كاتب الموضوع :
النهى
المنتدى :
القصص المكتمله
اليوم يوم عطلة..
تركت ليلى في رعاية أم فادي؛ فهي لم تبد على أي حال حماساً للسفر معي، وهرعت إلى سيارة الأجرة.. ما إن ترجلت منها في المكان المتفق عليه حتى سمعت السائق يناديني؛ فقد نسيت من لهفتي بلقائك الحقيبة في السيارة!.
وقفت أنتظرك، وأنا أتخوف من أن تنسى الموعد وتنساني..
كان الجو ما زال مشبعاً بالرطوبة، والنسمة باردة..
الأرض مبتلة، والسماء ما زالت ملبّدة بالغيوم تبشّر بالمزيد من الأمطار.
لم يطل انتظاري؛ فقد لمحت سيارتك قادمة من بعيد..
كان يجلس بجوارك رجل سرعان ما ترجل من السيارة وجلس في المقعد الخلفي ليترك لي مكانه..
ابتسمت لي محيياً، وفتحت باب السيارة الخلفي لتضع حقيبتي فيها..
عند أحد المنعطفات ترجّل الرجل وودعك شاكراً.
(الحمد لله.. كنت أخشى أن يرافقنا طوال الطريق!).
وانطلقت السيارة بنا..
أنا وأنت.. لوحدنا.
شعرت بيدك تداعب وجنتي وأنت تسألني:
-كيف حالك؟
-بخير..
(وصمتّ.. لم أعد أرغب أن أطلب منك نسيان شيء لا أرغب أنا بنسيانه!).
-لا أعرف إلى أين أهرب بك يا كارمن.. كل العيون ترصدنا؛ فأين يهرب المرء بحبيبته في هذا البلد اللعين؟!
بقيت صامتة أبتسم لك.. فرحة بملامساتك الرقيقة.
ثم قلت لك:
-أتعرف؟.. لقد أوحيت لي بخاطرة كتبتها وجلبتها لك لتقرأها.
-اقرئيها لي.
-سأنفعل وأنا أقرأها.. اقرأها أنت.
-لا.. اقرئيها لي، فأنا أحتاج لنظارات من أجل ذلك.
-ها هي النظارات.. ضعها على عينيك واقرأ.
-يا لك من عنيدة.. هيا اقرئيها لي!
-نعم أنا عنيدة؛ ولكن لا بأس.. سأقرأها لك إن كنت مصراً على ذلك.
وقرأتها وأنا في غاية الانفعال.. صوتي مضطرب، والعرق يتصبب مني.. من جديد!
كنت تسمع وتبتسم وتلامسني بلطف.
غريب ولذيذ هذا الشعور بالأمان الذي يمنحني إياه الجلوس بقربك.. شعور لم أختبره من قبل، ولا أريد أن أفتقده.
كانت الشمس تغمر الأشجار على جانبي الطريق بأشعة الذهب، وقلبي تغمره مشاعر شتى.
كان يخفق بشدة، وكأنه يريد أن يخرج من صدري!.
مراهقة عدت أنا من جديد..
مراهقة كانت تجلس تحت شجيرة الياسمين لترسم وتكتب شعراً وتحلم..
كان يوم الغسيل هو أسعد أيامي!.
كنت أهرع إلى أمي أعرض عليها مساعدتي، وكانت أمي تتجاهل الأمر، وكأنها لا تعرف.
تتركني أصعد إلى السطح لأنشر الغسيل وأرى جاري الممشوق القامة يبتسم لي ويرشقني بزهرة فل ثّبتها بملقط الغسيل كي تصل السطح بسلام وترتمي عند قدمي؛ فالتقطها فرحة واحتفظ بها بين صفحات كتابي.
كان قلبي يخفق بشدة كلما رأيته، وكأنه سيخرج من صدري، وكنت يومها في السابعة عشر..
فما بالي اليوم تنتابني نفس المشاعر وقد بلغت الأربعين؟!!.
غربت الشمس وراء الأفق، واصطبغت السماء بلون أرجواني، ولاحت من بعيد سلسلة الجبال، وقد كستها طبقة رقيقة من الثلج، تلمع بلون فضي يعكسه بعض من ضوء النهار المتبقي قبل أن يحل الظلام.
كان الجو بارداً في الخارج، وقد دخلنا مدينة النبك.
قلت لي أننا سنتوقف هنا لنزور سريعاً أحد معارفك.
استقبلنا الرجل وابنته الجامعية بالترحاب، ودخلنا غرفة الضيوف وأنا أرتجف من البرد –وربما من الانفعال- في سترتي الصوفية الرقيقة، فخلعت سترتك ووضعتها على كتفي..
شعرت بالدفء وغمرتني السكينة، وأنا أجلس بقربك..
سترتك تلفني فأشتم منها بعضاً من رائحتك، وأتلذذ بالاستماع إليك وأنت تحاور صديقك.
كان الظلام قد أرخى سدوله، ونحن نتابع طريقنا.. قلت لي:
-خسارة.. لقد أوشكنا على الوصول وأنا لم أقبّلك بعد!
-لا بأس.. نؤجلها للمرة القادمة.. لقد تأخر الوقت ومنزل أمي ما زال بعيداً.
-وهل أنا حافلة نقل عام؟!
(فاجأتني عبارتك.. بل صدمتني.. ماذا كنت تقصد بقولك هذا؟!).
نظرت إليك باستغراب:
-طبعاً لا.. أنا آسفة.
والتزمت أنا بالصمت، وأنت تقود سيارتك حتى العيادة.
ترجلنا من السيارة وأنت تسرع في مشيتك.. تسبقني في السير..
تصعد الدرج وتفتح الباب، وأنا أتبعك صامتة وحقيبتي في يدي، وأنا أشعر أني لست أنا..
أحاور نفسي وأضع اللوم عليها.. كل اللوم:
"ماذا كنت تظنين إذن يا مجنونة؟!.. أنت وافقت على اللعبة، وعليك إتمامها".
أغلقت الباب دوننا، ثم احتضنتني بسرعة.
كنت مستعجلاً..
احتويتني بذراعيك القويتين، وغمرتني بقبلات محمومة.
عندما استعدت وعيي كنت تحضر لي فنجاناً من القهوة.. تساءلت:
-لمَ القهوة؟.. أنا لست من محبيها.
-كي تصحي!
-أنا صاحية من دون قهوة.. و..
قطع رنين الهاتف كلامي؛ فأردفت ساخرة:
-ألا تريد أن ترد على الهاتف؟.. هناك من يطلبك، وأنت مستعجل على أي حال.
كنت مدعواً للعشاء في إحدى السفارات، وتركتني أرتشف القهوة المرة وحدي، ودخلت إلى تلك الغرفة الداخلية ترتدي على عجل ثياباً أخرى تليق بالحفل!.
فتحت لي الباب بعد أن تأكدت من خلو الدرج من الجيران، وودعتني عنده:
Call me tomorrow!
-ربما.
وأسرعت أهبط الدرج.
طلبت سيارة أجرة لتقلني إلى حيث تقطن أمي، وتركت لدموعي أن تنساب في عتمة الطريق على خدّي دون حرج.
****
كان أخوتي مجتمعين هناك يتبادلون الأحاديث.. سألوني عن أحوالي؛ فأجبتهم باقتضاب، ولذت بالصمت، سألتني أمي:
-ما بك يا ابنتي؟
-متعبة.. متعبة يا أمي، لقد سافر بيتر، وليلى تتعبني، خاصة عندما يسافر والدها، ومعالجة الطبيب النفساني لم تعط نتيجة حتى الآن.
(كان هناك سبب آخر.. سبب مباشر لا أجرؤ على البوح به).
-إنها فترة ما قبل المراهقة، وعليك أن تتحلي بالصبر.
-أعرف يا أماه.. أعرف؛ ولكن طاقتي تنفذ أحياناً.
عاد أخوتي إلى بيوتهم..
فتحت أمي خزانتها لتريني ما أشترته من جديد الثياب، ثم سألتني بحذر:
-كارمن.. لماذا لا تتجمّلين من أجل بيتر؟.. أنت لا تهتمي بأدوات التجميل والعطور!
-إن بيتر لا يحبها.. إنه يسخر مني إن وضعت أحمراً للشفاه قد يراه فاقعاً.
-تجمّلي إذن من أجلك.. كما أفعل أنا.
-…
-.. كما أن ثيابك دائماً "سبور".
-أنا أحبها هكذا.
-ولكن يا ابنتي على المرأة أن تتجمّل من أجل رجلها.. إنه يحب أن يراها في ثياب جميلة.. في ثياب مثيرة!.
-عن أي رجل تتحدثين يا أمي؟!
بوغتت أمي المسكينة بردة فعلي المفاجئة، وبوغتّ أنا..
لقد أخرجتني ملاحظتها عن طوري، وقد عدت من عندك متعبة النفس..
قلت لها بصوت متهدج:
-إن بيتر لم يأبه أبداً لملابسي.. أتظنيني بلهاء ولم أحاول أبداً أن أثيره بملابس مثيرة؟!
كنت أرتدي الثياب وأقف أمامه أسأله رأيه.. وأنت تعلمين يا أمي أن قوامي كان وما زال جميلاً متناسقاً..
-نعم.. وماذا كان يفعل؟!
-كان يكتفي بأن يقول لي: جميل جداً، ثم يعود لينشغل بما كان به مشغولاً!
لقد حاولت كثيراً حتى مللت ورضيت بالأمر الواقع.. أنا لا أثيره أبداً.. آه يا أمي دعينا من هذا الحديث.
لكن أمي لم تدعني وشأني حتى عرفت كل شيء، وبدأت تعاتبني أني لم أخبرها بذلك منذ البداية…
منذ تسعة عشر عاماً، وقد كانت من قبل أمينة سري.
(هل كانت معرفتها بالأمر ستغيّر منه شيئاً؟!..
ربما كانت شجّعتني، وقد كان مفتاح التغيير في يدي وحدي؛ ولكني شغلت نفسي في مجالات كثيرة وجدتها أمامي: الدراسة والعمل والسفر، وكل تلك النشاطات والهوايات.. ربما لأني خفت..
خفت مما سيقوله الناس عني، أنا المعتدّة بنفسي، إن عدت لأهلي صبية مطلّقة).
أمضيت الليلة عند أمي أحاول أن أستسلم بصعوبة للنوم.
استيقظت متعبة، والهاتف بجانب السرير يذكّرني بك: Call me tomorrow
لا.. لن أفعل.
***
عدت إلى المنزل..
حاولت أن أشغل نفسي عن التفكير بك.. فلم أستطع.
حاولت أن أنسى كلامك.. فلم أستطع.
ماذا تظنني بحق السماء؟!.. لقد أزعجتني كلماتك واستعجالك.
لماذا لم تدرك أنني لو لم أحبك لما…
"أرأيت حب المرأة؟!.. إنها تحب بقلبها، والرجل يحب بشهوته؛ فحبها باق وحبه متحول"*
أردت أن أراك في العيادة..
كانت غرفة الانتظار تفيض بالناس ينتظرون حضورك، وقد وقف بعضهم خارجاً لضيق المكان.
طال انتظاري وأحسست بالاختناق؛ فخرجت إلى الشارع.
كانت ليلى برفقتي، تحدثني فلا أسمعها..
أنظر إلى واجهات المحلات فلا أراها.
وفجأة تناهى إلى سمعي صوت ينادي: ليلى.. ليلى.
التفتّ لأراها مقبلة نحونا تبتسم..
قريبتك سناء!
تحدّثنا، وأعطتني رقم الهاتف، وقالت إنها ستسعد بزيارتي لها في القرية.
(يا لها من فرصة سانحة..
سأزورها في القرية لأراك؛ فزيارتها ليست سوى حجة كي أزورك دون أن ينتبه أهلك أني جئت فقط لأراك.. ألم تكن تلحّ علي دائماً أن أزورك، وأرى عريشة الياسمين في حديقتك؟).
***
جاء العيد، وجاءت معه "الفرصة الذهبية".
كان بيتر مسافراً، وذهبت مع ليلى إلى القرية.
سألتني سناء:
-هل زرت الدكتور؟
-لا.. ليس بعد.
-بإمكاننا الاتصال به وزيارته.
-لا بأس.
كانت الساعة تشير إلى السادسة إلا ربعاً عندما اتصلت بك سناء:
-آلو.. مدام كارمن في زيارتنا وتود أن تزورك.
اقترحت علي سناء أن نزور سريعاً ابنة أختك لتعرّفها علي؛ فلم أمانع أن أتعرّف على ريما "الطويلة العريضة.. مرافقتك في رحلاتك ما بين دمشق واللاذقية.
كان لا بد من رفقة ريما وسناء حتى لا يبدأ الغمز واللمز لو جئت أزورك وحدي.. وكم كنت أتمنى ذلك!
حانت الساعة السادسة مساء..
كانت ليلى تلهو مع الأولاد في الحديقة فرفضت مرافقتنا عندما ناديتها، وكنت أحاول إخفاء اضطرابي ونحن نمشي بضعة أمتار تفصل ما بين بيت أختك وبيتك ونلج حديقتك الواسعة المهملة.
استقبلتنا في غرفة صغيرة لها شرفة تطل على البحر، ولحظت في عينيك أنك لم تستيقظ من النوم إلا منذ قليل…
ربما أيقظك من أحلامك هاتف سناء.
كنت ترتدي بيجامة رياضة وخفين، وتحمل بيدك فنجاناً كبيراً ترتشف منه ماءاً ساخناً!
تساءلت ضاحكة متعجبة؛ فقلت:
-لقد مللت من شراب الزهورات، والشاي والقهوة محظورة بسبب ضغط الدم، ولذا أشرب ماءاً ساخناً للتغيير!!
ابتسمت.. غمرني نحوك شعور من العطف والحنان.
جلت بنظري في أنحاء الغرفة الصغيرة أتأمل كتبك المصفوفة، وبعض القطع التذكارية، وصورة لبافاروتي.
-تفضّلي.
-مددت يدك بعلبة الحلوى.. لم أكن راغبة فيها؛ لكنك أصررت أن أتذوق حلوى العيد.
(لم أكن أرغب في الحلوى، ولا في القهوة.. كنت أرغب فقط أن تمر الدقائق ببطء شديد).
-كيف حال زوجك يا كارمن؟
-إنه مسافر.
-أيسافر، ويتركك في العيد وحدك؟
-…
(لم أكن وقتها وحيدة تماماً.. كانت ليلى ما تزال هنا).
كانت سناء تمسك بناصية الحديث معظم الوقت.. تثرثر وأنت تجيبها باقتضاب، وأنا صامتة، وكذلك ريما.
قلت لها فجأة:
-أريد ترميم المنزل قليلاً.. ربما بواجهة خشبية جميلة كما فعلت كارمن بمنزلها.. هل رأيته؟
-..ولكن ما جدوى ترميم منزلك؟.. إنه سيبقى بارداً لا حياة فيه طالما لا توجد فيه أنفاس امرأة تدفئه!
-…
بقيت صامتاً؛ فقد فاجأك كلامها.
أما أنا فقد شعرت بالحرج.. وشعرت بالحزن من أجلك.
لقد كان جوابها مباشراً وقاسياً جداً..
إنها على حق؛ ولكن صراحتها لم تكن أبداً في محلها، خاصة وأني أطأ عتبة منزلك للمرة الأولى.
(لم تخبرني عن تلك التي كانت زوجتك؛ ولكنني عرفت عنها وعنك وعن طلاقكما دون أن أتساءل، ودون أن أسأل..
كانت الصدفة فقط تجمعني بأناس يتحدثون عنك تلقائياً أمامي عندما يعرفون أني أسكن بالقرب منك..
اكتشفت أن معظم الناس الذين أعرفهم يعرفونك مباشرة..
ممرضة العمليات التي تعمل معك بنفس المشفى، والدكتور الذي يدرّس في الجامعة..
حتى معلمتي أيام البكالوريا حدثتني عنك عندما ذهبت أزورها بعد عشرين سنة.. تصوّر!)
قطعت دقائق الصمت بقولك:
-تعالوا نخرج إلى الشرفة.
كان الجو دافئاً وعابقاً بأريج أزهار الليمون، وشجرة غار نضرة باسقة تمتد فروعها إلى ما فوق الشرفة.. كانت آلة التصوير في حوزتي، ورأيت ليلى تعدو نحو بيتك فناديتها..
جلست سناء على حافة الشرفة إلى يسار ريما، وأمعنت النظر عبر العدسة إلى وجهك الحبيب، وأنت تقف ما بين ريما إلى يسارك وليلى إلى يمينك.. كنت تحيط ليلى بذراعك وتبتسم لي وتقول:
-كارمن فنانة.
انتهى وقت الزيارة بسرعة؛ فقد حسم الأمر وصول رجلين يريدان زيارة الدكتور..
قلت لك وأنا أهم بالخروج وأمد يدي بمغلّف أخرجته من حقيبتي:
-أرجو أن تقرأ هذا "التقرير الطبي" وتعطيني رأيك به!
لم يكن ذاك التقرير المزعوم –أمام سناء وريما- سوى رسالة..
رسالة كانت أولى رسائلي إليك.
فرحت كثيراً بزيارتك، ورغم ذلك كنت مصرّة على تسليمك تلك الرسالة..
ثمة أمور ينبغي إيضاحها.
****
|