4- الأصرار
أفاقت لورا في اليوم التالي لتجد أمها تطالع بأهتمام كتاب فن الطهي , وهذا طبيعي فلا يحظى كل موظفي الشركة بوجود السيد مرسييه بينهم.
" صباح الخير يا أمي , لا بد أن أبي أخبرك بأمر حضور راندال مرسييه الى العشاء الليلة".
" أكاد لا أصدق , مرسييه الثري , المغرور يأتي الى بيتنا! والدك واثق من أنه يريد ترقيته والا لما كان هناك سبب لهذه الزيارة المفاجئة".
لم تجرؤ لورا على البوح بأن الزيارة لا تتعلق بالعمل بل بها هي, لأن أمها لا تتحمل الأنفعالات , عليها دفن السر في قلبها والأعتماد على نفسها للخروج من الورطة.
" أرجو ألا تكون الوجبة التي أخترتها معقدة يا أمي لأنني لست تلك الطاهية الماهرة".
" لا تقللي من شأن مهارتك والا أضطررت للطهي بنفسي".
" الموضوع غير قابل للبحث , لست مستعدة لأن أخالف أوامر الطبيب وأسمح لك بأجهاد نفسك".
" حسنا يا لورا , ما رأيك لو قمت بمراقبة عملك فقط؟ لا أعتقد أن مجرد المراقبة ستتعبني".
فكرت لورا بالأمر وقالت:
" قد لا يسمح توم بذلك فهو كما تعلمين دقيق للغاية".
" لا ضرورة لأن يعلم بالأمر ".
ضحكت الأبنة وهزت رأسها موافقة.
" كادت السيدة هالام تطير من الفرحة , أخيرا ستقوم بنشاط , بعمل, ستشارك بحركة.
" لا تستعجلي الأمور يا أماه, أذا أردت مراقبة عملي في المطبخ فعليك البقاء في السرير الآن".
" سمعا وطاعة , لن أتحرك من هنا ألا بعد أن تسمحي بذلك".
نزلت لورا الى غرفة الجلوس تنتظر توم , وصل الشاب بعد خمس دقائق فأستقبلته بأبتسامة ضمنتها كل ما عندها من عاطفة وحرارة , وجهه الشاحب يدل على مدى الجهد الذي يبذله في عمله, أخذت تقارنه براندال , توم أبى الأنجراف وراء المادة وكرّس حياته لخدمة الآخرين, رفض نصائح الجميع بالعمل في مستشفى خاص حيث المال الوفير وأنضم الى الجهاز الحكومي حيث الراتب يكاد لا يفي بحاجاته العادية , سعادته تكمن في أسعاد البؤساء ومساعدة المحرومين , أما راندال فورث عن أبيه دون عناء أمبراطورية ضخمة لم يجاهد ويكابد ليستلم دفتها , مجرد تقاعد أبيه كان يعني صعوده الى مركز القيادة, صحيح أنه يسير بألأمور بنجاح لكنه أنسان مادي , يحب المال, لا يعبأ بمشاكل الآخرين , لا يهتم الا بمطاردة الفتيات الجميلات...
الفارق بين الأثنين شاسع الى درجة يجعلها تحتقر راندال وتحترم توم, تأكدت أن ما حدث لها مع الأول في الحفل في الليلة السابقة وهم, أما حبها لتوم فحقيقة راسخة.
بادرها توم بصوت تعب:
" كيف حال الوادة اليوم؟".
" مسرورة جدا لما ينتظرها من أثارة".
" وما هو هذا الشيء المثير الداعي الى السرور؟".
" رئيس والدي في العمل سيتناول العشاء عندنا الليلة".
" أهذا كل شيء؟ لا أرى أثارة في الأمر".
" بالنسبة الى والدي الأمر مهم للغاية فالسيد مرسييه يعامل موظفيه بهذه الطريقة عادة, ووالدي يعتقد أنه سيقوم بترقيته".
قالت لورا ذلك وهي تعلم أنها تكذب على توم وربما على نفسها, جبنها منعها من التصريح بحبها للطبيب ويمنعها البوح له بما تتعرض له من ملاحقة راندال ومضايقاته , لكنها لا تعلم أن هذا الجبن سيكلفها غاليا يوما من الأيام , وستندم حيث لا ينفع الندم , لم يهتم توم للموضوع بل شدد على ما يعنيه اذ قال:
" المهم ألا تكون أمك تعد العدة للطهي بنفسها؟ أنتم تعلمون أنني لا أسمح بذلك أطلاقا مع أني آسف لعدم تناول طعامها هي حقا طاهية ماهرة".
" أفهمتها أوامرك يا حضرة الطبيب العزيز فأقتنعت بعد أن قطعت وعدا بالسماح لها بالجلوس في المطبخ للمراقبة".
" حسنا رغم أنني أشك كثيرا ببقائها هادئة وهي موجودة في المطبخ!".
خطرت للورا فكرة مفاجئة أذا تحققت تكون كفيلة بتخفيف الأضطراب الذي يسببه وجود راندال لها.
" لماذا لا تأتي الى العشاء الليلة؟ تتذوق طعامي الشهي من جهة وتراقب أمي من جهة أخرى".
فكر توم قليلا ثم قال:
" لا بأس بالفكرة لكنني لا أرى معنى لوجودي في جلسة بحث لشؤون العمل وشجونه".
" العشاء ليس لبحث أمور العمل بل هو مجرد مجاملة بعد أن دعانا مرسييه الى حفل مساء أمس في بيته, أرجوك يا توم أن تأتي لتخفف عني الملل".
أذعن توم لأصرار لورا وقال:
" كما تشائين يا عزيزتي , قبلت الدعوة , سأصعد الآن لأعاين والدتك, هل رآها الدكتور فرغوسون البارحة؟".
" كلا , فقد أضطر لألغاء الموعد بسبب حالة طارئة , وقال بأنه يعتمد عليك في هذه المهمة , شهادة كبيرة لك أن يثق بك فرغوسون".
" فرغوسون طبيب لامع في أمراض القلب , يكفي أنه لا يعارض مشاركتي في معالجة أمك , فمن حقه أن يطلب أمتناعي عن ذلك".
" هو يعلم بأنك واحد من العائلة".
" حتى لو كنت من أفراد العائلة , فله أن يشدد على الأصول الشكلية, لكن فرغوسون مترفع عن هذه الصغائر".
كالعادة صعد توم الى الغرفة بينما أنصرفت لورا الى تحضير القهوة, بعد دقائق جلسا يحتسيان فنجانيهما في غرفة الجلوس , أنها الفرصة الوحيدة النتاحة له ليرتاح في النهار , المهنة التي أختارها مرهقة وجاحدة في الوقت نفسه , كان بأمكانه سلوك الطريق الأسهل كما فعل والده ويفعل الكثيرون من الأطباء , لكن الله منّ عليه بضمير حي وأرادة واعية فرفض أغراءات المادة وزهد بمباهج الحياة ليؤدي دوره الفعال في بناء المجتمع.منتديات ليلاس
ما أن أنهى قهوته حتى أنتصب واقفا وأستعد للذهاب.
" أمكث قليلا لترتاح يا توم".
" الراحة كما يعرفها الناس كلمة حذفتها من قاموسي , الراحة بالنسبة اليّ هي تخفيف آلام الآخرين".
أقتربت لورا منه لتصلح ربطة عنقه ولا شعوريا وضعت رأسها على صدره , أبعدها توم عنه رافضا عناقها فشعرت بالخجل يغمرها , كيف يستطيع أن يصدها بهذا الشكل؟
" لورا لا تغضبي مني , أنت تعلمين مكانتك في قلبي لكنني لا أريد أستعجال الأمور".
" كما تشاء يا حضرة الطبيب".
أبتسم توم وحاول تطييب خاطرها:
" المرضى يريدون طبيبا بكامل قواه العقلية لا رجلا فقد رشده".
" أنا أريدك فاقدا رشدك".
ضحك الشاب في حين أمتزجت أبتسامة لورا بالدموع تترقرق من عينها , ذهب توم الى عمله تاركا لورا ارقة في الحزن والحيرة , أظهرت له مشاعرها لكنه رفض ذلك وبقي جامدا كالصخر , وأنصرفت الى تحضير العشاء في المطبخ وهي لا تنفك تفكر بتوم حبها الوحيد.
وصل جيمس هالام الى المنزل مبكرا ليساهم في وضع الترتيبات لأستقبال الضيف العزيز, عندما أبلغته لورا بأنها دعت توم أنفجر غاضبا:
" لماذا تقحمينه في كل أمورنا؟".
" لا أرى ضررا في ذلك يا أبي , وجود توم يسعدني ويخفف ثقل ظل راندال مرسييه".
" لا أعرف لماذا تعتبرين مرسييه ثقيل الظل؟ شخص مهذب تنازل مرتين , عندما دعانا الى قصره وعندما قبل دعوتنا".
أستغربت لورا تغير موقف أبيها أتجاه راندال وقالت:
" ألم أسمعك مرارا تنعته بالحقير مرسييه؟".
" يخطىء الأنسان أحيانا في حكمه على الآخرين , والآن وقد تقربت من الرجل لم أعد أجده سيئا".
ليت والد لورا يعلم أهداف هذا التقرب وهذه المعاملة الحسنة من قبل مخدومه , لكنه ربما وافق على هذه الأهداف وساعد في تحقيقها , فكل رجل يتمنى أن تكون أبنته محط أهتمام راندال...
أنشغل السيد هالام بتحضير الطاولة وترتيب الصحون الجديدة التي أشتراها خصيصا للمناسبة.
في تمام السابعة فتحت لورا الباب لأول ضيف على أمل أن يكون توم.
" آه , أهلا ! تفضل سيد مرسييه".
" أراك فوجئت بمجيئي فهل تتوقعين أحدا غيري؟".
" نعم , دعوت صديقا ليشاركنا السهرة".
أضطرب راندال وبدت على وجهه أمارات الغضب, لكنه سرعان ما أستعاد سيطرته على نفسه وعادت الى عينيه نظرات السخرية والتفوق.
أنحنى الشاب وقدّم الى لورا باقة كبير من الزهور الزاهية .
" أحضرت هذه الزهور لمضيفتي".
بهرت لوؤا وقالت:
" ستسر أمي كثيرا بهذه الهدية".
" لم أحضرها لأمك بل لك, الزهور تقدم لزهور".
" شكرا على لطفك وكرمك , تفضل الى غرفة الجلوس ".
تأخر الزوجان هالام قليلا في النزول لأنهما صرفا وقتا طويلا في أختيار ملابسهما , فأمام شخص بهذه الأهمية يجب توافر أكبر قدر من الأناقة.
لم تكن لورا تحتمل وجودها وحيدة مع راندال , عيناه ترهقانها بنظرات قاسية , متفحصة , نهمة , أخذت تعبث بعقد اللؤلؤ الذي يحيط بعنقها لتتجنب النظر اليه , لكنها فشلت في أزاحة وقع وجوده المحرج وسيطرته القاسية , أنها تحس نفسها معه كسجين بين يدي جلاد ينتظر تنفيذ أمر الأعدام بين لحظة وأخرى.
دق جرس الباب فوجدت لورا فرصة للتملص من راندال , هرعت لتفتح الباب لتوم , كان الشاب يرتدي ثيابا أنيقة على غير عادة وتفوح منه رائحة عطر ثمين , يبدو أنه نسي فقراءه هذه الليلة أكراما لها.
" أهذا توم الذي أعرفه ؟ يا للأناقة والوسامة!".
" شكرا على هذا الأطراء مع أنني نقطة في بحر جمالك الخلاّب".
عرّفت لورا الشابين ببعضهما , وأنسحبت لتحضير العصير.
" أنت تعمل في الحي الشرقي للمدينة أذا يا سيد توم؟".
" تماما".
" لا بد أن عملك مرهق".
" بعض الشيء".
كانت لهجة مرسييه جافة وخالية من أي نغمة كأنه شرطي يستجوب لصا, أضاف:
" وهل أخترت هذا المنطقة طوعا أم أن الأدارة وضعتك هناك؟".
" أخترتها طوعا, فالمنطقة فقيرة وبحاجة الى طبيب شاب له القدرة على الأحتمال , والعمل الجاد , لذلك وجدت نفسي صالحا للمهمة".
وصلت لورا حاملة أكواب العصير وتدخلت في الحديث:
" توم يعتبر الطب رسالة سامية لا مصدر ثراء".
" لا تصوريني بطلا أمام الرجل, أنا أقوم بوظيفتي ليس أكثر".
لم تأبه لورا لتعليقه وتابعت:
" أنه الطبيب الأكثر شعبية في شرقي لندن والكل يؤكدون ذلك , لقد أختبرت الأمر بنفسي".
أراد راندال أن يقول:
وأختبرت عناقي , لكنه أحجم عن ذلك حتى لا يفسد السهرة , فهم الآن سبب وجود لورا في ذلك الحي الفقير مع بات , أذ أرادت أن تتعرف الى عمل توم , لا شك في أن شعورها نحو الطبيب مهم الى درجة تجعلها تخاطر بالدخول ليلا الى الحي الشرقي , أراد توم أثبات تواضعه فقال:
" لا تصدقها يا سيد مرسييه فهذا الكلام سمعته لورا من مساعدتي بات باسيت , وبات منحازة الى جانبي بالطبع".
لم تكن لورا بحاجة الى أكثر من سماع اسم بات لتجتاحها الغيرة:
" لست بحاجة الى آراء بات لأتأكد من مهارتك في عملك يا توم".
نظر الطبيب الى راندال مبتسما :
" سأصاب بالغرور أذا أخذت بكلام هذه الفتاة".
في هذه اللحظة دخل الغرفة جيمس هالام وزوجته.
بادر الرجل الى القول:
" عذرا على التأخير يا سيد مرسييه , أهلا وسهلا بك في بيتنا المتواضع".
لم ترضى لورا عن البرود الذي أظهره والدها أتجاه توم , أذ أكتفى لتحيته بأيماءة من رأسه.
في المطبخ كان كل شيء جاهزا بفضل مساعدة السيدة نايت.
أعلنت لورا:
" العشاء جاهز , تفضلوا الى غرفة الطعام".
جلس الجميع حول المائدة وأستطاع راندال بدهائه أن يكون قرب لورا , أنزعجت الفتاة من ذلك ولكنها سلمت بالأمر وجلست تشجعها أبتسامة توم المتفهمة, بدأ جيمس هالام حديثا طويلا ومملا مدح فيه الشركة ومشاريعها وخص مجلس الأدارة , وعلى رأسه مرسييه , بثناء خاص وكلمات طنانة , لم ترتح لورا لكلام أبيها المصطنع ولتزلفه لراندال , لماذا هذا الكذب والخوف من رئيس الشركة ؟ أليس أنسانا عاديا كالآخرين؟ حبذا لو كان جميع الرجال مثل توم , يتمتعون بشهامته وأخلاقه , ويؤمنون بمبادئه.
في هذه الأثناء بدأت السيدة نايت بأحضار الأطباق المتنوعة تباعا: الدجاج, اللحم المشوي , القريدس , السلطة , وأخيرا الفاكهة والقهوة.
خلال العشاء تمكن راندال أن يفلت من الأحاديث الدائرة ليهمس في أذن لورا:
"أ؟تعرفين الدكتور نيكول؟".
" منذ أن أبصرت النور".
" هو بمثابة أخ كبير أذن".
فهمت الى ماذا يلمح راندال فرفضت قبول مثل هذه الفكرة ؟, بشكل جازم".
" لا , ليس أخا".
" أذا لم يكن أخا فهو حبيب – أضاف وكأن علاقته بلورا قديمة لماذا لم تقولي لي أنك مغرمة؟".
ضرب راندال على الوتر الحساس ونجح مرة جديدة في زعزعة توازن لورا وأثارة الأضطراب الشديد في نفسها , لماذا يتدخل في شؤونها الخاصة؟ أيعتبر نفسه شخصا حميما الى هذه الدرجة؟ غريب أمر هذا الرجل الذي دخل حياتها بالقوة وفرض نفسه رقيبا على قلبها.
أخذ قلب لورا يخفق بقوة حتى خيل أليها أن الآخرون يسمعون فقاته , عندما تجرأت ورفعت عينيها الى راندال وجدته يتحدث الى أمها.
مر الوقت ببطء قاتل ووجدت الفتاة صعوبة في الأشتراك بأحاديث والدها وتعليقات أمها , لولا وجود توم لكانت أنسحبت الى غرفتها من دون أي شك, صارت تعد الثواني حتى أنتهى العشاء وأنسحب الجميع الى غرفة الجلوس.
هناك أفتتح راندال الكلام بقوله:
" أسمحوا لي بتهنئة الطاهي لما أتحفنا به من أطايب".
بدا جيمس هالام وكأنه ينتظر هذه الفرصة ليعزز مكانة أبنته:
" أبنتي صبية كاملة يا سيد مرسييه , مثقفة , جميلة , طاهية ممتازة... تجتمع فيها كل صفات ربة المنزل الناجحة".
لم يكن ينقص لورا سوى هذه الكلمات ليطفح كيلها, فهبت من مقعدها وتوجهت الى المطبخ تساعد السيدة نايت في تنظيف الصحون علها تجد هناك ملاذا يقيها عيني راندال ولسانه , لحق بها توم ليسألها عن سبب أنزعاجها وأن كانت بدأت تتكون لديه فكرة عما يدور في الكواليس.
" ما بك يا عزيزتي ؟ أشعر أنك لست على ما يرام".
" لا شيء البتة, هلا ساعدتني بتحضير المزيد من القهوة؟".
" بكل سرور".
فيما كانت لورا تحضر الفناجين وتوم يجلب السكر أصطدما ببعضهما وضحكا طويلا.
" أتصدقين الآن أنك تفقديني رشدي؟".
تحولت ضحكتها الى وجوم وجدية , وتكوّن في نفسها أمل جديد بأن توم سيصارحها أخيرا بما يختلج في قلبه.
" أتعني حقا ما تقول؟".
سرعان ما تبخرت آمالها أذ أجاب:
" لا يجدر بي أن أقول كلاما كهذا بعد الآن , أنسي الموضوع".
لم يعد بوسع لورا ضبط نفسها فأنفجرت والألم يعصر قلبها:
" كيف أنسى وهو جزء من كياني , يرافقني في حياتي . أنام فأحلم به, أفيق لأجده قابعا في ذهني , أراه في كل زاوية من هذا البيت, في كل حركة أقوم بها... توم أتدرك مدى معاناتي؟".
لم يتمكن الطبيب الشاب من الأجابة أذ دخل عليهما فجأة راندال.
أنسحب توم حاملا طبق القهوة وتبعته السيدة نايت التي لم ترغب في أن تسمع أكثر مما سمعت.
لم تخف لورا من راندال هذه المرة بل أرادت أن تجابه وتحطمه:
" لم أكن أعلم أن من عاداتك أستراق السمع والتجسس على الآخرين , في كل مرة أكتشف فيك نواقص جديدة".
" بالنسبة ألي يا أميرتي المبدأ واضح: الغاية تبرر الوسيلة".
قال الرجل ذلك بكل هدوء وأرتياح وكأن تصرفه أمر طبيعي لا عيب فيه.
فهم الآن تماما ما يعذب لورا وعرف كيف يستغل رفض توم لحبها, صار يملك ورقة جديدة في صراعه معها تضاف الى كونه مخدوم والدها ومصدر رزقه.
" يبدو أن الدكتور نيكول لا يكترث لقلبك اللاهب ولعينيك اللامعتين , بل بالأحرى يهتم بذلك أهتمام الأخ الأكبر لا غير, عليك أن تجدي رجلا آخر يقدر جمالك وسحرك , وأنا كما تعلمين جاهز لملء هذه المهمة الممتعة".
لم تسمع لورا في حياتها شخصا يوجه اليها مثل هذا الكلام , لكن راندال المغرور واثق من نفسه ومتأكد من كونه في موقف قوة, لم تجد الفتاة سلاحا للدفاع عن نفسها غير الكلام:
" لا حق لك بتوجيه مثل هذا الكلام لي أيها الحقير!".
"أغضبي , أغضبي, فهذا يزيدك حسنا وروعة , لكن أذكرك بأن فتاة مثلك لا يجب أن تطلق العنان للسانها وتنزلق الى درك الكلام الرخيص".
" أحتفظ بنصائحك لنفسك , لأنك بأمس الحاجة أليها".
بخفة فائقة وضع يده على كتفها وعانقها , لم تجد وسيلة للأفلات من هذا الرجل الخبير بفنون المغازلة , أحست برأسها يدور وبأن العالم تقلص ليصبح ذراعي راندال , ودون وعي وضعت يديها حول خصره , وأخيرا أرتسمت على شفتيه أبتسامة الأنتصار.
لكنه غضب فجأة ودفعها الى الوراء.
" لا أريدك أن تفكري برجل آخر عندما تكونين بين ذراعي".
كان على حق لأنها كانت تعانق راندال وتفكر بتوم , هذا الرجل يقرأ أفكارها وينفذ الى أعماقها كمن يقرأ كتابا مفتوحا.
توجه الأثنان الى غرفة الجلوس فأستقبلتهما نظرات توم الحائرة, ونظرات لوالدة المتعجبة ونظرات الوالد ال****ة..
بعد تبادل كلمات المجاملة التقليدية كان توم أول المنسحبين ثم تبعه راندال.
قبل صعوده الى غرفته سأل جيمس هالام أبنته :
: أعجاب السيد مرسييه بك كان واضحا , أليس كذلك؟".
" خيالك واسع يا أبي فأنا لم ألاحظ ذلك".
" ربما أنت على حق- قال الأب ذلك بسخرية وأضاف- ربما خيالي واسع".
كان الطقس دافئا في اليوم التالي عندما خرجت لورا للتسوق, بعد أنتهائها من شراء الأغراض أتجهت نحو البحيرة للتنزه , أخذت ترمي الخبز للبط ... كم هي صادقة هذه الطيور في تلخيصها مأساة الأنسان الساعي وراء لقمة عيشه, وراء حاجاته المادية , وراء المجد والشهرة ... تنافس البط على كرات الخبز يجسد صراع الأنسان مع الحياة ومع المادة ... وفيما هي غارقة في التأمل سمعت وقع خطى صارت تعرفه جيدا , جاء راندال.
لم تنتظر أن يبدأ هو الكلام فسألت بنفور:
" ماذا تفعل هنا؟".
ليس راندال بحاجة لمن يعلمه فنون الأجابة وطرق الكلام.
" أتأمل براءة وجهك وطهارته".
تجاهلته لورا وأكملت سيرها حول البحيرة وعيناها غارقتان في مراقبة النسيم يحمل ورقة صفراء من تحت شجرتها ويرميها في الماء , هذا هو الأنسان الضعيف , الذي لا جذور له قوية, تجرفه عواصف الحياة وتطرحه على الهامش.
أخذ راندال يلاحقها من دون أن يحاول أيقافها أو التحدث اليها , لكنها أخذت المبادرة وسألت:
" ماذا تريد؟".
" لن أصرح بما أريد لأنني بغنى عن كلماتك الجارحة".
" أتحاول أغاظتي من جديد ؟ ألا يكفيك ما سببته حتى الآن؟".
" في الحقيقة أتيت لأدعوك ألى حضور مسرحية الليلة".
" كلا , شكرا على الدعوة".
تجاهل راندال جوابها وتابع:
" تحدثت في الموضوع مع أبيك ووافق على ذهابك معي".
" كيف تجرؤ على فعل ذلك دون علمي؟".
" سأمر بك في السابعة, كوني جاهزة".
قال راندال هذا وأنصرف.
خوفا على وظيفة أبيها قررت لورا مرافقته الى المسرح, ولكنها أمضت بقية النهار تفكر في هذه الأمسية وكأنها ذاهبة الى السجن لا ألى مكان للهو , عندما أتى راندال في المساء أبى جيمس هالام ألا أن يظهر محبته الزائفة لمخدومه فقال:
" لطف كبير منك يا سيدي أن تدعو لورا لحضور مسرحية, لا تتصور كم فرحت بذلك.
كانت لورا تعتقد بأنه لؤم كبير لا لطف كبير , لكنها نجحت في تأكيد رأي والدها الذي تكلم بأسمها وقبل الدعوة دون أستشارتها.
" بالطبع".
أختار راندال مسرحية كوميدية سرعان ما أنسجمت لورا في جوها , وأخذت تضحك كطفلة صغيرة متناسية وجود الرجل الى جانبها .
خلال الأستراحة توجه الأثنان لتناول عصير البرتقال فأستغل راندال ذلك ليذكر لورا بأنه موجود.
" كل مرة أراك تبدين مختلفة, كنت في الصباح كطفل مشاغب , بالأمس أميرة راقية , اليوم فتاة صغيرة تفكر في فروض المدرسة , يعجبني فيك التغيير الدائم , معك يحس الرجل كل ساعة بأنه مع فتاة جديدة...".
أكملت لورا جملته:
" فلا يعود بحاجة لأن يطارد الفتيات ويكتفي بواحدة".
أختارت لورا قصدا فستانا يظهرها كتلميذة لعل راندال يشعر أنه صغيرة جدا ولا تناسبه , لكن الرجل مصر على الذهاب بهذه العلاقة ألى أقصى الحدود ضاربا عرض الحائط الفارق الكبير بالسن بينهما... وبعد قليل عادا الى مقعديهما لمتابعة الجزء الثاني من المسرحية , هذه المرة لم يدعها راندال تتذوق طرافة المشهد أذ سرعان ما أمتدت يده لتأسر يدها بقوة لا مجال معها للتملص.
سلمت لورا بالأمر عساه يكتفي بذلك لكنها كانت مخطئة فأذا براندال يرفع يدها الناعمة الى شفتيه ويغرقها بالقبلات السريعة النهمة , تجاهلت فعله مهتمة بما يدور أمامها على الخشبة , لكن راندال كان خبيرا الى درجة جعلها تنزعج وتفقد التركيز اللازم لمتابعة الكوميديا.
فما كان منها الا أن داست بكعبها العالي على رجله , فضحك راندال وحرر يدها هامسا:
" سأتركك تتابعين المسرحية لأنه لن تتاح أمامك الفرصة للخروج مع الحبيب توم الى مثل هذه الأماكن".
تظاهرت لورا بعدم سماع ما قاله لأنها لا تريد أفساد الجو المرح الذي وفرته المسرحية والذي ساعدها على نسيان بعض همومها, بعد أقفال الستارة أقترح راندال التوجه لتناول العشاء, فرفضت الفكرة بشكل قاطع مصرة على العودة الى المنزل , أوصلها الى البيت لكنه لم يدعها تفلت منه بالسرعة التي أرادتها...
" راندال...".
أدركت لورا أنها ترغب لا شعوريا في دفن وجهها في صدره الرحب, كانت بحاجة الى ملاذ آمن يقيها صعوبات الحياة , ربما كانت سطوة راندال تجذبها اليه لتعوض عن ضعفها ورقتها.
" رغب في رؤية وجه توم الحبيب عندما يراك تعانقينني بهذه الحرارة".
خرجت لورا من السيارة مذعورة ودخلت الى البيت حيث أرتمت على أحد المقاعد وأخذت تجهش بالبكاء , لقد خانت حبها لتوم وفقدت أحترامها لنفسها , كل المبادىء التي تؤمن بها أنهارت وأصبحت أطلالا.
في داخلها يتصارع عدوان لدودان : الحب والرغبة , الحب يحركه توم والرغبة يوقظها راندال , والفتاة ضائعة بينهما لا تعرف أين الحقيقة , من انا؟ سؤال يمزقها , تحب توم بكل جوارحها , وترغب براندال بكل غرائزها...
المهم أن تخرج سالمة من هذا الصراع العنيف....