كاتب الموضوع :
زونار
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
وفي نهاية الأمر تم الاتفاق على السعر وأصبحت قطعة الحرير ملكا لفنّي .
سالت زونار عما قاله البائع التركي عندما خرجا من الحانوت ... وهو قبو ملئ بالبضاعة ذات الألوان الزاهية ، وكانت قد أمنت على القطعة في جزدانها لان اليونانيين لا يحملون طرودا.
فالتفت إليها وقال وهو يبتسم :
(( قال التركي أن الحرير يطابق شعرك . وانه سيكون أحسن ثوب نوم ترتديه حورية . رأى الخواتم في يدك وظن أني زوجك .))
استغربت فنّي إلى أنها لم تفكر في أن تنزع الخواتم من يدها. لقد آن الأوان...ولكنها حتى ولو أزاحت الخواتم جانبا فلن تستطيع أن تزيل من فكرها صورة هراكليون...على الرغم من أنها أفرغت قلبها منه .
ذهبا لزيارة آثار مدينة الأكروبول التاريخية عند غروب الشمس . هذه المدينة القائمة على أعلى تل في أثينا. وهناك وقفا . كان زونار واقفا بجانبها كتمثال من البرونز . ولاحظت فني كيف كانت السائحات ينظرن إليه وفي عيونهن شوق لان يكون هو رفيقهن بدلا من أولئك الرجال البدينين المتعبين . ولا تنكر فنّي أن لرجال اليونان أبهة عارمة . وقطع زونار أفكارها عليها عندما امسك بيدها. ونزلا معا درجات السلّم العريضة وتوقفا عند امرأة تبيع الفستق والزبيب الناشف. كان زونار يتأمل فنّي وهما يقضمان الفستق ويعجب بفستانها الأخضر البسيط الذي تبدو فيه وكأنها سترتفع في الفضاء وتطير.
وقال يمتدحها :
(( تذبل الشمس أمام شعرك . جلدك بلون العسل الصافي والسواد اختفى من تحت عينيك . كم أتمنى أن يتاح لي أن أعلن أمام العالم انك لي . عندما ينظر الناس إلينا يعتقدون ذلك ، فهل سيتحقق هذا يا فنيلا؟.))
(( أنا...أنا لا اعرف حقا . ألا يكفي هذا في الوقت الحاضر؟ .))
(( وهل تكتفين به... في الوقت الحاضر؟.))
(( أرجوك يا زونار . أحب أن تفهم أن الأيام القليلة التي أمضيتها معك بلا هموم ولا سموم أراحتني وأعادت إلي الحياة . وأنا ممتنة لك كثيرا .))
(( ممتنة ؟ لم أفكر أبدا في أن هذه العبارة تثير اهتمامي ! كل ما هنالك هو أن أكون رفيقا جيدا لك .))
(( انك هذا الرفيق الجيد .))
((هذه المرة الأولى التي أرافق فيها فتاة في جولة عذرية.))
(( ألاتستمتع بهذه الجولة ؟ الم تكن بمثابة تبدل في حياتك اليومية؟.))
أضحكه كلامها وقال :
(( أنت تشحذين شهيتي للأكل أيتها الانكليزية . لنذهب إلى مطعم الدلفين الواثب.))
كان المطعم قائما بين أشجار التين واللوز والأزهار، يقدمون فيه لحم الخروف المشوي على السيخ والخضار بالصلصة . وكان عدة رجال يرقصون الرقصة اليونانية الشهيرة السرتاكي وهي تشبه الدبكة العربية، خاصة اللبنانية ، في بعض نواحيها . يضع كل راقص يده على كتف جاره وتتبع حركة أرجلهم وقفزهم إيقاع الموسيقى . وغالبا ما ينهض الرجال من مختلف الأعمار ليرقصوها كأنهم يعبرون عن فرحتهم بالحياة .
وقال زونار وهو يبهج نظره بفنيلا وبالرقصة :
(( شيء من هذا لا يحدث في انجلترا.))
كان وهو يتكلم او يأكل يضرب بقدمه أسوة بالراقصين.
هل يفعل ذلك موظفو مكاتبكم في انجلترا وينطلقون كهؤلاء الراقصين؟.))
ضحكت من ذلك وأجابت :
(( نحن وجلون وكثيروا الانتباه لأنفسنا ، ويحزنني أن أقول أن بعض رجالنا بدينون .))
(( هل تخجلين مني؟ .))
(( كلا ! لماذااخجل منك؟ .))
ولكنها كانت كثيرة الخجل من هراكليون . وتكفي نظرة منه لتجعلها تنكمش ويفرغ الدم من جسمها ليجتمع كله في وجهها.
(( أرى نفسي طبيعية معك بكل ما في الكلمة من معنى ، وأنا أثق فيك أكثر من أي شخص آخر في حياتي . قل لي هل تفتقد ابنك؟ .))
(( بعض الشيء انه مخلوق غريب حقا له عينا أمه التي كانت لطيفة وطيبة أكثر مما استحق ، وآسف كثيرا لأني لم أتح لها الفرصة دائما لتثق بي يا فنيلا . وبخلاف ديمتري وهراكليون لي عينان تتنقلان بين النساء ، بينما عقلية شقيقي هي الاقتناع بامرأة واحدة يحتفظان بها .))
خفضت فنّي عينيها . وتمنت أن تستحق بينلا حب هراكليون وتعلقه بها . أما هي فقد فكرت بأنها ستمضي في الحياة وهي تجهد باستماتة لتتحمل العذاب الذي كان يسببه لها حبها لرجل متغطرس غريب لا يبادلها حب بحب. ولو أحبها لأمكنها أن تنسى فقدان طفلها...
قال زونار:
(( سنرقص الليلة . قالوا لي أن هناك حفلة رقص مقنّعة مساء كل جمعة . سنذهب إلى تاجر ألبسة ونستأجر ثيابا ملائمة . ما قولك؟ .))
(( هذا سرور كبير لي . لم البس قناعا في حياتي ....))
وتذكرت أن حجاب العرس الذي غطى وجهها لم يكن إلا قناعا اخفت به وجهها عن هراكليون . وسالت زونار عن رأيه في ذلك .
(( انسي ذلك ! من منا لا يندفع ولو لمرة واحدة ويرتكب خطأ ؟ لاتستمري في معاقبة نفسك على عمل قمت به عن حسن نية . كلي قطعة الحلوى الآن ثم نذهب إلى بائع الألبسة .))
كان بهو الرقص في ذلك المساء مزينا بالبالونات والأنوارالبهية . وكانت فرقة اوركسترا وجوقة من عازفي آلة البزوكي تتناوبان العزف ، الأولى تعزف الألحان العصرية والثانية الألحان اليونانية الشعبية التي تملا الروح حنينا لايوصف . وكانت أقنعة الدومنو السوداء والمذهبة التي تحل محل النظارات تجعل العيون تبدو غامضة النظر .
لفت لباس فنّي الأنظار لجاذبيته . وكان مكونا من معطف كله حبات خرز وقبعة بوليرو اسبانية من المخمل وبلوزة من حرير بأكمام مطرزة وتنوره مخمل كلها ثنيات تعلو غيرها من التنانير المدرجة . وكان زونار لابسا سروالا اسود وقميصا من فضفاضا من الحرير وقبعة تشبه الجراب في آخرها طرّه ، وبدا في لباسه هذا نصف قرصان ونصف مهرج.
وجدت فنّي البهجة والفرح وهي تراقصه. وعادت فتاة نسيت ماضيها القريب ولو لبرهة . ولكنها فوجئت براقص يضع يده على كتف زونار ويقول :
(( أرجو المعذرة ياسيدي . سأراقصها أنا .))
هذا الصوت لا تنساه فنّي ، وجحظت عيناها في عيني المقنع...ورأتهما سوداوين ذهبيتين . كان يرتدي قناع الدومنو وبذلة سوداء بسيطة وقميصا له أزرار سوداء .
تيبس زونار في مكانه كقطعة من الفولاذ . ولكنه اضطر أن يتخلى عن فنّي لأخيه هراكليون الذي ما عتم أن ثبت نظره فيها وانحنى لها داعيا إياها للرقص . وشعرت بالذراعين القويتين تطوقانها، وأحست أن الأرض مادت تحت قدميها.
فقالت بصوت ضعيف :
(( لا استطيع أن ارقص . أرجوك ، خذني إلى الخارج .))
رافقها إلى الخارج وذراعه على خصرها. وهنا استندت بيديها على سياج السطيحة وتضرعت إلى الله كيلا يغمى عليها.
(( هل صدمتك بمجيئي؟.))
نزع قناعه فرات عينيه أكثر سوادا من ذي قبل وأزعجتها نظرتهما.
(( كيف وجدتنا؟ .))
استعادت قليلا من قوتها . إلا أن قلبها الذي عاد إليه الحنين لم يطاوع عقلها الذي أراد أن يقاوم . انه هو. قوي . طويل . شديد . أسد . تجاسرت على دخول عرينه فمزقها ومع كل ذلك ينبض قلبها له ولم يتعلّم الدرس .
(( قيل لي انك هربت مع زونار واتيت إلى هنا.))
((هل أخبرك ديمتري بذلك؟ .))
(( ديمتري متعلق بشقيقه التوأم ولا يخونه . فأدعى انه لا يعرف ماذا يجري . فاستوضحت في مكان آخر وقالوا لي بأنك أتيت لكي تتمتعي بوقتك مع أخي .))
(( انك استوضحت من مربية أليكو، أليس كذلك؟ او تطوعت هي لتفشي لك تفاصيل الفضيحة؟ .))
((هل هذا فضيحة؟ .))
مد يده وخلع قناعها عن عينيها ليتثبت من أنها تقول الحقيقة ، فسألها :
(( هل زونار حبيبك؟.))
(( حبيب؟ .))
تركت السياج حيث كانت تستند وانتصبت واقفة أمامه وأجابت :
(( لي حبيب واحد في كل حياتي ، هو هراكليون . رجل واحد فقط عرف كل نقطة من جسمي دون أن يعرف عن شخصيتي شيئا. رجل اشتركت معه لنصنع طفلا ، هذا الشيء الصغير الذي كنت أريده بكل قواي ، ولكن القدرالذي تؤمنون به معشر اليونانيين انتزعه مني يوم صعدت إلى الكنيسة لأقدم الشكر لله على انه أنقذك من الموت في الانفجار .))
(( الطفل .!))
شد على ذراعيها بكل قوة ولكن من دون أن يؤلمها.
(( لو مات في الوضع لوقعت الملامة علي...))
(( كلا . حادت السيارة عن الطريق. ))
(( تحادثت مع الطبيب الذي أطلعني على كل شيء ...))
(( الآن تعرف يا هراكليون ليس عندي ما أقدمه لك بعد الآن . وليس لك ما يمكنك الحصول عليه مني . ابنك مات وأنت كنت سببا في موته مع أني أفضل الموت لنفسي كي يعيش هو. وهذا ما اعتقد انك تفكر به....))
(( ما أفكر به هو أني كنت أعمى ووحشي في معاملتي لك .!))
(( معاملتك لي؟ .))
حدقت فيه مشدوهة وقبل أن تتكلم تابع يقول :
(( شيء واحد يا فنّي أقوله لك قبل أن تخرجيني من حياتك...أحببتك بدون علم مني . وعندما فتحت عيني على ذلك رفضتني أنت . ولهذا رحلت في سفينتي لابتعد عن كل شيء كالولد الذي انقطع خيط طيارته وبقي وحيدا .))
(( أنت...أحببتني؟ .))
فتحت عينيها على وسعهما في وجهه العريض... وامتلأ قلبها دهشة.
(( لكنك كنت تكرهني ياهراكليون . كنت تريد بينلا وظننت انك ذهبت لتبحث عنها... لتكون بالقرب منها .))
(( بينلا ؟ أتعرفين...نسيت شكل وجهها بعد فترة قصيرة من التعرف عليك. أنت وحدك كنت تدخلين أفكاري وتخرجين منها ، أحيانا حتى أثناء حضوري اجتماع عمل . شعرك الذهبي المتموج على كتفيك وعيناك الناعمتان ويداك اللتان تشبهان العصافير وهما على كتفي . وملمس الحرير الذي كان أثره يظل في خيالي طويلا حتى عندما أكون بعيدا عنك... سامحني الله. كدت اقتل أخي عندما أخبرتني تلك الفتاة انك رحلت عن الجزيرة لتكوني معه . هل هو زونار الذي تحبينه؟ .))
(( طبعا أحبه ...))
(( آه؟ .))
كانت هذه رنّة الم خرجت من حلقه . وبهتت عيناه وهو ينظر إليها.
(( إن زونار اعز سلف يمكن لفتاة أنتأمل فيه.))
(( آه .!))
اختلفت نغم العبارة ذاتها هذه المرة وبرقت عيناه وقال :
(( مهما كان الأمر لم اصدق انك من النوع الذي يهرب او يقوم بهذه الألاعيب. ولذا أردت التحقق من ذلك بنفسي ...))
قال لها انه يحبها وإذا صح ذلك... وقد يكون مستحيلا...عليها أن تجازف مرة أخرى وتدخل عرينه . قالت :
(( لماذا يا هراكليون؟ هل تريد زوجة يستحيل عليها أن تعطيك ابنا؟.))
(( أريدك أنت .!))
هذا ما قاله وسمعته والذهول يملأ كيانها...
(( لم اعرف في حياتي امرأة أكرم منك يا فنّي وأكثر حلاوة وشجاعة . لو عاش طفلي لمت أنت ، هل سمعت ؟ أريدك حية وأريد فيك الرشاقة والنعومه . أريدك أن تعطي وتأخذي وتملئي قلبي . أردتك أن ترافقيني على السفينة ولكنك رفضت المجيء فتألمت كثيرا...كثيرا جدا ...))
(( لقد فوت فرصة ذهبية علي . ولكني كنت دائما أعتقد بأنك ستتركني بعد إتمام الصفقة بيننا وذلك بإنجاب طفللك ...))
توقفت عن الكلام إذ لم تستطع الاستمرار فيه .
(( استحق عقابا بالجلد لعقد هذه الصفقة معك . آه يا فنّي ، هل أرجو العفو منك لمعاملتي الوحشية لك ؟ سأحاول أن أصلح نفسي في المستقبل .))
((حسنا ولكن ليس كثيرا.))
سحبت منه يدها وطوقت عنقه بهما . واحتضنها في عناق تمنت لو يدوم إلى الأبد ...
تمــت بحـمــد اللــه )
|