد الكثيرة خلفه و حديث ذلك الطيب قد أعاد شيئًا من الأمل إلى نفــسه ، أسبل عينيه و دفع جمرة مما يعتمر في صدره من النيران .. اختطفه من المستشفى !! .. و لم يخبره من عائلته .. من أمه .. أبوه .. أشقاؤه و شقيقاته .. أحياء هم أم أموات .. في هذه البلاد أم بلاد أخرى ؟؟! .. أين أمه الآن .. ما اسمها ؟؟!! .. أين تعيش ؟؟ .. يريد فقط أن يرى لمحة منها .. يشتاق إلى حضنها .. يشتاق إليها و هو الذي لا يعرفها .. يريدها أن تضمه إلى صدرها .. تمسح على رأسه و تنسيه عناء السنون الماضية .. تنسيه طعم الدموع .. غصص الشهقات.. سيل الفواجع و كره القريب .. والده .. أين هو ؟؟!! .. أيعلم أن له ابنا لا يزال حيًا .. يبلغ الـ 28 من العمر .. رجل يعرفه الكثير و لم يعرف نفسه يومًا .. أيعرف أنه يشتاق إليه .. ليقبل رأسه .. يديه .. يجثو عند قدميه طلبًا لرضاه .. يضمد جراحه بنظراته الحانية و نصائحه العذبة .. انهمرت من بين الجفنين دموع الشوق المرهق للمجهول .. ذلك المجهول اللذيذ .. يتخيلهم الآن أمامه .. على سفرة الطعام بجوار عدد من الشباب و الشابات و الأطفال .. يتخيل ضحكاتهم .. ابتساماتهم بملامح ضبابية مبهمة .. هل يشعرون بوجوده يا ترى ؟؟!! .. يشعرون بأن هنالك جزءًا مفقودًا منهم يتمنى ثانية واحدة برفقتهم .. ثانية فقط تكفل له سعادة الدنيا كلها .. ،، و لكن أين يجدهم وسط هذا العالم الكبير .. أين يجدهم بعد عقدين من الزمان بل أكثر ؟؟!! .. أيجد الإجابة لدى ذلك الخبيث عباس .. أو الآخر عبد الله ؟؟!! .. ربما .. لماذا لا يحاول ... فقد بقي في عهدته مرة لمدة شهر
■ ■ ■ ■
1410 هـ
رفع رأسه إليه و الخوف يلمع في عينيه ، ضحك و هو يربت على رأسه : لا تخاف يا ولدي لا تخاف ، كلها شهر إن شاء الله و يرجع أبوك بالسلامه من أمريكا .
و أمسكه برفق مع يده و هو يقوده لداخل المنزل : تعال دحين و العب مع مشعل ، هوا أصغر منك بسنه .
ابتلع تركي ريقه و هو يسير بخضوع معه إلى الداخل و قلبه ينتفض بين أضلعه ، إنها المرة الأولى التي يبقى فيها وحيدًا بلا أم و لا أب ، ترقرقت الدموع في عينيه رغمًا عنه و هو يدلف إلى الصالة الرئيسية للمنزل و عبد الله يهتف بصوت مرتفع : يا مـــشعل .. تعال و استقبل صاحبك .
التفت تركي بترقب مطعم بالدموع إلى تلك الضحكات التي انبعثت من الجانب القريب و صوت صبي يهتف بـ: دحين أجي .
■ ■ ■ ■
: بو تــــــــــــــــــــــــروك .
انتفض في مكانه و هو يمسح الملوحة الحارقة التي تناثرت على وجهه مغممًا : نعم .
هتف أحمد بابتسامة واسعة : فيه ضيوف يبغونك .
زوى تركي ما بين حاجبيه هامسًا بتساؤل : ضيوف ؟؟! .
أومأ أحمد برأسه وهو يفتح الباب على مصراعيه هاتفًا : حياكم .. تفضلوا .
اتسعت عينا تركي و عمر يدلف إلى الداخل و خلفه مجموعة من موظفي الشركة ، فغر تركي فاه في ذهول و عمر يدنو منه ليقبل رأسه فهتف في استنكار : عــــــــــــــمــر ؟؟!!!!!!!!!!!.
ابتسم عمر و هو يربت على كتفه : الحمد لله على السلامه يا أبو الوليد .. ما تشوف شر إن شاء الله .
تفجر الغل و الألم المحرق في شرايينه لمسمع ذلك الاسم و علا الضيق وجهه لأبعد مدى ، لم يغب ذلك عن أحمد الذي هتف على الفور في مرح : ترا دكتوره راح يسطّرني لو دري إني دخلت أحد عنده .
أخذ الرجال يسلمون على تركي .. واحدًا تلو الآخر ، كل منهم يحمد الله على سلامته و يدعو له بخير الدعاء .
كان تركي ينظر إليهم .. و هو يتذكر المواقف التي جمعته بكل واحد منهم ، فهذا الذي دفع له نفقات علاج والده المريض ، و هذا الذي ساعده في قضية سجن أخيه المظلوم ، و هذا الذي أهداه منزلاً جديدًا بدلاً عن منزله المتهالك ، و هذا الذي قام بتوظيف شقيقه المحتاج .. و كم .. و كم .. و كم ، كم قدم لهم و نسي ، و لكن هم و كما أخبره أحمد لم ينسوا بل أتوا إليه و كل ملامحهم تنطق بالقلق و كل ألسنتهم تلهج بالدعاء له .
كم هاجت المشاعر في صدره و كم خفق قلبه و ظهر التأثر على ملامح وجهه ،غادروا المكان بحرص منعًا لأي إزعاج قد يرهق أعصابه و بقي عمر الذي قال : لا تشيل هم الشركه و الشغل .. أنا موجود و ياسين موجود .. المهم دحين صحتك .. و إن شاء الله ما في أحد بيقصر .
تجاهل تركي ما يرتبط بالشركة ، و صافح عمر قائلاً بصوت حمل جزءًا من إرهاقه : ما تقصر يا عمر .. جزاك الله خير .
صافحه عمر بحرارة هاتفًا: و إياك يالغالي .. يلا .. ما بطول عليك .. في حفظ الله .
غمم تركي : فـ حفظه .
ودّعه أحمد و هم بمرافقته لولا أن قال عمر باسمًا : لا تتعب عمرك يا دكتور ، والله حافظ الطريق ، خليك جنب الريّس .
شكره أحمد و انتظر للحظة ثم أغلق الباب و هو يقول لتركي : علمته إنك تعبان و ما قصر الله يعطيه العافيه .
لم يعلق تركي و بصيص من الراحة يشرق على وجهه و
: يـــــــــــــــــــــــــاولـــــــــــــــــــــــــــــــ ـد .
ظهرت الدهشة على وجه تركي و كذلك أحمد و أبو فيصل يدخل إلى المكان باسمًا و برفقته جوري التي هتفت ضاحكة : هذي المره أنا اللي تكفلت بتوصيل الضيوف .
وجه أبو فيصل بصره إلى أحمد و قال بابتسامة عريضة : الدكتور أحمد ؟؟!! .
أومأ أحمد برأسه و هو يقترب منه و يسلم عليه باحترام شديد ، سبقه أبو فيصل بالسؤال : واشلونك يا دكتور .. عساك طيب .
أجابه أحمد و هو يتراجع للخلف : بخير و عافيه يا أبو فيصل ، بشرنا عنك ؟؟ .
ابتسم أبو فيصل قائلاً : نحمد الخالق .
ثم أشار بإصبعه إلى جوري الواقفة خلفه : أتوقع لو ما وصلنا للحجرة كان كملت فـ مدحك المجلد العاشر .
انفجرت جوري بالضحك و هي تشيح بوجهها و ارتسمت ابتسامة خجولة على شفتي أحمد أما أبو فيصل فنقل بصره إلى حشاة كبده الصامت و كل الحنان ينطق من حدقتي عينيه ، توجه نحو تركي و عينا الأخير معلقتان به ، دنى أبو فيصل وضمه إلى صدره بعطف أبوي و هو يهمس مداعبًا: كذا يالخَبل تروح و تتركني بدون سياره !!.
تمتم تركي معتذرًا : سامحني يا عمي .. بس.. انتا عارف باللي صار .
ابتعد عمه عنه و الابتسامة تلمع على شفتيه : مسموح يا ولدي .. مسموح .. و اشلون أزعل منك أو أشيل فـ خاطري عليك يا حشاة كبدي .. و اشلون ؟؟ .
تطلع إليه تركي ممتنًا فربت عمه عليه و هو يجلس على الكرسي : هاه يا يبه .. كيف نفسيتك الحين ؟؟؟ إن شاء الله أحسن ؟؟.
أومأ تركي برأسه و هو يجيبه بخفوت : الحمد لله يا عمي .
شد عمه على ذراعه و همس بنبرات متعاطفة : إن شاء الله بعد ما ترتاح و نفسيتك تسير أحلى من الأول ..
بيكون بينا كلام كثير .. اتفقنا ؟؟.
هز تركي رأسه موافقًا فضربه عمه على كتفه بخفة و همس بسعادة : و الحين عندي لك خبر بملايين .
نظر إليه تركي بترقب فهمس عمه بفرحة : زواج ياسر و تساهير فـ شوال بإذن الله
و أخـــــــــــــيـــرًا ... لاحت على شفتي تركي ابتسامة خفيفة و هو يقول بخفوت : اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك .
: تــــــركي !!!!!!!!!.
التفت الجميع إلى مصدر الصوت و ذلك النائم يتعثر في خطواته و هو يفرك عينيه بضيق ، زوى أبو فيصل ما بين حاجبيه مما أثار خوف الصغير الذي ركض نحو السرير و قفز فوقه ليختبأ بين ذراعي تركي ، هتف أبو فيصل بحيرة : من ذا ؟؟.
مسح تركي على شعر البراء قائلاً : هذا ولد أعز أصحابي الله يرحمه .. أمه تركته وعايش عندي من يوم عمره .. أسبوعين .
ابتسم عمه في حنان و شخصية تركي تكبر في عينيه أكثر و أكثر : الله يحفظك يا ولدي .. الله يحفظك و يقويك.
هتفت جوري بسعادة و هي تتأبط ذراع أحمد : عموووو .. فطورك عندنا اليوم .
التفت إليها أبو فيصل هاتفًا و هو يشير إلى أنفه : إيه على هالخشم .. كم جوري عندي أنا .
ابتسمت بسعادة عميقة لرؤية عمها الطيب الذي لم تره منذ سنوات : يسعد قلبك يا أطيب عم .
مال أحمد على أذنها و همس مداعبًا : اش رايك نطلع برا يا جُرجُر ؟؟.
ابتسمت و هي تشاهد عمها يحدث تركي بحزم حاني و همست : يلا .. يمكن كلام عمي يطيب خاطره شويه .
و خرجا بهدوء و أحمد يخرج هاتفه لينظر إلى ذلك الرقم الذي أرسله له عمر ، هتفت بفضول و هي تغلق الباب : من مين الرساله ؟؟؟.
ابتسم و هو يعيد هاتفه إلى جيبه : رقم يخص العمل يا روحي .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
الرياض
فيلا أبو نواف
في نفس اللحظات
أدخل يده في خصلات شعره السوداء و قبض عليها بحنق و هو يصك على أسنانه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
هز رأسه بعنف كأنه ينفض عن عقله فكرة ملحة ، زفر بعصبية و هو يضع وجهه بين كفيه مغممًا : حتى القرآن ما ني قادر أقرا .
■ ■ ■ ■
: كمم فمي و هو يذكرني بالحادث و يأكدلي انه السبب و
: حـــــــــــــــــــــادث؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!.
: هو اللي خطط مع السواق
■ ■ ■ ■
صاح بعصبية و هو يضرب مكتبه بقبضته و الدماء تغلي في عروقه و تلافيف عقله ، من الصعب أن ينسى .. من الصعب .. و من المستحيل كذلك أن يصب جام غضبه عليها .. إذًا .. أين يفرغ حنقه و السافل غائب عن الأنظار .. هب من مقعده و توقف أمام النافذة و أنفاسه تعلو علها تطفئ البراكين الثائرة في صدره ، همس بقهر الدنيا و حنقها : و ربي ما بيكفيني كل دمك يا فارس عن دمعه ذرفتها عينها ، لكن وين ألاقيك .. ويــــــــــــــــــــــــــن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟! .
صرخ بها بعصبية و ذلك الشرخ المتصدع في عرضه يخنقه ، لقد طعنه الحقير .. طعنهم جميعًا في الصميم ثم فر هاربًا كالجرذ العفن ، مد عينيه إلى ذلك الأفق و انطلقت أحرفه كقطع من الجمر : ما بهينالي العيش إلين آخذ بالثآر .. الدنيا ما تسعنا احنا الاثنين يا فارس .
لفه الصمت للحظات و الذكريات القديمة تلوح أمام ناظريه و
: عــــــــــــــزامـــــــــــــوووووووووووووووه !!!!!!!!!
نظر إلى ساعته و تلك تصيح من خلف الباب : يلااااا يا لمعرس .. بسرعه قبل الزحاااااااام .
التقط مفاتيحه من فوق المكتب و فتح باب الحجرة ليجد ربى واقفة بعبائتها و في يديها عدة أكياس ، هز رأسه و هو يغلق باب جناحه : الحين تونا بأول رمضان و انتي طايره ع الأسواق .
رسمت على شفتيها ابتسامة كرتونية و هتفت : السوق الله يسلمك خلصته من شعبان ، و الحين هذا شغل الخياط .. ما ودي أحشر نفسي على آخر الأيام و الدنيا مزحومه .
ثم استدركت باندفاع : و بعدين انت عارف إن زواج ولد عمك فـ أول شــــــوال .
سار نحو المصعد و هي ترفع إصبعها و تلحق به ركضًا : آه .. قصدي أخو حرمــــــــتك .
أغلق عليهما الباب و رمقها هو بنظرة جانبية فضحكت قائلة ببساطة : قد يجلب ذكرها يا سيدي في قلبكم الشوق فتدوسون على البنزين و تعيدونني إلى المنزل قبل الفطور حتى لا أكون ضحية كفخة محترمه من أمي المصون .
فًتح الباب و قد دفعت دعابتها الابتسامة إلى شفتيه و هو يخرج من المصعد ركضًا : انــــــــــــــزيـــــــــن يلاااااااااااا .
ركضت خلفه صائحة : انتظر .. أنا قلت تدوس على البنزين بس مو كذااااا .. الأكياس ثقـــــــــــــــــيله !!!!!!!!.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
الرياض
فيلا أبو ياسر
00 : 7 مساءًا
زوت عبير ما بين حاجبيها و هي تتحدث في الهاتف : إيه ........ إيه ........ لا تشيلين هم يا خالتي ...... أكيد ...... لا تخافين ....... أنا ما أنكر إن أمي صعب تتقبلها بهذي السهوله لأنها ما اختارتها و هي اللي كانت تنتظر زواج ياسر .. لكن أوعدك إنه بوقف جنبها و بحبب أمي فيها ...... و إنتي الحمد لله طمنتيني و تأكدت إنها بنت ناس و تنحب ........ إيه ....... أبشري يا خالتي و ما يسير خاطرك إلا طيب .
ابتسمت و هي ترفع بصرها إلى والدتها التي دلفت إلى حجرة الجلوس ثم هتفت : هذاها جت ... عمرها طويل الله يحفظها .. خذيها معك .
و مدت بالسماعة إلى والدتها و هي تقول : خالتي مرام .
أخذت والدتها السماعة و الضيق بادٍ على محياها ، رغم كل ما سمعته من ياسر عن جمال الفتاة و أخلاقها اللطيفة لم تقتنع حتى الآن .. لا بد أن تراها وجهًا لوجه ..... و حتى و إن رأتها ...... لن يزول ذلك الضيق لأنها أُجبرت على القبول و لم تخطب له بذوقها ، نهضت عبير من مكانها هاتفة: هذاني تكلمت بالتلفون عشان لا تعصبين علي .. جوالك و ولدك .
و حملت حقيبتها و هي تقبل رأسها : وادعة الله يالغاليه ، نواف ينتظرني برا .. باكر إن شاء الله أكون عندك .
و دعتها الأم بقولها : الله يستر عليك يا بنتي .
خرجت عبير من الحجرة و وضعت الأم السماعة على أذنها قائلةً : السلام عليكم .
.
.
زفرت عبير و هي ترتدي عباءتها على عجل ، أشغلها حديث والدتها اليوم عن زوجة ياسر المجهولة .. كانت تتحدث عنها بحنق و غضب شديدين و هذا ما أثار قلقها حد النخاع ، لم تشأ أن تستبق الأحداث فقد تكون الفتاة من أفضل ما يتمنون .. و لكن كيف تشرح الأمر لوالدتها التي ترفض أي فكرة طيبة بخصوص الأمر ، غممت بخفوت : حظي إني الأخت العوده ، الحين ما حسبت أخلص من سفرة عروب ، جاني زواج ياسر.
: بـــــــــعـــــــيـــــــــــرووووووووووووووووووو !!!.
التفت بحنق إلى مروان الذي يقف على رأس السلالم صائحة : الله يــــقــطــع شـــرك ، جــنـبـك أنـا مــو فـــي الـــمــريـــخ .
مد لسانه قاصدًا إغاظتها ثم هتف بصوت مرتفع : ياسر يقلك اختاري الألوان على ذوقك .
و لوح بيده و هو يعود للداخل : أمحق أخت ما تدري وراها من قداماها ، ما كذب من قال كــمـخه .
جحظت عيناها و همت بالصراخ لولا أن نظرت إلى عباءتها لتجدها مقلوبة !! ، صرخت في عصبية من سخريته البغيضة : مروانوووووووووووووووووووووووووووووووه !!!!!.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
جده
القصر
الحديقة
00 : 10 مساءً
خلد أبو فيصل إلى النوم بعد يوم مرهق في إحدى حجرات الضيوف بإصرار من أحمد و جوري ، و انشغلت الأخيرة مع خالتها في الدور الثاني ، و ها هو أحمد يجلس إلى جوار تركي في الحديقة .
تنهد تركي منهيًا حديثه و صوت الشلال العذب ينعش الأجواء القاتمة .. لمعة من قطرات الماء تحت الإضاءات الملونة .. و نسيم من هواء بارد يداعب السطح البراق ، شرد فكره إلى الشريطين اللذين أخفاهما .. و لم يتخلص منهما .. رغم رغبته الشديدة في أن يحليهما إلى رماد .. و لكن .. يساوره شعور بأنه سيكون في حاجة إليهما في وقت ما !! قد يكون قريبًا !! .
أخذ أحمد نصيبه الوافر من المفاجآت المفزعة ، ابتداءً بموضوع الوصية و مرورًا بقصة رهف .. إلى شريطي الفاجعة ، لم يشأ أن يحمل تركي مزيدًا من الذنب لجرم ارتكبه في حق تلك ، فما وقع على رأسه يوازي ما ذاقته من مرارة .. غمم بهدوء بعد أن التقط أنفاسه : أول شي لازم ندور على شهادة ميلادك عشان نعرف المستشفى اللي أخذك منها .
ابتسم تركي بسخرية مريرة و هو يغمم : يقدر يزورها و يمحي كل أثر وراه .
عقب أحمد بحذر : لازم ما نغفل عن أي نقطة مهما كانت نتيجتها ضعيفه و .. الشي الثاني لازم ترجع و تكلم عبد الله صلاح و تسأله عن ماضي الوليد .
قبض تركي على أصابعه بحنق و هو يجيبه : أنا متأكد إن كل شي تحت راس هذاك الخبيث عباس رأفت .
تراجع أحمد في مقعده قائلاً بروية : اللي أعرفه إنه أبو فيصل اللي يقدر يتعامل معاه و انتا ما تبغا الموضوع ينكشف لأحد .
تطلع إليه تركي للحظات ثم ما لبث أن قال بحزم : ما ني عجزان أواجهه و الموضوع يتعلق بحياتي .
هز أحمد رأسه متفهمًا ثم أردف : و ما راح تواجهه لوحدك .. رجلي على رجلك و ين ما تعتب .
هم تركي بفتح فمه معترضًا لولا أن قاطعته يد أحمد : ما راح أقبل أي اعتراض ، و دحين المحامي يستناك في المكتب .
رفع تركي حاجبيه بدهشة فابتسم أحمد مبررًا : أبغاك تفرغ عقلك لعباس و عبد الله و تنهي مسألة الورث و الرضاع من الآن .
و أردف و هو يتكأ بمرفقيه على الطاولة : محتمل جدًا إنه يكون عارف بالقصه كلها ، و بعدين اللي فهمته منك إن كل شي مكتوب باسمك عشان كذا توقع إنه كتبها قبل وفاته باسمك و بعد كذا تقسمت ثروته بالشرع .
ضيق تركي حدقتيه عند هذه النقطة التي غفل عنها ، أيعقل أنه فعل شيئًا كهذا ؟؟!! .. لم يجتمع مع المحامي منذ فترة طويلة جدًا ، و لم يهتم أصلاً بتفاصيل تقسيم الثروة لأن فاجعة وفاة والده في ذلك الوقت و موضوع الوصية و الانتقام منعاه من التفكير في أي شيء آخر ، و لكنه و إن فعل فلن يرضى بأن يأخذ من أمواله شيئًا .. ذلك الذي ضيعه و جعله يرتكب تلك الجرائم السوداء لخلل في ذاته .. لأنه ندم على ما فعل بحق تلك فأراد أن ينتقم منهم على استغفاله و ظلمه لها ، هتف باستنكار عندما تذكر شيئًا : بس المحكمه مشيت بالأوراق الرسميه أيام التقسيم و اللي مثبت فيها إني ولده .
هز أحمد رأسه في تفهم و قال : أعرف ، بس اللي أقصده إن أملاكك مكونه من جزئين شي من الورث و شي انكتبلك قبل وفاته .
مال تركي برأسه إلى الخلف و علق عينيه بالسماء هو يزفر : لكن اللي فهمته من الشريط إن عباس بس اللي عارف بالقصه .
وضع أحمد يديه على ركبتيه و هو يقول : و انتا ما تدري هوا متى سجل الشريط ، يعني أكيد بعد تعبه الأخير .. بس احتمال وارد إنه قابل المحامي بعدها .. انتا تأكد و ما راح تخسر شي و أصلاً المحكمه ما راح تبت فـ الموضوع إلا بالشهود و التحقيقات ، الحكم قـــضــائـــي بالتالي الموضوع راح يطول و نتيجته راح تتأخر لأنهم أكيد بيدخلون عباس و عبدالله فـ التحقيق .
و أردف باسمًا : أعرفك ما راح تآخذ منها فلس لو طلع اللي قلته صح ، لكن أبغى تنظرلها كتعويض عن اللي صار لك .. انتا تعبت وعانيت و بعدين كل المكاسب اللي صارت تجيك الآن هيا نتيجة تعبك وجهدك فـ إدارة الشركه .
لم يعلق تركي على عبارته و هو ينهض من كرسيه و يضم جانبي معطفه الثقيل إلى جسده : يمكن ألاقي طرف الخيط عنده .
حث الخطى عائدًا إلى الداخل و تابعه أحمد ببصره و هو يشهد تحسنًا ملحوظًا في حالته ، لقد كانت فكرة الخروج إلى الحديقة ممتازة كما يبدو .. فقد أنعش رئتيه المثقلتين بدفق من النسمات العذبة .
.
.
.
[CENTER].[/CENTER ]