كاتب الموضوع :
زونار
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
-حياة مليئة بالتحدّيات...
اعتادت فنّي على حياة القصر في الأسابيع التي تلت وصولها إلى الجزيرة ، ومع مرور الأيام وجدت متعة في هذا القصرالأبيض الواقع على قمة تل يطل على البحر... حيث الطقس الرائع لم تشهد له مثيلا في حياتها...والبحر ذو الزرقة الصافية يبعث الأمل في قلوب أكثر الناس تشاؤما ، وفنّي ذاتها لا تشكو من ضجر او حزن تحت أشعة الشمس الإغريقية ، سيّما وأنها الآن زوجة هراكليون مفراكيس المقبولة من قبل الجميع.
أما زوجها فعامل لا يكل ولا يمل وكم من مرة يطير بالهليكوبتر في صباح يوم باكر ولا يعود إلا بعد بضعة أيام...لانشغاله بأعمال في أثينا او قبرص و أحيانا في اسطنبول .
وغالبا ما يرافق زونار في سفراته فتبقى إدارة الجزيرة في يدي ديمتري القويتين الرصينتين . ولكن ديمتري هذا لم يهضم بعد فكرة قبول فنّي في حياة العائلة . أما زوجته فقد وجدت فيها امرأة من الطرازالحديث ظريفة جدا ولكن متبرمة تنظر إلى فنّي بفضول . وهذه الزوجة ، واسمها أدلينا ، لم تصادق فنّي تماما ولكنها أبدت استعدادها لمعاشرتها أكثر من زوجها .
مضى على زواجها من ديمتري خمس سنوات ولم يرزقا بطفل...إلا أنها تعترف لفنّي أنها تفضل هذه الحال على عناء تربية الأطفال وزوجها لم يتذمر من عقم امرأته التي يحبها حبا جما، لذا لم يفرض عليها حقه في صبي تنجبه كباقي اليونانيين .
وقالت بصوتها الحالم :
(( إنهم يبالغون كثيرا في تمجيدهم لام الأولاد . وهذا الأمر وحده يشوه صورة الرجل اليوناني ويحوّل أنظاره إلى الأولاد فقط)).
ابتسمت فنّي مجاملة ولم تبد رأيها . فهي تعرف مخاوفها السرية من إنجاب طفل لهراكليون .. لذلك فأدلينا آخر امرأة تأتمنها على سرها.
و(اليكو) ابن زونار بهجة الأنظار ولكن مربيته تحب الاستئثار به وتظهر درجة ولو صغيرة من العداء لفنّي . وربما راودتها فكرة أنها قد تكون واقعة في حب زونار وهو شاب جذاب جدا.
وبالرغم من تمتعها بالعيش في القصر الأزرق فحياتها فيه مليئة بالتحديات. ولكنها لا تبالي بذلك . لأنها لا تريد الظهور بمظهر الانهزامية المقهورة أمام هراكليون الذي لا يحبها . هناك بارقة أمل في أن يلين ويغير معاملته لها ولكنها تعرف أن أملها هذا ريشة في مهب الريح ومع ذلك تتمسك به . وإذا تخلت عنه لن يكون مستقبلها إلا فراغا مظلما لا تدخله الشمس .
تبدأ حياتها اليومية بالنهوض من نومها وسط جمال طبيعي أخّاذ يعطره أريج الليمون . وتستغرق في النظر إلى الأيقونات او سماع صوت الهليكوبتر وهي تترك المطار حاملة هراكليون الذي يسافر دون كلمة وداع ، ولكنها تتقبل ذلك بشهامة وتدفن انزعاجها في ثوب الحرير الصيني المفضل لدى بينلا والذي يلائم شقرتها الفاترة .
بعد تلك الليلة الأولى في القصر اخذ هراكليون يتجاهل مزاجها فكان يأتي إلى غرفتها ويخرج منه حسب هواه . وافهمها ذلك بقولة في صوت حازم :
(( أنت زوجتي ، ولا تتوقعي أن اعتبرك صورة عزيزة علي لأقبلها وأعيدها إلى مكانها . أنت امرأة ويتوجب عليك أن تتعلمي كيف تقدمين البهجة والسرور لي أردت أم أبيت)).
وهكذا وبالرغم من سر مخاوفها ، على فنّي أن تتقبل ما يخبئ لها القدر... فبعد سبعة أسابيع على قدومها إلى القصر الأزرق عرفت أنها حامل من هراكليون . ولكنها لا تريد أن تطلعه على ذلك وعزمت على كتمان السر أطول مدة ممكنة ما دام هو يقصيها عنه ، لأنها تتعلق بخيط واه من الأمل في انه قد يعفو عنها يوما ويستبقيها زوجة محبوبة ومكرّمة . وإذا أرادت أن تستمتع بحياتها على هذه الجزيرة قدر ماتستطيع ... فمن اجل المخلوق الصغير الذي ينمو في أحشائها .
وكلما نظرت إلى المشاهد الخلابة أحست بشعور عاطفي يجيش في صدرها ونشوة تعتري حواسه فجأة . والعبير النفاذ يملا الهواء ويفعم حتى مسام جسمها . وعرفت فنّي لماذا سمو الجزيرة بتالدوس ... فأغصان الأشجار تعج بالفراشات ذات الجمال الهندسي الذي لا يوصف ، وكلما حركت الريح غصن شجرة طارت هذه الفراشات في باقة ساحرة من الألوان كما لو كانت أجنحتها مرصعة بالجواهر .
قلبها ينتشي بالجمال حتى أنها تقول بنفسها بان الحياة هنا مهما كانت صاخبة جديرة بان تعاش وسط الطبيعة وسنة واحدة تساوي العمر كله .
لبست ثوبا قطنيا فضفاضا ونزلت حافية القدمين تحمل صندلها بيدها إلى بيت صيفي بني على الطراز التركي فوق صخرة مرتفعة عن الشاطئ .
ويتكون أثاثها من بضع طاولات ووسادة ضخمة تستعمل ديوانا وتغطي أرضيته سجادة مشغولة باليد تنتثر عليها جرار من خزف مزخرفة بمختلف الصور والرموز . كانت فنّي تجد في هذا المكان راحتها الوحيدة . وكلما غاب هراكليون عن البيت كانت تقصد محلها المفضل فتقضي ساعات طويلة تصغي إلى الموسيقى اليونانية وغيرها، وتقرا المجلات الإنكليزية التي يأتي بها زوجها من أثينا ، وتراقب طيور النورس والشاهين . وغالبا ما تبقى هناك حتى الغسق ثم تنزل إلى الشاطئ للسباحة في برودة الشمس الغاربة. وكانت افروديت رمز الحب في الأساطير اليونانية تسبح في الماء لتستعيد عفتها...
تعتبر فنّي هراكليون رفيقا لها لأنه لا يتبع مسلك الأزواج في علاقته بها. فهو لا يطلعها مطلقا على أعماله ونشاطاته ولا مخططاته للمستقبل . ماهية إلا وصلة في حياته كما يؤكد لها ذلك كلما تمدّد بجانبها ونال منها مآربه وأحيانا يضيف قائلا:
(( قد افتقدك يا مزيفتي الصغيرة عندما أتخلص منك فتذهبين لترتمي في أحضان ثري تجعلين منه غبياً آخر يليق بك)).
في ظروف كهذه تحاول ألا تدخل معه في جدال..لأنها لا تكون إلا كمن يضرب بيديه في الجدران .
ووجودها في القصر ينحصر في استقبال القادمين وتلبي طلباتهم، كما في أية محطة وهراكليون يرحل عن القصر عندما تدعوه مشاغله وعندما يعود يأتي إليها لحاجته ثم يتركها إلى إحدى كبريات المدن حيث قد يجد امرأة أخرى تنتظره وتفهمه أحسن مما تفعل هي وبين كل سفرتين تسبح في ماء البحر تحت النجوم المتلألئة الساحرة لتخفف من ضجرها وآلامها كثيرا ما تكون احتضارا لا تتحمله ولا يبعدها عن هذا الوضع المؤلم صوت الهليكوبتر وهو يقترب من القصر وسط أضواء ساطعة تنير له الطرق . وعندما تستلقي فنّي على ظهرها وتتمتع بمنظر الهليكوبتر التي تقوم بدورة او دورتين كمناورة للهبوط . وقد عاد زوجها من رحلته الأخيرة قبل الموعد المحدد . مع أن زونار قال لها قبل الرحلة أن عليهما حضور مؤتمر في قبرص .
لم تتحرك فنّي من مكانها كعادتها في كل مرة او تهرع لاستقباله كأي زوجة محبة. ظروفها لا تسمح لها بإظهار ما يكنه قلبها من حب. هو الذي يفرض عليها المظاهرالخداعة أمام أخويه وأمام الناس .
كانت جالسة على رمل الشاطئ ويداها على ركبتيها تنظر إلى أمواج البحر عندما سمعت وقع أقدام على الحصى تتجه نحوها. فتسارعت ضربات قلبها لعل القادم يكون هراكليون وقد أتى بحثا عنها، وظلت تحدق في البحر متظاهرة بعدم المبالاة. وكانت تتلهف بكل جوارحها أن يكون هو القادم لا غيره، وأخذت تستنشق الهواء بقوة لتريح أعصابها.
ولكنها فوجئت بصوت رجل جهوري يحييها :
(( كالسبيرا ، مساء الخير يا سيدتي ))
خاب ظنها لان صاحب الصوت لم يكن هراكليون كما كانت تأمل. وأغاظها هذا حتى أنها غرزت في جلدها دون أن تشعر . وعرفت في القادم شخص زونار الذي توقف أمامها وابتسم ابتسامة ود . فردت عليه :
(( مساء الخير يا سلفي . عدتما مبكرين ...هل أتيت بمفردك وتركت زوجي يعمل في مكتبه ؟))
وبدلا من أن يرد على ابتسامتها بكلمة لطيفة ظل واقفا دون أن يتفوه بكلمة واحده ، فرفعت فنّي رأسها وتطلعت في وجهه الجميل واستطاعت أن تميز فيه على ضوء النجوم المنعكسة في الماء نظرات صارمة فتوجست شرا، وقفزت من مكانها فأمسكت بأكمامه وسألته خائفة :
(( ما الأمر ؟ هل حدث شيئ لهراكليون ؟ يجب أن تخبرني... أسرع ، وإلا جننت!)).
غطى وجهه العبوس فشابه وجه هراكليون وقال :
((هل انفعالك هذا بسبب ما قد يحل به من سوء؟ هل ستموتين إذا فقدته؟)).
(( يشهد الله على كلامي . طبعا سأموت ! لا تعذبني مثله ! لماذا رجعتما بهذه السرعة ؟ )).
(( وقع لنا عارض بسيط .. بالله عليك لا تستسلمي للإغماء الآن !)).
امسك بها قبل أن تسقط مغشياً عليها . وحملها بين ذراعيه إلى الغرفة الصيفية حيث مددها على الديوان بلطف لم تعهده في أخيه هراكليون . وركع على الأرض بجانبها وأزاح الشعر المبلل عن وجهها واخذ ينظر في عينيها المرتعبتين .
تطلعت فيه وسألته بصوت لا يكاد يسمع :
((عارض ؟ هل أصابه شيء ؟)).
(( نعم... لا تصرخي)).
وضع يده على فمها وتابع :
(( انه قاس كحجر الصوّان اليوناني أغمي عليه من جراء الانفجار ولكن لمدة قصيرة . وأجرى الطبيب له عملية جراحية فاخرج شظايا الزجاج من ذراعه وظهره)).
توقف قليلا ليلتقط أنفاسه ثم قال :
(( كنت على موعد غداء مع .. مع احد الناس ، ولذا لم أكن هناك في مبنى الإدارة الرئيسية عند انفجار القنبلة . وهراكليون كان احد المحظوظين إذ قتل غيره من الرجال او شوهوا وبترت أجزاء من جسمهم))
كان كل جسمها يرتعد ولم تعي ما تقول :
(( يا الهي ، لماذا تحدث أشياء كهذه ؟ لم لا يسلك الناس مسلك المدنية ؟ هذه بربرية...إلقاء القنابل والتسبب في إيذاء الناس لمجرد اختلاف في العقيدة السياسية. أريد أن أراه.... ))
(( انه بخير ، صدقيني . أعدناه بالهليكوبتر وهو الآن في غرفته يستريح . ولا اعتقد انك تستطيعين التكلم معه لأنه يغط في نوم عميق بسبب الأدوية))
(( يجب أن أراه... أريد أن اطمئن)).
وعندما حاولت النهوض لم يترك زونار لها مجالا لتتحرك وابتسم لها ثم قال :
(( أؤكد لك انه كامل الجسم ولا ينقص منه شيء يا فنيلا . وسيعود غدا الرجل الآمر الناهي ولكنك سترينه يتألم من رأسه ويحمل ذراعه في لفائف بيضاء مما يعطيه مظهر الرجل المحارب ، وعندها تستطيعين التحكم به وإرغامه على أن يتبع إرشادات الطبيب وذلك بالاستراحة مدة أسبوع كامل بعيدا عن مشاغله المعقدة ، إني لا افهم حقا كيف يترك رجل امرأة جميلة مثلك على جزيرة لتسبح وحدها في مياه الأيجة وتنفرد بنفسها في المقصورة التركية كإحدى البنات المهملات . لا يليق بك مصير كهذا!)).
((هذا مصيري وأنا لا أشكو منه))
ارتعشت شفتاها عندما تكلمت وخفضت جفنيها كي لا يلاحظ النظرة الماثلة في عينيها ، وقالت:
(( اشكر الله على أن هراكليون لم يتشوه كثيرا...إذا كان ما قلته لي حقيقة يا زونار . انه بخير إذا استثنينا الجروح التي أصابته ، أليس كذلك ؟ )).
(( لا اكذب عليك أبدا )).
تناول يدها ومسح شفتيه بطرف أظافرها ، وتابع يقول :
(( أن أخي جدير بك في بعض النواحي وليس في بعضها الآخر. لا يجب أن يهملك هكذا....))
(( ليس بالدرجة التي تتصورها . كلما هناك انه يحتاج إلى عمله أكثر مما يحتاج إلي . وقد اعتدت على تذمره انه ليس سعيدا برفقتي . لست المرأة التي يحبها...هذا هو الفرق وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة ، لا أريده بان يتظاهر بحب لا وجود له ، إذ ليس من طباعه أن يتلون أمام الناس . انه مستقيم عملا وقولا ))
(( لا تقصدين أن تقولي انه يبالغ في نزاهته)).
((لا أحب هذه العبارة إنها لا تنطبق عليه)).
(( لا تنطبق؟ أنا اعرف هراكليون أكثر مما تتصورين يا سيدتي . واعرف مدى بطشه إذا شك في نزاهة شخص ما ، خاصة إذا كان هو المقصود .))
(( كانت لعبتي غشا . ولذا من غير المتوقع أن تكون معاملة هراكليون لي معاملة حب .))
(( ولكن لا أحب معاملته الخشنة لك .))
اختلس نظرة خاطفة إلى جسمها نصف العاري إلا من لباس السباحة .
(( أنت خلقت لحب رجل لايشغل نفسه وعقله وجسمه بعمله فقط كما هو الحال مع أخي . بالرغم من احترامي لجرأته وشجاعته . تستطيعين أن تقدمي أكثر مما يقدمه هيكل جسمك ... )
(( أرجوك يا زونار لا تتكلم هكذا. ..)
(( هذا هو أوان القول وإلا فلا .!))
(( انك تستغل ضعف هراكليون الآن وهذا ليس من الإنصاف بشيء. يجب أن اذهب إليه .!))
حاولت أن تنهض غير انه ضغط بيديه على كتفيها وأبقاها حيث هي ثم قال :
(( ليس الآن . يجب أن تسمعيني حتى انتهي مما أريد أن أقول . أنت تساوين عشرة أمثال من ابنة عمك المتبهرجة . حاولت أن تغازلني ، هل عرفت ذلك؟ وان تغازلني خلف ظهر هراكليون! نويت أن ألقنها درسا قاسيا بضربها .!))
(( هراكليون يحبها والحب خالي من كل منطق ولن يكون فيه أي منطق . والآن اتركني يا زونار قبل أن تتفوه بأشياء قد تندم عليها.))
(( أنا أعرفك يا فنيلا، ولا يصيبني أي ندم على حديث معك .))
وضع يديها بين يديه وضغط عليها وأضاف قائلا :
(( سحرك غريب وتحاولين إخفاءه واسمحي أن أقول لك عيني لم تقع في حياتي على سحر مثله . وأؤكد لك انك تذهبين سدى في حياة رجل يقدم مشاغل أعماله على متعة الحياة وهي احتواء امرأة مثلك .))
أخافها تحديقه بها ونظرة عينيه الخبيثة . قاطعته وصرخت في وجهه قائلة وهي تسحب يدها بعنف :
(( لست من الفتيات السيئات كما تظن ! فبينما تتباهى باحترامك لأخيك هراكليون توسوس لي بأفكار شيطانية ! لقد خاب ظني فيك . فقد كنت اعتبرك سيدا رقيقا .))
(( أهانك كلامي ؟ وجدتك جذابة وأريد إسعادك .!))
(( أنا سعيدة بما فيه الكفاية...وأكثر مما استحق .))
(( هل تعتقدين ذلك ؟ كثيرا ما راقبتك على غفلة منك وأنت تلهين هنا على الشاطئ كالطفل الوحيد . وتقلبين ما تقذفه الأمواج وتنظفين الرمل من صدف البحر، وكل مرة كنت أهم باللحاق بك ولكنني امتنع عن ذلك . ألا يدل ذلك انه يهملك كثيرا؟ حياتك هنا عبودية .))
(( حياتي تخصني أنا لا غيري واعرف ما أنا فيه يا زونار. ولا يحق لك أن تقلب صفحات حياتي وتتقصى شعوري كما تتصفح كتابا او تبحث في زوايا غرفة مغلقة .))
(( اهتم بك كثيرا وهذا ما يعطيني الحق .))
قرب وجهه منها ورأت فيه وجها أثرت فيه أحزان الحياة . له شفتان ممتلئتان وذقن إغريقية ، وعينان سوداوان وشعر اسود فاحم يزيد من خطورة جاذبيته.
تملكها رعب شديد من هذا الرجل الذي يسري في عروقه عشيرة مفراكيس التي لا قلب لها . كيف تتصرف وهي وحدها معه في المقصورة الصيفية؟
(( كما يتلاشى النهار في ظلمة الليل هكذا تلتجئ المرأة إلى ذراعي رجل يريدها بكل قلبه . ونقطة الضعف في الرجل هي حبه للمرأة .))
(( لي القوة أن أتغلب على المصاعب بدون العلاقة الخطرة التي تنوه بها . فقد يضربك هراكليون لأنك تتكلم ... مع امرأته بهذه الطريقة .))
(( بلا شك ، ولن تكون المرة الأولى التي يذيقني فيها ضرباته . هل يمكنك أن تتصوري أن كنت سهل التربية والانقياد؟.))
(( أنت قطعة من إبليس يا زونار . احبك ويحزنني جدا انك تحطم الصداقة القائمة بيننا . لا اصدق انك تريد إقامة علاقة سرية معي . ربما هذه عادة فيك تتقرب بها إلى كل امرأة تتعرف عليها .))
(( قولك هذا خبيث . أنت تعرفين إني أجدك جميلة جدا واعتبرك ينبوع ماء رقراق في وسط حياة كلها رمال حارة . أنا احسد هراكليون حسدا أعمى خاصة إذا كنت تحبينه .!))
ردت عليه بصوت ناعم فيه تأكيد قائلة :
(( أحبه واعتقد أن حبي له سيدوم .))
(( تحبينه بالرغم من معاملته السيئة لك؟ في الكثير من علاقاته بالناس يتصرف هراكليون بخشونة وعدم لياقة ,. والفارق بيننا هو أنني وشقيقي ديمتري نشأنا في ظروف أحسن من ظروفه صقلت تربيتنا . ولولا ذلك لكنا من رعاع الشارع . فقد عمل هراكليون في مصنع الرخام الذي يملكه الآن وهو الذي أنشأ أسطول الزوارق التي تنقل بضاعته إلى المئات من الموانئ . منحه الله قوة الإرادة وقوة إدراك الأمور وهذا كل ما يهمه في أعماله وحياته . وفي ظني أن إعجابه بدفتر حسابات مرتب ترتيبا حسنا اكبر من إعجابه بامرأة ذات شكل حسن . وتقولين انك تحبينه .!))
لم تجب فنّي لا بكلمة نعم . وعادت بفكرها إلى هراكليون فانقبض قلبها لمجرد التفكير في انه قد يكون في حال أسوأ من الحال التي قالها لها زونار.
وفكرت بالجنين الذي تحمله في أحشائها من هراكليون بيديه القويتين الخشنتين اللتين طالما عملتا بكد واجتهاد لإطعام وإلباس أخويه الأصغرين .
(( أنت تدين له بالكثير يا زونار . لا تنس ذلك .))
كيف أنسى ذلك ؟ انه شخصية فذة ، وذو قلب كبيرولكن له طرقا لا يعرف اتجاهها ، كما لا نعرف ما يعبر عنه وجهه فنيأس منه . ولكني قد ارتكب جريمة قتل للدفاع عنه .!))
(( ومع ذلك... أنت تحاول أن توقعني أنا زوجته في هواك .))
(( نعم ، وسيلعنني الناس بسبب ذلك لان امرأة الأخ مقدسة في العرف اليوناني . أنا انجذبت إليك ولا استطيع أن أقاوم ذلك . وأنت من النوع الذي لا يقتحم قلوب الناس ، إلا أن هدوءك وعظمة قلبك استوليا على روحي وتملكاها واطلب دمج روحينا معا .))
(( أرجوك ، لا تحاول أي شيء .!))
(( أنت موسيقى أفكاري تلعبين بأوتارقلبي فتذيبينها .))
(( ولكن هذه الموسيقى مشؤمة ولعينة ، وأنت تعرف ذلك .))
(( حتى الأشياء المشؤمة فيها شكل من أشكال اللذة . فهل سينشأ ابني أليكو على منوالي؟ .))
(( ابنك طفل جميل ولذا يجب أن تكون له والدا صالحا .))
(( آه يافنيلا ، بالرغم من كل شيء ما زالت فيك بعض المزايا الصغيرة ، ولا يثير غضبي أكثر من حب امرأة جميلة لرجل آخر وهي تعلم أني أحبها .))
(( أرى أن اعوجاجك لايصحح .))
وفي لحظة غفلة منه نهضت وكانت الآن خارج المقصورة فأخذت تصعد الطريق إلى القصر ومشى هو وراءها . نثر هواء البحر شعرها حول رأسها وكانت شفتاه ترتعشان قليلا وعيناها تتلهفان لتريا هراكليون وتطمئنا على سلامته من الانفجار. وعندما صار زونار بجانبها لم تر فيه قوة الرجولة التي تبرز في منكبي زوجها ومشيته الحثيثة التي تميزه عن غيره من الرجال . زوجها...هراكليون ، ملقى جريحا من انفجار قنبلة...
جريحا في الفراش . أرادت أن تطير لتصل إليه وترمي نفسها عليه . لاشيء يبعدها عنه الآن حتى ولا طبيعتها الانكليزية المتحفظة . اكتسبت شيئا من حرارة هراكليون منذ زواجها وهذا الشيء يسري الآن في دمها. أصبحت له روحاً وجسدا سواء أحبها أو لم يحبها . وحتى إذا فصل المستقبل بينهما ، فستظل مرتبطةً به كارتباطها بالحياة .
وعندما وصلا إلى قمة الصخور توقفا قليلا ونظرا إلى البحر. وعندما تذكرت أنها نسيت ثيابها في المقصورة الصيفية ولا تعرف كيف ولماذا حاولت أن تغرز قدميها في الرمل وتمنت لو أنها تتحول إلى شجرة تين او شجرة زيتون تغوص جذورها في أعماق التربة.
(( يبدو كأنني أتنفس التاريخ الإغريقي مع كل حركة من أمواج بحر ايجة ، هذا التاريخ المليء بالأساطيروالحقائق حتى يكاد الإنسان لا يميز بين ما هو أسطوري وما هو واقعي . أجد أرضكم فاتنة .))
(( وأهلها؟ وعشيرة مفراكيس بالذات؟ .))
(( مجموعة متغطرسين ، ومعتزين بذاتهم كثيرا .))
(( نحن على صواب . فالصعود من مجاري الشارع إلى قصور فاخرة لا يستهان بها . ومن ينظر إلينا الآن لا يصدق أننا لم نكن في يوم من الأيام من المملوكين .))
(( من يفكر في ذلك؟ انظر، أنت في ثياب كغيرك من الناس والفارق هو انك تحمل ساعة من ذهب وخاتما ثمينا. وهنا في اليونان لا يميز الملوك عن المتسولين إلا الملبس . وجوهكم فقط ممتازة .!))
(( كيف ؟ شكرا وأنا أحب ذلك فيك .))
لاحظت أنها أربكته وانه فقد قليلا من الاعتزاز بالنفس . فأرادت أن تصحح الأثر الذي تركته فيه فقالت :
(( لا تسيء فهمي . أنت بهي الطلعة ولكن هذا لا يعني أني سأرتمي عند قدميك .))
(( أنا لست هراكليون لتفعلي ذلك .))
(( لا هراكليون ولا غيره . انه الحب.))
(( كنت أحب زوجتي يا فنيلا والإنسان لا يحب الموتى . هل يتوجب علي كأرمل أن آكل العشب وأنكر ذاتي ؟ كلا ، لن أذوب في الطبيعة .))
(( ابحث عن فتاة طيبة وتزوج منها ، فان أليكو بحاجة إلى أم .))
(( كل الفتيات الجميلات متزوجات من رجال شرسين . لا افهم كيف يجتذب الرجال الشرسون الفتيات الحسناوات . أنا لست منهم وستجدين فيّ محبا حنونا .))
(( حقا؟ هل تملك شهادة بذلك معلقة في غرفتك تشهد فيها النساءعلى مسلكك في الحب؟ .))
(( جربي تري .!))
عندما وصلا إلى حدود بساتين الفواكه المجاورة للآثار التفتت إلى زونار وقالت :
(( زونار . أريد وعدا منك .))
(( أعدك بكل ما تريدين )).
رفع من طريقها غصن شجرة فمرت من تحته ورأته يبتسم ابتسامة غريبة .
(( أعطني وعدا صادقا بأنك ستتخذني صديقة لك وامرأة لأخيك . لا أريد مغازلات او مداعبات .))
(( هل سبب ذلك انك تجدينها مقرفة أم خطرة؟ .))
|