كاتب الموضوع :
safsaf313
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
9 ـ ملكة الثلج
لم تذهب كيم إلى العمل ذلك النهار رغم أن لوكاس غادر بيتها مباشرة بعد حديثهما.
أمرها بأن تعود إلى فراشها وتحصل على قسط من النوم قبل أن تذهب لإحضار ميلودي. لكنها وجدت النوم هو آخر ما تريده. وبعد ساعة ونحوها من التململ والتقلب في الفراش، ألقت عنها الأغطية وعادت ترتدي ثيابها، ثم أخذت تقوم بتنظيف شامل للبيت.
خفف العمل الشاق من متاعبها النفسية. على الأقل شعرت بالنعاس حالما لمس رأسها الوسادة تلك الليلة، كما لم تر أحلاما، أو على الأقل لم تر أحلاما مزعجة.
حين رأت لوكاس لأول مرة بعد ذلك الصباح وجدت قلبها يخفق بشدة حتى كادت تشعر بأنها تختنق. لكنه قد عاد مرة أخرى ذلك الرجل الثري الجاف النائي الجذاب الذي عرفته لأول مرة. وتملكتها الحيرة وهي تجد نفسها، بعد ساعة أو ساعتين، وقد تلاشى توترها. وعند نهاية النهار كانت من الارتياح بحيث ضحكت عندما قال لها شيئا مضحكا عن الحياة.
وفي الصباح التالي، عرفت نفس الرعشة وخفقان القلب كاليوم السابق. ولكن عندما لم يحول لوكاس التقرب عادت علاقة العمل القديمة تلك تدريجيا لتستقر في مكانها الأول.
ما زالت العينان الفضيتان تسمرانها أحيانا، ولكنها كانت تطمئن نفسها في كل مرة تلحظه ينظر إليها بطريقة معينة بأنه لوكاس وعادته في قراءة أفكارها تقريبا. ولكن ذلك لم يكن يشعرها بالراحة، إنما متى كان الارتياح والسكينة من مزايا الجو المحيط بلوكاس على كل حال؟
وجدت كيم أنها تفتقد ماغي أكثر مما توقعت وذلك مع مرور الأيام والأسابيع.
ومع حلول شهر حزيران، اعترفت كيم مرغمة بأنها تعاني من الوحدة. إنها تحب ميلودي كثيرا لكن افتقارها إلى الأصدقاء الراشدين أثر فيها. ولكن هل هذا كل شيء حقا؟ أرغمها صدقها الفطري على طرح السؤال في اللحظة التالية.
لم يكن شعورها بالوحدة الذي يعذبها بقدر شوقها إلى لوكاس ولكن الفرق بينهما كان دقيقا غامضا.
منذ تقبلت فكرة أنها تحبه، أصبح لا يفارق ذهنها. لم يكن الأمر سيئا جدا حين يكون في العمل، لأن بإمكانها أن تراه حينذاك، على الأقل، وتسمعه يتكلم وتضحك على نكاته.
يا للفتاة الحزينة! كانت فكرة مزعجة لكنها حقيقية. وقوست كتفيها وقطبت جبينها بسبب وهج الشمس.
كانت مرغمة على رؤيته على ضوء جديد عندما يأخذها إلى أحد المطاعم الصغيرة التي يفضلها أو إلى مكان عام. ورغم أنه أكد لها أن هذه هي الطريقة التي يعامل بها سكرتيراته، إلا أنها شعرت بألم صامت في فؤادها، وهذا ما شعرت به أيضا عندما ذهبت مرتين إلى بيته، وقابلت مارتا مدبرة منزله، ورأت الحيوانات التي تعيش في بيته الكبير الرائع الجمال. ومرة أخرى، كان هناك سبب وجيه لذهابها إلى هناك. المرة الأولى، مر على بيته وهو عائد معها إلى المكتب بعد تناولهما الغداء وذلك ليحضر ملفا نسيه. وفي المرة الثانية طلب منها أن تحضر له بعض الأوراق عندما كان يعمل في البيت. ولكن، في كل مرة، كانت مارتا تصر على كيم أن تشاركها القهوة والبسكويت وكانت تعاملها... كيف بالضبط؟
أخذت كيم تسأل نفسها بصمت. كرفيقة؟ كصديقة؟ ولكن ليس كواحدة من موظفات لوكاس.
أما علاقة لوكاس بمدبرة منزله فمثيرة بشكل خاص. الدفء والحنان في صوت لوكاس والإخلاص اللافت للنظر في مارتا عندما تتحدث ليه بلهجتها الاسكوتلاندية، كل ذلك كان يقلقها ويثير أعصابها.
وهذا لا يعني أن لوكاس تجاوز حده معها لحظة واحدة. آه، لا... ليس هذا الرجل الثلجي. لكنها ما لبثت أن وبخت نفسها، معترفة بأنها غير عادلة أبدا. كل ما في الأمر هو أنها لم تتوقع أن يلتزم بقراره بهذه الصلابة أو بهذه السهولة!
هذا يكفي. دعي التفكير في لوكاس وانصرفي إلى شيء آخر... هذا ما حدثت به نفسها برزانة قبل أن تخرج من باب المطبخ إلى أشعة الشمس المتألقة في الحديقة.
ـ أتحبين الذهاب إلى بركة الماء يا حبيبتي؟
صاحت بهذا تنادي ميلودي فكان الجواب صيحة ابتهاج. وخلال نصف ساعة، كانت البحيرة ممتلئة، فأخذت ميلودي تعبث في الماء فيما جلست كيم على مقعد في ظل شجرة زان وفي يدها فنجان قهوة.
كان عالما بعيدا عن ذلك الكابوس الذي عانتا منه مدة عامين طويلين. واغرورقت عينا كيم بدموع ساخنة وجدتها سخيفة في الوقت الذي عليها أن تبتسم فيه. لوكاس جعل كل هذا ممكنا، إذ أعاد إليها استقلاليتها، ومنحها فرصة بناء حياة جيدة لها ولابنتها، وكانت شاكرة له إلى حد لا يصدق، لكنها لم تخبره بذلك في الحقيقة.
غالبت دموعها بصعوبة. عاجلا أم آجلا ستصطاده امرأة جميلة. إنها لا تعرف إن كان يخرج مع نساء، ولكن هذا ممكن وهي لا تلومه على ذلك، فالعزوبة، كما قال مرة، ليست عادته.
وإن خسرت الفردوس فالذنب ذنبها. وحدقت كيم أمامها، لكن الحديقة تلاشت لتحل مكانها هاوية مظلمة من الأفكار. إذ جاءها الحظ مرة أخرى، فسيكون تصرفها هو ذاته بالضبط. لعلها تخسر بذلك الفردوس، لكن جهنم التي عانت منها مع غراهام، تمنعها من الارتباط مرة أخرى بعلاقة. كن لديها، مع غراهام، عذر هو أنها لم تكن تعلم ما تفعل، ولكن لن يكون عندها عذر إذا عادت فخطرت بنفسها وبابنتها مرة أخرى عن طيب خاطر.
إنه نفس الصراع الذي أخذ يدور في ذهنها في الشهرين الماضيين. وعندما ربتت ميلودي على ذراعها بفروغ صبر قائلة بأنها تسمع جرس الباب يدق، استغرقت منها العودة إلى واقعها عدة ثوان.
ابتسمت للوجه الصغير العابس وتناولت عباءتها ثم نهضت وتوجهت إلى الباب الأمامي تفتحه دون أن تفكر في من قد يأتي لزيارتها في الساعة العاشرة من صباح يوم مشمس من حزيران.
ـ لوكاس؟
أخذت تحدق ببلادة إلى الجسم الطويل الذي كان يرتدي قميصا أبيض وبنطلون جينز أسود.
ولكن عندما ضاقت العينان الفضيتان وبدا فيهما الإعجاب بملابسها، أو بالأحرى بقلة ملابسها، تبلجت لها الحقيقة بشكل طوفان ساخن بدأ من أصابع قدميها صعودا إلى أعلى.
قاومت كيم دافعا يحثها عل أن تشبك ذراعيها فوق صدرها تستره، وقالت بصوت هادئ قدر الإمكان:" ماذا حدث؟ هل من خطب؟"
أجاب متمهلا:" حدث الكثير. أول شيء هو أنني أعنّف نفسي لأنني لم أزرك قبل فصل الصيف هذا"
حاولت أن تبتسم، وكان هذا خطأ منها لأن الابتسامة تحولت إلى التواء متوتر لشفتيها، ثم، عندما سمعت صيحة الإثارة من ميلودي خلفها، تأوهت في داخلها. ما تعرفه عن حسن ضيافة ابنتها، جعلها واثقة من أنها ستدعوه إلى الدخول ليشاركهما الجلسة عند البركة.
ـ لوكاس!
اندفعت ميلودي على أرض الردهة منزلقة بقدميها الصغيرتين الحافيتين. وعندما انحنى لوكاس مادا ذراعيه قفزت الطفلة بينهما مباشرة:" كنت أسأل أمي دوما متى ستأتي فكانت تقول إنها لا تعلم. قالت إنك مشغول جدا"
ـ لست مشغولا إلى الحد الذي يمنعني من أن أزورك.
قال هذا وهو ينتصب واقفا والطفلة بين ذراعيه، وأخذ ينظر إلى كيم. راح يتفحصها بعينين لا تطرفان، فتنهدت كيم مذعنة للطلب الصامت، وقالت بلهجة فيها أثر من خشونة:" تفضل بالدخول"
لم يكن بإمكانها مقاومتهما مها الاثنين. شكرها بعرفان جميل ساخر، فعاد وجهها إلى التوهج غضبا. يا له من رجل صعب مزعج! وسرعان ما تلاشت كل المشاعر الدافئة التي شعرت بها نحوه.
سارت أمامه واعية إلى شفافية العباءة التي اشترتها منذ أسابيع.
كان لوكاس قد أخذها إلى الغداء في اليوم السابق، وعندما كانا يغادران المطعم، سمعا صوتا خافتا متحفظا يناديه من إحدى لموائد، ثم تقدمت امرأة ووقفت بجانبهما.
قدمهما لوكاس، حينذاك، إلى بعضهما البعض. كانت المرأة الأخرى متبرجة بشكل كامل، ولمعت شفتاها المصبوغتان بشبه ابتسامة وهي تسأل لوكاس إن كان سيأتي إلى حفلة ما في تلك العطلة الأسبوعية:" سنمضي وقتا مرحا للغاية، يا عزيزي. عادة كلاريس في جمع الأصدقاء لم تتغير..."
وكانت الجملة الأخيرة موجهة إلى كيم.
لا بد أن وجهها نطق بالكثير لأنها تذكرت ابتسامة لوكاس السخرة وهما يودعان المرأة. ثم يغادران المطعم ممسكا بمرفقها.
قاومت رغبتها في السؤال عن امرأة حتى اقتربا من المكتب:" هل هي صديقة قديمة؟"
هز لوكاس كتفيه حينذاك:" نوعا ما"
قالت كيم ببشاشة ممزوجة بالكراهية له:" يبدو أن الحفلة ستكون صاخبة نوعا ما"
نظر إلى وجهها المتوهج لحظة، هازلا:" ليس تماما. كلاريس تحب دوما أن تكون مميزة عن سواها"
فعلقت كيم بجفاء:" لا بد أن المنافسة تصبح عنيفة"
ـ هذا ما لن أعرفه.
وكانا قد وصلا إلى مبنى شركة " كين الكتريكال"، فتحول بالسيارة إلى موقفه الخاص، قبل أن يلتفت إليها، مادا ذراعه بعفوية على مسند مقعدها:" أنا شخصيا أفضّل أن أكون على الطبيعة، ولكن إذا كان علي أن أرتدي شيئا فبنطلون جينز قديم يكفي"
الصور التي توهجت في مخيلتها حينذاك أخذت تعمل عملها، ولكن عندما تركت مبنى الشركة استطاعت السيطرة على أفكارها لمشوشة.
على كل حال، صورة الجميلة ذات الشعر الأحمر والعينين الخضراوين بقيت في ذهنها.
ـ إذا ذهبت إلى الحديقة مع ميلودي، فسأحضر أنا صينية القهوة.
قالت كيم له هذا عندما أصبحوا في المطبخ... بجانب الباب الخلفي.
فرد لوكاس الواقف قرب الباب الخلفي، رائعا، ساحرا كحاله دائما في أحلامها:" لا داعي للعجلة"
وكانت ميلودي الآن مستقرة بين ذراعيه ورأسها تحت كتفه ووجهها ناحية أمها.
بدا واضحا أنه مستمتع بالنظر إلى وجهها، وكانت كيم محرجة من ثوب السباحة ومن ضمه ميلودي إلى قلبه. بدا لوكاس وكأنه أب لميلودي، وهذا أرسل في كيانها ألما كاد يوقع إبريق القهوة من يدها.
عندما أصبحوا في الحديقة، جلس لوكاس عند قدميها مما سبب مشاكل لتوازنها النفسي. كان ينظر إلى ميلودي وهي تعبث في مياه البركة، فقال:" طفلة الماء"
بدا صوته العميق كسولا هازلا، فشعرت بالمرارة لرباطة جأشه.
ـ ميلودي تعشق الماء.
جاءت كلماتها صلبة متوترة لكنها أحسن ما استطاعت عمله. سكتت لحظة محاولة أن تجعل صوتها طبيعيا قبل أن تسأله:" لماذا هذه الزيارة، يا لوكاس؟"
ـ لأنه نهار رائع. ماغي في أمريكا، ففكرت أنك بحاجة إلى صحبة الأصدقاء.
قال هذا بهدوء وما زالت نظراته متجهة إلى الطفلة أمامهما. لقد فعلها مرة أخرى، فقرأ أفكارها. ولم تعرف ما إذا كان عليها أن تكون غاضبة أم مبتهجة، ولكن بسبب كل التعقيدات التي بينها وبين هذا الرجل، قررت اعتماد الغضب:" هذه شهامة بالغلة منك. ولكن..."
ـ لا ليست شهامة يا كيم
ورفع بصره إليها، فشعرت بأنفاسها تنحبس بسبب حدة المشاعر الكامنة في العينين الفضيتين الرائعتين، بينما كان يتابع:" أنا أريد أن أكون معك في كل عطلة أسبوعية لعينة. وهذا الصباح قررت أن كلمة يكفي تعني الكفاية"
حدقت إليه وقد توقف ذهنها كل تفكير مترابط. وسألها ببطء:" ما قولك في قضاء اليوم معا؟"
شعرت كيم بقوة شخصيته تحتويها، بدا لها أسمر صلبا وجذابا وبدأت ترتجف.
وتابع يقول بهدوء:" فكرت في أن نذهب لنتغذى في مكان صغير أعرفه، ثم نقضي العصر في النهر وبعد ذلك نذهب للعشاء في بيتي... مارتا ستكرس نفسها لأجل ما تحبه ميلودي وما لا تحبه"
ـ لوكاس..
ـ مجرد صديقين يا كيم. إذا كان هذا ما تريدين.
وتأملها بعينين لا يسبر غورهما:" لا يمكنك أن تنكري أن بإمكانك أن تتخذي صديقا الآن"
الصديق شيء، ولوكاس كين شيء آخر تماما. ومع ذلك، التفكير في قضاء يوم معه كان أشبه بمزج عيد الميلاد مع رأس السنة في عيد واحد وشعرت بتصميمها الحازم يتراخى. إذا بميلودي تتخذ القرار عنها عندما جاءت لتقف أمامهما، وقد وضعت يديها الصغيرتين على وركيها النحيلين:" هل بإمكان لوكاس البقاء للغداء معنا؟ أرجوك أمي"
منتديات ليلاس
ترددت كيم لحظة، لكنها كانت كافية لكي يحس لوكاس بترددها، فاستغل ذلك بعدم رحمة هي جزء منه، وقال بمرح:" لدي فكرة أفضل. سنخرج جميعا لتناول الغداء في المطعم، ثم يمكنك ركوب زورق في النهر.. هل يعجبك هذا؟ إذا كنت فتاة طيبة جدا..."
ـ ماذا؟ ماذا؟
وأخذت ميلودي تقفز فرحا، فقال برقة:" ذا كنت فتاة طيبة فيمكنك أن تأتي لتري بيتي، وتتعرفي إلى جاسبر وسلطان"
ـ ومن هما جاسبر وسلطان؟
ـ هما كلباي، وهما كبيران جدا.
ـ هل يعضان؟
ـ إنهما لا يعرفان كيف يعضان. يعرفان فقط كيف يلعقان.
أومأت ميلودي، وقالت بلهفة:" أنا أحب الكلاب"
نظرت كيم إليهما بعجز، وعندما رفع عينيه ليها، سمرها بنظراته وهو يقول بهدوء:" اذهبي وغيري ملابسك فأنا بانتظارك هنا"
استمرا ينظران إلى بعضهما البعض للحظة. وكان قلب كيم قد قفز من مكانه عندما قال الكلمات الأخيرة. يا له من غامض، في كل مرة تظن أنها فهمته، يفعل ما يحيرها.
***
كان يوما ساحرا. وبدا أن لوكاس يتبع النبرة الصائبة في حديثه مع ميلودي، فلا حزم بالغ ولا إطلاق العنان لها.
أحبت ميلودي منزل لوكاس الأسطوري كما شعرت بسرور كبير في اللعب مع كلبي لوكاس الضخمين، كما أحبت كل واحدة من قطط مارتا. وأحبت مارتا نفسها، فبادلتها المرأة المسنة شعورها كليا.
أما لوكاس فكان نموذجا للمضيف بلطفه ومراعاته لأحاسيسهما.
بعد هذا السبت، حاولت كيم أن ترفض أية دعوات أخرى، لكن لوكاس كان يتجاهل احتجاجها ببساطة وبغطرسة منطبعة فيه. لكنها بقيت مصرة على عدم قضاء الليل في بيته لأنها كانت تشعر بعدم الارتياح للاستيقاظ في الصباح في بيت لوكاس.
وهكذا كان الصيف رائعا جزئيا، لأن شيئا خفيا في عقلها الباطني كان يوقظها أحيانا في منتصف الليل وقد غمرها العرق.
لكن في أوائل أيلول، حدث أمران فصلت بينهما عدة ساعات مزقا عالم كيم الهش.
بدأت العطلة الأسبوعية بمكالمة من ماغي تقول فيها إن بيت جاء إلى أمريكا ومعه خاتم الخطوبة:" لا يمكنه العيش من دوني، يا كيم. وحين غادرت انكلترا، أخذي راجع نفسه بشأن مخاوفه من الالتزام بالزواج واسترجع في ذاكرته أشياء كثيرة ومواضيع كان قد دفنها لسنوات وكلها تعود إلى طفولته. وهكذا، أدرك أنه سيفقدني إذا لم يتصرف... وهذا ما فعله!"
ـ أنا مسرورة للغاية يا ماغي.
تابعت المرأتان الحديث عدة دقائق أخرى قبل أن تنهيا المكالمة. هذا الخبر جلب الدفء إلى نفس كيم طوال يوم السبت التالي، الذي أمضته مع ميلودي في منزل لوكاس. ويوم الأحد أخذهما لوكاس لتناول الغداء في المطعم قبل أن يعودوا باكرا إلى البيت لأن ميلودي شعرت بصداع.
وحل صباح الاثنين الذي بدأ بشكل سيء حتى أنها تأخرت عن موعد المكتب نصف ساعة... وما كان هذا سيهمها كثيرا لولا الاجتماع الذي سيعقد في التاسعة في مكتب لوكاس.
منذ بدأت رحلات عطلات الأسبوع، حرصت كيم على الوفاء بمسؤولياتها كاملة في العمل. كان آخر ما تريده هو أن يظن لوكاس أنها تستغل علاقتهما التي ما زالت مترددة في أن تدعوها صداقة. لأن الصداقة يجب أن تكون سهلة مريحة يسودها الاطمئنان وعلاقتها بلوكاس ليس فيها هذه المواصفات.
كانت كيم متوترة دوما معه، تعي كل شيء فيه مهما كان بسيطا، وأقل نبرة من صوته تخبرها بطبيعة مزاجه. وسجلت كيف أن ذكاءه الرهيب لا يتوقف أبدا عن اختزان المعلومات، وكيف يوجه ضربته بدقة. ومع ذلك فقد سمح لها بأن ترى الناحية الخاصة منه أيضا، تلك الناحية المغرية الآسرة التي هي أكثر خطورة من كل ما تكشف عنه حياته العملية.
عندما وصلت إلى الموقف التابع لشركتها، كان المطر قد استحال عواصف رعدية، فابتل معطفها الخفيف كله. وراح المطر يسيل إلى رقبتها ويقطر من غرتها عندما كان المصعد يعلو بها. الساعة التاسعة وعشر دقائق وهي تبدو كجرذ غريق.
وفي مكتبها سمعت أصواتا في المكتب الآخر، فأسرعت إلى غرفة استراحتها الخاصة حيث خلعت معطفها المبتل، وسوت شعرها بسرعة قبل أن تنظر في المرآة إلى وجهها الرطب.
ـ كيم. هل أنت بخير؟
وكان هذا صوت لوكاس مصحوبا بطرقة على الباب فشعرت بغضب عارم ولم تدر ما الذي أشعل فتيل غضبها هكذا، أهو الضيق والذعر اللذان عانتهما هذا الصباح أو هو شعورها بأنها تعيش على أعصابها منذ بدأت العمل في هذا المكتب؟
فتحت الباب بعنف وحملقت في وجه لوكاس وهي تقول:" أنا طبعا بخير. أنت لم تتركهم جميعا لتجيء ولتسألني هذا، أليس كذلك؟ ما الذي سيظنونه؟"
ـ يظنونه؟ ما الذي تتحدثين عنه بحق الله؟
ورأت على وجهه أن لهجتها لم تعجبه.
ـ أتحدث عن هرعك إلى هنا. سيظنون أنك تراقبني متحكما بي، أو أن بيننا علاقة.
حملق فيها وكأنها جنت، ثم قال ببرودة:" أولا، أنا لم (أهرع) إلى أي مكان في حياتي، وثانيا، هذه هي المرة الأولى التي تتأخرين فيها عن الثامنة والنصف منذ اشتغلت هنا. وعندما قرعت لك الجرس دون أن تأتي، تساءلت عما إذا أصابك حادث في الطريق بسبب حالة الجو الفظيعة"
ـ حسنا، لم يحدث لي شيء.
ـ هذا ما يبدو. أما بالنسبة لرأي الآخرين في ما يتعلق بتصرفاتي مع سكرتيرتي، فهذا ما لا شأن لأحد به.
ـ بكلمات أخرى، لا يهمك ما الذي سيظنونه.
قالت هذا ببرودة بالغة، بينما كانت قطرة تسيل على جبينها.
ـ لا تكوني سخيفة.
كان غاضبا حقا فقد التهبت عيناه.
ـ لست سخيفة بهذا القول.
علمت أن عليها أن تسكت، لكن لسانها لم يطعها، فتابعت:" قد تظن أن لا بأس بأن يعتقد الناس أن بيننا علاقة، لكنني لا أوافقك! وربما يتحدث الجميع بأننا نتقابل خارج العمل. ماذا تظن رأيهم في هذا؟"
فقال بصوت ناعم يدل على غضب مستتر:" أننا معجبان ببعضنا البعض؟"
ردت بحدة وتوتر:" أنت تعرف ما قد يظنون، خصوصا بالنسبة إلى سمعتك"
بدا وكأنه على وشك أن يمسكها ويهزها:" هذا يكفي يا كيم"
ـ لا ، هذا لا يكفي.
لم تستطع أن تتذكر كيف بدأ هذا كله، لكنها أدركت فجأة أنه يختمر في داخلها منذ أسابيع، إن لم يكن شهورا، وربما منذ الأيام الأولى لعلاقتهما عندما بدأ يتسلل إلى حياتها وقلبها.
لم يكن لديها القوة والإرادة أو الشجاعة لكي تواجه الألم والنبذ إذا ما تركها. فقد غرس غراهام في ذهنها أنها ذات جمال سطحي فارغ لا لب فيه، وأنها باردة لا خير فيها في العلاقة الزوجية... وظل يكرر الأمر حتى بدأت تصدق ذلك بالرغم عنها.
ـ عندما تهدئين، تعالي إلى مكتبي لنبدأ العمل. وسنتحدث عن هذا لاحقا.
قالت بصوت ثابت ووجه بالغ الشحوب:" أنا أقدم ليك استقالتي، واعلم أنني هادئة الآن"
فقال بارتياب:" أتستقيلين لأنني سألتك إن كنت بخير؟"
ـ لا، نعم. أعني أنني لا أريد أن أعمل هنا بعد الآن.
ومنعت نفسها من الصراخ وأخذت تغالب دموعها بجهد خارق.
فقال عابسا:" لا تريدين أن تعملي عندي؟ وماذا بشأن ميلودي؟"
فرفعت رأسها متحدية:" ماذا بشأنها؟ لقد دفعت كل الديون وسأجد عملا يغطي نفقاتنا وهذا كل ما أريده"
فقال بخشونة:" أعني ماذا بشأني أنا وميلودي؟ هل غاب عن ذهنك أن ابنتك أصبحت مولعة بي فإذا اختفيت فجأة من حياتها فماذا سيكون تأثير ذلك فيها؟ إنه لا يختلف كثيرا عن تأثير فراقك أنت لها"
نفضت رأسها إلى الخلف، وقد توهج وجهها بمزيج من التمرد والذعر... الذعر الذي جعلها تنطق بكلمات كحد السيف، كلمات قاسية، كلمات لم تكن تعنيها حتى وهي تنطق بها:" إذن، كل ذلك كان مكيدة لكي تجذبني إلى سريرك.. لقد جعلت ميلودي تتعلق بك، أليس كذلك؟ أتراك ترضى بأن تهبط إلى هذا المستوى بحيث تستغل طفلة لتحقق مآربك؟"
قالت هذا بصوت متحجر تغطي به نحيبها في داخلها. بقي لحظة ينظر إليها غير مصدق، وذا بها ترى ثورة غضب لم تر مثلها قط في وجه إنسان، فقد أظلمت ملامحه كعاصفة شتوية هوجاء. دخل إلى غرفة الاستراحة الصغيرة صافقا الباب خلفه، فيما عيناه تنفثان لهبا في وجهها الخائف:" لقد تقبلت منك أشياء لم أتقبلها من أي امرأة أخرى، فانظري إلى أين انتهى بي هذا. فكرت في أنك بحاجة إلى وقت، إلى حنان ورفق، مثل الحصان الأصيل المتوتر الأعصاب الذي أساء شخص مغفل معاملته لكي يحطم إرادته. حاولت أن أريك من أنا وما هو نوعي.. لقد عرّيت روحي لك، يا كيم، وهذا ما لم أفعله قط لامرأة أخرى، فيا لي من غبي أحمق"
ـ لوكاس، أرجوك
كان الهلع والخوف يتملكانها، بدا في وجهه من المشاعر ما ظنت معه أنها ستموت رعبا.
وكان هو يتابع مزمجرا بغضب:" بينما أنت طوال الوقت تعتبرينني رجلا منحطا مريضا يحتال على طفلة لكي يحصل على أمها. أهكذا ترين تصرفاتي؟ لا مشاعر سامية، لا حب في القلب... وإنما حاجة جسدية تتطلب الإشباع"
همست بيأس:" أنا لم أقل هذا"
ـ بل هذا ما قلته بالضبط. حسنا، ربما تفضلين أن أكون كما تصفينني لكي تشعري بالرضا لأنك كنت على صواب.
ودون إنذار جذبها إليه بوحشية جعلت رأسها ينتفض إلى الخلف بحدة، كاشفا عن عنقها ورافعا وجهها إلى وجهه. التحكم بأعصابه تلاشى الآن بفعل القنبلة التي قذفته بها. وعندما أخذت تقاومه أحنى رأسه معانقا إياها بالقوة.
ذكرى ما قاسته مع غراهام، أصبحت حقيقية فجأة، ولكن بدلا من ذلك الرجل المقيت الذي كان يثير اشمئزازها، وتينك اليدين اللتين كانتا تحطمان ضلوعها، كان هذا لوكاس. كان في عناقه تسلط ولكنه مع ذلك أشعل نيران قلبها ولم يعد هناك خوف أو اشمئزاز عل عاصفة هبت في كل كيانها مهددة إياها بالغرق. استمرت في المقاومة عدة لحظات أخرى شاعرة بالكرب والضيق وتشتت الذهن.. لكن عناقه هذا غزا عقلها وجسدها ما جعلها تتوقف عن المقاومة.
قال صارفا بأسنانه:" أنت تريدينني يا كيم. قد لا يعجبك هذا، وقد لا أعجبك أنا... ومع ذلك أنت تريدينني"
كان يشدها إليه واضعا يديه خلف رأسها، فشعرت بحرارته وتحديه لها.
ـ لا...
نطقت بذلك بوهن وتخاذل، فلاحظ ذلك وقال بنبرة أهدأ:" بل هو كذلك، نعم، يا سكرتيرتي الصغيرة الباردة، يا ملكة الثلج المراوغة"
لم تستطع أن تقاوم تأثيره فيها... وأخيرا تخلت عن كل محاولة في الكذب على نفسها وعلى لوكاس فأخذت تبادله عناقه بشغف.
كان شوقها كبيرا إلى هذا الرجل الذي تحب... لم يكن هناك ماض ولا مستقبل وإنما مجرد تقارب واستغلال لمشاعرهما القوية المتبادلة.
ثم شعرت به يعيدها إلى الخلف ففتحت عينيها على اتساعهما. إنهما هنا يتعانقان والاجتماع قائم في الغرفة الأخرى ومن الممكن لأي شخص أن، يدخل ليبحث عنهما.
ولا بد أن الفكرة نفسها خطرت للوكاس إذ تجمد في مكانه لحظة وتمزقت أنفاسه وهو يجاهد للسيطرة على نفسه. ووجدت كيم نفسها تنظر إلى وجهه مباشرة، فرأت العينين الفضيتين صافيتين متألقتين ولمعانهما يلهب عقلها.
عندما ابتعد عنها، كان ذلك ببطء، ما منحها وقتا لتمالك نفسها. تراجع خطوة، مسويا شعره عدة مرات قبل أن يعدل من ياقة قميصه ثم ربطة عنقه فيما كانت هي تحدق إليه بعينين واسعتين غير مصدقتين.
رأته يفتح الباب ثم يستدير خارجا، ولكن حتى بعد أن انغلق الباب مرة أخرى وبقيت وحدها، بقيت جامدة. ثم أخذت ترتجف، ليس بسبب الشعور بالخزي الذي شعرت به عندما بدأت تفيق إلى نفسها، بل لأنه ذهب، ولأنه لا يريدها، ولولا ذلك لما استطاع الابتعاد عنها.
10 ـ نعم يا حبيبة
عندما عادت إلى شخصية السيدة ألن الهادئة المنضبطة، خرجت من غرفة الاستراحة ثم تابعت سيرها خارجة من المبنى.
كان خروجها بهذا الشكل جبنا... ولكنها لم تستطع فعل شيء آخر... أخذت تسوق سيارتها في الطريق الذي جاءت منه منذ ساعة. لكن التفكير في مواجهة لوكاس مرة أخرى كان مستحيلا. ستكتب استقالتها الرسمية الليلة، ومن باب اللياقة سترد السبب إلى ظروف عائلية قاهرة.
وفيما بعد، فكرت ساخرة في سهولة الكذب وحالما وصلت إلى البيت رفعت سماعة الهاتف من مكانها، ثم جلست والتعاسة تملأ قلبها وأجهشت بالبكاء. وبعد عاصفة البكاء التي تركتها شاحبة الوجه حمراء العينين، حضرت لنفسها فنجان قهوة سوداء ثقيلة وجلست تدرس وضعها.
لقد أحرقت مراكبها مع لوكاس، فوصلت إلى نقطة اللارجوع.
وكان ذلك مدمرا... لقد أراها بشكل موجز وواف أن بإمكانه أن يأخذها أو يتركها، ثم قرر أن يتركها وهي لا تستطيع أن تلومه، لا تستطيع حقا.
وتأوهت بصوت خافت فتجاوب الصدى في أنحاء الغرفة كصرخة حيوان صغير يتألم.
لم يكن لوكاس مثل غراهام. وقفت ثم صعدت إلى غرفتها حيث ملأت مغطس الحمام. شعرت بأنها قذرة، ليس بسبب المشاعر التي سمحت بها لنفسها مع لوكاس بل بسبب اتهاماتها.. فحتى وهي تقذفه بها كانت تعلم أنها لا تعني ما تقول حقا. لكن لوكاس لم يعلم ذلك، وهو لن يصدقها الآن مهما قالت، ولا بد أنه كرهها. وتأوهت مرة أخرى ودموع ساخنة تنهمر على خديها.
استمرت في البكاء طول الوقت الذي أمضته في الحمام. ولكن عندما ارتدت ثيابها، حدثت نفسها بأن عليها أن تتماسك.
وكعادة الجو الانكليزي، استحالت عاصفة الصباح الممطرة العنيفة إلى نهار معتدل هادئ مشمس. ونظرت كيم إلى ساعتها وهي تنزل إلى الطابق الأسفل، إنها الحادية عشرة ولنصف وما زال أمامها ست ساعات قبل أن تذهب لإحضار ميلودي، ولكنها ستجن إذا أمضت هذا الوقت في المنزل غارقة في أحزانها.
نظرت إلى الهاتف، وعندما مدت يدها لتعيد السماعة إلى مكانها، عادت فمنعت نفسها.
ستكتب استقالتها الآن، ثم تضعها في البريد حين تخرج لتتمشى، وسيتلقاها لوكاس غدا صباحا. وإذا كان يحاول أن يتصل بها الآن فهي لا تريد أن تعلم فالتحدث إليه هو آخر ما تريده. فهي ستنهار وتذل نفسها أكثر مما فعلت، ستتوسل إليه أن يسامحها أو ما شابه، بينما هو قد أفهمها، قولا وفعلا، أنه انتهى منها.
كيف حدث أن فقدانه جعلها تعتبر نفسها أكبر حمقاء في العالم؟ ولكن، من ناحية أخرى، لعلها لم تحصل عليه قط منذ البداية؟ ولماذا يريدها رجل مثل لوكاس كين؟ وفاضت في نفسها كل شكوكها القديمة ومشاعر عدم الثقة والأمان. حاولت أن تقنع نفسها بأنها قامت بالعمل الصواب لكنها لم تقتنع تماما بذلك كما اعتادت.
كان عليها أن تمنحه، وتمنح نفسها فرصة. وبلغ منها الاضطراب حدا أشعرها بالغثيان لأنها أدركت فداحة غلطتها. لقد فعل كل ما هو صواب، فقذفته به في وجهه.
وكان لوكاس على صواب. فقد انتصر غراهام حتى في قبره. وهي تركته ينتصر، بل ساعدته وشجعته على ذلك. لقد اعترف لها لوكاس بحبه. ولا تدري ما إذا كان ذلك سيتطور أكثر ليصل إلى الزواج. لكنها الآن لن تدري أبدا.
أخرجت دفتر رسائلها ومغلفاتها، وقبل أن تفقد أعصابها، كتبت رسالة إلى لوكاس تخبره بشعورها بالضبط. هدمت كل الحواجز وعرّت روحها، كشفت عن نفسيتها كليا ما جعلها تشعر بأنها عادت طفلة مرة أخرى، طفلة ضعيفة غير آمنة. لم تتضرع أو تتوسل. لم تطلب أن يعيدها إليه سواء إلى قلبه أو إلى مكتبه. أخبرته فقط بشعورها نحوه. وأنهت الرسالة بقولها إنها تضع استقالتها مع هذه الرسالة، فإذا قبلها فهي تتفهم ذلك وتعذره. أما إذا شاء أن يمنحها فرصة أخرى، فليمزقها وليخبرها بذلك.
وعندما كتبت استقالتها وأقفلت المغلف على الورقتين، شعرت بتحسن.
ستذهب لتتمشى، فقد مضى دهر منذ تمشت وحدها في الهواء الطلق، وستضع الرسالة في البريد.
لقد أحدثت فوضى هائلة لا تغتفر، فرقت بينها وبين الرجل الوحيد الذي قد تحبه في العالم. وإذا لم يكن حب لوكاس لها كافيا لكي يصفح عنها، فما عليها إلا لوم نفسها، فقد منحته القليل في هذه العلاقة التي كانت من جانب واحد. أملها الوحيد كان لوكاس نفسه، لأنه لم يكن كغيره من الرجال، بل هو أفضل حتى من أحسنهم.
غادرت المنزل بسرعة وقد عادت الدموع تنهمر من عينيها، ولكن عندما سارت في جو أيلول المعتدل جفت دموعها. بعد أن وضعت الرسالة في البريد، تمشت قرب أرض مشجرة تحتوي على ملعب للأولاد، وجلست لبعض الوقت على أحد المقاعد الخشبية، بينما أشعة الشمس الضعيفة تدفئ وجهها.
وفي الساعة الرابعة عادت إلى البيت. وعندما دارت حول زاوية الشارع رأت سيارة واقفة أمام بيتها، فألقت عليها نظرة سريعة، لأنها لم تتعرف عليها.
وما إن وصلت إلى طريق بيتها، حتى انفتح باب السيارة وناداها تشارلي، بواب الشركة.
ـ تشارلي؟
أخذت تحدق إليه بحيرة بالغة ثم سارت إليه تحدق إلى وجهه المغضن تسأله:" ما الذي تفعله هنا؟ وكيف عرفت مكاني؟"
ـ أعطاني الرئيس عنوانك فقد كان يبحث عنك منذ فترة، واتصل بك مرارا هذا النهار. وبعد أن جاء إلى هنا ولم يجدك، قلت له إنني سآتي وأنتظرك أمام بيتك.
ـ أحقا؟ لا أفهم.
كانت كيم ضائعة تماما. ولكن كان في وجه الرجل العجوز شيء ما جعلها تنتبه.
ـ أراد العودة بنفسه لكنه فكر في أنه سيكون أكثر نفعا في المستشفى. ولم يشأ أن يتدخل أي شخص أخر، لكنك تعرفين طريقة حديثه معي فأنا أعرفه منذ كان طفلا صغيرا.
كان يتحدث بشكل غير مترابط، ثم، وكأنه تذكر شيئا ما، قال بهدوء:" إنها صغيرتك، لا تدعي الذعر يتملكك، لكنها في المستشفى. فقد ساءت صحتها قليلا في المدرسة"
شحب وجهها:" ميلودي، أين هي؟"
ـ في المستشفى، وسآخذك إلى هناك، هذا ما قاله الرئيس.
ـ أواه، يا تشارلي.
ووجدت نفسها تتمسك بسطح السيارة وكأنه حبل النجاة. أخذها تشارلي إلى المستشفى، ومن ثم اصطحبتها ممرضة ذات وجه عطوف إلى قسم الأطفال. ولم تقل الممرضة أكثر من أن ميلودي كانت مريضة في المدرسة، وهم يجرون لها الآن الفحوصات اللازمة. لكن الممرضة المسؤولة كانت أكثر عونا فقالت برقة بالغة:" هناك اشتباه في أنها مصابة بالتهاب السحايا وهي الآن في غرفة معزولة حيث الأمراض المعدية.هل كانت صحة ميلودي سيئة منذ يوم أو يومين؟"
ـ كانت متعبة قليلا وتعاني من صداع. لم أشأ أن أرسلها إلى المدرسة هذا الصباح، لكنها بكت وأصرت على الذهاب. كانوا يختارون أطفالا لعرض سيقام الأسبوع القادم.
كانت كيم تتحدث، شاعرة بأنها أسوأ أم في لعالم، فأومأت الممرضة المسؤولة متفهمة وقالت بهدوء:" لقد ساءت صحتها في منتصف النهار. وبما أن المدرسة تبلغت بأمر طفلة أخرى مريضة، قرروا عدم إرجاء الأمر. وعندما لم يستطيعوا الاتصال بك أدخلوها المستشفى، وكان قرارا حكيما. ستكون بأحسن حال فلا تقلقي، فهذا المرض سهل المعالجة إذا اكتشف باكرا. لكن بعض الحالات تسوء بسرعة خصوصا بالنسبة إلى الأطفال الرضع ومن هم في سن ميلودي"
سألت بشبه إغماء:" هل تمكنني.. أن أراها؟"
ـ طبعا. خطيبك جالس معها منذ أحضروها تقريبا. لم تكن وحدها عندما أجرينا الفحوصات، يا سيدة ألن. أظن أن فصل صغير الدب عن أمه أسهل من فصل ميلودي عن السيد كين.
خطيبها؟ وحدقت كيم في المرأة الصغيرة الجسم الرشيقة الحركات، ولم تقل شيئا.
عندما دخلت كيم الغرفة الصغيرة المعقمة، نهض لوكاس على الفور من كرسيه بجانب السرير، ولكن ليس قبل أن تراه وهو يمسك باليد الصغيرة. ميلودي غارقة في النوم، وشعرها الأشقر منتشر على الوسادة، وأهدابها الكثيفة منسدلة على وجنتيها المتوهجتين. فكرت كيم بوهن بأنها لا تبدو مريضة أبدا...وسارت إليها ووقفت تنظر إلى الجسم الصغير، والدموع تنهمر على خديها الشاحبتين.
ـ لا بأس عليها. ألم يخبروك بأنها على ما يرام؟
قال لوكاس لها هذا برقة وهو يتقدم ليقف بجانبها وذراعه حول كتفيها.
ـ أواه، يا لوكاس.
ارتمت بين ذراعيه وهي تشهق من دون وعي، فاحتضنها بشدة إلى أن هدأت في حين غادرت الممرضة المسؤولة الغرفة وبقيا وحيدين.
أبعدها عنه قليلا ونظر إليها بحزم وهو يقول:" ستشفى حقا يا كيم. هذا القول ليس للتهدئة. فقد سألت كل المسئولين، لأنهم تداركوا المرض في بدايته"
ساد صمت آخر ولكنها ظلت عاجزة عن الكلام، وكانت الدموع تتألق على خديها كاللآلئ.
ـ أنا آسفة.
قالت هذا همسا ولكنه سمعه. فقال:" هذا ليس ذنبك يا كيم، فما كنت لتعلمي بمرضها"
ـ أعني... أبني عنا، نحن الاثنين هذا الصباح، وكل شيء. أنا... أنا لا أصدق أنني قلت كل ذلك.
ـ أنت آسفة؟ عندما عانقتك رغما عنك؟ عندما أرسلتك هاربة إلى مكان لا يعله سوى الله؟ لن أصفح عن نفسي أبد...
قال هذا برقة مرّة، حدثتها عن عذاب داخلي، فردت بصوت متهدج:" لم يكن الأمر بهذا الشكل. أنا التي كنت فظيعة وأنا التي قلت أشياء شنيعة"
وشعرت بأحداث النهار وما تخللها من مشاعر، تشلها، لكنها لم تستطع أن تدعه يتحمل اللوم على خطأ ارتكبته هي.
قال بفظاظة وصوته يهتز:" جعلتك تقولين هذا. أنت لم تكذبي علي قط، يا كيم، بل كنت صادقة منذ أول يوم، موضحة بأنك لا تريدين التورط مع أي رجل. ولكن، بغطرستي، ظننت، لأنني أحببتك كثيرا، أن بإمكاني أن أجعلك تحبينني، لم أستطع أن أصدق أن بإمكاني أن أحبك دون أن تحبيني. استعملت الانجذاب بيننا لأحاول لفت انتباهك إلي كرجل وليس كرئيسك في العمل"
ـ ود... وقد حصل ذلك معي.
ـ بصفتي صديق، أعرف هذا.
وتنفس بعمق وصعوبة، لكنهما جمدا فجأة عندما تنهدت الطفلة في السرير برقة قبل أن تعود إلى النقم بشكل أعمق.
لقد قال إنه أحبها.. أتراه ما زال يحبها؟
قالت كيم بهمس مهتز:" ليس بصفة صديق، فأنا... أنا أحبك يا لوكاس. لقد حصل ذلك منذ تعارفن تقريبا، لكنني كنت خائفة كثيرا... وما حدث معي في الماضي أحبطني وجعلني لا أستطيع أن أصدق أن هذا سينجح. غراهام.. ما قاله وفعله جعلاني لا أستطيع أن أصدق أن أي رجل سيرغب فيّ إذا عرف حقيقتي. قال إنني باردة، جميلة ظاهرا وخاوية في الداخل"
كان ينظر إليها وعدم التصديق على وجهه الصلب الوسيم. وهذا ما أقنع كيم بمقدار ما كانت عليه من خطأ وضلال لأنها قارنت غراهام ولوكاس ببعضهما البعض ولو لحظة واحدة.
لوكاس من الرجال الذين يحبون إلى الأبد. وقد سحقت كبرياء رجولته هذا الصباح، فجعلته يكره نفسه. ومع ذلك، وفيما هو يعتقد أن كل شيء انتهى بينهما وأنها أصبحت تشمئز منه، فإذا به يأتي إلى المستشفى ليكون مع ميلودي لأنه عرف أن ليس بإمكان أمها ذلك. قد يكون رجلا صلبا قاسيا، لكنه معها ومع ميلودي رائع.
ـ كيم، أنا أحبك أكثر مما أستطيع أن أقول، وسأحبك على الدوام. أريد أن أتزوجك وأنجب منك أطفالا، وأشيخ معك. أريد أن أعلم أنك زوجتي وأن لي الحق في أن أدللك وأحميك وأعتني بك وبأسرتي. أحبك أكثر من الحياة يا كيم. التفكير في ما عانيته يقتلني، لكنني سأمضي بقية حياتي وأنا أعوضك عما حدث لك، إذا سمحت لي.
ـ ظننتك لم تعد تريدني هذا الصباح. عندما توقفت...
ولم تستطع أن تكمل لكنها لم تكن بحاجة إلى ذلك.
ـ لقد توقفت لأنني أدركت فجأة ما كنت أفعل.
قال هذا برقة فائقة، وصوت أبح، واللكنة الخفيفة التي تتخلل كلماته تمنحها نغما غامضا:" لقد فقدت سيطرتي على نفسي، وكنت غاضبا، وللأسف لم أكن أفضل من غراهام..."
ـ لا، لا تقل هذا أبدا. فأنت الأفضل بين الرجال.
ووضعت إصبعها على فمه وصوتها يرتجف.
ضمها إلى قلبه، يطمئنها برقة في البداية، ثم شدها إليه وهو يهمس بحبه:" قد تتلاشى الأرض والسماء يا حبيبتي، وقد يتوقف القمر عن اللمعان، وقد تسقط السماء في البحر، لكنني لن أكف قط عن حبك"
تمتم بذلك بعد أن افترقا قليلا لينظرا إلى بعضهما البعض.
تحدثا وتبادلا العناق. بعد ذلك قال لوكاس:" أشعر وكأنها ابنتي، أنا أيضا"
همس بذلك بلطف، وهو يرفع ذقن كيم بإصبعه وينظر في عينيها:" منذ رأيتها لأول مرة، وأقسم أنها شعرت نحوي بالشيء نفسه. كدت أجن حقا عندما جئت إلى هنا قبل أن يقولوا لي إنها ستشفى"
تمتمت بهدوء:" هل قلت إنك خطيبي؟"
ـ علمت أن الأقرباء فقط يسمح لهم بالجلوس مع المريض.
ـ أواه، يا لوكاس.
ـ أحب أن أتبناها قانونيا، يا كيم، وبهذا تحمل اسمي بعد أن نتزوج.
فقالت وهي ترتعش:" أواهي يا لوكاس"
وبعد ذلك بوقت طويل، استيقظت ميلودي بشكل طبيعي، فوجدت كيم ولوكاس جالسين بجانب السرير، وذراع لوكاس تضم كيم إليه بشدة، ورأسها ملقى على كتفه وهي نائمة.
تأملتهما ميلودي بعينين ناعستين، فابتسم لها لوكاس قائلا:" مرحى، يا حبيبة، هل تشعرين بتحسن الآن؟"
فأومأت ورأسها يدور، وعيناها تتوهجان مرة أخرى إلى يديهما المتشابكتين ووجه أمها النائم.
ـ لوكاس؟
ـ نعم يا حبيبة؟
ـ هل ستكون بابا الجديد؟
ـ نعم يا حبيبة.
ـ ممتاز.
***
تمـ بحمد الله ـت
|