كاتب الموضوع :
زونار
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
1- العروس المزيفة
"ماهذه اللعبة القذرة التي لعبتها؟"
كانت (فنِِِِِِِّي) واقفة أمام عريسها في غرفتهما بالفندق ترتدي ثوبا ليس ثوبها بل ثوب (بينلا) وحذاء كانت قد حشته بالورق لكون مقاسه اكبر من مقاس رجلها. ماذا تستطيع أن تجيب ؟ هل في مقدورها أن تدافع عن عمل ارتكبته ولا يغفره لها ؟
كانت (بينلا) قد تخلت عنه في آخر لحظة قبل حفل الزواج ، فرأى نفسه في ورطه لايستطيع أن يخرج منها وينقذ كرامته أمام الأصدقاء والمعارف، وجميع المدعوين ومصوري الصحف والمهنئين، وحتى الأعداء اللذين لاتخلو منهم حياة كل رجل ذي سلطان.....إلا بالمضي في حفلة الاستقبال التي تلت الزواج، إذ أنه لايجرؤ على إلغاء الحفلة وخلق فضيحة كبرى من جراء ذلك.
احتشد الجمع ..انتظارا لقدوم العروس بينما كانت (فنّي) تضع اللمسات الأخيرة على فستان العرس الأبيض المطرز. ولبست الفستان ثم وضعت الحجاب التقليدي على وجهها وخرجت من غرفتها لتنزل السلم إلى البهو حيث كان ينتظرها عمها ( دومينــك )
" كم أنت جميلة!".
أبدى إعجابه وافتخاره بالفتاة التي كان يظن أنها ابنته (بينلا)، بيد أنه قبّل ابنة عمها (فنّي) التي حلت محلها. وضع ذراعها تحت ذراعه وقادها إلى السيارة التي كانت بانتظارها في الخارج .
وصلت ..... وتسلطت عليها كل الأنظار وهي تدخل على أنها (بينلا) متأبطه ذراع عريسها. لم يفطن أحد لغياب (فنّي) التي كانت معروفه بتهربها من مواجهة الناس بسب خجلها. وهاهي الآن أمام القسيس بجانب عريسها لتعلن أمام الله والناس تقبل (هراكليون مفراكيس) زوجا لها، وليعلن هو انه يقبل بــ(فينّلا اوديل) زوجة له.
وكانت العروس محجبة حسب التقاليد اليونانية.
وفيما هو ينظراليها غاضبا وهي تريد أن تخلع ثوب العرس لترتاح , شدّها من شعرها بقوة وصرخ في وجهها:
((. بالله عليك! كيف توصلت إلى هذه النتيجة ؟! لم أشك مطلقا أنك لست (بينلا) إذ كنت تشبهينها تحت الحجاب إلا انك كنت شاحبة ترتجفين ، والأدهى من ذلك تظاهرك بالإغماء قبل الحفلة كي لا يفطن احد إلى تغيبك عن الاحتفال)).
قرّب وجهه من وجهها فرأت عينين فيهما بركان وأحست بألم شديد.
(( هل مازلت تعتبرين نفسك ذكية الآن وأنت وحدك معي في الفندق؟))
كانت (فنّي) في تلك اللحظة تشعر بذنبها العظيم وبرعب من ريسها الذي استغلت فيه أصالته اليونانية في احترام التقاليد ، وهي تفرض على العريس ألا يكشف عن وجه عروسه إلا عندما يكونان نفردين في غرفتهما ، ولهذا توجه إلى الفندق في سيارة منفصلة برفقة اثنين من شركائه في العمل ، لأن الرجال في أنحاء كثيرة من اليونان لايختلطون بالنساء علنا مثلهم في ذلك مثل أهل الشرق.
كانت (فنّي) وهي في هذا الوضع تتذكر كل دقائق عملية الصباح ، بدءا من خاتم الزمرد الذي كانت (بينلا) قد تركته على طاولة الزينة في غرفة نومها ، مع رسالة موجهة إلى هذا اليوناني الذي تعرفت عليه في أثينا بينما تقوم بمختلف الأعمال البسيطة انتظارا لان تجد دورا كممثلة مسرحية مبتدئة ، ومن هذه الأعمال وظيفة دليل للسياح برعت فيها وتمرست على مواجهة الناس بصراحة وجرأة ، إلى هذه الدقيقة التي ترى نفسها فيها واقفة أمام عريسها في إحدى غرف الفندق.
تعرفت (بينلا) على (هراكليون) بينما كانت تعمل دليلا فوقع تحت تأثير جاذبيتها من أول وهلة . تذكرت (فنّي) ذلك وهي مع عريسها في فندق باركوي تاورز في لندن، وتساءلت عن قوة جاذبية (بينلا) حتى تسيطر عليه...علما منها بأن اليونانيون يصرّون على تزويج أولادهم من بنات بلدهم اللواتي ينشأن على تقاليد وعادات الأجداد، وأكبرت فيها سطوة جاذبيتها عندما أتى (هراكليون) إلى انجلترا ليطلب يدها من والدها (دومينــك اوديل) وافق والدها.
وأقيمت المراسم الدينية وكان (هراكليون مفراكيس) وهو يتأبط ذراع (فنّي) يعتقد أنها (بينلا) ، وألبسها خاتم الزواج ، وفعلت هي ذلك على أنها (بينلا) وكانت ترتعد خوفا من اكتشاف لعبتها في آخر لحظة . لاتدري (فنّي) إذا كان هرب ابنة عمها (بينلا) من راكليون ( سببه الخوف أو رغبتها الملحة في الحصول على دور يلائمها للتمثيل في نيويورك . كانت ( فنّي) تعرف بالعلاقة القائمة بين (بينلا) وبين المنتج (درايك مونترسن) في الماضي .
وكانت (بينلا) لا تخفي شيئا عن (فنّي) منذ أيام الدراسة ، فهي بمثابة أخت لها خاصة أنها بلا أهل . و(دومينــك اوديل) التاجر الغني الناجح ستصيبه صدمة قوية لو عرف أن ابنته الوحيدة (بينلا) ربطت نفسها برجل مثل (مونترسن) يكبرها بعدة سنوات وله سيرة غير حميدة تماما. و(فنّي) نفسها صدمت بهذه العلاقة... ولكنها انتفضت عندما قارنت وتصورت نفسها في فستان العرس المطرز بزهر الزنبق ، رمز كل فتاة عذراء طاهرة الجسد والعقل والقلب ، كما كانت (فنّي) قبل أن تخدع هذا الرجل.
رأت ، وهي واقفة أمامه، شرايينه البارزة وهو يحدق فيها بعينين تقدحان شررا ، وكأنه يريد أن يخنقها . أنها لا تلومة ، بل ترحب بعمل كهذا فقد يخلصها من وضع اخذ يزيد من مخاوفها مع كل دقيقة.
((كيف تجاسرت أن تحلي محلها وتنتحلي اسمها...؟))
كان صوتها خافتا عندما أجابت: ((لم انتحل اسمها)).
وأضافت تقول:
((بل أعلنت اسمي الذي يشبه اسمها..))
((ابنة العم فنّي!)) . تلوت شفتاه وامتلأت عيناه غضبا وازدراء. إلاأنها همست قائلة: ((اسمي (فنيلا) ، وهذا ماسجلته في سجل الزواج . فهل تعتبر هذا تزويرا ؟)).
(( كانت يدك ترتجف وأنت تكتبين ، وأدهشني أن ترتجف فتاة مثل (بينلا) . وكيفاعرف أن الفتاة ذات الشعر الاشقرالذي كان يغطيه الحجاب ليست عروسي الحقيقية ؟ وكيف اعرف أن هناك غشا وخداعا؟)) .
كان وهو يتكلم يزيد من ضغط أصابعه على كتفيها ، وبعد أن تفحصها بدقة جرها إلى النافذة وعرض وجهها إلى الضوء وقال : (( لاتشبهينها مطلقا حتى تكوني صورة طبق الأصل عنها ، ولكن العرائس ماهرات في تغيير منظر وجوههن لتختلف عما كانت عليه قبل الزواج . وحتى الأقارب والأصدقاء يؤخذون بمنظر العروس المتخفية بالحجاب ، ويتساءل عريسها هل التي أمامه تمثال من الشمع مزين بالزهور أم إنسان ؟ ويدهشه أن يديها اللتين كانتا دافئتين قبل الزواج أحسهما باردتين عندما البسها الخاتم ، وان صوتها الجذاب أصبح باردا)).
تابع حواره كأنه يكلم نفسه: (( ياالله...كيف يستطيع الرجل أن يتأكد من أن العروس الواقفة أمام الهيكل في لباس ابيض كالثلج ، هي المرأة نفسها التي كانت تذوب بين ذراعيه أيام الخطوبة !. ))
صرخت (فنّي) من الألم لأنه كلما تعمق في تفكيره كان يغرز أصابعه في لحم كتفيها دون أن يدري . رأت كل شيء فيه غريبا وقاسيا ، ولأول مرة تجد نفسها وحدها معه ، ومعرفتها به كانت يوم الخطوبة عندما كان عدد المدعوين من الكثرة بحيث لم يمكنها تبادل كلمة واحدة ، رأت خطيب ابنة عمها (بينلا) رجلا ذا قامة طويلة وبنية قوية ، رشيقا وذا عينين كعيني النمر.
((إذا آلمتك فأنت السبب)).
كانت عيناه العنبريتا اللون تتفحصانها ورأت فوقهما حاجبين يشبهان حد السيف ، وصوته الذي كان يوم ذاك ناعما وحلوا سمعته الآن حادا كشفرة السكين.
(( انتظري المزيد من الألم . هذا ليس تهديدا لا وعدا أيتهاالمزورة! هل توقعت بهجة وسرورا عندما ارتديت ذلك الثوب الأبيض وأخفيت وجهك وراء ذلك الحجاب؟ ماذا كنت تأملين من اتخاذك لشخصية (بينلا)؟)).
كانت عيناه تبحثان عن الحقيقة ، بينما تخفيها (فنّي) في أعماق قلبها ليقينها بأنه سيرفض هذه الحقيقة المخيفة ، ويحط من شأنها إذا هو فهمها . فلينخدع بالظواهر....وهي أنها لكونه فقيرة ومعدمة استغلت الفرصة لتصبح غنية ، ولذا قامرت وربحت . تأمل (فنّي) انه سيفهم ذلك ويتقبله ، ولكنها لن تطلعه على حقيقة تقمصها شخصية (بينلا) والتي تنحصر في أنها عندما وقع نظرها على (ليون مفراكيس) شعرت بذوبان جميع حواسها وارتعاش في جسمها عزته في أول الأمر إلى الخوف ، ولكن الخوف ممّ ؟ لم يغمض لها جفن تلك الليلة التي لاحقتها فيها صورته وبإلحاح ، حتى أنها دفنت وجهها في الوسادة كي تبعدها عنها .
وضعت يدها في جيب فستان (بينلا) الذي ترتديه وأخرجت ورقة وسلمته له . كانت رسالة من (بينلا) إلى (هراكليون) تخبره فيها سبب تخليها عنه : " عزيزي ليون . مازلت مجنونة بحبك واعرف أننا كنا سنمضي أوقاتا سعيدة معا لو أني تزوجتك ، ولكن بما أني أريد أن أصبح ممثلة وأنت كيوناني لن تسمح لي بذلك ، لم أرد أن اخسر فرصة ذهبية لأقوم بدور (جرترود ماين) في تمثلية من الدرجة الأولى في نيويورك . أرجوك أن تفهم وضعي ومن اجل حبك لي حاول أن تعفو عني لهجري إياك . ستسلمك (فنّي) هذه الرسالة ويمكنك الوثوق منها فهي كتومة ، أما إذا سألك احدهم عن سبب انفصالنا فيمكنك الادعاء بأننا تشاجرنا . وتأكد أن حبيبتك البعيدة عنك لن تنسى ذكراك!. "
جفلت (فنّي) من صوت الورقة وهو يكورها في يده ويرميها بغضب في سلة المهملات . هذه هي نهاية حب تلاشى كالضباب ، حب لايستحق حتى مجرد التفكير فيه . ابتسم بمرارة والتفت إلى (فنّي) وقال :
((إذاً أنت تؤمنين على الأسرار!. ))
كانت فتحة عينيه ضيقة ونظراتهما قاسية وخطرة، وهو واقف كالقائد الذي تخلت عنه فتاته ليسقط ضحية فتاة أخرى.
برد الدم في عروق (فنّي) وتولاها الخوف واليأس من انه لن يغفر لها . وبالرغم من ذلك أرادت أن تعرف نواياه تجاهها:
((ماذا ...ماذا تريد أن تفعل الآن ؟))
هذا رجل غريب عنها ، وقد يقذف بها خارج مقصورته حيث هي موجودة بصفة عروس ولكنها أيضا دخيلة . نظر إليها ساخرا وأجاب :
((ماذا تريدين مني أن اعمل؟ أنت تعرفين أكثر من أي شخص آخر لماذا أتيت إلى المعبد بلباس امرأة أخرى ، وبكل جرأة ووقاحة قمت بكل ماتخلت هي عنه ، أنت ، ابنة العم الفقيرة التي كانت تجلس في الزاوية مع قطة البيت ! إلا ترين انك تحت رحمتي؟))
((اعرف ذلك ))
كانت فنّي ترتدي ثوبا بلون الياقوت الأزرق، وهراكليون الشاب الطويل ذو العضلات القوية يرتدي بذلة رمادية اللون ، والفارق بينهما هو أن ( فنّي) كانت تنظر إليه بخوف ، بينما كان سكوته أكثر تهديدا من كلامه القاسي . شبهت وجهه بقطعة حديد خرجت لتوها من أتون ورأت فيه قبحا لاينسى .
((استطيع أن أرميك من النافذة ، ولن يلومني احد . في كل الأحوال ، من سيهتم؟))
((لن يهتم احد... وسيبررون عملك)).
نظر إليها من رأسها إلى قدميها ثم قال:
((جميل منك أن تعرفي ذلك . ولكني مازلت مذهولا كيف ظننت أنني اعقد قراني على (بينلا) المتلألئة وأنا اعقده على فتاة متحفظة...هي لها عينان بلون الياقوت الأزرق ، وأنت لك عينان بلون الدخان الأزرق ، وشعرها ذهبي لا فضي، وليس لك شفتان جذابتان كشفتيها . وهل تعرفين ماهو شعوري نحوك؟.
((استطيع أن أخمن))
كان جوابها هادئا، ولكنها شعرت بالإهانة بسبب الاحتقار في عينيه العنبريتين.
((أنا جازم من انك لن تستطيعي مطلقا أن تخمني ما أفكر فيه الآن. أتصور أني اشتريت ألماسه وعندما أخرجتها من علبتها وجدتها قطعة من فحم . أحس أني سرقت ، وهذا شعور لا يحتمله أي يوناني)).
((أنا آسفة)).
كان حلقها جافا ورأسها ساخنا ومؤلما لأنها كانت تسبح في دوامة من التفكير بالدور الذي لعبته بنجاح ، والذي كان حلما يراودها فأرادت أن تستيقظ ، ولكن الحلم تحول إلى كابوس تحاول الهرب منه . تلفتت نحو الباب يائسة علّها تستطيع الفرار وتنقذ نفسها من عقاب هذا اليوناني الذي رأى، وكان على حق فيما رأى ، انه خدع.
قفزت من مكانها فجأة ، ولكن فيما كانت مسرعة نحو الباب خرجت رجلها من الحذاء وخرجت معها قطع الكرتون التي فيه . وانقض هو عليها وحملها بيديه الفولاذيتين ورماها على الكنبة العريضة كمن يرمي صرة ثياب . كانت تلهث من الرعب وهي تنظر إليه بعينين ملؤهما رعب وتوسل .
وانحنى فوقها بنظرات شرسة ومد يده فخلع الحذاء الآخر ورماه على ارض الغرفة وقال بلهجة ساخرة:
((أرى بان الحذاء ليس بمقاس رجلي سندريلا واني لست أميرك الجميل الذي سيلاطفك ويكرمك ويدعك تذهبين بسلام بعد أن أنقذت ماء وجهه أمام الناس . انك حمقاء ومخطئة . أتعتقدين بأني سأهتم بآراء من يأتون ليشاهدوا حفلة عرس أو يوجهوا آلة التصوير الى رجل يحترمونه لأنه فقط من رجال الأعمال الناجحين؟ كنت سأتزوج من بينلا لأنها كانت تتمنى ذلك ، هل تفهمين؟ هي تتلألأ كالجوهرة وكنت أريدها لكنك أخذت مكانها... وها نحن هنا لا نستطيع عمل شيء)).
كانت (فنّي) تريد من كل قلبها أن تعوض عن الخطأ الذي ارتكبته ، ودفعتهاعفويتها وخوفها منه أن تقترح عليه حلا عندما قالت متحمسة : (( بل نستطيع ، من الممكن إلغاء الزواج وهكذا تتحرر.... ))
(( إلغاء زواج يوناني ؟ وهل دفع بك جهلك إلى الاعتقاد باني أتيت إلى بلدك لأتزوج من ابنة عمك ومن ثم لأفك الرباط كأنه شريط من حرير لان زواجي لم يكن كما توقعت ؟ انظري إلي ! أنا إسبارطي المولد ولا ادعي أني خارق إلا أنني أقدس الشرائع . هل تقدرين معنى ذلك؟))
كانت تقدر قوة ضربات قلبها وهي جالسة على الكنبة بين الوسائد الحريرية تنظر في وجه هذا الإسبارطي المصنوع من الفولاذ والذي قدر لها أن تقع في حبه.
وأضاف متعمدا: (( هذا يعني أن كلينا سكبنا في قالب واحد ولا يفصلنا إلا موت احدنا، ومن السهل أن أدك عنقك وأتخلص منك في لحظة)).
اصفرّ وجهها وشهقت من الرعب.
((هل أرعبك تهديدي ؟ اطمئني ياعزيزتي، انك لا تساوين بقائي في السجن، خاصة في زنزانات السجون اليونانية . وان أحببت ذلك أم لم أحب، لي زوجة الآن ودعينا نحتفل بهذه المناسبة ونأكل قرص الحلوى الذي أتى به أخي زونار))
تذكرت انه عندما أتى إخوته إلى الفندق ليهنؤه ويهنئوا عروسه كانت واقفة بالقرب من النافذة وظهرها إليهم . وسمعت (زونار)، أصغرهم ، يتمنى حظا سعيدا لأخيه والسعادة لها.
|