- أول الحب ..... نزهة
كانت القصة مشوقة فشغلت رأس جاسيكا حتى أنها نسيت موعد الطعام, ولما أحست بالجوع , ألقت المجلة من يديها جانبا , وبدون أن تنتبه الى دقات الساعة , خفت الى المطبخ , كانت قد أحضرت معها من المطعم صحنا من الدجاج , فجلست الى الطاولة لتلتهمه , لكن جرس الباب رن قبل أن تتناول لقمة واحدة , فتساءلت من تراه يكون هذا الزائر المسائي؟ فصديقاتها يتصلن بها عادة قبل قدومهن ! فتحت الباب , فأصيبت بالذهول!
برودي هايس يقف أمامها! تراجعت خطوة الى الوراء , وأعتراها ذاك الشعور الماضي الذي أصابها يوم فوجئت ببرودي وهو يدق باب أهلها ليسأل عن جوردانا.
أبتسم برودي بتردد وكأنه لم يلحظ أضطرابها , كانت ملابسه متناسقة مع لون عينيه الزرقاوين وشعره الحالك , أما بشرته النقية فكانت تعكس معالم الرجولة والثقة بالنفس , فبادرها بدعابة عفوية لا تخلو من بعض السخرية , وقد رآها ترتدي ملابس عادية.
" كيف عرفت أننا سوف نتناول عشاء بسيطا هذا المساء ؟ هل تقرأين الأفكار يا جاسيكا؟".
وأستحالت صدمتها الى دهشة , وكانت تكاد لا تصدق عينيها:
" من أرشدك الى مكان سكني؟".
" أتصلت هاتفيا بمكتبك, وشرحت الوضع لخالك! قلت له أننا أتفقنا على تناول العشاء معا, لكنك نسيت أن تعطيني عنوانك الجديد ... حقا أنه لطيف , فقد وافاني فورا بالعنوان".
كانت كلماته ترتدي طابع الجدية وكأنه مقتنع حقيقة بصدق نوايا جاسيكا , لكن لم يكن كافيا هذا القدر من التوضيح فأضافت:
"ولكن كيف أهتديت الى مركز عملي؟".
" أنه أستنتاج بسيط".
وتعمد برودي التقدم نحو غرفة الجلوس ليتابع حديثه:
" كنت واثقا من أن فتاة من عائلة ثورن لا يمكن أن تعيش وحيدة هنا, لا بد أن لك أقارب يتصلون بك دائما أستطيع بواسطتهم الحصول على عنوانك, لحسن الحظ تذكرت أن خالك يملك هنا شركة أعلانات".
" أجل لحسن الحظ...".
كانت تلهث بشدة, وهي تلفظ كلماتها المتقطعة.
" ولكن... لو لم تتذكر , لكان كل منا تناول عشاءه منفردا هذه الليلة".
" لم يكن يتسنى لأي منا , في مثل هذه الحالة , أن يقضي ليلة سعيدة أوليس كذلك؟".
كانت نبرة صوته عنيفة بالرغم من أن جوابه أتسم بالهدوء , فأدركت أن خدعتها لم تنطل عليه وأنه يعرف أنها تعمدت أغفال الحقيقة.
وأستعادت أنفاسها , لكن قلبها بقي ينبض بسرعة , فأبتعدت عنه قليلا , وعضت على شفتيها وكأنها تدبر أمرا ما في رأسها , ثم قالت:
" في الواقع , لم أدر ما دهاني فنسيت أن أعطيك عنواني".
ضحكت بتصنع , ثم أكملت:
" لم أنتبه للأمر ألا بعد عودتي الى المكتب , أي بعد فوات الأوان , ولم يكن هنالك أية وسيلة للأتصال بك".
وأشارت بيدها الى أنها لم تكن تستطيع أن تفعل أي شيء , أما هو فظل يبتسم بدون أن يعكر صفاء عينيه الزرقاوين أي أنفعال داخلي , فعلق على تبريرها قائلا:
" كان بأمكانك الأستعلام في الفنادق فعددها ليس كبيرا في شانانوغا ... ولكن عفوا نسيت أن فتيات آل ثورن لا يتعقبن الرجال في الفنادق".
وتنفست جاسيكا بعمق لتتابع تبريراتها :
" لم أفطن ألى هذه الوسيلة , في كل حال , لم أكن متأكدة أنك نزيل أحد الفنادق".
فأجابها برودي بلهجة عاتية :
" رغم ذلك لم تتحققي من الأمر".
راحت تشرح موقفها بحزم :
" لا , لم أتحقق ... هل أنت تلومني ؟ أكاد لا أعرفك , أنا لا ألومك على سوء فهمك لي , لو كنت مكانك لظننت أن المقصود هو التهرب مني ولشعرت بالخيبة المريرة".
نظر برودي الى الساعة المعدنية المعلقة على الحائط وقال:
" هل تناولت الطعام؟".
ترى, هل تكذب وتدّعي أنها فعلت؟ لكنها تتضور جوعا , وراح برودي يحدق بوجهها بأنتظار الجواب.
" كنت على وشك البدء بالطعام عندما رن الجرس".
" حسنا سنتناول العشاء معا".
وألقى نظرة سريعة على ملابسها وأردف:
" لا داعي لتبديل ملابسك , فالمكان الذي سنقصده لا يفرض ذلك , لا يمكننا الذهاب فورا أذا لم يكن لديك مانع".
" دقيقتان فقط".
كانت يداها ترتجفان وهي تعيد طعامها الى البراد , ثم تنفست بعمق محاولة أن تهدىء روعها , ستمضي ليلتها الى جانبه مكرهة , بدون أن تجعله يلاحظ أمتعاضها من مرافقته , وما أن رجعت الى غرفة الجلوس حتى دعاها برودي للأنطلاف.
" هل أنت جاهزة؟".
حملت حقيبتها وأحكمت رباطها على كتفها , أقفلت الباب بينما كان برودي ينتظرها في البهو الخارجي , مشيا جنبا الى جنب, ألقى برودي يده على ظهرها , ودفعها بلطف بأتجاه الطريق التي سيسلكانها , كانت لمسته البسيطة هذه كافية لتشنج أعصابها , وأتجه بها نحو سيارة كاديلاك كحلية اللون داكنة , أوقفها قرب الرصيف المواجه , أسندت جاسيكا ذراعها الى المرفق المخملي , السكري اللون , وساد صمت تام , أمام ذاك الصمت وجدت جاسيكا نفسها في مأزق وأحست أن عليها أن تقول شيئا ما:
" سيارتك رائعة".
وأعتلت بسمة على ثغره وأجابها:
" سأبلّغ شركة تأجير السيارات رأيك هذا".
لم تكن جاسيكا تتوقع هذا الجواب فبادرته مستغربة:
" أذن ليست سيارتك ".
وألمح أنه يملك سيارة أخرى بقوله:
" ليست هذه ... لكن كنت دائما أحلم أن أمتلك كاديلاك وعندما توفرت لي الأمكانات المادية , لم أتردد في شراء واحدة , أنها متوقفة في أحد الكاراجات".
كان يبدو أنه غير مهتم لسيارته أطلاقا , فسألته جاسيكا:
" أنت تعلم أين هي متوقفة , أليس كذلك؟".
" في لوريجيل على ما أعتقد".
كان برودي منهمكا في التخلص من الأزدحام ويطلق أجوبته بلا مبالاة , فصدقت جاسيكا أنه لا يعرف مكان سيارته بالضبط , وأنه لا يعنيه هذا الأمر أطلاقا.
رمقها بنظرة خاطفة وتابع كلامه:
" منذ بدأت أسافر كثيرا , وجدت أنه من الأنسب ألا أستخدم سيارتي الشخصية في تنقلاتي , لا أدري أذا كان هذا التصرف منطقيا بالنسبة الى أنسان في مثل ظروفي".
وغيرت جاسيكا الموضوع :
" كيف رجعت الى شاتانوغا بعد طول غياب ... لم تخبرني ذلك في لقائنا عند الظهيرة".
" أنها صدفة أو ملابسات ظروف! لست أدري , أعتقد أنها مجرد رحلة عاطفية الى المكان الذي عشت فيه بداية حياتي".
وتسمرت على وجهها عيناه الزرقاوان.
قد يبدو الأمر غريبا بالنسبة أليك أليس كذلك يا جاسيكا؟".
أحست أنه يجيد قراءة الأفكار وهو يسترسل في كلامه.
" من الصعب أن نحدد موقفنا الحالي أذا تجاهلنا المكان الذي أنطلقنا منه".
" أفهم من حديثك أنك تقوم برحلة عبر الماضي".
كانت تتساءل : أي رجل معقد هذا؟ لكنه يشبه الماس الذي تتماوج ألوانه تحت تأثير نور الشمس , وأجاب بسلاسة :
" بالأحرى , هي رحلة الليلة التي أتت بي الى هذا المكان ".
أدخل سيارته الى موقف المبنى وهو يستفسر :
" هل سبق أن أكلت هنا؟".
كان المطعم عاديا , تشير أحدى اللوحات المعلقة على الواجهة المضاءة , ألى أسم مطعم شعبي , جالت جاسيكا ببصرها على زجاج النوافذ فأجابت قائلة:
" لا أذكر أنني زرت هذا المكان أم لا".
" لا عجب في الأمر أن لم تريه من قبل".
توقف محرك السيارة عن الدوران لكن برودي لم يسرع في النزول بل ظل جالسا يتأمل البناء الصاخب , وكأن له فيه ذكريات عذبة وقال لها بعد برهة:
" عندما كنت صبيا , كان يصحبني والدي معه كل نهار جمعة الى هذا المكان , كان يوم القبض واعدنا أن نتناول العشاء هنا خارج المنزل... وعندما كبرت , بقيت أرتاد هذا المكان مع أصدقائي ... هذا النهار مررت بعد الظهر خصيصا لأرى أذا كان كل شيء باق على سابق عهده , ولكن لم أعد متأكدا من جودة طعامه , هل تريدين أن تجربيه؟".
وتبادر الى ذهن جاسيكا أن برودي يحاول أمتحانها ليعرف ما أذا كانت تتمسك بالمظاهر الأرستقراطية فترفض أن تدخل الى مثل هذا المكان الوضيع , فقالت في نفسها أن كانت له هذه النية , فليفهمني على حقيقتي , فأجابت بصوت حاسم:
" ولم لا ؟ لا يمكن أن يكون جميع هؤلاء الناس على خطأ ".
وأشارت بيدها الى الأعداد المتجمعة حول الطاولات في المطعم .
ترجل برودي وخفّ يفتح لها الباب لكن جاسيكا سبقته , وألتقى الأثنان عند مقدمة السيارة , فأتجها نحو المدخل , قال برودي وهما يقتربان من طاولة شاغرة:
" يجب أن أعترف لك بشيء آخر".
" وما هو هذا الشيء؟".
وجلس الأثنان متقابلين وراح يستكمل ذكرياته:
" ألى هنا كنت أدعو الفتيات خصوصا الحسناوات منهن , كنت أتوخى المكابرة أمام باقي الفتيات".
كانت بسمته تعكس كالعادة سخريته اللاذعة , لكن جاسيكا لم تبادله البسمة بل علقت قائلة:
" لو قبلت جوردانا مرافقتك لكنت أصطحبتها بالطبع الى هنا ... هل تعمدت المجيء بي الى هنا لتعوض عن الخيبة التي منيت بها بسبب شقيقتي؟".
" ربما يكون الأمر كذلك".
كانت جاسيكا واثقة من أن هذا هو الدافع الأساسي لدعوته لها , قدمت لهما الخادمة لائحة الأطعمة , فألقت عليها نظرة سريعة وسط الضجيج المتصاعد من كل أتجاه, وسألها برودي:
" هل قررت ماذا ستطلبين؟".
فأجابته بدون أن ترفع نظرها عن الائحة:
"ليس بعد ... هيا أطلب أنت ما تريد".
" أذكر أن معظم رواد هذا المطعم كانوا يفضلون الهمبرغر والبطاطا المقلية والخضار , سأطلب صحنا مشكلا من هذا النوع مع كوب من عصير الليمون".
ثم نادى الفتاة.
أطلقت جاسيكا اللائحة قائلة للفتاة :
" لا بأس , أنا أريد الصحن نفسه بالأضافة الى كأس من الحليب".
وما أن أبتعدت الفتاة حتى أستدرك برودي قائلا:
" لماذا لم تطلبي أي شيء آخر؟".
" لا عليك , أنا أيضا أحب الهمبرغر والبطاطا المقلية ".
وعادت الذكريات الحلوة والمرة الى برودي فقال:
" ما زلت أذكر عندما كنت أدعو أحدى الفتيات الى هنا , وأنا أفتقر الى المال الكامل , كم مرة وضعت يدي على قلبي وأنا أتساءل ماذا لو طلبت ضيفتي قطعة من اللحم الغالي الثمن ! كيف لي أن أخرج من هذا المأزق ؟".
وأبتسم قليلا , ثم أسترسل:
" حتى السادسة عشرة ما كنت أفهم ما يعني صحن الشاتوبريان ولا كيف يلفظ هذا النوع من الطعام".
وسحب علبة السجائر من جيبه :
" هل تريدين سيكارة؟".
أخذت جاسيكا واحدة فأشعلها لها بقداحته الذهبية , ثم أستقامت على كرسيها وهي تحدق بالقداحة الثمينة , وقالت:
" أنها نسخة طبق الأصل عن واحدة رأيتها في ماتشبوكس".
فعلق برودي ساخرا:
"ماذا تعرفين عن ماتشبوكس؟".
" كثير من الشركات تنشر أعلاناتها في هذا المكتب الأعلامي , أنها مهنتي وأعرف ثمن كل قطعة معلن عنها في الماتشبوكس".
حين ذكرت عملها أراد برودي أستجماع المزيد من المعلومات عن محدثته فسألها:
" أي مركز تشغلين في الشركة؟ لا أشك أنك مميزة؟".
" أن كنت تظن أن خالي أنعم عليّ بالوظيفة لأنني أبنة شقيقته فأنت مخطىء , ثم القرابة شيء والعمل شيء آخر".
وعاد يسأل عن طبيعة عملها ثانية بأعتبار أنها تهربت من الجواب المطلوب:
" ماذا تعملين في الشركة بالضبط ".
" أدقق في الحسابات , وبهذه الطريقة أكتسب الخبرة لكي أستطيع فيما بعد تسلم حسابات كاملة".
كانت تبدي هذه المعلومات وكأنها تدافع عن نفسها.
" خالك متحجر القلب ولا يفي الجمال حقه , صدقيني لو أتيت الى مكتبي وتقدمت بطلب أية وظيفة فلن أتردد لحظة واحدة في الترحيب بالعينين الخضراوين".
أية قوة رجالية يملك برودي فكلماته تخترق الجوارح وتنفذ نظراته الى الأعماق.
حاولت جاسيكا تغيير الحديث لتخفي الرعشة التي أعترتها في تلك اللحظة وقالت له:
"" في أي مجال تعمل أنت, لم تحدثني عن ذلك من قبل؟".
فأجاب وهو ينفض رماد سيكارته:
" الأمر بسيط أجمع الأشياء المتخلخلة والمحطمة وأعيد اللحمة ألى أجزائها ".
" أي نوع من الأشياء؟".
" شركات وفي غالب الأحيان مصانع".
" أذن أنت تملك الآن مجموعة شركات متكاملة".
" لا بل أشتري أسهم شركة على وشك الأفلاس , أعيد تنظيمها لكي تعود اليها مكانتها الأقتصادية , ومن ثم أبيعها وأحقق الأرباح".
" ولماذا لا تعود الى المدرسة وتأخذ دروسا متخصصة في أدارة الأعمال؟".
" لقد تعلمت منذ أمد بعيد أن تسعين بالمئة من المعلومات الضرورية للحياة مشاع ولك للجميع , والعشرة بالمئة المتبقية يمكن شراؤه من ذووي الأختصاص".
كان نظره يسرح عبر دخان سيكارته وهو مسترسل في الحديث:
" " لم أكن أتحمل الحياة المدرسية فهم يدرسوننا عدة مواضيع قلما تفيدنا بشيء على الصعيد العملي".
وأستفسرت جاسيكا :
" لهذا السبب تركت المدرسة؟".
" في بادىء الأمر تركتها لأنني كنت أعتقد أنه لا ينقصني الذكاء في مواجهة أمور الحياة , ولم أعد أليها فيما بعد لأنني تبينت جهلي , كان علي أن أستدرك فأثقف نفسي , لكنني وجدت أن الأمر صعب".
كانت جاسيكا تحدق به ونظرات الأعجاب تملأ وجهها وتشعر أنه لا يفاخر ولا يكابر أنما يشرح بهدوء المسببات التي أبعدته عن المدرسة , وأزدادت قناعتها بأنه كان ظالما أتجاه نفسه بقدر ما كان عنيفا بأتجاه الغير.
وكيف بدأت تجارة الشركات لتمارس بعدها هذه المهنة؟".
فراح يروي قصته بهدوء تام:
" تعرفت الى شاب في كولكفيل , يملك محل لحوم , لكنه لم يكن بأمكانه دفع الأيجار المطلوب , وكان يحتاج للمساعدة , فعرض عليّ فكرة الشراكة , وقبلت العرض , بعد سنة ونصف أشترت شركة لحوم حانوتنا فظل يعمل هو بأمرتهم , أما أنا فأخذت حصتي وأشتريت حانوتا لتصليح المفروشات الخشبية , في المرحلة الثالثة تبينت أنني لست بحاجة لشريك ولا لأن أشتغل بيدي , كان عليّ أن أفتش عن المفروشات القديمة , أبتاعها بأثمان بخسة ثم أستأجر مهنيين يعيدونها الىسابق عهدها , ثم أبيعها بأسعار مرتفعة".
" وبمثل هذه السهولة أنطلقت؟".
" أجل بمثل هذه السهولة ".
توقفت الخادمة لتجمع الصحون الفارغة , لم يبق في صحن جاسيكا سوى قطعة من الهامبرغر وقربها ورقة خس وقطعة من البصل, ترددت , في تناولها وحين لمح باسيكا في سرها : غريب! فتزول الرائحة".
فتساءلت جاسيكا في سرها : غريب! فتزول الرائحة".
فتساءلت جاسيكا في سرها : غريب! ! من أين له هذه القدرة على قراءة الأفكار والنظرات؟ فأومأت برأسها أنها لا تريد تناول البصل ثم أبتلعت آخر قطعة هامبرغر , وهي تدرك معنى نظراته الساخرة لأنه رآها تحرم نفسها من قطعة البصل , فعادت تسأله:
" لقد ذكرت سابقا أنك سوف تسألني عن الأشخاص الذين كنت تعرفهم هنا , من مثلا؟".
وطفق يذكر مجموعة من الناس الذين تعرفهم أو سمعت بأخبارهم وكأنه يتعمد أيهامها أن معظم معارفه القدامى هم من أصدقاء أخيها وشقيقتها.
عندما أنتهيا من الطعام , طلب برودي فنجانا من القهوة فأعتذرت جاسيكا عن أخذ سيكارة ثانية قدمها لها , أحنى رأسه لأشعال سيكارته فتمددت أسارير وجهه بينما راحت جاسيكا تتأمل خيوط شعره الحالك المتناسقة مع زرقة عينيه.
رفع بصره نحوها فوجدها تحدق به بأهتمام وهي ترشف كأس الحليب ببطء, وعندما ألتقت عيناها بعينيه حاولت أن تتحرر من عنف نظراته فقطعت الصمت قائلة:
" هل تغيّر هذا المكان منذ كنت ترتاده أيام زمان؟".
أجاب وهو يلقي نظرة شاملة على المطعم:
" ليس كثيرا : لقد أعيد دهانه وغيّروا مكان علبة الموسيقى , هذا كل ما أذكره".
" لا شك أن هذا المكان يعيد اليك ذكريات جميلة".
" أجل....".
كان برودي يبدو شاردا وهو يسترجع الماضي , ثم قال:
" أنه يذكّرني بأشياء لا أحب أن آتي على ذكرها".
وأرتشف جرعة من القهوة وتابع:
" عندما كنت صبيا كنا دائما في عوز, أثاث بيتنا , سيارتنا , كل ما نملكه أشتريناه مستعملا لا جديدا , لذلك عقدت النية أن أشتري كل شيء من أفضل صنف عندما أكبر".
" وهل أنت تملك الآن أجود الأصناف؟".
" ليس في كل شيء , لكنني أعمل جاهدا في سبيل ذلك".
وأطفأ سيكارته قائلا:
" هل أنت على أستعداد للأنصراف؟".
" أجل".
وضعت كوب الحليب جانبا وغادروا المكان.
سألها برودي وهو يدير محرك سيارته:
" هل تودين الذهاب في نزهة؟".
وأرادت جاسيكا أن تسأل عن الجهة التي سيقصدونها , لكنها عدلت عن هذه الفكرة لأن سؤالا كهذا قد يعني عدم ثقتها به , وهي لا تريد أن توحي بذلك , فوافقت على أقتراحه: " أنها فكرة جيدة".
توقفت السيارة وسط الأزدحام فدفع برودي شريطا الى المسجلة, فتوزعت الأنغام على مكبرات الصوت وأكمل حديثه وهو ينظر اليها بتودد:
" أظنك لا تعترضين على الموسيقى الكلاسيكية , أعجبتني هذه المقطوعة مع أنني لا أحسن تحليل أجزائها".
" حسنا , دعنا نستمع".
لقد مضى زمن طويل ولم تستمع الى سمفونية موسيقية , قد يعودهذا التاريخ الى سن الدراسة , لكنها كانت تطرب مثل برودي للأنغام المعبرة وهي مستلقية على المقعد الوثير , وما هي الا فترة وجيزة حتى أصابتها حالة من الشرود . في البداية كانت تدرك الأتجاه الذي يسيرون فيه , ولكن سرعان ما فقدت هذا الأدراك , ولم تجهد نفسها في تحري الطريق التي يجتازونها , فقد لاحظت أنها مليئة بالناس والسيارات ولا مبرر لخوف , أغمضت عينيها للحظة ثم فتحتهما لتتأمل السقف الداخلي.
فجأة مالت السيارة بأتجاه جديد, مما دل أنهما سيعبران شارعا آخر , لكن جاسيكا لم تنظر خارجا لترى ألى أين هما ذاهبان فقد كان الصوت المنفرد في السمفونية يستأثر بأنتباهها , مالت السيارة لتسير ببطء على أرض كثيرة التعاريج فعاد الى جاسيكا وعيها التام.
أوقف برودي سيارته في باحة خالية , أمام مبنى كبير بدا كأنه أحد المستودعات , كان الليل يسدل وشاحه على المنطقة بكاملها.
ألتفتت جاسيكا الى الوراء فوجدت أن الطريق فارغة من السيارات , وفي الجهة المقابلة أرسل القمر ظلاله الشاحبة على المياه , فألقت نظرة أعتراض أتجاه برودي , لكن الظلمة حجبت معانيها عن عينيه وحالت دون أن تستكشف نواياه , فسألته وهي تحاول أن تبدو محافظة على أتزانها:
" أين نحن الآن.... هل هو المكان الذي أعتدت أن تتوقف فيه مع عشيقاتك؟".
" لا لم أكن أملك ثمن الوقود لكي أقصد مثل هذا المكان البعيد".
كان ضوء القمر يوزع أشعته الخلابة فأضاف بأعجاب:
" كم هو رائع أن نجلس بعيدا عن الضجة والناس ! أنظري كيف أن القمر يرتمي في البحيرة!".
" البحيرة؟ هل هذه بحيرة شيكاموغا أم أنه نهر تانيسي؟".
" أنها بحيرة شيكاموغا".
" ماذا سنفعل هنا؟".
وأحست جاسيكا بأن ضربات قلبها تتزايد تدريجيا وهي تفكر:أن لم ينوي تجديد مغامراته ههنا , فلماذا يصطحبني الى هذا المكان؟
" هناك شيء أريد أن أريك أياه".
فتح باب سيارته وترجل منها بينما ظلت جاسيكا ثابتة في مكانها , لم يكن لديها أي تصور عما يريد أن يريها , هل دقّ ناقوس الخطر؟ لأول مرة أحست بالخوف الحقيقي وهي تفكر أنها الآن غنيمة في يد رجل غريب.
فتح برودي الباب ومد يده ليساعدها على النزول , فأظهرت أنها تتعثر , فقال:
"هيّا ما بك؟".
فهمست:
"ألى أين نحن سائران؟".
لكن ضحكته الهادئة خفّفت من حدة أضطرابها المتصاعد
4- قليل من الخوف يفيد
نظرت جاسيكا اليه بأنفعال وأزدراء وقالت:
" أتظنني سعيدة ؟ أية مهزلة!".
فهز رأسه معلقا:
" لقد سألتني من قبل سبب عودتي الى شاتانوغا , هل ترغبين في معرفة السبب الحقيقي ؟ أنه التحدي".
كانت حواسها تصرخ بالرفض , لكن شجاعتها تخونها في مواجهته , ومدّ يده ليسعفها على النزول فقبلتها متأففة وترجلت بدورها.
سارت بضع خطوات بأتجاه المبنى وأذا بصوت يهتف :
" أن المكان مقفل , عليكم الحضور غدا خلال ساعات العمل العادية".
وسأل برودي:
" أولست آرت مازون , حارس المبنى؟".
" أنا هو".
" أنا برودي هايس ألتقيتك بعد الظهر , نريد القيام بجولة ليلية".
كانت نبرة صوته تنتظر الموافقة , وأتى الجواب المنتظر فورا:
" عذرا سيد هايس, لم أعرفك لقد حجب الظلام وجهك عني!".
ألقى برودي بيده على كتفي رفيقته وأكملا الطريق الى الداخل وهو يقول:
" لا بد أن نزيد الأضواء لتصبح الأنارة شاملة".
ففهمت جاسيكا أنه أشترى المبنى حديثا.
وبزغ من الظلمة رجل ناهز الخمسين بزيه الرسمي , أندفع نحو الباب الأمامي ليفتحه أمامهما , ولفت أنتباه رئيسه وهو ينير أمامه الطريق بضوء يدوي:
" أن زر الأضاءة في القاعة الكبرى مثبت قرب الباب على الحائط الأيسر".
عندما أنتشر النور في الممر الداخلي أنصرف الحارس مضيفا :
" عندما تغادران يكفي أن أسمع الزمور لأنهض فأقفل الباب ".
مشى برودي بضيفته الى الداخل , وهي تجول بطرفها في كل أتجاه علّها تستطيع أن تحدد نوع عمله , ثم سألته:
" هل هذه أحدى الشركات التي تنوي ترميمها؟".
" ستصبح قانونيا هكذا , غذا الساعة التاسعة صباحا , عندما أوقع عقد البيع".
" أعذرني أذا قلت لك لا أعرف أين نحن".
" هل سمعت بمراكب جانسون".
وفتح الباب المؤدي الى الشرفة .
" أمكثي هنا الى أن أعثر على الزر الكهربائي ".
" مراكب جانسون؟".
كانت تحاول أن تتذكر وقد حجبت الظلمة وجهه عن عينيها وأضافت:
" أعتقد أن أحد زبائننا قد حدّثنا عن هذه الشركة , ليس من زمن بعيد , أنهم يصنعون المراكب الصغيرة , أليس كذلك؟".
" أجل مراكب صغيرة".
دخلا غرفة واسعة , ظهرت فيها مجموعة من أشكال المراكب المتنوعة , فراحت جاسيكا تدلي بمعلوماتها حول هذه الشركة :
" أعتقد أن جانسون قد غادر المدينة مع عائلته منذ خمس سنوات بعد أن باع شركته , أحد زبائننا , كان صديقا لهم وعرف بالبيع , أعتبرهم من المحظوظين لأنهم تخلصوا من شركة على وشك الأفلاس".
" على العكس , كانت شركته مزدهرة يوم باعها , المالكون الجدد أستفادوا من شهرته فراحوا يصنعون المراكب المتدنية النوعية , ويطلبون أثمانا باهظة , وهكذا أستنفدوا كل ثروات الشركة , ولما نفد الزبد قرروا تصفيتها ".
كان برودي يتكلم وجاسيكا تشق طريقها وسط الأخشاب متجنبة الأصطدام بالسلالم والألواح المبعثرة , وفجأة توق ليتأمل الهياكل الخشبية فسألته:
" هل تعلم شيئا عن صناعة المراكب؟".
" لا أعلم شيئا مهما , أستطيع تمييز المقدمة عن المؤخرة".
" كيف أذن تبغي أعادة ترميم هذه الشركة المفلسة؟".
" أنها نسبة العشرة بالمئة التي يمكنني شراؤها , سأغدق المال على الرجل الخبير في بناء المراكب".
وبدت غير مقتنعة بوجهة نظره.
" ومن ستستأجر لهذا العمل؟".
" عندما علمت بمشاكل هذه الشركة , رحت أتحرى الملابسات , فعلمت أن جانسون مستاء مما آلت اليه ( مراكب جانسون) حدثته البارحة وعرضت عليه منصب الرئاسة , فقبل العرض".
" لماذا ؟".
" لأنه يريد العمل ويهمه أن يرى شركته تستعيد عافيتها .
وكادت جاسيكا لا تصدق كيف أن رجلا يشغل لمصلحة شركة بأمكانه أمتلاكها , فسألته مستغربة:
" أذا كانت هذه هذه الحقيقة , فلماذا لم يبتع الشركة لنفسه ؟ ألا يملك المال الكافي؟".
فشرح لها برودي الأسباب:
" جانسون يملك المال لشرائها , لكنه تقدم في السن ولم تعد تستهويه المغامرة".
" ولكنك أنت تغامر!".
" أنا لن أخسر شيئا ".
" ومالك؟".
وأجابها بلهجة متواضعة :
" يمكنني تسديد الخسارة".
مشى برودي فلحقت به خوفا من أن تضل طريقها وسط الأخشاب المتراكمة وقالت مستطردة:
" أن الموضوع يستحق منشورة دعائية قيمة عنك".
ألتفت اليها موافقا:
" أجل أن خبر عودة جانسون الى الشركة يشكل دعاية هامة , فهذا الحدث سيضاعف الأنتاج فورا".
فأوضحت جاسيكا قصدها:
" لم أفكر بجانسون بالرغم من أهميته , كنت أشير اليك".
" أنا!".
وألقى نظرة عليها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها وأضاف:
" تريدين القول أن فتى ضل طريقه في المدينة فرجع الى البيت ثريا , أنها قصة سندريللا معكوسة".
" شيء من هذا , أليست هذه الحقيقة؟".
" معك حق , لكنني لا أحب الدعاية لنفسي".
كانت جاسيكا تسير بالقرب من برودي بعد أن أتسع الممر الداخلي بشكل يتيح لهما أن يمشيا جنبا الى جنب , فعارضته قائلة:
" لم لا ؟ بهذه الطريقة تشرّع أمامك أبوابا عديدة".
وكانت تتساءل في سرها: هل تراه ما زال مولعا بطرق الأبواب؟
ولكن برودي علّق بسخرية:
" هل تعنين الأبواب التي كانت موصدة بوجهي ؟ شكرا لنصيحتك أفضّل أن أفتح أبوابي الخاصة بطرقي الخاصة".
وشمّر عن معصمه ليرى كم الساعة , وقال:
" الوقت أصبح متأخرا , غدا ستذهين باكرا الى عملك , هل تريدين أن أعيدك الى البيت الآن؟".
" أجل , تأخرت أكثر مما توقعت , آمل أن لا تضل الممر المؤدي الى الخارج".
وأنتظرته ريثما يطفىء الأضوء ثم أتجها معا نحو الباب الرئيسي . لم يلاحظ الحارس أنصرافهما , لكنه ما أن سمع الزمور حتى لاح مع ضوئه اليدوي يعدو نحو الباب , في الوقت الذي كان فيه برودي يتهيأ للأقلاع.
كانت طريق العودة قصيرة جدا , وكانت جاسيكا تفكر طوال الوقت, كم من المعلومات جمعت عنه في ليلة واحدة! ورغم ذلك لا يزال الغموض يلف حياته , وأمتلكها شعور بالخوف وبضرورة الأبتعاد عن هذا الأنسان الخطير , وحين بات على مقربة من مبنى شقتها أرادت أن تقطع الصمت بأي كلام فسألته:
" هل أن أهلك ما زالوا يسكنون هنا؟".
" مات والدي منذ عشر سنوات".
قبل عشر سنوات ! أذن لم يتسنى لوالده أن يشهد نجاحه , ترى ألا يحزنه أن يقضي أبوه بدون أن يغتبط لنجاحه في الحياة ؟ وقالت بلهجة الأعتذار :
" عفوا , لم أكن أعلم ذلك".
فقال برودي بدون أن تبدو عليه علامات الحيرة:
" ليس هناك من سبب ليصلك خبر وفاته ,فأنت لم تعرفيه".
" كلا لم أعرفه".
" هناك أمر آخر تريدين الأستفسار عنه , أليس كذلك؟"".
وتبادل الأثنان نظرة خاطفة , وبقيت جاسيكا ملتزمة الصمت .
" أنك تتساءلين عن أمي".
حبست أنفاسها مندهشة , كيف تراه عرف خفايا أفكارها ؟ فتابع موضحا:
" لا أعلم أين هي فلقد تم طلاقها من أبي يوم كنت في الثانية من عمري , أحد المقربين حاول البحث عنها بعد موت والدي لكنه لم يعثر لها على أثر".
كان يدلي بهذه المعلومات بصوت لا يعرف الحيرة ولا يشعر بالحنين الى الأم التي أعطته الحياة: فبدى الفارق شاسعا بينه وبينها , فأهلها ما زالوا يملكون جوارحها , وأن كانوا يعيشون بعيدين عنها , أما هو فلا يحن ألى الأم التي لم يرها أبدا!\\حين توقفت السيارة أمام شقتها , أستفاقت جاسيكا من شرودها , ونزل برودي ليفتح لها بابها , ترجلت, فوضع يده على كتفها وكأنه ينبهها الى حلول وقت الوداع , وكنهاية كل لقاء لا بد أن يكون المشهد عاطفيا , تشنجت أعصابها وتضاعفت دقات قلبها , وتظاهرت بالبحث عن المفتاح في حقيبتها علّها تخفي أضطرابها المتصاعد.
" شكرا على العشاء, ولمست أصابعها المفتاح في قعر الحقيبة .
تساءلت : هل تراه ينتظر منها دعوة لشرب القهوة؟ كيف لها أن تتخلص منه في حال أوحى لها بالفكرة؟
أجابها برودي مبتسما:
" كنت سعيدا باللقاء".
وقبل أن تدخل المفتاح في القفل , أنتشله كالساحر من يدها .فتراجعت خطوتين لتتجنب أي أحتكاك به , فتح الباب وقطع عليها الطريق , هل يبيت نية معيّنة؟
مدّت يدها لتتناول المفتاح منه وأذ أعتراها الخوف قالت بصوت مرتعش:
" شكرا من جديد وحظا سعيدا في شركتك الجديدة".
ثم حاولت أن تتسلل نحو الباب ظنا منها أن هذه الحركة تعجل بأنصرافه , لكنه لم يرجع اليها المفتاح بل أطبق يده ورفعها لتلامس وجهها ثم قال:
" أنك تساءلين أن كنت أنوي معانقتك قبل الأنصراف؟".
كان صوته بطيئا فأحست جاسيكا أنها ليست في مأمن , ما تراها تجيب؟ هل تتظاهر بأنها تحسب قوله مزاحا؟ أو تواجهه بالعنف؟ أيّ الموقفين أفضل؟ وبسبب ترددها هذا خسرت الجولة الأولى , وظهر أن برودي هو الأقوى , فراحت أصابعه تداعب وجنتيها , بينما هي ترتجف كورقة النخيل.
" أظنك خائفة مني".
تنهدت بصعوبة وأجابته بصوت متقطع:
" أظنك تحاول أن تخيفني".
ثم أستعادت أنفاسها وكأنها تهنىء نفسها على هذا النصر الهزيل فهي لم تفقد صوابها طليا , وأستطاعت أن تتفوه ببضع عبارات ....
" قد تكونين على حق".
وأبعد يده عن وجهها من دون أن يعيد ذلك اليها التوازن والهدوء بل بقيت أعصابها مشدودة وهي تسمعه يقول:
" قليل من الخوف مفيد , فهو يرهف الحس ويسهل دفقات الدورة الدموية".
كانت كلماته تحدد بالضبط حالتها النفسية , فهي خائفة وليست مرتعبة , لكن برودي لا يزال يسيطر على الموقف وهو يتفحص تقاسيم وجهها بدقة ثم طمأنها قائلا:
" لا عليك , لن أقبلك , تصبحين على خير".
وتراجع الى الوراء دون أن تفارقها عيناه , وقبل أن ينصرف أضاف:
" لا عناق هذه الليلة".
ولم تنتبه جاسيكا الى مغزى ملاحظته حتى أقفلت الباب فعرفت أنه أجّل العناق , لكنه لم يتخل عنه , وأستغربت لماذا لم يسألها عن موعد جديد ؟ ثم لم يشر الى أنه سيتصل بها , ربما بسبب كثرة أعماله, لا يعرف متى يمكنه الأتصال.
كانت تسمع وقع خطاه في الممر الخارجي , وتراهن على أنه سيدعوها من جديد وستكون المغامرة أشد خطرا, لقد رافقته هذه المرة كي لا تنكث بوعدها في قبول دعوته الى العشاء , لكنها في المرة المقبلة سوف تتحاشى الوقوع في الخطأ نفسه فهي تعي قدرته وجاذبيته , لذلك يفترض بها أن تبتعد عنه.
أمضت جاسيكا عدة أيام وهاجسها الوحيد أتصال هاتفي من برودي, وجاءت عطلة نهاية الأسبوع بدون أن تحظى بأي خبر , في بادىء الأمر عزت الأمر الى أنشغاله بالشركة الجديدة , ثم ظنت أن أعمالا أخرى أستدعته خارج المدينة , وفي منتصف الأسبوع التالي , تهيأ لها أنه لم يعد يكترث للقاء بها, وترسخت هذه القناعة في رأسها وهي تفكر أنه كان يبغي التحدي . وأحست أنها طعنت في صميم كرامتها , كان يجدر بها أن تكون أبعد نظرا وتصده منذ البداية .
كانت في مكتبها عندما قرع الباب.
" من؟".
ودخلت السكرتيرة آن مورو قائلة:
" أحد عمال المطبعة ترك لك هذا".
تناولت جاسيكا الظرف الكبير , فأضافت آن:
" المطلوب التدقيق فيه".
فتنهدت جاسيكا معترضة:
" لكن هذا ليس من أختصاصي ".
فبرّرت آن موقفها :
" ما كنت أرغب أن أجلب لك هذا الملف القديم , لكن السيد دان لا يريدك أن تطلعي على الملف الجديد".
ورفعت جاسيكا رأسها مستفسرة:
" ملف جديد؟".
ضحكت آن:
" كم من الملفات تمطرها السماء!".
وقبل أن تعلن جاسيكا أنها لم تفهم شيئا , رنّ الهاتف في غرفة الأستقبال فركضت آن لترفع السماعة , وتبعتها نظرات جاسيكا الفضولية , لقد أعطتها معلومات ناقصة , من تراه يكون الزبون الجديد؟ قد يكون غيرها في الشركة أهتم بفتح هذا الحساب, ولكن لماذا كتم خالها عنها الأمر , فمن عادته أطلاعها على الملفات الجديدة!
أخرجت الأوراق من الظرف وبدأت التدقيق فيها , فأكتشفت عددا كبيرا من الأخطاء كان بالأمكان تلافيها فأتصلت بمؤسسة الطباعة لتعلن لهم رأيها بعملهم , وطلبت منهم أن يحضر أحدهم ليأخذ الأوراق مصححة , ثم نادت آن بعد أن خرجت من مكتبها :
" سيحضر أحدهم ليسترجع هذا الظرف".
" ولكني ذاهبة الى الغداء".
تطلعت جاسيكا الى ساعتها فلاحظت أنها الحادية عشرة والنصف فأعتذرت من آن :
" لم أكن أعلم كم الساعة , يكفي أن تتركيه على مكتبك..".
يا للمفاجأة ! فتح باب مكتب خالها , وخرج منه برودي يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق وبانت عليه مظاهر رجل الأعمال الناجح , فتذكرت كلمات آن منذ دقائق , هل كانت تشير الى برودي وهي تتحدث عن الملف الجديد؟ حباها, وقبل أن يفسح لها المجال لرد التحية , سارع الى تقديم الشخص الآخر:
" لا أظنك ألتقيت السيد جانسون من قبل".
كهل ضعيف البنية , كثيف الحاجبين , رمادي الشعر , يبتسم بدون تكلف ويوحي مظهره بالثقة .
ومدّ الرجل الغريب يده للمصافحة قائلا بلباقة:
" يسعدني أن أتعرف عليك يا آنسة ثورن , الآن أدركت مدى قدرتك على الأقناع".
" قدرتي على الأقناع؟".
وأستدرك برودي:
" لا داعي للتواضع يا جاسيكا أن السيد جانسون أقتنع بمقترحاتك ".
" مقترحاتي؟".
وأحست أنها تشارك في حوار الطرشان , فتدخل خالها ليقول:
" أجل كانت فكرة ممتازة , فالأعلان الدعائي الذي أقترحته للسيد هايس سيعيد للشركة أمجادها الماضية".
وردّد جزءا من الأعلان المقترح:
" من جديد جانسون الى القيادة".
كل هذا لم يكن يعني لها أي شيء , ولم تكن تدري عما يتكلمون , فهي لم تقترح أو تنصح برودي باللجوء الى شركة خالها لأعلاناته الخاصة , وقبل أن تزيل سوء التفاهم هذا , أستعجل برودي قائلا:
" سيد جانسون سنتعاون مع هذه الشركة , أنا سعيد بلقائك يا سيد دان , بالمناسبة لا أظن أن في الأمر أي أزعاج فيما لو دعوت أبنة شقيقتك لتناول الغداء معي".
وأبتسم خالها موافقا:
" من الأكيد لا أعتراض لدي".
حاولت جاسيكا الأعتراض لكن برودي سبقها :
"أين معطفك؟".
" في المكتب".
كانت تريد أن تقول كلاما كثيرا , لكن يده أمسكت بساعدها وسار بها نحو الباب
5-تصبحين على خير
أدخل برودي جاسيكا الى مكتبها وأغلق الباب, حدقت به وقالت غاضبة:
" هل تتكرم وتفهمني ماذا تريد؟".
تناول معطفها المعلق على الحائط وتقدم نحوها لألباسها اياه, وعندما لم تعترض , أمسكها برباط حقيبتها , وهمّ ليتجه بها نحو الخارج , لكنها حررت يدها من قبضته سائلة:
" ماذا تريد؟".
فأجاب:
" أنني أصطحبك الى الغداء!".
" لكنني لم أوافق".
أحنى رأسه وسألها:
" هل تلبين دعوتي؟".
" آسفة لا أريد أن أذهب الى أي مكان ".
ثم ألقت بحقيبتها على الكرسي وبدأت تخلع معطفها , فقال لها معاتبا:
" الآن فهمت لماذا لم تعطيني عنوانك...".
وأرتفعت يداه حتى منكبيها وكأنه يتهيأ لمعاونتها على خلع معطفها , كان يتمتم بدون أن يفصح عما يقوله فسألته مستفسرة:
" ماذا تقول؟".
" أتكلم عن المرة السابقة , يوم قبلت دعوتي الى العشاء , كنت متأكدة أنني أجهل عنوانك وتستبعدين أمكانية حصولي عليه".
كانت يداه على كتفيها فسألته مستوضحة:
" لماذا أزعجت نفسك في البحث عن مكان سكني , ما دمت قد أكتشفت نيتي في التهرب من أعطائك عنواني ؟".
وبحركة عصبية رفعت رأسها وكأنها تبعد عن ذهنها عقدة الشعور بالذنب من تصرفها هذا , فقال لها برودي:
" دعوتك للعشاء وقبلت, وأنا دائما أنفذ ما أقرر عمله , وأحيانا أعلم أن الآخرين يتراجعون عن وعودهم لكن أسعى لمساعدتهم على الوفاء بوعدهم".
وتناول المعطف من جديد , وحاول أن يلبسها اياه بدون أدنى أضطراب , فأحست أن الأرض تهتز تحت قدميها , وأدركت أن برودي يحصل بشكل أو بآخر على ما يريده , وأن معاندته لا تجدي , وسألها كأنه يخاطبها للمرة الأولى:
" هل سنتغدى معا؟".
فأدركت أن الأعتراض لا ينفع وأن برودي من النوع الذي يأبى الأستسلام , فسارت أمامه بلا جواب.
تقدم نحو الباب وفتحه وخرجا معا , لكن جاسيكا توقفت عن مكتب السكرتيرة مظهرة عدم أكتراثها بالرجل الذي يمشي الى جانبها , وقالت لها:
" أذا سأل عني أحد قولي له ذهبت الى الغداء وستعود عند الساعة الواحدة".
وأضاف برودي:
" ربما نتأخر عن الساعة الواحدة".
وقبل أن تستطيع جاسيكا معاكسته , أتجه بها نحو الخارج , بينما نظرات السكرتيرة الحسودة تلاحقها , فتأكدت أن برودي قادر أن يغزو القلوب من النظرة الأولى , ولم العجب؟ ألم يستأثر بأنتباهها يوم كان واقفا بمحاذاتها عند أشارة العبور؟ لقد حدّقت به مليا يومها , ولم تستغرب وجهه , وفي النهاية فرض نفسه عليها.
عندما دخلا السيارة المتوقفة عند الرصيف , عرض عليها برودي فكرة تناول الغداء في محطة السكة الحديدية , فلم تعير أي أهتمام للمكان,. ولم يحاول هو الأسترسال في الحديث بل راح يهتم بالقيادة وسط الأزدحام وأتجه نحو محطة شاتانوغا , توقفا في الباحة الخارجية ودخلا المبنى الذي توزعت فيه المطاعم والمحلات.
" أظنك تناولت الطعام أكثر من مرة هنا".
فأجابته بلهجة جافة:
" ليس من زمن قريب".
" لم آت الى هنا من قبل , لم يكن بوسعي تسديد الفاتورة".
وتذكرت جاسيكا حالة برودي التعيسة في الماضي , أنه أنسان عصامي بنى نفسه بنفسه حتى أضحى قادرا على أن يحصل على ما يريد بعد أن شق طريقه , وبات جديرا بالأحترام...
دخلا المطعم فوجدا أن الطاولات مكتملة , فقد توافد السواح بأعاد غفيرة الى المكان , دقائق معدودة وتمكن برودي من أقناع الخادمة بأيجاد طاولة لهما قرب النافذة المطلة على الحديقة.
فتحت جاسيكا لائحة الطعام , وطلب برودي كوبين من العصير بأنتظار أن يتفقا على المآكل التي سيطلبانها.
كانت جاسيكا مستعجلة , وأعترضت وهي ترى بطء برودي في الطلب.
" عليّ أن أرجع قبل الواحدة".
" لا يهم أذا تأخرت عن عملك".
" تظنني قادرة أن أعود الى المكتب ساعة أشاء بأعتبار خالي صاحب الشركة ! الحقيقة هي غير ذلك , عندي مهام يجب أن أتممها في الوقت المطلوب , فأنا لا أتقاضى راتبي بدون عناء".
" لن يغضب خالك أذا تأخرت اليوم بسبب غدائك".
وتوقف قليلا ثم أضاف:
" خاصة أنك تتناولين الطعام معي , على كل حال أنا زبون جديد وحساباتي سوف تدر على شركتكم أرباحا طائلة".
وعلّقت جاسيكا:
" هذا أمر لا يعنيني , ثم ما معنى هذه الرواية التي حيكت حول تدخلي في أقناعك للتعاون مع المؤسسة ولم يكن لي علاقة بهذه القضية؟".
أرتشف جرعة من العصير وقال:
" لا تكوني ساذجة يا جاسيكا , الفضل يعود اليك, أنت الدافع الوحيد , أنا الذي طلبت من جانسون أن يتعامل مع شركة خالك للأعلانات".
وأصفر وجهها أمام التصريح المفاجىء , فقالت من دون أنتباه:
"ولم أنا؟".
لم تدر كيف صدر عنها هذا السؤال , ليتها تستطيع أسترداد كلمتها لتخفيها في قرارة نفسها.
" لأن لك شعرا عسليا وعينين خضراوين , ثم أريد التقرب منك .... بأي ثمن".
وتردد قليلا في لفظ العبارة الأخيرة وكأنه يتوخى أعطاءها الأهمية البالغة , فشعرت بالنار تندفع في شرايينها , ولاح الأضطراب في مقلتيها النضرتين.
فسألها برودي مازحا:
" هل كان لك ماض مع رجل آخر؟".
حاولت أن تتهرب من السؤال وتجيب بأي شيء , لكن الكلمة خانتها فدفعت كوبها لترتشف جرعة من العصير , ثم تعمدت أن تظهر نفسها متعبة , لا قوة لها على الحديث بينما تابع هو حديثه:
" وبعد؟".
" وبعد ماذا؟".
" ما رأيك لو يكون لي دور في حياتك؟".
كانت جميع حواسه مرهفة , تتعطش للحب وتتوق اليه , لكن المكابرة بدت على جاسيكا برغم أن كلماته ونظراته نفذت الى أعماق قلبها , فأجابته:
" عليك أن تنتظر وسترى".
أبتسم وأجاب:
" لن أستعجل عليك؟".
فأعترضت على ملاحظته :
" أفهم من كلامك أنك تنذرني لكي أوافق , لماذ تضيّع الوقت , من الأفضل أن نطلب طعاما".
وراحت تبحث في لائحة الطعام , متأكدة أنها لن تربح في تلك المعركة الكلامية.
" ماذا تريدين أن أطلب".
" بأعتبار أنني لا أعرف ذوقك , لا يمكنني الأيحاء لك بشيء معين".
" تعرفين ذوقي , أريد الأفضل , ولا شيء سوى الأفضل".
ورفع نحوها بصره الثقاب , ففهمت أنه لا يعني المأكولات.
" ولكن الأفضل يختلف بين شخص وآخر , وعليك أن تختار بنفسك , أنا مثلا أفضل السلطة بالبندورة والزيت والحامض".
وطلب برودي من الخادم أن يحضر لهما السلطة المذكورة بالأضافة الى قطعة لحم والبطاطا المقلية.
" ما بك نسيت كوب العصير؟".
أرتشفت جاسيكا جرعة قليلة من كوبها ثم أستطرد برودي قائلا:
" أنا عادة لا أهتم للمرطبات , أما اليوم فأجده لذيذا".
" لماذا ؟".
" لأننا أجتمعنا أنا وأنت".
ثم تناول كأسها وشرب منه جرعة وأضاف:
" كنت أفكر كيف يمكن أن تتكرر لقاءاتنا وأن عليّ أن أفعل شيئا ما لأراك".
همست بصوت خفيض:
"هل أنت جاد في ما تقول؟".
فأستفسر برودي معاتبا:
" هل هذا يعني أنك لم تكوني تنتظرين مني أي أتصال؟".
فتعمدت جاسيكا الكذب وقالت:
" لم يخطر هذا الأمر على بالي".
" مسكينة... هل أعتقدت أنني تخليت عن فكرة العناق , وأنا أقول لك تصبحين على خير؟".
أمام كلماته هذه شعرت جاسيكا بضرورة التهرب من لغة العواطف فقالت:
"أليس هناك موضوع آخر يمكن أن نتحدث به؟".
" شيء تافه , الطقس مثلا".
كانت منفعلة وتريد أن تضع حدا لتجاوزات برودي, وأقبل الخادم في الوقت المناسب ليجمع الصحون الفارغة , فساد صمت كامل , قطعه صوت برودي وهو يسأل عن الفاتورة , بدا في تلك اللحظة معتدلا هادىء الأعصاب وكأن جفاء جاسيكا لم يثر حفيظته , فأدركت كم تنقصها الخبرة للتعامل م هذا الأنسان المتزن , الذي يقوى على الغضب والأنفعال والقادر أن يحافظ على رباطة جأشه ويتحكم بالأحداث ولا تفوته شاردة أو واردة.
بعد الغداء حاولت جاسيكا العودة بسرعة الى المكتب لكن يد برودي خففت من سرعتها وقال معترضا:
" ما زال لديك متسع من الوقت لتعودي , ما رأيك لو نتفرج على واجهات المخازن؟".
ترددت لحظة ثم أدركت أنه على حق فما زال أمامها متسع من الوقت , رغم ذلك حاولت أن تجد مخرجا للتهرب فقالت:
" يبدو أنهم في كافة المخازن منهمكون في عرض الأشياء الجديدة".
فأجابها مازحا:
" منذ متى لا تحب أمرأة التجول في المخازن؟".
دخلا أحد محلات الهدايا فراحت تتأمل السلع المعروضة وكان برودي يتبعها مراقبا كل ما يسترعي أنتباهها , لكنها تظاهرت بأنها لا تعيره أي أنتباه.
من بين الأشياء المعروضة , أعجبها شمعدانان خشبيان تناو لتهما وراحت تدقق في الرسوم المحفورة عليهما , ثم قالت لا شعوريا :
" أنهما رائعان!".
وردد برودي:
" أنهما حقا رائعان!".
ثم وضعتهما في مكانهما وتابعت جولتها تراقب التحف المعروضة على الرفوف , لحظات , وألتفتت الى الوراء فوجدت نفسها وحيدة , نظرت يمنة ويسرة , فرأت برودي عائدا من قرب الآلة الحاسبة وبيده رزمة مغلفة بورقة هدية , فأرتسمت على محياها علامات أستفهام.
لكن برودي أزال الغموض من ذهنها:
ط هذه لك".
وقدم لها الرزمة مضيفا:
" أنهما الشمعدانان اللذان أعجباك".
" لكن لم أكن أقصد أن تشتريهما لي".
" أعلم ذلك".
ودفعها الى يدها فتناولتها بيد مرتجفة , وحاولت أن تفتح حقيبتها باليد الأخرى وقالت:
" سأدفع لك ثمنها".
فرد جازما:
" ألم يعلمك أهلك كيف تتقبلين الهدايا بلطف , والأبتسامة تعلو ثغرك؟".
ولمست يده جسدها بدون تكلف وكأنه أعتاد هذا التصرف معها من قبل, فأعتراها شعور غريب وشعرت بالنار تلتهم عروقها, لكنها أمتلكت مشاعرها وردت بحزم:
"علمني أهلي أن لا أتناول الحلوى من الأغراب".
" ولكن لن نبقى غرباء الى الأبد يا جاسيكا!".
وأمام موقفه هذا أدركت أن الرفض ليس عملية سهلة , فقبلت الهدية شاكرة , وتابع برودي قائلا وهو يلامس عنقها بيده:
" لاتنسي الأبتسامة".
فأبتسمت مرغمة علّها تخلص من هذه الورطة .
خرجا من محل الهدايا فدعاها بلباقة لزيارة معرض الألعاب المتنوعة , فوافقت على الفكرة برغم أن قلبها كان يخفق بسرعة , شعرت وهي تسير بأتجاه المعرض بأن أضطرابها يزول تدريجيا وأنه لا داعي للقلق.
كان المعرض كناية عن قاعة فسيحة , عرضت فيها نماذج من شاتانوغا : الطبيعة الألوان المحلية , وسائا السير , القطارات , العربات , الأنفاق , الجسور , أشجار أصطناعية مستوحاة من مناظر جبلية , بيوت أمامها المناشر وقربها سيدة تنشر غسيلها...
وأكثر ما كان يلفت الأنظار سيارات الركاب وعربات النقل المتوقفة عند المحطات وقرب الأرصفة , بأختصار كان هذا العرض مصمما بشكل يثير الخيال عند الشباب والشيوخ على السواء , وقد أثارت مهارة الترتيب أهتمام جاسيكا , وأرتسم الماضي في مخيلتها وهي تنعم النظر بأحد القطارات الصغيرة فقالت:
" كان جوستان يملك واحدا كهذا وضعه على طاولة غرفته لكنه لم يكن كبيرا بهذا الحجم , كم مرة دعاني لمشاهدته وهو يمشي بسرعة خاطفة! لكنه لم يسمح لي مرة واحدة أن أستعمله ".
في تلك اللحظة أرتفع صوت ولد في القاعة صارخا:
" هل أستطيع أن أشتري هذا يا أبي؟".
وكانت يده تشير الى جميع محتويات المعرض , فأجابه الوالد:
"ليس لدينا غرفة تتسع الى كل هذا ... في كل حال , قد يحمل العيد لك قطارا".
فرد الولد:
" شرط أن يتصاعد منه الدخان مثل هذا".
فطمأن الأب ولده:
" حسنا سيتصاعد منه الدخان".
" أذن أنا بأنتظار العيد والقطار الذي يشبه هذا".
أبتسمت جاسيكا قائلة:
" أنني أراهن , بأن كل ولد يرى هذا المعرض يتمنى قطارا كهدية يوم العيد".
ثم رفعت عيناها نحو برودي لتسأله بشغف:
" هل حمل لك أحد الأعياد قطارا يدخّن كهذا؟".
أطرق برودي رأسه قليلا ثم أجاب:
" كلا , لم أحصل أبدا على قطار ... كم من الأعياد مرت دون أن تدخل الهدايا بيتنا , لا أدري أن كان ذلك بسبب فقرنا , أم لأنني كنت ولدا شريرا , يعاقبونه بالحرمان".
عندها لاحظت حزنه فأرادت جاسيكا أن تغير الموضوع فقالت:
" الله وحده يدين الناس".
وأسند برودي رأسه على الحاجز الحديدي الذي يمنع المتفرجين من لمس الألعاب المعروضة وقال لها وهو يتأمل القطارات:
" كان والدي موظفا في سكة الحديد".
" هل هذا صحيح؟".
أجابها وقد بدا الأرتياح على وجهه:
" أجل, لقد أقعدته عن العمل حادثة قطار مشؤومة , كنت يومها في الخامسة تقريبا , أعفي على أثرها من الخدمة , ولم يعد بأمكانه القيام بأي عمل , وأكتفى بمرتبه التقاعدي الذي كاد لا يفي بنفقات العائلة البسيطة , وأبت عليه كرامته أن يلجأ الى مؤسسة العاجزين عن العمل , لذلك حرمنا من أشياء كثيرة".
" هل تذكر طباع أبيك؟".
كانت جاسيكا تريد أن تجمع المعلومات عن عائلة برودي لتقارن بين الأب والأبن , خصوصا بعد أن علمت بأن هذا الأخير عاش معاقا وأن مثل هذه الصدمة تؤثر على النفسية.
أجابها برودي وهو يستجمع ذكرياته:
" كان أبي عنيدا , عنيفا وحاسما , لا يتراجع أبدا عن قراره ... لقد أقعده العجز عن العمل وتركته زوجته , وأبنه كان يجلب له المتاعب".
" عفوا يا برودي , لو ظل حيا لكان فخورا بك الآ".
رفع نظره عن المعرض ليوافقها الرأي:
"أجل... ولكن الأمور ما كانت سارت بهذا الشكل".
فتعجبت جاسيكا كيف أنه يعبر عن أفكاره بهدوء تام ولا تحزنه ذكرى والده , وبدت وكأنها تتأسف هي عنه , لأن والده مات بدون أن يعرف مقدار النجاح الذي حقّقه أبنه في حياته.
غادرا المعرض وخرجا الى الطريق العام , كانا يسيران في شارع كثرت فيه المطاعم حين قال لها بهدوء:
" كنت أود أن نأكل في أحد هذه المطاعم لكنني لم أحجز مكانا , لا بأس, سنصحح هذا الخطأ , سنحجز لتناول العشاء معا , عندما أعود الى المدينة في المرة المقبلة".
كان يتحدث بلهجة حاذقة وكأنه أعتبرها موافقة على فكرة اللقاء به من جديد, الأمر الذي أثار أعتراضها , فقالت له:
" أذا كنت متفرغة ليلة عودتك".
فردّ برودي بلهجة حميمة:
" ستكونين بالطبع جاهزة".
وتابعا سيرهما , بينما أسند برودي يده الى ظهرها ليسعفها على شق طريقها وسط الجمهور الغفير الذي تجمع في باحة المعرض, فأحدثت لمسته رجفة مثيرة في داخلها , وقال:
" هل تعلمين أنه أصبح بالأمكان أستئجار سيارة مثل شقة صغيرة يمضي فيها العشاق ليلتهم ".
" أجل , لقد رأيت صورا عنها , أنها جميلة ومفروشة على الطراز الحديث".
" عندما أحجز مكانا للعشاء , ربما سأستأجر سيارة من هذا النوع
وألقى نظرة خاطفة عليها ليرى ردة الفعل عندها , فشعرت بمزيد من الحرارة تجري في عروقها , لكنها قالت متأففة:
لا , شكرا".
هل فكرة الحب تزعجك , أم أن النساء لا يحق لهن طرق مثل هذه المواضيع؟".
لم يكن بودها الأجابة على أي سؤال , ووجدت نفسها تتعثر وتمنت لو تقصر الطريق أمامها لتخرج من هذا المأزق , ثم تململت قائلة:
" حان وقت العودة الى المكتب".
فنظر برودي الى ساعته وهز رأسه مؤكدا :
" أجل أنه الوقت, أنت دائما الموظفة المثالية , أليس كذلك؟".
" لاتنس أ،،ي أعمل لقاء أجر".
قطعا نزهتهما ليتجها نحو المكتب , فسألها برودي مستفسرا:
" هل تعملون يوم السبت؟".
" كلا , الشركة تقفل أبوابها السبت".
" كيف تقضين وقت فراغك أذن؟ تلعبين التنس والغولف؟ هل تسبحين؟".
" حسب الظروف".
" ماذا تنوين أن تفعلي هذا السبت؟".
" لم أقرر شيئا حتى الآن".
ولاحظت أنها وقعت في المأزق من جديد.
" أذا بأستطاعتنا أن نقرر شيئا ما سوية".
" شرط أن تتخلى عن فكرة السيارة الليلية".
" الآن لا يخطر على بالي سوى نزهة في الطبيعة للتمتع بجمالات شاتانوغا , أليست رحلة بريئة بالنسبة اليك؟".
" أعتقد ذلك...".
مرة أخرى وجدت نفسها عاجزة عن رفض دعوته.
" حسنا سأحضر لأصطحابك يوم السبت عند الساعة العاشرة صباحا".http://www.liilas.com