كاتب الموضوع :
النهى
المنتدى :
القصص المكتمله
الربيع الثالث
من حديقتي فاح العبير
اتصل بي بيتر ليطمئن على أحوالي..
أنا كالعادة.. وحيدة وتعسِة..
وهو ما زال كالعادة.. ما زال يعمل مؤقتاً في "شركة العائلة"، وأخوته يريدون التخلص منه بأسرع وقت.
حدّثني مطوّلاً عنهم.. أفرغ شحنته من الكرب فيّ.
حدّثني ثانية عن والديه.. جعل عينيّ تفيض مرة أخرى بالدمع:
-أتعلمين؟!.. أمنيتهم أن نفترق.. أن أبقى هنا، وتبقين هناك..
-يا لـه من حقد أعمى.. ما الذي يجعلهم يكرهونني هكذا؟!.. هل كانت حياتك ستكون أسعد لو أنك تزوجت غيري؟
-إنهم مصابون بعقد نفسية.. وإن حدث وافترقنا، فستكون لنا أسباباً أخرى.
-أعتقد أن علينا أن نفترق يا بيتر.. ها أنت تذكرني ثانية بذلك.
-ماذا تقولين؟!
صدمه قولي، وكأننا لم نتناقش يوماً في هذا الموضوع.
-أعتقد أننا نجلب التعاسة لبعضنا البعض.. انظر لحالنا، ولحال ليلى.
-يا كارمن.. إن ليلى مريضة، ولا دخل لنا بمرضها.. إنه القدر.
-.. ولكن، ربما كان من الخطأ أننا تزوجنا منذ البداية.. ربما ما كان ينبغي لنا أن نفعل ذلك أبداً.
دعنا من هذا الموضوع الآن.. المهم ما تفعله حالياً هناك.. أريدك أن تقف أخيراً على الأرض بقدمين ثابتتين.. أن تجد أخيراً عملاً مجدياً تقوم به.
وأخبرني بيتر عن كل تلك المجالات التي من الممكن أن تفتح أمامه أبوابها: مكتب سياحي مع خاله لتنظيم رحلات إلى سورية.. شركة كومبيوتر.. شركة استيراد وتصدير..
مجالات.. لكنها ما زالت حبراً على ورق.
اتفقت معه أن يحجز لليلى بطاقة سفر يكون موعدها أوائل الشهر القادم.. شهر نيسان.
وأخبرني أن علاجها بالمركز سينتهي في أوائل الخريف، وأن علي أن أبدأ البحث عن طبيب مختص يعنى بها بعد عودتها، ومشرفة اجتماعية متخصصة، لأن ليلى مرهفة الحساسية، وأحتاج إلى مساعدة للتعامل معها!!
****
جلست أفكر بكلام بيتر:
".. إن ليلى مريضة، ولا دخل لنا بمرضها.. إنه "القدر"
أيها القدر.. كم أصبحت أؤمن بك!
كنت أظن أنه بإمكاننا أن نصنع بإرادتنا الكثير، لكنني أدركت فيما بعد أن الإرادة عاجزة أمام القدر، لأن صلاحيتها لا تتعدى تفاصيل الحياة اليومية.
أما الخطوط العريضة.. مفترقات الطرق في حياتنا.. فتصنعها الأقدار.
كان أبي قد ساهم دون أن يدري، في صنع قدري عندما أسماني كارمن إعجاباً منه برائعة جورج بيزيه وتزوجت بيتر لأن القدر أراد ذلك..
في رحلة جامعية مددت يدي مثل الباقين إلى العرّافة لتقرأ كفي..
ضحكت عندما أخبرتني أنني سأسافر وأتزوج أجنبياً وأعيش في الغربة، ولم آخذ كلامها على محمل الجد، ولكنها صدقت ولو أنها كاذبة!
عندما وافقت على الزواج من بيتر، وعدت من بلاده، كانت رسالة من هيثم بانتظاري..
لم أفتح صندوق البريد على غير عادتي، ولم ألتق به.
لو أنني فعلت وقتئذ لما تزوجت بيتر أبداً.
لقد بقي هيثم ينتظر دون جدوى، وبقيت الرسالة تنتظر أن أقرأها، وعندما قرأتها كان الأوان قد فات، وكان هيثم قد ذهب إلى غير رجعة..
كانت تلك الحادثة أشبه بالقصص الخرافية لم أصدقها تماماً عندما رواها لي بيتر، ولكنني صدقتها عندما روتها لي أمه وصادق أبوه على صحة كلامها في "جلسة صفاء" مصطنعة معهم، وأنا لا أزال "عروساً".
كان والده يدخن سجائر تحمل اسم كارمن، وعندما جاء مارية الطلق، وكانت حاملاً ببيتر، كان أبوه يشاهد أوبرا كارمن على الشاشة، ويرجوها أن تنتظر قليلاً ريثما ينتهي العرض!!
(لقد ذهبت إلى كشك بيع السجائر ووجدت حقا سجائر تحمل اسمي، فاشتريت علبة ما زلت احتفظ بها للذكرى.. خاصة وأن تلك العلامة التجارية اختفت فيما بعد من السوق).
عندما عدت إلى الوطن، كانت أول نبتة أزرعها في الحديقة شجيرة ياسمين من أجل ليلى.. كانت تصاب بمرض غريب كلما بدأت نجومها البيضاء تتفتح أوائل الصيف، فأقضي باقي السنة وأنا أداويها دون جدوى.. وقفت مرة أتأملها وأتساءل إن كان قدرها مرتبطاً حقاٌ بقدر ابنتي؟!
احتجت إلى عملية، فدلّوني عليك لأحبك، ومرضت ليلى، فكان لمرضها علاقة باختصاصك!
****
ذهبت أزور روزماري، زوجة هانس نائب السفير.
لقد دعتني لتناول طعام الغداء، وهانس في السفارة لا يأتي عادة إلى البيت من أجل الغداء..
كان أطفالها الثلاثة الوديعين جداً يجذبونني من يدي ويعرضون علي ألعابهم، ويأخذون الحلوى التي جلبتها لهم ليضعوها على المائدة منتظرين تناول طعام الغداء أولا، لأنهم أولاد مطيعين.
أخبرتها عن ليلى، واستشرتها من أجل المشرفة الاجتماعية، فأعطتني رقم هاتف طبيب عائلتها لأستفسر منه. ثم تذكرت فجأة البطاقة فنهضت كي تجلبها لي..
كانت البطاقة بطاقتين.. دعوتين لي لحضور حفل استقبال المستشار الذي تقيمه السفارة في نفس الفندق الضخم الذي تعمل فيه مايا، ودعوة لحفل العشاء الذي يليه.
قالت لي روزماري، وهي تبتسم بود: "يسرنا أن ندعوك كصديقة وكمواطنة وكصحفية".
خرجت من البيت كاملة الأناقة.
كان الجو ماطراً، والريح الباردة تلسع وجهي.
أسرعت أفتح المظلة، وأنا واقفة على حافة الرصيف أنتظر سيارة أجرة لتقلني إلى الفندق.
دخلت مسرعة إلى مكتب مايا، فما زال لدي متسع من الوقت.
ألقيت عليها التحية، وجلست على الكرسي المجاور أمشط شعري الذي عبثت به الريح.
سألتني مازحة:
-كيف هي أخبارك العاطفية؟
-زفت والحمد لله!
-لا تقولي زفت.. بل أسوأ.. أحوالنا كلها".."!
كان المكان مزدحماً بالمدعوين، والوجوه التي لا أعرفها أكثر بكثير من التي أعرفها.
كانت عيناي تختلسان بين فينة وأخرى النظر إلى الباب ترقب كل رأس أشيب يدخل منه!
أفكر فيك؟.. أجل!
أتخيل معجزة صغيرة تحدث في خيالي فقط.
جاء هانس ليوقظني من أحلام اليقظة: "حضرة المستشار يريد التعرف إليك"..
بعد تبادل عبارات المجاملة وقف المستشار بقامته المديدة يلقي كلمته الدبلوماسية المنمقّة.
كان خفيف الظل لا يفوته سرد النكات، والمدعوون يضحكون ويصفقون.
انتهى حفل الاستقبال وانصرف معظم الناس، بينما اتجه الباقون إلى المطعم، حيث العشاء.
كان مكاني محجوزاً على المائدة العاشرة "مدام مايور".
جلست أتبادل ابتسامات المجاملة مع المحامي السوري الشاب الجالس قبالتي، والصحفي الأجنبي إلى يمينه، والمراسل الصحفي الأجنبي إلى يساري، وقد اصطّفت أطباق المقبلات والكؤوس على المائدة الممتدة بيننا.
كرهت مرة أخرى حضوري وحدي، واجتاحتني رغبة بالفرار.
فررت بعينيّ عبر النافذة إلى الفضاء الواسع خارج النافذة.. إلى العتمة التي تلف هذه المدينة القديمة قدم التاريخ.
عانق ناظري الضوء الأخضر المنبعث من مآذن الجامع الأموي ثم ارتد تلقائياً إلى الداخل.
أخبرني حدسي أن ثمة من يراقبني:
كان المحامي الشاب يتأملني، وقد لاح على شفتيه طيف ابتسامة!
كان لطيفاً ومثقفاً يتحدث الانكليزية والفرنسية والألمانية، وسرعان ما انسجمنا نحن الأربعة بحديث شيّق أزال الحديث بعضاً من كآبتي، وأنساني إلى حين همومي، وتأخر الوقت دون أن نشعر به..
عرض علي المحامي أن يوصلني بسيارته، فقبلت عرضه شاكرة، وودعته عند مدخل البناية.
****
كيف بالإمكان أن أنتظر سنة كاملة؟
كيف أحتمل مضي سنة كاملة لا أراك فيها؟!
هراء..
سأراك قريباً، وأستشيرك من أجل ليلى.
لا أريد استشارة طبيب روزماري وهانس.
كان صوتك يتناهى إلى مسمعي، وأنا أصعد الدرج ببطء كي لا يخفق قلبي بشدة.
الباب نصف مفتوح.. دفعته بحذر، والتفتّ يساراً إلى حيث تقف أنت في غرفة الانتظار، وسماعة الهاتف في يدك.
ابتسمت بتردد، وأنا أقترب منك.. أصافحك وأجلس.
كنت لا تزال تتكلم على الهاتف، وأومأت لي بيدك لأدخل المكتب.
في غرفة المكتب كان البرد..
دخلت وأنت ما زلت ترتدي سترتك الجلدية:
-لم يأت حمزة اليوم ويشعل المدفأة.
طلبت مني قداحة وأوقدت ناراً في المدفأة، ثم رفعت من جديد سماعة الهاتف:
-هؤلاء.."الـ..." في المستشفى.. يتحاملون دائماً على الفقراء.. ليتهم يفعلون ذلك مع أحد أبناء المسؤولين أو الأغنياء.
وجاءك الصوت على الطرف الآخر، وتدفق السباب من فمك تنذر وتتوعد وتطلب فوراً من أولئك "الـ.." أن يسمحوا لأهل ذاك الشاب البدوي الفقير بالدخول لزيارة ابنهم.
جلست بقربي تحدثني وتبتسم..
أحدثك وأبتسم..
نتحدث في مواضيع شتى:
-كيف أحوالك يا كارمن؟
-دعك من أحوالي الآن.
-أتريدين شايا؟
-بكل سرور.. إن كان وجودي لا يزعجك.
-لا يزعجني البتة، ولكن إن كنت تريدين شاياً...
-فعلي إعداده بنفسي..
ابتسمت وأنت تهز رأسك إيجاباً.
-لا مانع.. على الأقل أعده كما أحبه، وليس سكراً وماء أصفر ساخناً على طريقة حمزة.. لكن الشاي لا يناسبك. هل أحضر لك فنجاناً من الزهورات.؟
-نعم شكراً.. يمكنك غلي الماء، وسأحضر الزهورات بعد ذلك.
خلعت السترة ووضعتها على الكرسي:
-دخول المطبخ لا يصلح وأنا أرتدي السترة!
دخلت المطبخ..
أبحث عن الإبريق.. الفنجان.. الكأس.. المصفاة.. السكر.. أين السكر؟
لم يبق منه إلا القليل.. وضعته في السكّرية، ولبثت أنتظر الماء حتى يغلي..
تذكرت ذاك اليوم البعيد عندما ذهبت إلى المطبخ لتعد لي القهوة، وتبعتك لأضع ذراعي حول خصرك، وأسند رأسي إلى ظهرك، وأنا أقول لك: أحبك!
استفقت من شرودي على وقع خطوات ظننت للوهلة الأولى أنها خطواتك.. وأنك تتبعني إلى المطبخ لتضع ذراعك حول خصري وتشدني إليك، وتقول لي: أحبك!
لكن الخطوات توقفت، فقد جلس صاحبها ينتظر في غرفة الانتظار.
خرجت من المطبخ وبيدي ظرف الزهورات الذي وجدت علبته على الرف، وقرعت الباب:
-ثمة شخص ينتظر.. هل هذا هو الظرف المطلوب؟
-نعم، شكراً..
ودخل الرجل وعدت إلى المطبخ، ثم إلى المكتب أحمل فنجان الزهورات وكأس الشاي.
مددت الصينية بكأس الشاي أقدمها للرجل.. قريبك:
-تفضل .
-شكراً.
قال وهو يرمقني، وقد ارتسم في عينيه أكثر من تساؤل.. لاحظت أنت ذلك، فبادرته قائلاً:
-إنها ليست سكرتيرة.. إنها أميرة تفضلت بإعداد شيئاً نشربه
-شكراً.. شكراً جزيلاً لك.. نحن فلاحون وبسيطون!
نظرت إليه أعجب من ارتباكه:
-أهلاً بك.. ولو!!
-أين شايك؟!
سألتني مستغرباً، فأجبتك أني سأجلبه من المطبخ.. لم يكن ثمة شاي أجلبه، فقد أعددت فقط فنجاناً واحداً، وكأساً واحدة!
جلست صامتة أقلّب المجلات الموضوعة أمامي، وقريبك يتحدث ويتحدث، وأنت تومئ برأسك وتجيب باقتضاب.. تنظر في كرّاسات طلابك التي أمامك.. تقلّب صفحاتها لتقرأها وتكتب ملاحظاتك عليها.
وعدت تسألني:
-أين شايك؟!
ابتسمت وأنا أضغط بأسناني على شفتي وأجيبك:
-.. لقد شربته في المطبخ!
فهمت إشارتي وضحكت، وأنت تقول:
-حقاً.. كل شيء في الدنيا قسمة ونصيب.
كان قريبك ينقل ناظريه بيننا بفضول أكثر، ثم يسأل:
-لم تعرّفنا بالأميرة!
-السيدة كارمن مارديني.. صحفية، ومثقفة.. السيد ".." مخرج سينمائي، ومثقف!
لم يعلق اسمه بذاكرتي، خاصة وأني لم أسمع به من قبل.
كنت عنه ساهمة أتساءل عن اللحظة التي سينصرف فيها!
حانت أخيراً تلك اللحظة، وخرجت معه تودعه عند الباب، وما إن خرج حتى زعق الهاتف، وبقيت أنت في غرفة الانتظار لترد عليه..
بحثت بناظري عن اللعبة.. هديتي لك في عيد الحب، فوجدتها مستلقية على طاولة المكتب..
****
أجلست الأرنبة، وأنا أتساءل عن المجلة..
ها هي على المنضدة الصغيرة، وقصاصة الجريدة في داخلها..
-هل قرأت المجلة؟
بادرتك بالسؤال، وأنت تدخل.
-ليس بعد!!
-إنها مجرد صفحة لن تأخذ من وقتك كثيراً.. كتبتها عنك!
-....
(كان صمتك هو الدليل أنك قرأتها!)
عدت تجلس بجانبي.. قلت لك:
شكراً على الشاي الذي لم أشربه!
-لقد أزعجني ذلك حقاً.. إن هذا الرجل ثقيل الدم!
ما زلت ترتدي السترة..
دسست يديك في جيبك..
وددت لو أسحب يديك لأدفئها بيدي الباردتين، أو أدفئ يديّ بهما!.. لكنني لم أجرؤ.
-أما زلت تشعر بالبرد؟
-نعم.. وبالتعب أيضاً.. لقد عدت اليوم من اللاذقية، وليس البارحة.
وقفت أريد الانصراف:
-سأزور أم ياسر لأطمئن على ساقها المكسورة.
-دعك من تلك الزيارات!
-ليست لدي حقاً الرغبة بذلك، ولكن ريما أحرجتني عندما اتصلت تستفسر عن انقطاع أخباري، وتخبرني عن أمها.
-إلى اللقاء إذن.. Bon nuit
-إلى اللقاء.. سآتيك بليلى كما اتفقنا لتراها ونرى ما يمكن أن نفعله من أجلها.
-طبعاً.. طبعاً..
جلست في السيارة أفكر في اقتراحك..
تريد أن تشرف على ليلى ابنة أخيك الطبيبة ديمة.
لو لم تكن تريدني أن أكون قريبة لكنت أشرت إلى أي طبيب أو طبيبة أخرى تعرفها ولا تمت لك بصلة القربى. ارتحت لهذا التفسير.. لهذا "الوهم"!
كغريق يتعلق بقشة، ويتمنى أن تتحول إلى خشبة!
وتبقى القشة أفضل من لا شيء.. جذوة أمل صغيرة!!
استقبلتني ريما كالعادة بابتسامة وقبلة واحتجاج على تأخري..
سلّمت على أمها وأبيها، والضيف الذي كان هناك..
لقد كان والد ديمة.. يا للصدفة!
تفاءلت خيرا بوجوده.
استأذن الرجلان، وانصرفا
تأملتني ريما، وقالت تخاطب أمها:
-انظري يا أمي.. كم يبدو وجه كارمن أبيضا مشرقا!
-إنه الشتاء.. يعيد بشرتي بيضاء اللون
-لكن وجهك مشرق جداً!
لم أحر جواباً، وابتسمت وأنا أقول في سري:
إنه الحب يا كارمن يا مجنونة! وليس الشتاء يا ريما يا مغفلة!!
****
شكراً على ابتسامتك..
شكراً على الحوار اللطيف..
شكراً على فرح أهديته لي البارحة..
عادت عفوية أيام تعارفنا الأولى، وارتويت دون أن أشرب شايا!
ليت حمزة يغيب كل يوم، وليتك تفتقدني، فآتيك كل مساء لأعد لك فنجاناً من الزهورات، وأتحدث معك في الفن، في السياسة، في الأدب.. في أي موضوع تشاء.
ربما أتواطأ في المرة القادمة مع عمال الهاتف ليقطعوا لك الخط في يوم معيّن أزورك فيه، وأكتب خلسة على باب العيادة كلمة "مسافر" لأمنع عنك زيارة ثقيل يشرب الشاي بدلاً مني!
****
تأخر الوقت وأنا منهمكة بإنهاء اللوحة.. أضع خطا هنا، وأضيف لوناً هناك.
التلفاز يثرثر..
مجرد صوت يؤنس وحدتي..
أخبار الساعة الواحدة والنصف صباحاً تذكرني أن اليوم الذي بدأت ساعاته الأولى هو يوم عطلة!
كيف فاتني ذلك، وأنا على وشك الذهاب إلى الفراش أفكر بالاستيقاظ باكراً من أجل الدوام؟!
يوم عطلة آخر مقيت أقضيه وحدي في البيت.. لماذا لم أتذكره قبل أن يتأخر الوقت؟ كان بإمكاني الاتصال بروزماري ودعوتها للغداء..
أطبخ لها ورق الملفوف على الطريقة السورية كما وعدتها.. أكلة "يخنة"!
اتصلت بها في العاشرة أدعوها للغداء، فاعتذرت لارتباطها بموعد غداء آخر، واعتذرت أنه فاتني أن اليوم عطلة، ولم أتصل بها قبل الآن.
قالت لي:
-لقد فكرت أنا أيضاً بك البارحة، وأردت اليوم أن اتصل بك لأرى إن كان بإمكاني زيارتك بعد الظهر.
اتفقنا أن نلتقي عند مدخل المشفى الإيطالي القريب من البيت، فروزماري تزورني فيه لأول مرة.
ثم خرجت بسرعة إلى السوق لأشتري بيضاً وطحيناً، وأصنع أول قالب كاتو في فرن البيت الجديد!
عندما عدت رن جرس الهاتف.. إنه بيتر:
-ألو كارمن؟.. لماذا أنت بالبيت؟
-لأن اليوم عطلة.. وأنت؟.. كيف خطر ببالك أني بالبيت؟!
-لا أدري.. طلبت الرقم.. هكذا.. كيف حالك اليوم؟
-كالعادة.. ولذا دعوت روزماري لزيارتي.
-أرجوك يا كارمن لا تكوني تعيسة.. تعالي إلى هنا..
-ماذا تقول؟.. كيف؟!.. ألا تعرف أن ذلك أصبح صعباً جداً؟.. لم يعد لنا بيت في بلادك، وأنت عند أهلك، وبالكاد تستطيع ترتيب أوضاعك، فتصور لو أنني أتيت أيضاً!
-لكن وضعنا هكذا ليس حلا.
-طبعاً ليس حلا.
-الطلاق هو الحل الوحيد إذن.. لا أريدك أن تكوني تعيسة بسببي!
-ولكن!..
-أنا سأبقى هنا، وسأعتني بليلى، فلا جدوى من إرسالها إلى سورية!!
-ماذا عن البيت الذي اشتريناه في دمشق؟!.. ماذا عن عملك فيها؟!
-بإمكانك أن تزورينا، وبإمكانك بيع البيت، وأنا لم يعد يهمني أن أعمل في سورية!
-ما الذي حدث إذن وجعلك تغيّر رأيك هكذا؟.. لقد صدمتك فكرة الطلاق في مكالمتنا السابقة، وأنت تطرحها الآن!
اسمعني جيداً يا بيتر.. أنا لا ألومك، ولكنك أنت من قرر الاستقرار في سورية، وأنت من أكّد لي أن الأمور ستكون على ما يرام بالنسبة لأهلك وعملك وأنه ليس من مبرر لقلقي بهذا الشأن.
ألم نقرر أيضاً معاً شراء البيت في دمشق من أجلك، ومن أجل ليلى؟!
هل تدرك الآن أن حدسي كان دائماً في محله وأن قلقي ومخاوفي لها دائماً ما يبررها؟!!
-سأذهب إلى الطبيبة النفسية قبل أن أرتكب جريمة بحقه!
-هم والديك إذن!
أجهشت بالبكاء.. وصل نحيبي إلى بيتر:
-أرجوك.. لا تبك!
-..
-سأرسل لك قريباً نقوداً.. دفعة أخرى من أجل البيت..
شعرت بالغثيان:
-لا أريد نقوداً.. سأبيع البيت وأرسل لك ثمنه.
-لا أريد ثمنه.. ليس عليك أن تبيعيه من أجلي.
ذهبت إلى المطبخ..
أفش خلقي بالبيض أخفقه بشدة، وأنا أبكي:
لماذا لا يكبر بيتر يا ربي ويصبح رجلاً، ويريحني؟!
لماذا لا تسمعني يا ربي وتريحني؟!
أنا لا أطلب منك معجزات.. أصلي لك وأصوم ولا أؤذي أحداً.
فما الفائدة؟!
لن أصلي لك بعد اليوم، ولن أصوم..
أنا لم أعد أؤمن بك أيها الرب!!
حاولت بصعوبة إخفاء متاعبي عن روزماري.. انفعالاتي تفضحني كالعادة.
عندما سألتني، أخبرتها عن بعضها فقط.. عما تعرفه من قبل..
عن أهله العنصريين!
ورن الهاتف من جديد..
قالت روزماري:
-ربما كان بيتر يتصل من جديد
كان بيتر:
-ألو؟.. ليس معي وقت.. أنا أتكلم من كشك بالشارع.. أريدك أن تعرفي أني سأرسل غداً مبلغاً كبيراً!!
-من أين حصلت عليه؟.. من أهلك؟!
-بيب.. بيب!
انقطع الخط دون أن أستطيع تبليغ تحيات روزماري له، ودون أن أسمع حتى جوابه على سؤالي!
-خيراً!
تساءلت روزماري..
-.. سيرسل نقوداً، ولم أستطع أن أعرف مصدرها، فقد انقطع الخط..
-ربما سطا على أحد البنوك!
ضحكت مع روزماري للنكتة، ثم خرجنا معاً إلى بوابة الصالحية.
عدت إلى البيت..
أفكر بما قلناه أنا وبيتر، صباح اليوم..
عندما طرحت في لحظة يأس على بيتر فكرة الطلاق صدمته.
وعندما طرح عليّ نفس الفكرة في لحظة مماثلة صدمني..
كيف يمكن إلغاء عشرين سنة من حياة مشتركة بكلمة واحدة؟!
الطلاق يكون حلاً.. يكون فرحاً، عندما يحيل أحد الشريكين، أو كليهما، حياة الآخر جحيماً.
أما بالنسبة لنا، فالأمر مختلف.. إنه مؤلم ومحزن..
يسهل علينا اتخاذ القرار لأنه عبر الهاتف.. دون أن ينظر أحدنا في عيني الآخر، فلا تحرجه نظراته، ولا يرى عبراته!
اتصلت بأمي.. أخبرها عن بيتر، وأنا أحاول أن أبدو رابطة الجأش، لكن شجاعتي خانتني، وسمعتني أمي أبكي:
-.. لقد كفرت بربي يا أمي.. قلت له أني لن أصلي وأصوم بعد اليوم!
-إياك يا ابنتي أن تكفري بربك.. أنسيت كم مرة أنجاك فيها في اللحظة الأخيرة، وأرسل لك الحل المناسب، لأنك طيبة القلب يا ابنتي، ولست أنانية، ولا تؤذي أحداً.
-…
-كفي عن البكاء.. لقد كنت على وشك الدخول إلى الحمام، ولكن..
-دعك من الحمام، وتعالي.
ما إن وضعت السماعة في مكانها، حتى رن الهاتف.. كان بيتر من جديد:
-.. لقد حصلت على نقود من والديّ!
-يا للمفاجأة.. كيف حصل ذلك؟!
-لقد غضبا مني لأني أخذت قرضاً من البنك، وأعطوني المبلغ!
-ما أغرب أطوارهما.. جمّدا الحسابات، وهما يعرفان أننا مرتبطين بعقد بيع.. أجبراك على أخذ قرض لأول مرة في حياتك، ثم غضبا منك.. يا لها من علاقة رهيبة.. هذه العلاقة التي تربطك بوالديك!!
-دعك منهما الآن.. واهدئي نفساً، وافرحي بقدوم ليلى.
-معك حق.. وأنت أيضاً أهدأ نفساً، وعش حياتك كما تحلو لك دون أن يساورك تجاهي أي شعور بالذنب. ضحك بيتر، وسألني:
-ماذا تعنين؟!
-أريدك أن تحب يا بيتر. ليتك تحب!
عندئذ فقط سيسهل عليك أن تتحرر مني!
وضحكنا معاً..
أجل..
لن يفرّق بيننا إلا الحب!
هكذا اتفقنا في يوم الاعتراف..
سنفترق فقط عندما يقع أحدنا في حب يكون متبادلاً، وليس من طرف واحد.
عندئذ يمكن لأحدنا أن يتمنى للآخر السعادة في حياته الجديدة..
فليس لدينا حقا من سبب آخر وجيه يدعونا للطلاق!
حضرت أمي..
كانت تتوقع أن ترى على وجهي تعبيراً مأسوياً..
لحظت في وجهها استغرابها فبادرتها:
-لقد اتصل بيتر من جديد..
-أرأيت؟.. إنه لن يستغني عنك، والله أيضاً!
-الحمد لله.
-لا تبك ثانية على الهاتف وتثيري هلعي.. أفهمت؟!
قالت لي أمي ضاحكة.
عاود الهاتف رنينه..
إنه بيتر للمرة الرابعة اليوم:
-لن تصدقي يا كارمن.. ما الذي جرى بعد أن كلمتك على الهاتف..
-ما الذي جرى؟!
-جاءتني ثلاث مكالمات هاتفية هامة في آن واحد.. ثلاثة ردود إيجابية بشأن العمل، من خالي، ومن شركة الكومبيوتر، ومن شركة الاستيراد والتصدير..
أخبرني بيتر بالتفصيل، وأخبرت أمي بالمختصر المفيد..
-ألم أقل لك يا ابنتي أن الله لن يستغني عنك؟
قالت لي أمي، وعادت إلى بيتها.
*****
|