كاتب الموضوع :
safsaf313
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
3ـ بداية التحدّي
في الأسابيع التالية، عملت كيم كما لم تعمل قط ووضعت ملاحظات بكل ما أخبرتها جين به وكانت تأخذ كل مساء إلي بيتها رزما من الأوراق ثم تجلس إلى ما بعد منتصف الليل، تستظهر عن ظهر قلب كل ما فيها. درست كل ملف، وكل شركة، وكل شخص لعب دورا في حياة لوكاس كين العملية حتى أصبح في رأسها من المعلومات أكثر مما لدى جين.
إحدى صديقات ميلودي كانت تعيش قرب المدرسة، فاتفقت كيم ما والدة الطفلة على أن تدفع لها أجرا لقاء أن تحضر إليها ميلودي في الساعة الثامنة صباحا، لتستطيع كيم أن تكون في الشركة عند الساعة الثامنة والنصف يوميا.
منتديات ليلاس
تصورت كيم، في اليوم الأول، أنها ستكون بمفردها في المبنى، لكن سيارة لوكاس الفارهة كانت مركونة عندما أوقفت هي سيارتها.
كان قد وقف بباب المكتب عند وصولها وأخذ يحدق فيها لحظة ساخرا، ولكن عدا عن طلبه كوبا من القهوة، أمضى النهار بطوله من دون تعليق.
جاء عيد الميلاد وابتلعت كيم ريقها قليلا وهي ترى هدية العيد السخية من لوكاس وقد كانت شيكا مصرفيا... وفي الأسبوع التالي من شهر كانون الأول انتقلت مع ابنتها إلى كوخ جميل صغير مؤلف من غرفتي نوم وقريب من مدرسة ابنتها.
وحل يوم الاثنين من أسبوعها الثالث في الشركة، وهو اليوم الأول الذي لن تكون فيه جين موجودة لتسندها.. ووجدت كيم نفسها متوترة كطفل يدخل إلى المدرسة في يومه الأول.
مكّنها بدل الملابس من الشركة من أن تشتري بذلات أنيقة وبلوزات وبعض الزينة ما أظهر بشكل رائع الصورة التي ينبغي أن تكون عليها سكرتيرة لوكاس كين. وكانت كيم تعلم أن الطقم الرمادي والبلوزة الوردية الحريرية تلائم بشرتها الصافي.
ومع ذلك، كانت عيناها البنيتان الناعمتان واسعتين قلقتين نوعا ما وهي تتفقد ضفيرتها المرتبة، وغرتها الكثة المستقيمة التي تصل إلى قمة حاجبيها.
قالت بنعومة تحدث صورتها، في المرآة:" لا شيء تغير في اليومين الماضيين. فقد اشتغلت طوال الأسبوع الماضي ولم تساعدك جين إلا قليلا، وهذا يعني أن بإمكانك مواجهة أي شيء"
وكان عليها، بعد دقيقة أو اثنتين، أن تذكر نفسها بهذه الكلمات.
اعتادت في الأسابيع الماضية، على تحضير قهوة لوكاس فور وصولها إلى المكتب، لكنها الآن، عندما فتحت الباب، بعد أن قرعته، أدبا، كالعادة، لم يكن ذلك الثري البالغ الأناقة الذي تعودت عليه هو الذي رفع بصره إليها من وراء المكتب.
بدا واضحا أن لوكاس كان نائما حتى اللحظة التي أيقظته فيها، وحين استقام في جلسته وحدق إليها بعينين كليلتين، تصاعدت خفقات قلبها. ولم يكن ذلك لأن شكله المشعث يثبت أنه نام بملابسه.
كان قد خلع، في الساعات الأخيرة، سترته وربطة عنقه، فبدت عضلاته القوية.
لقد نجح.. نجح بكل تأكيد. وجمدت كيم مكانها، واهتزت الصينية بين يديها بشكل خطر. فقد كان.. حسنا، كان مختلفا، كما اعترفت بصدمة صامتة. إنه، في ملابسه، موهوب الجانب فياض الرجولة، أما بنصف ملابسه.. لا عجب أن جين قالت لها إن مرور النساء الفاتنات في حياته هو بسرعة سيارات السباق لأن العمل يأتي عنده في المقام الأول.
هذا لا يعني أنه يتملص منهن بالطبع، كما قالت جين، ذلك أن الدائرة التي يعيش فيها لديها التفكير ذاته... وهذا عامل مساعد. ولم يكن لوكاس قط من ملاحقي الشقراوات الغبيات، فهو يطلب الذكاء كما يطلب الجمال. وكل النساء يعتبرنه جذابا لا يقاوم.
لم تنطق حينذاك بأي تعليق رغم أنها حدثت نفسها بأن كلمة ( لا يقاوم) ليست الكلمة التي تخطر ببالها حين التفكير في لوكاس كين. أما الآن، فبإمكانها أن تفهم ما الذي يجذب مثل أولئك النساء إليه. رأت في استلقائه هذا كل تلك الجاذبية البدائية التي أحست بها مرة أو اثنتين.. حسنا، بل أكثر من مرة أو اثنتين.
ـ رباه! كم الساعة؟
بدأت العينان الفضيتان تصفوان، واحتل الصوان مكان لون الدخان في عينيه.
ـ الثامنة والنصف
كان جوابا مختصرا لكنه كل ما استطاعته قبل أن تتمالك أحاسيسها.
ـ هل تلك قهوة؟ أنت ملاك.
عاد يستند إلى الخلف في كرسيه، وأخذ يتمطى باسطا عضلاته المفتولة قبل أن يأخذ في تمسيد شعره إلى الخلف، وهذان الأمران لم يفلحا في حفظ توازن كيم.
ـ لقد أمضيت هنا معظم العطلة الأسبوعية. وصفقة " كلاركسن" انفجرت في وجهنا وكنا بحاجة إلى وقت لنحلها.
ـ هذا صحيح
وضعت القهوة والبسكويت على المكتب أمامه، راجية ألا يكون وجهها محمرا خجلا.
ـ لكنني قلمت أظافره.
وتناول قطعة بسكويت وأكلها بنهم قبل أن يتناول أخرى. فسألته بحذر:" متى أكلت آخر مرة؟"
بدا الشرود في العينين الثاقبتين عادة :" أكلت؟ لا أتذكر. أظن يوم السبت"
ـ هل تحب أن تأكل شطائر باللحم؟
فحدق إليها باهتمام:" شطائر باللحم؟ لا تخبريني بأن بإمكانك أن تجهزي هذا في لحظة، يا كيم!"
قالت بصوت جاف:" تقريبا. هنالك رجل في زاوية الشارع، وشطائر اللحم هو اختصاصه"
ـ أريد إذن ست شطائر مع صلصله.
مال برأسها وكأنها تتصور ما كانت جين ستفعله في نفس الظروف، ثم أرغمت نفسها على التوجه إلى الباب وهي تقول من فوق كتفها:" سأتأخر عشر دقائق أو نحو ذلك"
تأخرت ربع ساعة، وعندما قرعت باب مكتب رئيسها ودخلت، كان قد تحول إلى شخصيته المعتادة وذلك بفضل الحمام وغرفة الملابس في جناحه الخاص. ولكن بالرغم من بذلته النظيفة وقميصه الأزرق الباهت وربطة عنقه المناسبة، لم تر كيم فيه إلا صورة ذهنية لعضلات رائعة. ولم يخفف عنها أن شعره ما زال رطبا ووجهه الحليق الآن أكثر ارتياحا من العادة.
ناولته الطبق وهي تحاول أن تبدو جامدة قدر إمكانها:" إنها ست شطائر محشوة. وهي ساخنة"
ـ تتكلمين كما تتكلم أمي.
أمه؟ وضاقت عيناها، ثم ابتسمت بعذوبة زائفة:" لا تقل لي إنك من أولئك الرجال المرتبطين بأمهاتهم"
قالت ذلك بهدوء بعد أن فكرت فيه طويلا ولم تجرؤ على أن تنطق بذاك الجواب اللاذع الذي خطر لها.
ـ لا أظن ذلك.
وكان ينظر إليها وعيناه تلمعان، ولكن تلمعان بماذا، هذا ما لم تعرفه كيم.
ـ كانت أمي امرأة رائعة، ومناسبة لأبي بشكل مثالي، ولكن.. لا، لا أظن ذلك.
وأخذ قضمة من شطيرته وأغمض عينيه متلذذا
ثم سألها مستنكرا تقريبا:" كيف حدث أنني لم اشتر شطائر اللحم هذه من ذلك الرجل من قبل؟"
ـ لأنك لم تطلب!
نظر إليها بحدة، ثم قال ببطء:" وهل عليّ أن أطلب فقط؟"
كان عليها أن تعلم أنها لا يمكن أن تنتصر عليه في حرب الكلمات! وكانت واعية، باضطراب، إلى أن شيئا ما قد تحول في الدقائق الأخيرة.. شيئا كان يغلي في الأعماق منذ اللحظة التي وقعت فيها عيناها على لوكاس كين... شيئا لا يمكن... لا يجب التعبير عنه.
ـ سأحضر لك فنجان قهوة آخر.
وأسرعت تغادر المكتب قبل أن يجد وقتا يأخذ فيه قضمة أخرى.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة. هناك أكثر، أكثر بكثير بالنسبة للسكرتيرة الجديدة الكفؤة الرائعة الجمال من مجرد تقابل الأعين. لقد عرف ذلك منذ البداية، وهذا هو السبب في أنه اختارها من بين مرشحات أكثر خبرة.
لكن هذه الفكرة لم تعجبه فاستحالت الابتسامة إلى تقطيب وهو يحدث نفسه بحدة بأنه اختار كيم لأنها أنسب المرشحات. أما المؤهلات والخبرة فهي ليست بالضرورة كل ما تتطلبه علاقات العمل. يجب أن يكون هناك لمعان ف ي الشخصية، وشيء لا يمكن وصفه وإنما يحدثك بأن أي اتفاق سيكون صحيحا مثمرا، فهو لا يرغب أبدا في سكرتيرة شاردة الذهن بطيئة الفهم ولهذا اختار كيم. كما أن مؤهلاتها جيدة بشكل لا بأس به، وكذلك خبرتها. هكذا كانت جين... فلطالما استمتعا بمشاجرات حقيقية في زمنها، كما طمأن نفسه بحزم، متجاهلا صوتا خافتا صادقا يقول له إنه يقارن الجبن بالطباشير.
شعر بعدم الارتياح فجأة لهذه الأفكار، ثم حول أفكاره إلى ملف كلاركسن الموجود أمامه، صارفا من ذهنه كل تفكير في كيم بذلك التركيز الذي لا يرحم والذي كان سبب نجاح شركة كين الكتريكال في العقد الأخير.
***
أمضت كيم وقتا أطول بكثير حتى استطاعت أن تحبس أفكارها غير اللائقة، وعندما نجحت بذلك، صممت على ألا تسمح لتلك الأفكار بالانطلاق مرة أخرى. بإمكان لوكاس كين أن يتبختر حولها كيفما شاء، من دون أن تهتز منها شعرة..
اضطرت إلى الاعتراف بأن فيه شيئا ما.. شيئا مغريا للغاية... وقد أراحها، في الواقع، أن تعترف بذلك وتظهره إلى العلن.. كان جذابا إلى حد بالغ... وهو من الرجال الأثرياء الذين تحيط بهم السلطة والهالة وهي غير مضطرة إلى الشعور نحوه بالمودة، ما دامت تحترم حدة ذهنه العملي وتستمتع بعملها، فهذا كل ما تريده. أما طراز حياته، والطريقة التي يقود بها علاقاته الشخصية، فلا شأن لها بها مع أنه يجسد كل ما تكرهه في الرجال في ذلك المجال.. لكن لا يعني أن ليس بإمكانها العمل معه. إنه يراها جزأ من أجهزة المكتب، وليس امرأة، وهذا يشكل كل الفرق.
وعندما أوقفت سيارتها أمام بوابة المدرسة، كانت قد استراحت إلى هذا التعليل. وسارت في الممشى ثم وقفت مستندة إلى الباب الخشبي الكبير فيما بدأ الثلج بالهطول.
عندما ظهرت ميلودي مع اثنتين من زميلاتها كان الثلج قد تحول إلى رقاقات سميكة بيضاء بعثت البهجة في نفوس الأطفال.
تقدمت ميلودي نحوها متراقصة والحماسة في وجهها:" أمي، السماء تثلج حقا. هل يمكننا أن نصنع في الحديقة رجل الثلج؟"
ـ ربما غدا، إذا كان الثلج كافيا.
كانت ميلودي تثرثر بثقة وحيوية فحمدت كيم الله لأنها لا تتذكر الأشهر الأخيرة الفظيعة بعد موت غراهام. لم تشأ أن تطيل التفكير في زوجها الراحل، وركزت أفكارها على ابنتها، فأخذت تسألها عن يومها. ولكن عندما نامت ميلودي في سريرها، وهدأ الكوخ، أخذت الذكريات تتدفق عليها بالرغم عنها.
لقد ظنت أنها مغرمة بغراهام.. كانت واثقة من أنها تحبه.. لكن المثل الذي يقول إنك لا تعرف الشخص إلا بعد أن تعاشره، كان صحيحا فيما يتعلق بزوجها..
الشاب الوسيم اللامع، ووحيد والديه العجوزين، أفسده الدلال منذ الطفولة. حاول والداه أن يمنحا ابنهما كل ما يطلبه رغم مواردهما المحدودة حتى أنهما موّلا عمله بعد تخرجه من الجامعة مما استفد آخر فلس يملكانه.
لم تكن واعية حينذاك إلى ذلك.. وبعد موت غراهام برز كل شيء إلى الضوء.
لم تكن تعلم أنه مدمن على الكحول، وكان غراهام بارعا بارعا في إخفاء إدمانه. وعندما عرفت ذلك، كانت حاملا بميلودي.
كان عمل غراهام قد فشل حالما بدأ تقريبا... وكانت هذه نتيجة محتومة لقلة الوقت والجهد اللذين بذلهما فيه... وعندما علم بعجز والديه عن مساعدته، أخذ يستدين، مستغلا كل ما لديه من ظرف وجاذبية. وكان دوما يحصل على ما يريد بجاذبيته التي لم يكن يستطيع أحد أن يقاومها.
رفعت كيم بصرها فجأة عن عملها...
لا يستطيع أحد مقاومة جاذبيته.. هذه الجملة جعلتها تدرك فجأة لماذا أخذت تفكر بغراهام بعد أشهر من صرفه من ذهنها.
( يبدو أنهن لم يستطعن مقاومة جاذبيته) هذه الكلمات هي نفسها التي قالتها جين في وصف نيكولاس.
زمت كيم شفتيها بقوة، وضاقت عيناها البنيتان القاتمتان وهما تنظران إلى غرفة الجلوس المريحة دون أن تريا شيئا. ربما ( كلهن) لا يستطعن مقاومة جاذبية نيكولاس كين، ولكن هنا امرأة تلقت لقاحا قويا ضد هذا المرض، برغم أنها لم تفكر في أنه أول رجل حرك مشاعرها منذ موت غراهام. والآن بعد أن أدركت هذه الحقيقة وما تمثله من خطر، ستكون على حذر. وهذا لا يعني أنه يهتم بها على المستوى الشخصي، وكادت تضحك عاليا وهي تتصور لوكاس كين القاسي البارد يميل إلى سكرتيرته. لكنها لا تريد أن تنجذب إلى أي رجل مرة أخرى خصوصا إذا كان يماثل غراهام في طباعه.
لم تخبر أحدا عن آخر سنة أمضتها مع غراهام وما عانته فيها من إذلال على يديه، لن تخبر أحدا أبدا فهي ليست مضطرة إلى ذلك. فهي غير مسئولة من أحد، وهذا ما تريده. ميلودي هي الشخص الوحيد الهام في حياتها وبإمكانها، بفضل هذه الوظيفة الجديدة، أن تمنحها لها. لا شيء، لا شيء أبدا يجب أن يتدخل في ذلك، وعادت عيناها إلى التركيز على المعطف الأحمر الصغير بين يديها وشفتاها متوترتان.
***
لم تتوقع منه أن يترك الأمر دون كفاح، لكنه أدهشها للمرة الثانية عندما تحرك بالسيارة دون كلمة أخرى، مندفعا من الموقف بعنف جعل السيارة تهدر.
ـ وخلافا للمفهوم القائل بعدم ذكر الميت بالسوء، أحب أن أقول إن من حظك أنك تخلصت من السيد ألن.
إنه لعلى صواب. وأطلقت ضحكة غريبة: "أعرف هذا"
ـ كيف حدث ذلك؟
نظرت إليه لحظة، إلى ذلك الوجه الخشن العابس وهو يركز على الطريق أمامه، غير واثقة مما سألها ثم عاد يسألها فجأة:" كيف مات؟ لم تذكري في طلب العمل سوى كلمة ( متوفى)"
ـ مات في حادث
لم تشأ أن تستمر في الكلام. وانتبهت إلى عينيه النفاذتين مسمرتان على وجهها، رغم أنها عادت تنظر أمامها مرة أخرى. وعاد يسألها بصوت بعث الاضطراب فيها:" حادث سيارة؟"
ـ لا.
كان وعي كيم موجها إليه وإلى اليدين السمراوين القديرتين ورائحته. مهما كان نوع الكولونيا التي يستعملها يجب أن تمنع لخطورتها على حالة النساء الذهنية. ولكن ربما لن يكون تأثير الرائحة نفسه على شخص آخر.
ـ قطع غراهام شريانه عندما سقط على واجهة متجر.
مضت نصف دقيقة ينتظر فيها المزيد... ولم تستطع كيم احتمال مزيد من الضغط، فأكملت قولها بفتور:" كان ثملا"
ـ الحادث المعتاد؟
فقالت بصوت جامد:" نعم"
ـ والآن تريدين أن تتحدثي عن شيء آخر.
أرادت أن تتحدث عن شيء آخر منذ اللحظة التي صعدت فيها إلى السيارة! وكبحت نفسا مرتجفا وأخفت يديها المرتجفتين في حجرها: " إذا لم يكن لديك مانع"
أومأ ببطء:" حدثيني عن ابنتك"
ـ ميلودي؟
قالت هذا مجفلة وهي تنظر إليه، وقابلت عينيها البنيتين الواسعتين لحظة، ولكن أهدابه الكثيفة السوداء أخفت ما فيهما من تعبير.
ـ إنه اسم غير عادي. هل هو من اختيارك؟
زدت حرارة رجولته من اضطرابها في هذه السيارة الفخمة المقفلة مرغما إياها على الاعتراف:" كان مخاضا طويلا وعسيرا"
ولم تضف أن غراهام كان في الخارج في حفلة شرب وصخب، ولم يأت إلى المستشفى لا في الصباح التالي" إحدى الممرضات كانت بالغة اللطف معي. وكانت من جمايكا، واسمها..."
أكمل لها الجملة:" ميلودي"
أومأت قائلة بهدوء: " لكنه يناسب ميلودي. فهي طفلة سعيدة، تضحك وتغني دوما"
كان في صوت كيم حرارة وحلاوة، وهي تتحدث عن ابنتها، بشكل لم بعهده لوكاس فيها من قبل، وفجأة، كان هو من يريد تغيير الموضوع. فقال بهدوء:" أنا واثق من أنها كذلك. والآن دعيني أدخل في الهدف الرئيسي من هذا الاجتماع قبل أن نقابل " جيم كلاركسن" وابنه"
أخذت تستمع بهدوء وهو يوضح الأمور، لكنها في الداخل كانت من الاضطراب بحيث لم تستوعب سوى نصف ما قاله.
تمنت لو أنها لم تأخذ هذه الوظيفة قط. فالبرغم من الراتب المغري، والسيارة، فقد تمنت لو أنها لم تخط خطوة إلى شركة كين الكتريكال. كانت تعلم مكانها مع بوب كيرتس. كان صاحب عمل لا يرحم، ولا يخجل من استغلال الناس لمصلحته الخاصة. لكنه كان سمينا أصلع ومتوسطا في السن، ولم يهتم يوما بطرح سؤال شخصي عليها.
تحرك لوكاس قليلا في مقعده الجلدي فشعرت بأعصابها تتوتر. كان بوب يشتري بذلاته جاهزة، وغالبا رخيصة الثمن. ولم يكن يرتدي قميصا حريريا، بينما لوكاس... حتى في ملابس السباحة تبقى حوله هالة الثراء تلك.
تصورها للوكاس في بذلة السباحة كان كافيا ليصبغ وجهها بالاحمرار، فتمنت لو ينسب ذلك إلى حرارة جو السيارة، هذا إذا لاحظ ذلك.
وقد لاحظ ذلك، والشعور الذي تملكه في المصعد عاد فاكتسحه مرة بقوة متجددة قبل أن يرغم نفسه على الهدوء. لابأس، فهي مضطربة كقطة على سطح صفيح ساخن، بهذا كان يحدث نفسه بعنف. لكن الشيطان وحده يعلم ما حدث لها أثناء زواجها. على الأقل ذلك الحشرة ميت الآن. وتنفس ببطء وهو ينظر أمامه بعينين ضيقتين مرغما نفسه على التركيز على حالة الطريق. إنها سكرتيرته، وهي لا تريد غير ذلك. وماضيها لا يؤثر فيه إلا بقدر ما قد يؤثر في عملها.
ساد الصمت بقية الرحلة إلى المطعم التي لم تكن مريحة على الإطلاق. وإلى أن اتجهت سيارتهما إلى الموقف خلف المطعم، كانت أعصاب كيم قد شارفت على الانهيار. وخرج لوكاس من السيارة ثم كان عند بابها يفتحه لها قبل أن تتحرك في مقعدها. وعندما نزلت من السيارة، تنفست الصعداء بصمت.
كانت تعرف مطعم فونتيلا، ولكن لم يحدث قط أن غامرت بدخوله.
ـ ارفعي رأسك.
لم تكن منتبهة إلى عيني لوكاس عليها أثناء سيرهما نحو الباب الرائع المؤدي إلى داخل المبنى. لكن عندما نظرت إليه، تابع يقول:" جيم طائر عجوز ماكر، ولكن عندما يحط على الأرض يصبح في منتهى اللطف، وابنه مثله. وستحبينهما"
ربما، ولكن التعرف إلى رئيس شركة كلاركسن انترناشيونال ليس هو ما يهمها، بل ذلك الرجل الأسمر الكبير الحجم الذي بجانبها. فقد أحدث، لسبب ما، تأثيرا بالغا في عقلها وجسدها لم تستطع التحكم فيه بالمنطق أو قوة الرادة. وكان يزداد سوأ مع مرور الوقت.
أحبت كيم جيم كلاركسن وابنه روبرت. كانا رجلي أعمال حاذقين وبنفس عناد لوكاس إذا اتصل الأمر بالتجارة، ولقد أحست على الفور بأن الرجال الثلاثة تعاملوا سويا في الماضي وهم يحبون بعضهم بعضا.
تملكتها الدهشة وهي ترى الحديث لا يخلو من المزاح رغم ارتفاع سخونته أحينا، وبالرغم من أنهما اثنان مقابل واحد، كان لوكاس متمالكا نفسه وهو يدير الأمور ببراعة وهدوء إلى أن حصل على معظم ما يريد. وكان واضحا أن هذا لم يغب عن جيم كلاركسن عندما ودع الأربعة بعضهم بعضا في موقف السيارات، وجيم يقول لها وهو يصافحها:" إنه ماكر، السيد كين هذا. لكنك تعرفين هذا طبعا"
ـ هذا بالضبط ما قله عنك، يا سيد كلاركسن.
وابتسمت كيم للرجل العجوز الأبيض الشعر وهي تقول هذا فقهقه ضاحكا وقد بدا الإعجاب واضحا في عينيه بالمرأة الرائعة الجمال الواقفة أمامه.
ـ الإطراء سيوصلك إلى كل ما تريدين، يا عزيزتي.
كان لوكاس يقف جانبا ينظر إليهما بعينين تعكسان لون السماء الماطرة فتقدم يمسك بمرفق كيم وهو يقول:" سأتصل بك غدا، يا جيم، بعد أن ينتهي المحاسب من مراجعة بعض الأمور"
ـ وداعا يا سيدة ألن.
ومد روبرت يده لها مصافحا وهو يقول ذلك ما جعل لوكاس يؤجل مغادرته:" لقد سرني التعرف إليك"
قال لها هذا برقة بالغة والدفء في عينيه.
ـ وأنا كذلك.
فتح روبرت فمه ليقول أكثر، لكن لوكاس سحب كيم بسرعة، وسرعان ما وجدت نفسها في لسيارة وهو يغلق الباب بعنف.
كان عمله هذا يقارب الفظاظة. وأخذت تنظر إلى رئيسها وهو يدور حول السيارة متجها إلى مقعده، ولم تستطع أن تقرأ شيئا في وجهه الجامد. ولكن ربما كان متجها للعودة إلى المكتب لسبب ما.
ـ سارت الأمور بشكل حسن.
كانا قد خرجا لتوهما من موقف السيارات وكانت قد ردت على تلويح روبرت لها بيده، وهو يقف بجانب السيارة المرسيدس الرائعة، وبالرغم من مضمون كلماته الإيجابي، كانت لهجته تنبئ وشيء مختلف. فقالت موافقة بأدب:" نعم. هذا ما رأيته"
قال بجمود:" يبدو أنك انسجمت جيدا معهما"
ـ كنت على صواب. إنهما طيبان للغاية.
أومأ بحنكة ولكن دون تعليق.
أطالت التحديق في جانب وجهه الصلب، شاعرة بأن فيه شيئا فاتها، ولا تعرف ما هو بالضبط.
كان الأمر هو نفسه عندما عادا إلى المكتب. فقد توارى في مكتبه بعد أن أعطاها بعض الإرشادات، مراجعا الملاحظات التي دونتها وقت الغداء. لكنه بدا شاردا بشكل ما، وبما يقرب من الضيق.
لم تهتم كيم بالأمر لأن المشاعر التي تملكتها طوال النهار أرهقتها ذهنيا وجسديا. فأصبحت بحاجة إلى كل ذرة من التركيز لكي تحول الاختزال الذي أخذته وقت الغداء إلى طباعة أنيقة. والواقع أن الطعام الممتاز لم يساعد على تخفيف مشاعر التعب لديها وهذا ما جعلها تهفو إلى غفوة بعد الغداء.
وعند الساعة الرابعة والنصف، أخذت رزمة أوراق ودخلت بها مكتب لوكاس ووضعتها على المكتب.
فقال دون أن يرفع بصره:" شكرا"
ـ سأعود بعد عشر دقائق عندما تجد وقتا لتوقع الرسائل، فهي على وجه الأوراق.
فقال بصوت جامد وهو لا يزال مطأطئ الرأس:" هذا حسن"
قبل أن تصل إلى الباب تذكرت أنها لم تذكر له تقرير سكرتيرة المدير المالي الذي استلمته لتوها فوضعته مع الأوراق، فالتفتت بسرعة والكلمات على شفتيها، وإذا بالكلمات تتجمد وهي تراه ينظر إليها متأملا.
تقابلت أعينهما وبقيت كذلك دهرا، فضة لامعة مع لون بني قاتم، ثم تحولت عيناه إلى خصلة من الشعر أفلتت من ضفيرتها الأنيقة في مؤخرة رأسها.
قال بذهن شارد تقريبا:" ألوانك غير عادية أبدا. شعر أشقر مع مثل هاتين العينين الداكنتين"
ـ لون شعري طبيعي
قال برقة:" أعلم هذا. بإمكاني تمييز ذلك"
طبعا بإمكانه التمييز بعد كل ما عرف من شقراوات. هذه الفكرة أزعجت كيم، ولكي تغطي اضطرابها، وجدت نفسها تثرثر:" ميلودي لديها نفس لون الشعر والعينين"
فأومأ برأسه ببطء وقال برقة:" إنها الجينات الوراثية. ربما لدى أحد والديك نفس الألوان"
أرادت أن تبتلع ريقها، وشعرت بغصة، لكنها تنفست بعمق:" إنها أمي. أنا لا أتذكرها لكن لدي صورتها. كان أبي أشقر هو أيضا ولكن عينيه زرقاوان"
ـ هذا حسن
بقي وجهه جامدا، فلم تكن بحاجة إلى أن تشعر بأي خطر من أي إغراء، ولكنها شعرت بذلك بالفعل. أخذت توصي نفسها بأن تتماسك، فهذا حديث محترم وهي تتصرف كمعتوهة.
ـ سوف... سوف أعود بعد دقائق لأجل الرسائل إذن.
ـ ماذا؟
وحملق فيها رئيسها الذكي القاسي البارد بنظرات فارغة لحظة، ثم أومأ فجأة:" نعم. افعلي ذلك يا كيم"
ثم أحنى رأسه وخرجت. ولكنها لم تتذكر إلا في مكتبها أنها نسيت أن تخبره عن التقرير المالي الذي ينتظره. حسنا، لن تعود إليه.. فهو سيجده بنفسه، كما حدثت نفسها وهي ترتجف.
مضت عشر دقائق قبل أن يرن لها الجرس الداخلي، فأخذت الأوراق التي ناولها إياها، ونظرت في عينيه عندما قاله لها بهدوء:" اجلسي لحظة، يا كيم. هناك شيء أريد أن أقوله لك"
ماذا تريد الآن؟ جلست برزانة على حافة الكرسي قبالة المكتب، وركبتاها مضمومتان معا وعلى ملامحه الحذر.
ـ بصفتك سكرتيرتي الخاصة، تعرفين كل أسرار العمل التي لا يعرفها غيرك من الموظفين.
كان صوته ثابتا هادئا. ولم تعرف ما إذا كان عليها أن تجيب. لكنها قالت:" نعم، طبعا"
ـ ستجدين أن الناس سيحاولون الوصول إليها من خلالك لأسباب مختلفة، بعضها هام والبعض الآخر ليس كذلك. وأحيانا سيتقربون إليك على مستوى شخصي، لكن جين وجدت أن من الأفضل أن تتوخى الحذر وتنفرد بنفسها أثناء العمل وتقصر صداقاتها على أولئك الذين لا علاقة لهم بشركة" كين الكتريكال"
ما الذي يريد أن يصل إليه؟ وسألته بدهشة:" لكنني ظننت أن خطيبها عميل لشركتنا؟"
طرف بعينيه لحظة:" الشذوذ يثبت القاعدة"
نظرت إليه بارتباك. هل هذا كل شيء؟
ـ الأمر هو، يا كيم...
وسكت لوكاس لحظة وعيناه مثبتتان عليها، فشعرت، كما شعرت مرارا من قبل، وكأن عقله ينظر في عقلها مباشرة متفحصا منقبا عن أفكارها الخفية ومخاوفها.
ـ نعم؟ ما هو الأمر؟
ـ أظن أنك ربما ستتلقين مكالمة هاتفية من روبرت كلاركسن.
ـ روبرت كلاركسن.
ونظرت إليه كأنه مجنون:" ولماذا يتصل روبرت كلاركسن بي؟"
ـ أليس ذلك واضحا؟
كان صوته خشنا ولا بد أنه لاحظ ذلك لأنه عاد إلى طبيعته الهادئة حين قال:" لقد أعجب بك. عندما ذهبت إلى استراحة السيدات بعد الغداء سألني عنك"
فوجئت كيم تماما، وارتباكها البريء ارتسم على وجهها.
ـ ولكن...لكنني لم...أقصد..
ـ أنت لم تلحظي ذلك.
قال هذا بسخط خفيف، فقالت وقد أحست بانتقاده:" لا لم ألحظ. كنت هناك بصفتي سكرتيرتك وقمت بعملي، هذا كل شيء"
ومن ذا الذي يلحظ شخصا آخر في وجود لوكاس؟ وصدمتها خطورة هذا التفكير وبعثت الاحمرار إلى وجهها.
ـ هذا شيء يستدعي المديح تماما. حسنا، سيتصل روبرت بك في المستقبل القريب، ويدعوك إلى الغداء أو العشاء.. أو إلى موعد، بما أن شركة " كين الكتريكال" وشركة " كلاركسن" مشتركتان في مفاوضات دقيقة حاليا...
ـ أتظنه سيحاول استغلالي للحصول على منفعة؟
قالت هذا بجفاء لأنه يظن بأنها من الغباء بحيث تتحدث مع أي كان عن أسرار الشركة! كيف يجرؤ؟
ـ ليس بالضرورة.
ـ ماذا إذن؟
لم تستطع منع صوتها من الارتفاع فقد كانت غاضبة جدا.
ـ كنت أشير فقط إلى أشياء معينة.
كانت عيناه عنيفتين ضيقتين، لكن السخط منعها من أن تبالي.
ـ أنا أشتغل عندك ولديك الحق في أن تطلب الولاء الكامل والحذر بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالعمل. ولكن ليس لك الحق في أن تحدد لي من أخرج معه.
قالت هذا بتوتر وقد شحب وجهها.
لم يكن لديها النية في الخروج مع روبرت كلاركسن.. بل لم يكن لديها النية في الخروج مع أي شخص. ولكن، إذا ظن لوكاس كين أنه يمتلكها روحا وجسدا، فليصحو من سباته. يا الغطرسة هذا الرجل!
قال غاضبا:" ولا أنا سأحاول ذلك"
ردت عليه ثائرة:" ولكن هذا بالضبط ما كنت تحاوله لتوك"
ساد بينهما صمت مشحون، ولكن رغم غضبه البالغ، بقي وجهه هادئا. لقد لاحظ طوال فترة الغداء اللعينة تلك، كيف كان روبرت يبذل جهده كله لكي يؤثر فيها. وكانت هي تبادل روبرت الابتسام بطريقة لم تستعملها معه قط. ولم تجفل عندما لمس روبرت ذراعها وساعدها في ارتداء معطفها. تبا لذلك.
كان يحارب مشاعره طوال فترة بعد الظهر، وهي مشاعر جديدة ومزعجة للغاية. كان دوما مشهورا بأنه رجل منطقي.. رجل حرص على أن تكون حيته حرة منظمة ويريد أن تكون علاقاته كذلك.
المشكلة الأبدية، الحب والغيرة... كان يجد دوما مثل هذه الأمور مزعجة ولا فائدة منها فكان يتجنبها كما يتجنب الوباء. إنه يحب النساء اللاتي يفكرن كالرجال من ناحية العواطف.. أو مثله على الأقل. دون ارتباط، ومستقلات، مستعدات للفراق عندما تنتهي العلاقة دون دموع ولا روابط.
وما زال يفكر على هذا النحو... تبا لذلك. لا شيء تغير. لا شيء.
قال بصوت كالثلج وعيناه ثقابتان كالفولاذ:" لا حجة بك لإثارة أعصابك. كل ما في الأمر أنني أحذرك، لقد عملت معي ثلاثة أشهر ولم يحدث أمر كهذا بيننا من قبل"
وعندما انتهى من الكلام نهض وسار نحو الباب وفتحه وهو يقول:" ربما عليك أن تتأكدي من أن تكون هذه الرسائل في البريد الليلة"
إنه يصرفها كما يفعل الناظر مع الولد الحسن السلوك!
نهضت واقفة وقبضتاها تشدان الأوراق التي تمسك بها ثم أرخت أصابعها عنها قليلا.
أرادت أن تمر بجانبه بعدم اكتراث وغطرسة رافعة رأسها، لكن الغضب الذي سيطر على كيانها جعلها لا تنتبه ولم تعرف ما إذا كان كعب حذائها قد اشتبك بالسجادة، أم أن ساقيها كانتا ترتجفان. إلا أنها كانت على وشك أن تنبطح عند قدميه... ثم أوشكت أن تقع عندما وصلت إلى الباب.
انتشرت الرسائل من يدها وهي تحاول أن تستعيد توازنها، وإذا بيدين قويتين تحيطان بها وتضمانها إلى صدر رجل قوي العضلات.
دار رأس كيم وتشوش ذهنها بحيث لم تقم بأي حركة للتملص منه. كما بدا أن لوكاس جمد مكانه، ثم أنعدها عنه قليلا لكي يتمكن من النظر في وجهها:" هل أصابك أذى؟"
أصابها أذى؟ إنها لا تعرف ماذا جرى لها، وهو يحتضنها بذلك الشكل. كان يمكن أن تكسر قدمها دون أن تنتبه.
كانت تعلم أن عليها أن تقول شيئا... فهي لا تستطيع الاستمرار في النظر إلى وجهه... ولكن كل أحلامها في الأشهر الماضية تجمعت الآن.
كانت يداها قد استقرتا على صدره العريض، فشعرت بخفقان قلبه تحت أناملها، ورقة قماش قميصه الأزرق تحت يديها.
كان قلبها يخفق دافعا الدم بعنف في أوردتها مرسلا دقات قلبها إلى عنقها ما خنق الكلمات التي أرادت أن تقولها لتنهي هذا الأمر بسرعة دون مزيد من الارتباك. كانت تحس بقوته الجسدية، وقوة عضلات ذراعيه تحت راحتيها. ولكن بدلا من أن يجعلها هذا تقفز مبتعدة، كما كان ينبغي أن تفعل، زاد ذلك من عدم قدرتها الغريبة على الحركة.
ـ كيم؟
كان ذلك تمتمة رقيقة تقرب من الهمس، ثم أحنى رأسه وحك أنفه في شعرها الذهبي وهو يحركها بين ذراعيه مرة أخرى ويقول بصوت متوتر:" لا بأس، أنت بخير"
كان يعلم أنها تتوقع منه أن يعانقها، بل تريده أن يعانقها. لكنه لم يفعل.
شعرت وكأنما غمرها فيض من الماء البارد، فتملصت منه في اللحظة التالية، ومضت، مجروحة المشاعر، تلملم الأوراق المتناثرة. وعندما حاول أن يساعدها، قالت:" يمكنني أن أتدبر أمري جيدا شكرا"
جمد على الفور، ثم قال بشيء من التوتر:" طبعا يمكنك ذلك".
لم تشعر قط من قبل، حتى عندما كان غراهام في أسوأ حالاته، بهذا الإذلال الذي تشعر به الآن.
أنهت جمع الأوراق واستقامت وقد توهج وجهها وبان الخزي في عينيها ما جعلها تتصلب في وقفتها. ثم قالت بألم وهي تنظر إلى لوكاس:" سأحرص على أن تذهب هذه الرسائل إلى البريد الليلة"
كان قد ابتعد قليلا عن الباب، فخرجت منه بسرعة وسمعته ينغلق خلفها ما زاد في تصلب أعضائها، كان كل ما تريده هو الهرب.
وضعت الرسائل في مغلفاتها بسرعة كبيرة بحيث لم تهتم بدقة طيها أو أي شيء آخر. ثم بدلا من أن تتصل بالمحاسبة لتعلمهم بأن بريد السيد كين جاهز للتسليم، أخذته بنفسها، وهناك تلكأت لحظات لتتحدث إلى سكرتيرة المدير المالي قبل أن تعود إلى الطابق الأعلى.
عندما دخلت إلى مكتبها كان لوكاس يتحدث في هاتفه الخاص، فدارت في المكتب تجمع أشياءها ومعطفها، وتحرص على أن تترك كل شيء منظما. ثم خرجت إلى المصعد وكأن الشيطان يلاحقها.
لم تتعود قط أن تخرج دون أن تلقي عليه تحية المساء، ولم يحدث أن خرجت قبل الخمسة فالساعة الآن هي الخامسة إلا ربعا... ولكن هذا كله غير مهم. فإذا كان عليها أن تواجه لوكاس الليلة، وتنظر إلى هاتين العينين الساخرتين وتلمح فيهما المعرفة بضعفها، ستنهار. إنها تعلم هذا.
ولم تسمح لأول دمعة ساخنة بأن تسيل على خدها، إلا بعد أن أصبحت آمنة في سيارتها، وانطلقت مبتعدة عن الشركة.
|