- 1-عابر سبيل
الشمس تسطع في وسط السماء , لتزف بشرى أقتراب الربيع, والأشعة الذهبية تصطدم بالرياح الشمالية القارسة , فتمتزج بأنفاس الشتاء الباردة.
فجأة , هبّت عاصفة هوجاء , فتصاعد الغبار ولفّ الشوارع , وأشتدت وطأة الأزدحام عند تقاطع الطرق .
مشت جيسيكا ثورن وحيدة على الرصيف , تجيل طرفها عبر زجاج المخازن , وهي ترتدي معطفا أخضر , وقد فكّت أزراره قليلا كي تترك النسيم يتغلغل الى جسمها الناعم.
أحكمت رباط حقيبة يدها على كتفها , وأعادت يدها الى جيب معطفها , فراح الهواء المزعج يعبث بشعرها الأشقر الحريري, وتداعب خيوطه الذهبية وجهها الأملس , لم تشأ جاسيكا أن تصفف شعرها المبعثر على الفور , فلم العجلة؟ ستعيد تمشيطه عندما تأوي الى مكتبها وتستريح.
وأضطربت نظراتها الموجهة نحو هضاب تانيسي المتعالية عند شاثانوغا , هناك كان الربيع يتجلى من خلال الظلال الوارفة على السفوح , فقد أخضرت أوراق الشجر وكست الأعشاب الأرض وبدأ تجدد الحياة واضحا , بعدما تفتحت براعم الورود المظللة بالخضار لتعد المتنزهين بتشكيلتها الزاهية .
كانت جاسيكا غافلة عن هذا الجمال شاردة في أحلام طفولية حين أصطدم كتفها بسيدة تعدو بخطوات مسرعة.
" عفوا , سيدتي".
لكن السيدة لم تفطن لها , بل تابعت سيرها بدون أنتباه .
عند تقاطع الطريق , أندفع الضوء الأخضر من الأشارة الضوئية , فخفّت مسرعة , لكن ما أن بلغت فسحة العبور حتى بان اللون الأصفر ولم يعد بأمكانها التقدم , فأخذت السيارات تتلاحق , وكان عليها أن تنتظر مع بقية المارة عند حافة الرصيف , هناك لفت أنتباهها رجل ممشوق القامة , وقف الى جانبها بكامل أناقته.
حاولت أن تتذكر وجهه لكن الهواء عبث بشعرها المتدلي من جديد, وسرعان ما عادت الصورة غامضة الى مخيلتها فنفذت نظراتها الى وجهه المتجهم , وحدّقت الى سمات القساوة في ثناياه وقالت لنفسها( هذه الشخصية ليست غريبة عني, لقد ألتقيتها قبل لكني لا أستطيع أن أحدد أين , فهذا النوع من الرجال لا ينسى بسهولة ... أنه وجه من الماضي رسم الزمن التجاعيد حول عينيه وفمه , وناهز الخامسة والثلاثين , وبسبب عمره تأكدت أنها لم تلتق به على مقاعد الدراسة فهي لم تتجاوز الثالثة والعشرين بعد.
ما الذي تبدّل ؟ المحيط الذي عرفته فيه , أم الملابس التي كان يرتديها؟ بدلته القاتمة الثمينة صممت على يد أشهر الخياطين , وقد بدا مرتاحا بمشيته مما يدل على أنه أعتاد هذا النوع من الملابس .
لم يسبق لها أن رأته بمثل هذه الأناقة يوم عرفته أيام زمان, ماذا كان يرتدي ؟ تعذرت عليها الأجابة على هذا السؤال.
حين لاحظ الرجل أنها تتفحصه بدقة راح يرميها بنظرات متسائلة , كانت عيناه الزرقاوان قادرتين أن تخرقا بنضارتهما صلابة الماس, حتى ألتفاتته ليست بغريبة عنها ... لكن ما الذي جعلها ترتعش في هذه الللحظة ؟ دقات قلبها تزداد , أحساسها المضطرب يملي عليها بضرورة تجنب أي أتصال بهذا العائد بعد طول غياب ...
وبدأت صورة وجهه تتوضح شيئا فشيئا , كانت نظرته المصوبة نحو جاسيكا وهو يحدق مليا بشعرها العسلي وعينيها المكحلتين بالخضار توحي بأنه يعرفها جيدا والا لماذا تراه يتأملها بهذه الدقة ؟
أقترب منها قليلا وعقد حاجبيه لحظة قبل أن يسألها:
" هل أعرفك؟".
كان يتكلم بسلاسة وأرتياح فتنحسر أسارير وجهه ويبدو بعيدا عن التكلف.
غريب! كل شيء فيه يقرّبه منها لكنها لا تتمكن من أن تتذكر أسمه...
هزّت رأسها لتشير ألى أن الأمر يلتبس عليها وأجابت:
" لست متأكدة ".
هذا الصوت...
توقف قليلا كأنه يلملم ذكرياتها بينما ظلت نظراته عالقة بوجهها .
" يا الله...".
وبرقت عيناه كأنه تعرف اليها مع بعض الريبة.
" هل يمكن ؟ أنت جوردانا؟".
" أنها شقيقتي".
فجوردانا تزيدها ثماني سنوات , لكن الأثنتين تتشابهان بالرغم من فارق السن , زد الى ذلك أن كل أفراد عائلة ثورن يتميزون بالشعر الأشقر والعيون الخضر.
وأستدرك قائلا:
" كان عليّ أن ألاحظ أنك أصغر سنا من جوردانا , تبدين بعمرها يوم أفترقنا , فأنا لم آخذ بعين الأعتبار مرور الزمن".
كانا يتحدثان بأهتمام ولم ينتبه أي منهما للأشارة الضوئية التي تبدلت لتأذن بالمرور , لكن تهافت الناس أيقظ أنتباههما , فشبك يده بذراعها ومشيا مع العابرين.
حين شدّ بقبضته على ذراعها تضاعف شعورها بضرورة الأبتعاد عن هذا الرجل , لكنها لم تقل شيئا بل أزدادت تساؤلا عن سر هذا الغريب الذي يعرف شقيقتها البكر , بدون أن تتذكر من يكون , وعبثا حاولت أن تستجمع ذاكرتها ! فلا أحد ممن تعرف يشبه الرجل الذي يسير الى جانبها .
راحت تحدق به بأمعان وتركز أفكارها علّها تعثر له على أثر في ذهنها
, وتساءلت. ما تراه يريد مني؟ لم تكن قادرة أن تفهم أي شيء.
عبرا الشارع , لكنه أستوقفها في الجهة المقابلة وتابعا حديثهما...
" كم هو صغير هذا العالم!".
كانت بسمته الكسولة تظهر أنشراحه وتابع:
" هل يعقل, أن ألتقي أحدا من عائلة ثورن في اليوم الأول بعد عودتي ؟ أنها لصدفة غريبة !".
وافقته جاسيكا بدون أن تدرك مغزى ملاحظته.
" حقا ... هل كنت صديقا لشقيقتي؟".
" صديق؟ لا لم أكن صديقا , ألتقيت شقيقتك , لكننا لم نتوصل الى درجة المعرفة الحقيقية... ولم أكن أنا المخطىء".
هذا التلميح أثار فضول جاسيكا , فتساءلت : هل شقيقتها صدته وخيبت آماله , أم أنها فشلت في فهمة ؟ كان بودها أن تتوضح الأمر , لكنه بدل الموضوع بسرعة.
" أين هي جوردانا اليوم؟ تزوجت على ما ظن".
" أجل تزوجت ورزقت بصبي وبنت وهي تعيش مع زوجها في فلوريدا".
ونزع يده من ذراعها فتنفست جاسيكا وكأنها تحررت من عبء ثقيل , أما هو فأغرق يديه في جيب سترته وبدا غير مبال للفحات الريح, فقميصه الشفاف يلامس صدره القاسي وينسدل فوق معدته الضامرة.
للوهلة الأولى أعتقدت جاسيكا أنها تكلم شخصا عابرا رأته في مكان ما , أما الآن فها هي أمام رجل يستوقفها عند منعطف الشارع ويريد أن يتحدث اليها طوال النهار.
" ماذا عن أهلك؟ أتمنى أن يكونوا بخير".
" هل تعرفهم أيضا؟ ... أنهم بخير , والدي تقاعد منذ سنتين , ثم أنتقل مع والدتي الى فلوريدا , هكذا يتسنى لها أن تعيش قرب أحفادها".
وتساءلت جاسيكا , أن كان عليها أن تطلعه على كل هذه التفاصيل وهي التي لم تعرف هويته بعد؟ لكنها تأكدت من أنه يعرف عائلتها جيدا.
" وأخوك؟ هل خرّج من جامعة هارفرد؟".
أحست جاسيكا أن سؤاله ينطوي على بعض الوقاحة والأستفزاز , وربما قصد التهكم عندما أتى على ذكر هارفرد , الأمر الذي أثار أنفعالها وحفّزها للدفاع عن أخيها الأكبر.
أجل , لقد ألتحق بمؤسسة حقوقية في ممفيس وهو ناجح في أعماله".
: أنت على حق , أن أبناء ثورن لا يقدرون النجاح الا في مصالحهم الشخصية".
أبدى هذه الملاحظة وهو يبتسم بقساوة ... فأعتبرت جاسيكا هذه المزحة نوعا من الأهانة.
" بالمناسبة , نسيت أن أستفسر , هل تزوجت جوردانا ذاك الثري من عائلة رادفورد؟".
وأنبرت جاسيكا هذه المرة بالرد:
" بالنسبة الى هذا الموضوع يهمني أن أوضح: تزوجته دون أن يكون للمال أي دور في أختيارها , لقد أحبت توم , فقط".
وفاطعها موضحا:
"وهل تعتقدين أنني عنيت غير ذلك ؟ أعتذر عن الصفة التي نعت بها السيد رادفورد , لم أكن أقصد شيئا".
فتساءلت جاسيكا : ترى هل هو صادق في ما يقول؟ أم أنه يتقن فن التمثيل ؟ ثم لماذا لا يعرفها بنفسه؟ أرادت أن تلفت أنتباهه الى ذلك , فقالت:
" عذرا , لقد أختلط عليّ الأمر , أظن أنني رأيتك من قبل ولكن...".
وهكذا أرادت أن تستدرجه ليفصح عن أسمه.
بدا مرتبكا بعض الشيء وهو يستعد ليعرّف عن نفسه:
" لا أظن أننا ألتقينا من قبل".
ثم سحب يده من جيبه ليصافحها:
"أسمي برودي هايس".
هذا الأسم جعلها تتذكره جيدا , لكنها لم تضطرب , تركته يتابع حديثه بدون مقاطعة , فتابع:
" أنت شقيقة جوردانا ,. لكن لم أعرف أسمك بعد".
أنقبضت أساريرها عندما سألها عن أسمها , فأجابت بصوت منخفض:
" أسمي جاسيكا".
ثم مدت يدها لمصافحته.
هكذا تم التعارف ولمست كفها الدافئة حرارة كفه للحظة.
بردي هايس! ثم تسمرت عيناها بذهول على الملابس الثمينة التي كان يرتديها : بدلته الأنيقة , حذاؤه اللماع , الخاتم الماسي في أصبعه.
وبينما كانت تتابع تحديقها بأهتمام ظاهر وعيناها تستقران على تقاسيم وجهه اللاذعة , سألها بأهتمام :
" تذكرتني , أوليس كذلك؟".
شهقت جاسيكا بقوة , قبل أن تجيب.
" سمعت عنك وأظن أنني رأيتك مرة أو مرتين".
" معك حق فأنا أكاد لا أذكر أختا صغيرة لجوردانا ... كنت الشيطانة المدللة وقد وضعوا عل أسنانك قضيبا حديديا ليقوّم الأعوجاج".
لم تبتسم جاسيكا ولم تحاول أن تظهر له تناسق أسنانها الناصعة البياض , بل أرادت أن تبادله مزاحه اللطيف.
" يبدو أنك دخلت العالم الذهبي يا سيد هايس".
" ناديني برودي".
ثم ألقى نظرة سريعة على بدلته وكأنه يعبّر عن عدم أهميتها , وأستأنف قائلا:
" قطعت مسافة طويلة في هذه الحياة , لم أعد ذاك الصبي الهائم على قارعة الطريق".
وافقته جاسيكا الرأي في داخلها ., وقالت في نفسها : حقا أنها مسافة طويلة , فقد بدا برودي وكأنه قطعة من الماس , لكن مظهره الخارجي لا يبدل حقيقة جوهره ... أنه كالماس يلمع ويقطع في آن معا , لذلك حاولت التخلص منه بلباقة:
" أعلم أنني ألهيك عن أعمال هامة ... أنا سعيدة بلقائك".
ثم حاولت متابعة سيرها لكن برودي لم يتركها تخطو خطوة واحدة.
" أن الحديث معك لا يشغلني عن شيء".
" لا شك أن لك أصدقاء قدامى تريد الأتصال بهم".
فأجابها مبتسما بحسرة:
" أصدقائي القدامى , صدقيني يا جاسيكا عندما ندخل عالم الثراء ندفع الثمن باهظا لأننا نترك وراءنا الكثير من معارفنا الذين لا نستطيع أن نرفع من قدرهم جميعا".
وعارضته جاسيكا:
" وأذا كانوا من الأصدقاء؟".
" أذا ألتقينا شخصا نعرفه بعد مرور سنسن وبعد أن نرتقي سلم النجاح , في حين ما زال هو يخوض معترك الحياة بصعوبة , يمتلكه شعور بالفشل فيعرض عنا , هذه هي الحقيقة المرة, معظم الناس يحبون أصدقاءهم , القدامى , لا الناجحين المنتصرين".
" أعتقد أنك على حق".
ثم ألقت نظرة على عقارب ساعتها فأدرك برودي معنى الحركة.
" هل أشغلك عن موعد ما؟".
" تكاد تنتهي فرصة الظهيرة , وعليّ أن أرجع الى عملي خلال دقائق".
في الحقيقة كان لديها متسع من الوقت , لكنها شعرت أنه لا بد من أن تنهي حديثها مع هذا الرجل , هكذا , بلا سبب".
" أنت تعملين أذن , وليس لك الكثير من أوقا الفراغ؟".
هذه المعلومات الجديدة علته في حيرة , كان يظن أن ثروة أهلها سبب كاف لتبقى طليقة بدون عمل , وأتى دورها هذه المرة لتكون لاذعة في ردها:
" حياة الفراغ تسبب الضجر , ربما لم يتح لك أن تكتشف هذه الحقيقة بعد".
أعتبر برودي الملاحظة مزاحا فقال ضاحكا:
" ربما لم أكتشف ذلك بعد".
ظل بريق ضحكة ساخرة يرتسم في مقلتيه , الأمر الذي منع جاسيكا من التعاطف معه, فحاولت الأنصراف ثانية.
" أنني سعيدة بلقائك ".
لكن النتيجة لم تتبدل فقد أستوقفها برودي من جديد وسألها:
" هل تتناولين معي الطعام هذا المساء؟".
وأضاف:
" أنني أرحب أيضا بزوجك".
" لست متزوجة ".
وأدركت أنها عالقة في شرك رجل من العسير التخلص منه .
" لا بأس , صديقك أذن , لا بد أن لك صديقا".
كانت نظرته تعني , أن فاتنة تلفت الأنظار بجمالها كجاسيكا , لا يمكن أن تكون بلا صديق , ألا أذا كانت عندها قصة معقدة.
كان ينتظر جوابا بالموافقة , لكن الفتاة الشقراء أعتذرت بلطف :
"شكرا لا أستطيع , وتعمدت أحكام رباط حقيبة يدها على كتفها كأشارة للرحيل.
" أرجوك , أعيدي النظر".
كانت تغلف بسمته الهادئة مسحة من الرجولة الفذة , من الصعب أن تصمد في وجهها أي أمرأة , فاقدة الشعور وحدها تستطيع اللامبالاة ولم تكن جاسيكا من هذا النوع.
" أشفقي على رجل سئم تناول وجباته منفردا".
" أذا كنت تتناول طعامك وحيدا , فهذا أختيار شخصي , هناك أناس كثيرون يتمنون مجالستك".
كانت جاسيكا تضبط عواطفها كي لا تضعف أمام دعوته.
" جلسائي الى المائدة يريدون مناقشة المال والأعمال بشكل أو بآخر , أنك الوجه الأقرب الذي رأيته منذ عودتي... أنا عائد غريب , ولا أحد يستقبلني ... أود أن أقضي هذا المساء معك لأحياء الذكريات الماضية".
وتمكن بسلاسته الغريبة من أشعارها بالذنب والتحجر في حال الرفض لكن بالرغم من أسلوبه التوددي أستمرت جاسيكا في أعتذارها وأردفت وهي تخفي شيئا من العنف في صوتها:
" أشك أن أكون قادرة على أحياء الذكريات الماضية فأنا لا علاقة لي بها , كنت اود لو أستطيع التعويض بأعلامك عن أصدقائك القدامى , أين هم الآن وماذا يفعلون".
" أصدقائي كانوا أيضا أصدقاء شقيقك وشقيقتك .... لا شك أنك سمعتهما يتحدثان عنهم , أذا حاولت أن تتذكري تكتشفين أنك تملكين الكثير من المعلومات عنهم".
" ربما أنت على حق".
في تلك اللحظة عبث الهواء العاصف بخصلات شعره الأسود , فأعاد ترتيبها بحركة رشيقة.
ولم يكرر برودي دعوته , لكنه عبّر عنها بشكل آخر :
" هل أحضر لأعيدك بسيارتي الساعة الثامنة؟".
ووجدت جاسيكا نفسها مضطرة أما للتمادي معه في الحديث أو للقبول , فتنفست ملء رئتيها , ثم رمقته ببسمة خاطفة قائلة:
ط الثامنة , أنه الوقت المناسب ".
قبلت الدعوة وهي تتطلع الى ساعتها .
" عفوا , عليّ أن اسرع , سأراك الليلة .... يا برودي".
وكادت تتلعثم وهي تلفظ أسمه.
" الى اللقاء".
وأعتلت ثغره بسمة عريضة.
أنصرفت جاسيكا غير مفسحة له المجال هذه المرة أن يستوقفها , وخفت خطاها على الرصيف من دون الألتفات الى الوراء لتعرف ما أذا كان برودي يتبعها بنظراته , لم يكن أمامها خيار آخر ففضلت الموافقة للتخلص منه, في كل حال لن ترافقه الليلة حسب الوعد, ليس لأنها على موعد سابق مع غيره , بل لأنه لم يأخذ عنوانها , ولأن رقم هاتفها غير مدون في الدليل , فمن أين يهتدي اليها؟ أحست أن رجلا كبرودي يصعب التغلب عليه وقد يكون من حسن حظها أن لا تواجهه ثانية.
توقفت جاسيكا عند المبنى الذي تعمل فيه لتراقب المارة على الرصيف, أنه لمن الغباء التفكير أن برودي قد يلحق بها؟ وفتحت الباب الزجاجي بسرعة لتختفي في الداخل , في المصعد الكهربائي نزعت عنها معطفها , وحاولت أن تنسى الأمر نهائيا , لكنها لم تنجح فطعم المرارة لا يختفي فورا من الحلق , بدت مضطربة وهي تدخل المكتب , وبادرتها آن مورو الموظفة في غرفة الأستقبال.
" لم أكن أتوقع قدومك قبل عشرين دقيقة آنسة ثورن".
فأستعادت أنفاسها لتجيب:
" كان عليّ أن أدقق في حساب السيد أنكن".
ورفعت الموظفة كتفيها كأنها تعتذر:
" لقد حملت ملفه الى مكتب السيد داين منذ دقائق".
" لا بأس".
في الواقع لم تكن جاسيكا مهتمة بمطالعة الملف , على الأقل في الوقت الحاضر , ثم أن خالها رالف داين يهتم بالموضوع وليس عليها أن تشغل بالها.
" سأكون في مكتبي , أذا أتصل بي أحد".
كانت جاسيكا مطمئنة وهي تدخل مكتبها الى أن برودي لن يتصل فهو لا يعرف أين تعمل".
فتح باب المدخل فدخل رجل أنه خالها , ووجدت نفسها واقفة بطريقة لا شعورية , كان يلقي نظرات ثاقبة , ينسدل فوق جبينه شعر أسود كعتمة الليل ويحمل بيده ملفا , وبالأخرى نظارات سوداء تلائم لون شعره.
كانت ألتفاتته تدل على الأستغراب وهو يرى جاسيكا واقفة في مكتبها .
" جاسي رجعت باكرا وفي الوقت المناسب , أنت الشخص الذي أريد التحدث اليه , أتبعيني الى مكتبي".
أدار ظهره وتوجه الى مكتبه تاركا الباب مفتوحا أمامها , توقفت جاسيكا لحظة ثم ألقت معطفها على كرسي محاذ للسكرتيرة وتبعته, أقفلت الباب وأسندت ظهرها الى مقعد جلدي:
"عدت باكرا من الغداء , أوليس كذلك؟".
ثم تغيّرت نبرة صوته لتعبر عن شيء من التذمر :
" لا ألومك على الفوضى الواضحة في ملف أتكن".
ألقى الملف على مكتبه وشمّر عن معصميه لينظر الى ساعته:
" كم أنت نشيطة, عدت قبل الوقت بعشرين دقيقة".
وفسرت جاسيكا سبب عودتها بصوت منخفض:
" تناولت الغداء , ولا حاجات أشتريها من السوق ففضلت العودة الى المكتب".
وهمهم رالف داين مازحا:
" لا سوق أذن! سأحتفل باليوم الذي تقول فيه أمرأة خالك رابيكا : لا سوق اليوم , جلس على المقعد المتحرك وراء مكتبه وفتح خزانة الملفات ليتناول أحدها :" لقد طالعت ملف السيد أتكن"".
وبدأ يصحح بعض المقاطع بقلمه الأحمر , فدنت جاسيكا منه لترى التعديلات التي يدخلها , ثم ركزت أنتباهها لدقيقتين فقط على الملف ليشغل بعدها برودي هايس كامل تفكيرها , وظهر الشرود من خلال عينيها التائهتين , فسألها خالها بلهفة:
" هل تسمعيني يا جاسي؟".
" أربكها شرودها فقالت:
" عذرا كنت أفكر".
" بالتأكيد . ليس بهذا الملف ".
ألقى قلمه على مكتبه وأستقام على كرسيه وأسدل يديه ليضيف :
" أنت لا تفكرين بأمر بسيط , هنالك أشياء هامة تشغل بالك".
" لا , لا أفكر بأمر هام".
" هام كفاية ليطغى على تفكيرك بهذا الشكل , عليك أن تبوحي بالسر".
وتأكدت جاسيكا , وهي العليمة بطباع خالها , أنه لن ينفك عن أستجوابها ألى أن يحظى بالواب الصحيح , وأرتأت أن تطلعه على جزء من الحقيقة بأعتبار أنها لا تحسن تلفيق الروايات:
" كنت عائدة الى المكتب , فألتقيت رجلا عاش هنا عدة سنوات , كان فتى هائما في المدينة , وهو الآن ناجح في أعماله , فعلى ذكر آتكن , خطرت لي فكرة المقارنة بين الأثنين".
" ومن يكون هذا الرجل؟".
" برودي هايس".
وتعجبت جاسيكا كيف تمكنت أن تلفظ أسمه بدون أضطراب .أظهر خالها عدم أكتراثه للأمر وهو يقطب جبينه :
" لم أسمع به من قبل... هل هناك شيء آخر؟".
" كلا".
لم ترغب في أطلاعه على أي شيء آخر , فالخدعة التي حاكتها للتخلص من برودي ستبقى ملكا لها , وهي ليست في كل حال مصدر أعتزاز لتبوح بها الى خالها , فهذا الأخير وأن كان قريبها , ما يزال رئيسها المباشر ولا تريده أن يطّلع على خفايا أسرارها .
" خذي هذا الملف , أنتبهي لملاحظاتي , أضيفي البعض من عندك وأعيديه الى الموظفين , قولي لهم ينبغي عليهم أن يعتنوا أكثر وألا خسروا مراكزهم".
وأقفل الملف وناولها أياه.
أبتسمت وهي تسمع تهديده المزعزم ثم أطرقت رأسها قائلة:
ط سأفعل".
توقفت في غرفة الأستقبال لتحمل معطفها , كانت آن مورّو تتحدث على الهاتف فأومأت أليها بأنها عائدة الى غرفتها.
كان مكتبها صغيرا , لا يحتوي أكثر من طاولة وكرسيين وخزانة ملفات , فهي أصغر الموظفين سنا , قضت السنة الأولى من ألتحاقها بشركة خالها للأعلانات في الغرفة الخلفية تتعلم المبادىء الأساسية , وعندما أنهت مرحلة التعلم , رقيت الى قسم المحاسبة.
الحسابات هذه كانت تخص قدامى الزبائن وكان رالف داين يعمل الى جانبها في هذا المجال , مما جعل جاسيكا تتبين أنها لم تحل على هذه الوظيفة لو لم تكن أبنة شقيقته , ولكنها كانت تعرف أيضا أنها لو لم تكن موهوبة لما أحتفظت لها الروابط العائلية بهذا المركز.
جلست على كرسيها وفتحت الملف , كانت تبدو منزعجة من المقاطع المحذوفة , فرأت الملاحظات على الهامش , بعض التعديلات كانت ستدخلها والبعض الآخر لم تكن ستضيفها , فخالها كان يتقن صقل الأشياء بدقة , وفكرت أنها ستكسب هذه المهرة في المستقبل .
كم مرّ من الزمن على مشاهدتها الأخيرة لبرودي هايس ؟ عشر سنوات ؟ كان لها من العمر أحدى عشرة أو أثنتا عشرة سنة.
http://www.liilas.com