لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-05-09, 06:46 PM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Feb 2008
العضوية: 65992
المشاركات: 389
الجنس أنثى
معدل التقييم: النهى عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 18

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
النهى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النهى المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 



بعد أيام اتصل بي بيتر ليطمأنني عن صحة ليلى… أخبرني أنها في تحسن مستمر، وأنها أصبحت تأكل لوحدها بعد أن كانت عاجزة عن ذلك من قبل.
قال لي:
ـ أتعلمين؟!!.. لقد حجزت لها مكاناً في ذلك المركز الطبي الخاص الذي شاهدته على التلفاز عندما كنت هنا..
ـ حقاً؟!
ـ أجل.. لقد اقترح علي الدكتور شميد ذلك؛ فأخبرته أني أعرف المركز، وأعرف اسم الطبيب المسؤول عنه، وأنك أنت من زوّدني باسم المركز وعنوانه.
ـ من حسن الحظ أني شاهدته على الشاشة وأخذت عنه فكرة تجعلني متفائلة من أجل ليلى.
ـ بإمكانك استئجار غرفة في بيت المشرفات بالقرب منه.. لقد حجزتها لك..
ـ هذا رائع.
كان بيتر في إحدى الأمسيات خارج البيت مع أخيه، وكان والداه مسافرين.
جلست وحدي؛ وقد نامت ليلى، أمام الشاشة أشاهد ما تعرضه قناة التلفاز المحلي الأولى.. كان برنامجاً وثائقياً عن مركز طبي كبير متخصص بأمراض الأطفال المعاقين…
كنا مانزال ننتظر نتائج التحاليل والفحوصات، ولكني أسرعت أحضر ورقة وقلماً لأدون اسم المركز وعنوانه، وعندما عاد بيتر إلى البيت ناولته الورقة وطلبت منه الاحتفاظ بها).
أخبرني بيتر أيضاً أن الطبيبة النفسانية المتواجدة في المركز لاحظت عصبيته المفرطة وقلقه الدائم؛ فطلبت منه أن يوافيها إلى العيادة للتحدث إليه.. جلست تحادثه لتكتشف أزمته وأسبابها.. أخبرها بيتر عن معاناته مع والديه.. هذه المعاناة التي بدأت منذ سن المراهقة، عندما كانت أفكاره وهوايته، واهتماماته بالسفر والجغرافيا والتاريخ والشرق تتعارض مع تربيتهما الصارمة وعقليهما المنغلقين وقلبيهما المتحجرين، واستفحلت أزمته بعد زواجنا؛ فقد كان عقوقاً أن يتزوج من غريبة عنهما في الدين والعرق والمنبت.. عقوقاً لم يستطيعا أبداً أن يغفراه له!
أخبر بيتر الطبيبة عن كل شيء.. أخبرها أيضاً عن علاقتنا معاً… علاقتنا الزوجية التي تأثرت أيضاً وتأذت من علاقته تلك مع والديه.
قالت له الطبيبة أن والديه هما نموذجاً مثالياً للوالدين المتسلطين الذين يحاولون فرض سلطتهم الأبوية على أولادهم، ويحاولون بذلك استبزازهم كلما سنحت الفرصة.. إنهم لا يدركون أبداً أن أولادهم قد كبروا وبلغوا سن الرشد منذ زمن بعيد.
وأردفت الطبيبة تقول لبيتر بصراحة أنه هو أيضاً نموذجاً مثالياً للابن الواقع تحت تأثير هذه السلطة الأبوية التي تشل حركته وتنغص عليه حياته، وتقتل فيه روح الإبداع والاستقلالية.
لم يكن ما أخبرني به بيتر بجديد علي.. كنت أعرف هذا التحليل النفسي منذ زمن.. منذ سني زواجنا الأولى. علاقته مع والديه أثرت على زواجنا وانعكست سلباً على علاقتنا العاطفية.
كنت أنا له البديل عن الأم منذ جمعنا سقف واحد..
كان يأتي إلي عندما يكون متعباً فيضع رأسه على ركبتي، ويرجوني أن أمسد له رأسه فأشعر نحوه بالحنان، ولا أرى فيه عندئذٍ إلا طفلاً صغيراً يبغي بعضاً من الراحة والطمأنينة في حضن أمه!!
أجل أمه.. أصبحت تلقائياً أمه ودون أن أدري!
أما هذا الشيء الذي يوجد عادة بين المرأة والرجل ويجمعهما معاً في لحظات حميمة؛ فلم يوجد بيننا أبداً!..
لم أدرك ذلك في الأيام الأولى..
اعتقدت أنه يتصرف معي بنبل لأنني مازلت عذراء ويخشى أن يؤلمني!!
ازداد تقديري لـه، وهنأت نفسي أني تزوجت "أجنبياً".. يراعي مشاعر فتاة عذراء، ولا يريد فض بكارتها ليثبت عذريتها ورجولته في أسرع وقت.. كأغلب الشرقيين!!
كم كنت واهمة!!
كنت بعد سبع سنوات من الزواج لا أزال نصف عذراء!..
ذهبت مرة وأنا حامل من أجل فحص روتيني..
نظرت إلي الطبيبة بتعجب وقالت:
ـ أتعلمين؟!.. إن غشاء البكارة لديك لم يفض بالكامل، ولذا سيتم ذلك أثناء الولادة!!..
ـ…
لم أشأ أن أريح الطبيبة من تساؤلها غير المباشر الذي لمحته في نظرتها، وأخبرها أني حامل بفضل مهارة الطبيب فقط، وحساباته الدقيقة ليجعلني حاملاً في مختبره وليس على فراش الزوجية رغم أني لا أشكو من العقم!!…
****
عندما تعرفت عليه في لندن منذ أكثر من عشرين سنة، تبادلنا العناوين ـ كما يفعل الشباب في هذا السن ـ واتفقنا على المراسلة.
واستمرت صداقتنا عبر الرسائل لسنة.. كنا نحكي فيها عن كل تفاصيل حياتنا اليومية ونتبادل الأفكار.. كان حواراً مستمراً عبر الكلمات، وقد أحببت ذلك.. أحببت أن أجد فيه صديقاً من عمري يحاورني وأحاوره. ثم دعاني بيتر لزيارة بلاده والتعرف على أهله، وسافرت إلى هناك في أواخر الربيع..
تعرّفت على والديه وأخويه، وأعجبتهم الهدايا الشرقية التي حملتها لهم.. قالوا له عني أني ذكية وجذّابة وحلوة المعشر وطلبوا مني أن أنزل ضيفة عليهم في منزلهم بدل الفندق الذي حجزت فيه لإقامتي.
كان بيتر مايزال طالباً في الجامعة؛ لكنه في الوقت نفسه كان، رغم غنى والديه، يعمل في قسم الأرشيف في مطبعة أكبر الصحف المحلية معتمداً على نفسه بدل أن يمد يده لوالديه من أجل المصروف.
أعجبني ذلك؛ فهو مثلي يدرس في الجامعة ويعمل.
كان مهذباً جداً وخجولاً (ربما متردداً)، وكان وجهه الملائكي يشعرني بالطمأنينة ويمنحني ثقة تجعلني أخرج معه في المساء وحدي.
كنت فرحة بصداقته البريئة، وأشعر معه أني عدت طفلة صغيرة شقية.
(هل كنت حقاً بحاجة لمن يشعرني بالطفولة ويعيدني إليها.. أم من يشعرني بأنوثتي ويوقظها فيّ؟!…).
وكان هو فرحاً بقدومي إليه من ذلك الشرق البعيد الذي طالما حلم به.
كان يأخذني لنتجول في شوارع مدينته ونتسكع في أزقة حيها القديم وأتعرف معه على معالمها..
أو نمضي يوماً كاملاً نصعد جبلاً مغطى بثلج أبدي لنكافئ أنفسنا بعد ذلك بتناول المثلجات اللذيذة في مطعم معلّق بين الأرض والسماء.. لم يحاول مرة أن يمسك يدي بعفوية، أو يهمس بأذني بضع كلمات رقيقة ونحن عائدين مساء بعد تجوالنا إلى منزل والديه..
لم يحاول أبداً أن يشدني إليه ليحضنني، أو يفاجأني بقبلة خاطفة ونحن نتنزه لوحدنا على ضفة البحيرة وقد غابت الشمس ونسيت بعضاً من ألوانها الساحرة لتصطبغ به السماء..
لم يكن هذا المنظر الرائع يغريه ليرتكب حماقة صغيرة ربما لم أكن لأمانع لو أنه ارتكبها!
وأنا؟.. ماذا عني؟!
هل كنت سأكتشف شيئاً جديداً في داخلي لو أنه فعلها؟!!
لو كان ثمة شيء في داخلي ليوقظه فعلاً تجاهه؛ لكان مجرد وجوده بقربي يكفي لذلك.
كان ومازال وسيماً… وسيماً جداً؛ لكن نظراته لم تكن تغريني… لم تكن تزيد من خفقان قلبي؛ أو تجعل ساقاي غير قادرتين على حملي.
كان عقلي، وأنا معه يفرض علي احترامه..
كان عقلي يقنعني أنه شاب مثالي.. شاب لا يرى في الفتاة الجالسة أمامه مجرد جسد يرضي غريزته؛ بل عقلاً يحاوره ونداً يحترمه.
كان هذا ما يشدني إليه؛ فلم أشغل ذهني بالتفكير بتلك الأمور الأخرى.. بالحب كمشاعر مجنونة تجتاحنا، ولقاء جسدي محموم يجمع بين رجل وامرأة..
كانت غريزتي الأنثوية، وأنا معه، تبقى كامنة، وكان هذا بمثابة ضوء أحمر صغير.
جهاز إنذار في داخلي، يحذرني ويدعوني لأن أختبر مشاعري تجاهه..
لكنني تجاهلته.. تجاهلت الإنذار، ولم أختبر أبداً حقيقة مشاعري تجاهه..
كان حرياً بنا أن نبقى مجرد أصدقاء ولا نجازف عندما جاءت تلك اللحظة الحاسمة التي كان علينا فيها أن نتخذ قرارنا المصيري..

****
قبل ليلة من سفري، جلسنا أنا وهو في حديقة المنزل نتسامر..
كان عقلي مشوشاً، وعواطفي غير مستقرة، ورغم ذلك خرجت كلمة "نعم" تلقائياً من فمي..
لم أشعر بحماس وفرح وأنا أنطقها؛ لكنني في الوقت نفسه لم أكن أرغب في أن أقول "لا"!!
لا أدري كيف اتفقنا أن نتزوج، ونحن لم نتعرف على بعضنا نظرياً إلا لسنة من المراسلة، وعملياً إلا لأسابيع!..
ربما أني لم أكن حقاً أعني ما أقوله، وأن الأمر لم يكن يتعدى كونه مجرد فقاعات كلام.
كلام لا يؤخذ على محمل الجد.. مجرد اقتراح لمشروع زواج..
لم نكن نملك من مقومات الزواج، مايكفي، فنحن في أوائل العشرينات ومازلنا طالبين في الجامعة..
صحيح أن كلاً منا يعمل، لكن هذا لا يكفي.
وماذا عن الحب؟
هل نحن نحب بعضنا حقاً… أم أننا مجرد أصدقاء؟!

من الغريب حقاً أننا لم نشغل نفسينا بالتساؤل؛ بل حسمنا الأمر بسرعة وقررنا أن نتزوج بعد ثلاثة أشهر.. أي في أواخر الصيف!..
وودعت بيتر على أمل اللقاء بعد ثلاثة أشهر، وعدت إلى سورية.
***
تعودت في البيت على الصدق، وعلى مكاشفة أمي بأسراري.. كانت تعرف قصة حبي الأول بتفاصيلها أيام الدراسة الثانوية، وتعرف كل ماكنت أتعرض له من أمور أو مضايقات في العمل، وكان أبي يعرف كل ذلك منها..
كان يحلو لي أن أجلس إلى أبي وأتناقش معه في كثير من الأمور، وقد نختلف أحياناً في أمر ما، ويفشل كلاً منا في إقناع الآخر؛ فيتحول نقاشنا إلى قطيعة تستمر يوماً أو يومين ثم نتصالح..
كان يبادر هو إلى مصالحتي فيطلب مني أن أعد شاياً نشربه… أو أبادر أنا إلى مصالحته؛ فأسأله إن كان يريد مني أن أعد شاياً نشربه.
في اليوم التالي لعودتي، دخلت على أبي وهو قابع بين أوراقه وكتبه وقلت له دون مقدمات:
ـ بابا… سأتزوج بعد ثلاثة أشهر!..
لم يتمالك أبي نفسه من الضحك بصوت مرتفع؛ ثم سألني وعلامات الدهشة مازالت مرتسمة على وجهه:
ـ ماذا؟!… ستتزوجين بعد ثلاثة أشهر.. ومن هو سعيد الحظ هذا؟! … لابد أنه صديق المراسلة الذي عدت تواً من زيارته… أليس كذلك؟
ـ نعم.. لقد اتفقنا على الزواج بعد ثلاثة أشهر.
ـ يبدو أنك حسمت الموضوع بنفسك…
ووافق أبي على زواجي دون معارضة، وبعد مداولة قصيرة مع أمي.. ربما لأنه لم يأخذ الأمر على مأخذ الجد، وظن مثلي أن الأمر ليس سوى فقاعات كلام.. وأن العريس لن يأت أبداً…
طوال الأشهر الثلاثة التالية كانت أفكاراً مضطربة متناقضة تضج في رأسي..
أشعر أحياناً أني على صواب، وأشعر أحياناً أني أقدمت على خطأ بتسرعي وقبولي بفكرة الزواج..
وعندما كانت هذه الأفكار تلح علي كنت أطمئن نفسي وأقول لها أنه لن يحضر، وأنه لابد أن يفكر بالأمر ويغيّر رأيه..
ورغم ذلك، ذهبت إلى الصائغ واشتريت لنفسي خاتماً ذهبياً وضعته في إصبعي باليد اليمنى!!
ثابرنا أنا وبيتر على كتابة الرسائل، ووصلني مرة منه طرداً كبيراً؛ فأسرع أبي إلى البريد ليجلبه… قال لي وأنا أهم بفتحه:
ـ لابد أنه فستان الزفاف.. أرسله خصيصاً من هناك..
عندما فتحت الرزمة وجدت فيها غزالة "بامبي" مصنوعة من القش… كنت قد رأيتها هناك في أحد المتاجر وأعجبتني…
كانت تلك هي هدية العرس من بيتر!..
نظر إلي أبي بشيء من الامتعاض وهو يقول:
ـ ظننته أرسل لك فستان الزفاف؛ لكنه أرسل بدلاً منه لعبة!
فقلت له ضاحكة:
ـ هذه الغزالة أجمل من فستان الزفاف.
أصبحت الغزالة فيما بعد من نصيب ليلى.. أما الفستان؛ فقد اشتريته بنفسي!!..
***
جاء شهر آب، ووصلتني برقية من بيتر يحدد فيها موعد قدومه..
هرعت إلى أبي ألوّح له بالبرقية:
ـ أرأيت؟… إنه قادم.
فوجئ أبي، وأدرك أن الأمر أصبح جدياً الآن.
بدأنا نستعد لاستقبال العريس القادم من الغرب ليطلب يدي رسمياً من أبي بعد خطوبة بالمراسلة.
استنفرت أسرتي في اليوم المحدد لقدومه، وانطلقت بي الحافلة إلى المطار وأنا أشعر أني أحلم حلماً غريباً وأنتظر أن يقرصني أحد ما حتى أصحو منه.
رأيته قادماً نحوي يبتسم.. بدا لي غريباً وقد حلق شاربيه..
صغير جداً.. مجرد فتى ناعم لا يمكن أن يتزوج بعد أيام!
لم أكن ممن يحبذن الرجل ذو الشاربين؛ لكن ذلك كان يناسبه هو بالذات ويغطي ملامحه الناعمة ويمنحه بعضاً من خشونة… بعضاً من رجولة في المظهر أراها ضرورية..
سألته عن شاربيه؛ فضحك وقال لي أنه سيتركه لينبت من جديد إن كان يعجبني.
كان يرتدي سترة صيفية وبنطال جينز أسود؛ ويحمل بيده حقيبة سامسونايت، ولاشيء سواها.
أمسكت بيده اليمنى أبحث عن شيء… ووجدته.. خاتماً فضياً اشتراه هناك.
رحب أفراد أسرتي الصغيرة بالضيف العريس؛ لكن أخي الصغير، الذي كان في العاشرة من عمره، لم يتمالك نفسه؛ فخرج بسرعة من الغرفة قبل أن ينفجر من الضحك وهو يسمع أبي لأول مرة يحاور أجنبياً باللغة الفرنسية، لم يأتِ بيتر بفستان زفاف لي، ولم يأتِ ببزّة زفاف له.. ورافقته إلى السوق لنشتري له بزّة وقميصاً وحذاء أيضاً!!
جاء الشيخ إلى المنزل، وقرأت الفاتحة وعقد القران، وفي اليوم التالي كانت حفلة الوداع..
تزوجنا دون أفراح عرس تقليدية، وبعد أسبوعين كانت الطائرة تتجه بنا إلى أوروبا الغربية.. إلى بلاده…
***
كان زواجي من بيتر مجرد هروب… هروب…
مات الحب الأول… حب الرعشات والحمى وضوء القمر وأريج الياسمين.
أحرقت لأنساه دفاتر الذكريات والأشعار، فقد جف حبر القلم بين أصابعي.
هجرت الرسم وأحلام الفن بعد أن يبست فرشاة الألوان في يدي وهربت.
هربت بعد أن مللت صناعة الكلام الأجوف في بلادي..
هربت علّي أجد حبي الضائع في بلاد الغربة بين الوجوه الغريبة… فلم أجده.
****

 
 

 

عرض البوم صور النهى   رد مع اقتباس
قديم 09-05-09, 06:49 PM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Feb 2008
العضوية: 65992
المشاركات: 389
الجنس أنثى
معدل التقييم: النهى عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 18

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
النهى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النهى المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 






والتقيته.. غربي؛ لكنه غريب عن عالم المادة والجنس والمخدرات.. غربي مأسور بروح الشرق الذي درسه وأحبه.
جذبني إليه بصدقه وجديته، ولم أجذبه إلي بجمالي (فأنا عادية بمقاييس الجمال)؛ ولكن بروحي الشرقية ونمط تفكيري وجرأتي التي أخافت غيره!..
جبنا أصقاع الدنيا في رحلات تطول أو تقصر، ووجد كلاً منا في الآخر رفيقاً، وكانت ليلى تشاركنا في كل مرة متعة الاستشكاف..
كبرت الابنة، وبدأت المخاوف تشغل تفكير بيتر قبل أن تشغل تفكيري عن مستقبلها في بلاد الغرب
كانت الفكرة فكرته، واستطاع إقناعي أخيراً بالرحيل صوب بلادي… صوب الشرق.
كانت أفكاره تتعارض مع أفكار والديه، فأدار ظهره لشركة العائلة وترك لأخويه مهمة إدارتها؛ فهو لا يريد فيللا فاخرة ولا سيارة فارهة يدفع ثمنهما حياة مملة يمضيها وراء مكتب الشركة يدير أعمالها لاهثاً حتى يصبح عجوزاً.
استقرينا هنا في منزل يربض على تل يطل على البحر، وقلبنا المنزل رأساً على عقب، وأضفينا عليه من روحينا طابعاً خاصاً به، وزّينا حديقته بالخضرة والزهر.
لم نأبه لكلام الناس وهم يرون صورة الحياة الزوجية تختلف عما ألفوه، ونمط للحياة يختلف عما عهدوه.. لكن الناس المحكومين بالمظاهر والعائشين والمائتين بها.. لم يكونوا سوى بداية المتاعب، إذ سرعان ما اكتشف بيتر أن زواجه لا يمنحه حق الاستقرار في هذا البلد الذي أحبه…
لا يحق لزوجي الاستقرار هنا، ولا يحق لابنتي أن تكتسب تلقائياً جنسية أمها… جنسيتي!
لقد اكتشفت أني هنا أصبح شيئاً ما إن تزوجت سورياً، ولا شيء إطلاقاً إن تزوجت أجنبياً!!…
ذهبت يوماً إلى صندوق توفير البريد لأفتح حساباً لابنتي، وطالما أنها قاصر، فلابد لها من ولي أمر.
كنت أعتقد أن كوني أمها التي أنجبتها، بعد أن حملتها في بطني تسعة أشهر، يمنحني هذا الحق "بديهياً"!..
لكنني كنت واهمة.. فقد سألني الموظف إن كنت أحمل توكيلاً من أبيها.
ـ توكيل؟!.. لماذا؟.. أنا أمها!!
ـ آسف سيدتي.. هذا لا يكفي، ولابد من توكيل من زوجك!..
خرجت أضحك من شر البلية الذي يضحك!
لايكفي أن أكون أمها… ياللسخرية..
كيف نحتفل بعيد الأم، ونجعله عطلة رسمية، ثم تزول قداسة الأمومة في المعاملات الرسمية، لأنها لا تكفي! … أين هي هذه "الجنة تحت أقدام الأمهات إذن؟!..
"النساء شقيقات الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم"… هكذا قال رسولنا الكريم.
واليوم…. بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة أحتاج إلى توكيل…
توكيل من الأب يمنحني هو فقط الحق في تولي أمر ابنتي!! فهل من إهانة أكبر من هذه؟!…
أرادت أم فادي مرة الحصول على بطاقة هوية لابنها المراهق؛ فطلب منها الموظف "ولي أمر"!..
هذه الأرملة.. الأم التي تعيل فلذات أكبادها لوحدها.. ليست بحال من الأحوال "ولية الأمر"..
علاقة الأم الحميمية بأولادها، وكل عواطفها وتضحياتها من أجلهم لا تجعل منها "ولية أمر"؛ فهي امرأة، والأمر إذن بيد العم البعيد، أو الجد… وقد كان متوفياً أيضاً!..
ثم كان لابد من ذلك الحدث السخيف المخيف عندما ذهبت إلى مخفر الشرطة للشهادة من أجل أمر روتيني جداً، وقد غاب عن بالي وبال الرجلين اللذين كانا برفقتي أمراً ذكّرنا به الشرطي:
ـ آسف… إني أرى امرأة واحدة، وليس امرأتين"!!…
قال لي ذلك، رغم أن المرأة في بلادنا محامية و… قاضية!!!
بيتر لم يكترث؛ فقد توقع شيئاً من هذا القبيل؛ ولم يفقد الأمل في التغيير..
أما أنا..؟!!
مازال قلبي لا يعرف السكينة، وما زالت روحي متمردة، وسواء في الغرب أم في الشرق، ثمة أموراً كثيرة تقلقني.
لقد هربت من الشرق إلى الغرب، ثم من الغرب إلى الشرق، ولم أجد ماكنت عنه أبحث..
***
لم أستطع أن أشغل بالي كثيراً بالتفكير بما قاله بيتر بعد أن سمع اعترافي، ونحن نحتسي الشاي في الصيف ذات مساء..
أجلّت ذلك لوقت آخر؛ فقد كان بالي مشغولاً بأمور أخرى أكثر إلحاحاً… لكنني وجدتُ نفسي أفكر تلقائياً بهذا الأمر وأنا هنا… في بلاده؛ وفي منزل والديه، أراه وأرى ابنتنا بعد غياب..
أفكر بالأمر في كانون الثاني، في زيارتي الأولى.
وأفكر بالأمر في نيسان، في زيارتي الثانية…
أفكر، وأستعرض بسرعة شريط حياتنا المشتركة طوال عشرين سنة..
أفكر تلقائياً به ولا أتهرب منه كما كنت أفعل.. أواجه نفسي به وأطرح على نفسي لأول مرة أسئلة في منتهى الخطورة…
أجل… في منتهى الخطورة…
مكثت مع بيتر أياماً في منزل والديه، ثم سافر هو إلى سورية، وانتقلت أنا إلى الغرفة المحجوزة لي في بيت المشرفات قرب المركز.
المركز الطبي التخصصي بناء ضخم مؤلف من ستة طوابق مبني على تل في أحضان الطبيعة الهادئة، ويستقبل الأطفال المراهقين الذين خلقوا بإعاقة جسدية أو عقلية أو كليهما معاً، أو أصبحوا معاقين فيما بعد جراء تعرضهم لحادث ما، أو إصابتهم بمرض عضال… كمرض ليلى…
الطابق الأول مخصص لمكاتب الاستقبال والإدارة والسكرتاريا وغير ذلك، والطابق الثاني للمدرسة والمسبح وغرف المعالجات المختلفة، والمطعم الذي يتم فيه إعداد الوجبات الخاصة لكل مرض حسب حالته الصحية، ويتناول فيه الزوار والعاملين في المركز طعامهم أيضاً..
الطابق السادس مخصص لمكاتب الأطباء وقاعة الاجتماعات والمعالجة النفسية.
أما الطابق الثالث والرابع والخامس؛ فمقسّم إلى غرف مؤثّثة بأثاث خشبي جميل لتبدو كغرف المنازل، وليست كغرف المشافي، وقد وضع فيها 54 سريراً.
في كل طابق من هذه الطوابق غرفة معيشة مشتركة فيها مكتبة وتلفاز وفيديو وموسيقى متنوعة وأدوات للرسم والأشغال اليدوية، ومطبخ مستقل تحفظ فيه الأطعمة التي ترد من المطبخ الرئيسي لتقدم ساخنة في موعدها، وتعد فيه مساء كل خميس وجبات يعدها بسرور وفرح أحد الأولاد المرضى بمساعدة المشرفات كل بدوره.
المرضى موزعون في الغرف فرادى ومثنى وثلاثاً حسب أعمارهم ونوعية إعاقتهم حرصاً على راحتهم ولخلق الانسجام بينهم في عيشهم المشترك وتعاملهم مع بعضهم البعض.
كانت كل حالات هؤلاء المرضى الصغار مشمولة بالضمان الصحي، وتكاليف بعض الحالات مغطاة من قبل الحكومة.. كحالة ابنتنا الخاصة جداً…
ليلى على الكرسي المتحرك…
لم تعد قادرة على المشي، ولم تعد قادرة على الكلام.
لقد أعدّوا لها لوحة بالأحرف الأبجدية لتشكل منها كلمات تخاطب الآخرين بها، ودفتراً لصور مختلفة تعبر بواسطتها عن رغباتها، وكانت أحياناً تثور وتحتج بصمت عندما تعيد محاولتها لتخبرني بشيء ما؛ وأفشل أنا، رغم ما أبذله من جهد، في فهم مقصدها.. كنت أشعر عندئذٍ بالعجز، وأنا أراها هكذا تتعذب في صمت وتعذبني.
ورغم أنها أصبحت مقعدة؛ إلا أنها تحسنت من الناحية الصحية والنفسية عما كانت عليه عندما رأيتها في المرة السابقة، لم يكن مرضها قدتم تشخيصه بعد..
لقد زاد وزنها، واكتسى وجهها الشاحب حمرة خفيفة في الوجنتين؛ إذ أنهم أعدوا لها في المركز برنامجاً يومياً يشمل علاجات مختلفة.
إنها فرحة بقدومي إليها تريد قضاء كل أوقات فراغها معي.. كانت تتصل بي هاتفياً فور استيقاظها تستعجلني للقدوم إليها؛ لكن المشرفة مارلين طلبت مني أن أخفف من أوقات لقائي معها حتى تتمكن من المشاركة ببعض النشاطات لاحقاً.!..
هززت رأسي متظاهرة بالموافقة، ثم خرجت للتنزه قليلاً في الغابة المشبعة بالرطوبة، بعد أمطار هطلت الليلة الفائتة.. إنه آخر يوم من نيسان.
كانت النسائم النقية الباردة تنعشني، ومنظر زهرات البنفسج النامية عند جذوع الأشجار يعيد إلي فرحاً طفولياً افتقدته منذ زمن.. البنفسج هو أول تباشير الربيع في بلادي، وكان منظره يفرحني كثيراً وأريجه يسكرني عندما كنت صغيرة.. كنت أخرج من المدرسة لأرى بائعه واقفاً في الزاوية فأسرع إليه لأشتري منه بقروشي باقة أحملها إلى البيت فرحة وأهديها لأمي.
بنفسج بلادي افتقدته هنا.. في سنوات الغربة.
افتقدت أريجه..
البنفسج هنا جميل؛ ولكن لا أريج له!!
زهرة البنفسج الجميلة هي المادة.. هي الجسد؛ أما أريجها فهو الروح..
هي القيمة التي افتقدناها هنا.
بنفسج الغابة ذكّرني بمارلين:
هراء… هذه الموضوعية التي تلجم عواطف الناس هنا.. وأنا ماجئت إلى هنا إلا من أجل ليلى.. من أجل أن أراها وأحتضنها وأحادثها وأعوض نوعاً ما أياماً طويلة من البعاد.
من الغريب أن تظن المشرفة أن قربي منها سيؤثر سلباً على نشاطاتها؛ فعندما تبدأ النشاطات التي حدثتني عنها؛ فإن ليلى ستنشغل تلقائياً بها عني؛ ولن تتشبث بي باكية؛ لأنها بطبعها اجتماعية ولا تعاني من عقدة الخجل أو الانعزالية، وأنا لم أحبسها في الغرفة وأمنع عنها الهواء والناس!…
لقد أضحت ليلى "دليلي السياحي" في المركز.. تتجول معي في أرجائه، وهي مفعمة بالحيوية، وتعرفني على كل من له علاقة به بدءاً من الطبيب المسؤول عنه، ومروراً بنزلائه من الأطفال المرضى، وذويهم، وانتهاءً بالبستاني.
لم أكن بحاجة لأن أخبر مارلين بوجهة نظري، بل تركتها ترى وتدرك صحتها بنفسها، وهذا ماكان.
لقد أدركت ذلك، ولمست بنفسها التحسن الجديد الذي طرأ على ليلى منذ قدومي إليها، وقلبت نظريتها السابقة مئة وثمانون درجة!
كل شيء هنا مرتب ونظيف، وموضوع في المكان الذي يجب أن يكون فيه.. لا شيء ناقص، ولا شيء زائد، كل شخص هنا مؤهل ويعرف تماماً ماهية العمل الذي ينبغي عليه القيام به.. لا أحد زائد ولاأحد ناقص…
لكن ثمة أمر ماليس على مايرام.. أمر ناقص!!
هذا مركز كامل.. كامل في مادياته؛ ولكنه ناقص في روحه.
ثمة برودة.. برودة عواطف.
برودة تكبح العواطف؛ فلا عفوية أو انفلات انفعالات..
وبرودة تحكم السلوك؛ فلا تلقائية أو ارتكاب هفوات!
عواطف باردة؛ لكنها مغلّفة بورق لامع من اللطف الزائد والمجاملة المفرطة التي كانت تثير أعصابي لا شعورياً كل مرة ألتقي فيها أحد أفراد طاقم العمل أو أطلب منه خدمة صغيرة!..
قصدت مكتب الدكتورة موللر في المركز..
ليلى مازالت تعاني من التشنجات التي لا تخف وطأتها إلا بتناول الدواء، والدواء يجعلها تشعر بالنعاس والتعب.. إنها ما زالت غير قادرة على الكلام؛ فالدواء مسؤول أيضاً عن ثقل لسانها؛ ومازال الأطباء في طور المعالجة التجريبية معها نظراً لندرة المرض، ولندرة إصابة الأطفال به..
ـ متى تنتهي تجاربكم هذه؟
سألت الطبيبة وقد نفذ صبري فطلبت مني التحلي بالمزيد من الصبر.. والانتظار.
الصبر والانتظار.. كم بت أكرههما!!..
*****

 
 

 

عرض البوم صور النهى   رد مع اقتباس
قديم 09-05-09, 06:50 PM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Feb 2008
العضوية: 65992
المشاركات: 389
الجنس أنثى
معدل التقييم: النهى عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 18

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
النهى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النهى المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 



عدت إلى غرفتي.. محبطة ناقمة وحزينة.
جلست قرب النافذة أحدق في الفراغ..
آه يا ابنتي….
هل بالإمكان أن تعودي يوماً كما كنتِ؟
أسمع صوتك وأنت على السطح تنادي صديقتك ابنة الجيران وتضحكين؟
تأتي لأبيك بطبق البيض المقلي، وأنت فخورة أنك أعددت له العشاء الذي يحب بنفسك؟!..
آه يا ابنتي.. هذا "العمو" الذي احتضنك مرة في عيادته، ومرة في بيته.. ليته يهتم
مددت يدي إلى درج منضدة المكتب أمامي..
أخرجت منه صورتك التي التقطّتها وسافرت معي مرة أخرى.
صورتك هي الشيء الوحيد الذي أمتلكه منك..
تأملتك وأنت تحتضن ليلى وتنظر إلي تلك النظرة الغامضة التي لا أدرك مغزاها..
تأملت صورتك طويلاً، ثم اجتاحتني رغبة بتمزيقها علّي بذلك أتحرر منك!..
فصلتك بالمقص عن ليلى، ومزقت صورتك..
مزقتها إرباً وفكرت أن أرميها في .. المرحاض!..
في المرحاض؟!.. حرام!..
أشعلت عود ثقاب وأحرقتها في المغسلة.. لم تحترق صورتك بسهولة.. لم تحترق إلا بعد أن أشعلت فيها عدة أعواد من الثقاب، وبعد أن أحرقت أصابعي معها!
لماذا لم تحترق صورتك بسهولة؟.. هل كان قلبي يطفئ النار خوفاً عليها دون أن أدري؟!!…
****
سرعان ما أصبح الجميع يعرفني، في الطابق الخامس من المركز، أدعوهم ويدعونني بالأسماء المجردة، دليلاً على رفع الكلفة بيننا، ففي هذا البلد المحافظ يحتاج المرء وقتاً طويلاً كي يلغي الحواجز ويرفع الكلفة، وأنا ضقت ذرعاً بمناداة هذه بالسيدة مركيزي، وذاك بالسيد كامينيش، بدلاً من أليدا وفيناند.. كنت دائماً أكره اللقب وأجد صعوبة في حفظ الكنية؛ أما الاسم الأول.. الاسم الشخصي، فكنت أحفظه بسرعة ولا أنساه.
اقترحت على كل واحد من طاقم العمل منذ البداية أن يناديني وأناديه هكذا؛ فنحن نرى بعضنا يومياً، ولا داعي أن نبقى رسميين وننادي بعضنا كل يوم بالألقاب السخيفة!!
كانت ردود الأفعال على اقتراحي إيجابية؛ ولكن التردد والدهشة من عفويتي في التعامل كانت بادية في العيون.. كان البعض بادئ الأمر ينسى، بحكم العادة، ويناديني باللقب والكنية، ثم يعتذر ضاحكاً.
أصبحت أنا والأطباء زملاء،وأنا والمشرفات، وأنا وعاملات النظافة، وأنا والأطفال المرضى، الذين يجب عليهم أن يكونوا مهذبين وينادوا الكبار باللقب والكنية!!
وخلق ذلك بيني وبينهم جواً من الألفة والمودة رغم أن العواطف بقيت مغلفة بذلك الورق اللامع!!
كان الطبيب المشرف على المركز هو الدكتور سوتر..رجل في العقد السادس من عمره، وقد غزا الشيب والصلع رأسه.
الابتسامة لا تفارق وجهه الأبيض المشرب بالحمرة، وعيناه الزرقاوان تشعان بهجة كعيون الأطفال.
لقد جعله تواضعه وبشاشته واهتمامه بكل صغيرة وكبيرة في المركز محبوباً من كل العاملين معه ومحبوباً من الأطفال المرضى وأهاليهم.
كثيراً ماكان يلقاني في الردهات؛ فيقبل نحوي محيياً ليحدثني في أي موضوع قد يخطر بباله.
وكثيراً ماكنت أراه في حديقة المركز وبيده آلة تصوير يسجل بها آخر الأعمال أو النشاطات.. أو منكباً على أوراق يدرس محتواها في مكتبه في ساعة متأخرة من المساء.
لقد أتعستني رؤية كل هذا الشقاء المختبئ وراء جدران المركز.. أتعستني رؤية كل هؤلاء المرضى، وخاصة أولئك الميؤوس من تحسن أحوالهم، وجعلني ذلك أشعر بفيض من الحنان تجاههم، وأحمد الله أنه كان رحيماً بليلى، وأن همي لا يعادل هموم ذويهم.
لم أستطع أن أكون أنانية لأفكر بنفسي فقط؛ فأسعدت الأطفال بلوحات جميلة رسمتها لهم في غرفهم، وعندما رأت المشرفات ذلك فرحن واقترحن علي أن أساعدهن في تزيين الردهات؛ فوافقت….
وبسرعة جلبن الأوراق الملونة وأدوات الرسم والمقص والصمغ، وغير ذلك، واقترحت إحداهن أن يكون موضوع الزينة هذه المرة البحر.. وجلست معهم أرسم وأقص وألصق أسماكاً وحيوانات بحرية مختلفة الأشكال والألوان، ثم وقفت ليلى… (أجل وقفت؛ فقد أصبحت قادرة على ترك كرسيها من حين لآخر)…
وقفت ليلى فرحة تملي علينا الأوامر لنعلق الأشكال في الأماكن التي تختارها.. نزين بها الردهات ونشيع فيها جواً من البهجة والفرح.
بعد أيام فاجأت المشرفات بلوحة جميلة.. باقة من الورود الحمراء رسمتها وذيّلتها مع التوقيع بكلمة "شكراً"، كتبتها تعبيراً مني عن تقديري لكل العاملين في المركز.. وعلّقت اللوحة في مكان بارز، وجاء الكل يشكرني عليها ويفرحني بثنائه.
***
كان يومي يبدأ مع ليلى وينتهي معها..
كنت أستيقظ باكراً؛ فأتناول فطوري بسرعة، ثم أصعد درج بيت المشرفات الصغير، وأعبر طرف الحديقة الذي يفصله عن المركز..
أذهب إلى ليلى، فأجدها جالسة مع المشرفة وباقي الأولاد عند المائدة في غرفة المعيشة في الطابق الخامس تنتظرني لأطعمها فطورها؛ ثم آخذها في نزهة وهي في كرسيها المتحرك، أو أحكي لها حكاية أقرأها من أحد الكتب الكثيرة الموجودة في المكتبة.
أطعمها طعام الغذاء وأساعدها في تنظيف أسنانها وخلع ملابسها والدخول إلى الحمام، ثم وضعها في السرير لتنام القيلولة… ثم أعود إليها لأمكث معها حتى المساء فأطعمها. و…. و…. هكذا دواليك…
كانت ليلى تصاب أحياناً بتشنجات أثناء جلوسها إلى المائدة لتناول الطعام، فتحتاج إلى الراحة والاستلقاء وتناول حبة من الدواء لتخفف من آلامها، ثم تعاود بعد ذلك تناول ماتبقى من الطعام بعد أن يكون الآخرون قد انتهوا منه وغادروا.
كانت المشرفات يرجونني أن آخذ قسطاً من الراحة أحياناً، وأن أذهب للترويح عن نفسي.. ولكن كيف أرفه عن نفسي؟‍
إن كل وسائل الترفيه، وما أكثرها هنا، ستفشل في الترويح عني…..
إني هنا من أجل ليلى ولست بحاجة للترفيه، وهي في أمس الحاجة إليَّ الآن، وفي كل وقت، لترتفع معنوياتها وتساعد نفسها على الشفاء.
كنت أرفع معنوياتها بالضحك؛ فأختلق من أجلها الكلام، والأفعال والمواقف المضحكة، وهي بطبعها مرحة لا تحتاج إلى الكثير حتى تنفجر ضاحكة.
عندما يحين موعد نوم ليلى كنت أضعها في سريرها وأساعدها لتمد يدها اليسرى المتشنجة على الوسادة وتضع رأسها عليها لتستريح، ثم أمد لها اليد اليمنى لتمسك بها الجرس الذي تنادي بواسطته المشرفة المناوبة ليلاً عند الضرورة.
أمسد لها رأسها وأمازحها وأحكي لها حكاية، ثم أقبلها وأتمنى لها ليلة سعيدة، ثم أعود إلى غرفتي.
أعود إلى غرفتي في كل مساء مرهقة وحزينة.. أدخن لفافة، وأبكي…
****
صورتك مزقتها وأحرقتها؛ فجاء طيفك يزورني في الحلم..
استيقظت من حلم كنت أنت وأختك فيه..
كانت تحدثني عن شجار لها معك، وكأنها تلتمس لك عذراً عندي، وهي تقول أنك تتشاجر مع من تحبهم فقط!..
استيقظت من الحلم في هذا النهار شبه الرمادي من شهر أيار، والشمس ماتزال تصارع السحب لترسل لنا من خلالها بعضاً من أشعتها.
وضعت شريط الكاسيت في جهاز التسجيل… كانت فيروز تغني: "عندي ثقة فيك"…
جلست قرب النافذة أدخن سيجارة "الحمراء" وأتأمل القرية المنبطسة أمامي على أطراف الغابة…
المطر ينهمر من جديد، وليلى مستقلية في سريري..
أستمع إلى الأغنية:
عندي ثقة فيك.. أما زال بإمكاني ذلك؟!… ماذا تفعل الآن ياترى؟
صورتك مزقتها وأحرقتها؛ فما بال فيروز أيضاً تذكرني بك من جديد؟!!
***
مطر.. مطر.. مطر..
مامن إمكانية للخروج والتمتع بأشعة الشمس والهواء الطلق؛ لكن زيارات الأصدقاء تبعد السأم عني، وتزيل كآبتي في الأيام المطيرة؛ وتدخل البهجة إلى قلب ليلى.
اليوم فوجئت بزيارة غير متوقعة.. كنت أجلس في غرفة المعيشة في الطابق الخامس ألعب الورق مع ليلى عندما دخل علي رجل إفريقي وامرأة هندية الملامح.. كان معهما ابن يافع وابنة أصغر من ليلى…..
ظننت في البداية أنهما يقصدان غيرنا؛ لكنهما تقدما نحونا يمدّان أيديهما بالتحية..
قالت المشرفة وهي تقدمهما لي: عائلة أميتامي حضرت لزيارتكما.
بادرني السيد أميتامي بالكلام، وهو يبتسم، ويناولني الهدايا الملفوفة بأوراق جميلة:
ـ هذه من أجل ليلى..
أظن أنك نسيتنا أنا وزوجتي..لقد زرناكما منذ زمن بعيد في بيتكم وكانت ليلى لا تزال رضيعاً، وهذا (وأشار إلى ابنه).. لقد كان شقياً وعبث بأشيائكما.
وفجأة تذكرتهما:
ـ يا إلهي!…
أنا آسفة حقاً إذ نسيتكما.. لقد كان ذلك منذ زمن بعيد أهلاً بكم.. أنا سعيدة جداً برؤياكم وشكراً على الهدايا.. كيف حالكم؟
السيد أميتامي رجل لطيف مهذب من غانا، وكيميائي حاصل على شهادته من هنا؛ لكنه وجد صعوبة بالغة في الحصول على عمل لائق في هذا البلد الذي حصل على شهادته منه، ولم يتوانَ زوجي عن مساعدته في الحصول على عمل جيد يتناسب مع دراسته وإمكاناته.. وجد له عملاً في إحدى شركات الصناعات الدوائية الكبرى..
ولم ينسَ السيد أميتامي ذلك، وزارنا مع زوجه في بيتنا ليعبرا لنا عن شكرهما؛ وبقي يتتبع أخبارنا بعد سفرنا إلى سورية..
قال لي السيد أميتامي:
ـ أنا لن أنسى أبداً فضل زوجك علي.. لقد حصلت بمساعدته على عمل محترم دائم.. إنه إنسان نبيل.
لقد علمت من صديقتنا انجي أن ليلى مريضة؛ وأنها هنا في المركز.. لقد صدمت في الواقع عندما أخبرتني عن معاناتكم وأحببت أنا وزوجتي أن نزوركم ونطمئن عليها.. نحن آسفون جداً من أجلها..
ـ أجل.. نحن نشارككم مشاعركم؛ فأنتم لا تستحقون إلا الخير.
أردفت زوجته السيرلانكية، وهي ترمق ليلى باسمة.
.. أما ليلى؛ فكانت ترمق الزوار الأربع بتوجس وحذر..
قلت لها:
ـ أنت يا ليلى لا تذكرين بالطبع هذه الأسرة الطيبة؛ فقد كنت لا تزالين طفلة صغيرة ترضع عندما أتوا لزيارتنا؛ وكان هذا الشاب طفلاً صغيراً؛ وأخته الصبية الصغيرة لم تخلق بعد…
وضحكت السيدة أميتامي، وأردفت:
ـ لقد كان شقياً، وشعرنا بالحرج منكما لتصرفاته أثناء تلك الزيارة..
أسعدتني تلك الزيارة؛ فالدنيا ما زالت بخير طالما مازال يوجد فيها أمثال هؤلاء الناس الطيبين، والمعروف لا يضيع ولو رميته بالبحر.. كما يقول المثل.
***
اليوم الأحد…
الإيطالية آناريتا حضرت مع زوجها أنطونيو وابنهما سيمون لزيارة الابنة المريضة ايرين….
لقد جلبوا معهم طعاماً للغداء أعدته آناريتا في مطبخ الطابق الخامس ودعتني لتناول الطعام..
جلسنا نتناول المعكرونة ونتحدث في أمورنا وهمومنا المشتركة..
فتح أنطونيو زجاجة النبيذ الفرنسي؛ فقلت له مازحة:
ـ أنت إيطالي تأكل طعاماً إيطالياً؛ فأين نبيذ "كيانتي"؟!
ضحك أنطونيو:
-أنا إيطالي أحب الطعام الإيطالي؛ ولكني أحبذ النبيذ الفرنسي.. أحب النبيذ الفرنسي؛ ولكني أحبذ نمط الحياة هنا.
-يالك من رجل عالمي!
لقد تعرفت على عائلة بيزانيللو هنا في المركز.. رأيتهما أول مرة في غرفة ليلى التي كانت ايرين تشاركها فيها.
ايرين تبلغ الخامسة عشر من العمر وهي مصابة أيضاً بمرض نادر يجعل جهاز المناعة في جسمها يعمل ضده ويعيق نموها، ولذا لا تتجاوز في الحجم حجم طفلة في الخامسة من العمر!
المرض يعيق نموها الجسدي فقط ولا يؤثر على قواها العقلية؛ ولذا فقد تمكنت ايرين من الحياة بصورة طبيعية نوعاً ما، والذهاب إلى المدرسة كباقي أقرانها.
واظبت على الذهاب إلى المدرسة حتى جاء اليوم المشؤوم الذي قرر فيه والديها بناء على نصيحة الأطباء معالجة التشوه في عمودها الفقري..
كان الطبيب يؤكد لهما أن لا خوف من نتائج العملية، وكانت مخاوف الوالدين تتعلق برئتيها الضعيفتين اللتين قد لا تتحملان المتاعب أثناء العمل الجراحي، ولم يخطر ببالهما قط أن النتيجة ستكون أسوأ من ذلك بكثير..
لقد صمدت الرئتان؛ ولكن العملية الجراحية فشلت.
كان على الطبيب أن يثقب الفقرات ويصلها ببعضها ويثبتها ببراغي معدنية؛ لكن الثقب اخترق النخاع الشوكي، وأصاب الأعصاب بعطب، وأصيبت ايرين بالشلل..
أصاب الشلل النصف الأسفل من جسمها، وأصبح لزاماً عليها أن تبقى طوال الوقت مستلقية على ظهرها على فراش هوائي..
أعطاهما الطبيب بعض الأمل في أن الشلل قد يكون مجرد أمر طارئ، وقد يزول بعد أشهر ثلاثة.. ربما!
أخبرتني آناريتا بذلك كله ونحن جالستين بمفردنا في عصر أحد الأيام نحتسي القهوة في غرفة المعيشة، وأخبرتها بدوري عن ليلى ومرض ليلى..
أصبحنا نجلس سوية كلما التقينا، وأصبحت أحاديثنا أطول.. وكان أنطونيو في البداية يخرج إلى الحديقة ليدخن، ثم يجلس متروياً صامتاً تاركاً المجال كله لزوجته تتكلم بسرعة وبصوت مرتفع على الطريقة الإيطالية.. على الطريقة المتوسطية!!
لكن أنطونيو مالبث أن أصبح ينضم إلينا ليشاركنا الحديث.. لقد جعلنا طبق المعكرونة أصدقاء!
خرجت مرة إلى الحديقة لأستمتع بأشعة الشمس وأدخن سيجارة..
كنت أمشي على مهل عندما سمعت صوتاً يناديني.. كان أنطونيو:
-مرحباً كارمن.. هل خرجت أيضاً لتدخين سيجارة؟
-أجل، وللاستمتاع بالشمس.. ياله من يوم جميل.
-تفضلي إذن بالجلوس.
وجلست بجانبه على المقعد الخشبي، ثم مددت له يدي بسيجارة "الحمراء":
-أتريد أن تجرب سيجارة سورية؟
-ولم لا؟.. شكراً لك.
سحب أنطونيو نفساً منها، وأردف:
-إنها جيدة..
تحدثنا في أمور شتى..
في الدين والسياسة.. عن الشرق والغرب، والبحر المتوسط، وعن ابنتينا..
قطع الحديث صوت آناريتا:
-آ.. أنتما هنا!
-وأين ظننت أننا يمكن أن نكون؟!
أجابها أنطونيو، فضحكت آناريتا وأردفت:
-في الحقيقة، لا مانع عندي أينما تكونان؛ ولكن ايرين تسأل عنك.
-هذه مجرد حجة واهية..
أجاب أنطونيو مازحاً هو الآخر، وأردت أن أجاريهما في المزاح كي لا يبدو لهما استغرابي من تلميحاتهما التي لا مبرر لها.
-اطمئني يا آناريتا.. فالظرف والمكان غير مناسبين أبداً.
-لا مانع عندي حقاً!
لم أجد جواباً أفضل من الصمت كي لا يطول حديث لا طائل منه، وعدنا نحن الثلاثة أدراجنا..
****
أصبحت ايرين في الغرفة لمفردها، وانتقلت ليلى إلى غرفة أخرى بمفردها؛ فقد تم تخريج بعض المرضى الصغار، وعادوا للعيش في كنف والديهم..
قرعت مادلين على باب غرفة ليلى تستأذن بالدخول، وأنا أهم بالانصراف عائدة إلى غرفتي بعد أن حل المساء:
-كارمن.. هل تمانعين أن ترسمي لنا شيئاً لطيفاً على الباب الزجاجي الثاني؟
-بكل سرور.
-شكراً جزيلاً. سأعد لك إذن الأدوات والألوان.
التفت إلى ليلى أسألها:
-ماذا تريدينني أن أرسم يا ليلى؟
فأجابتني بعفوية:
-ارسمي لنا بيتنا في سورية.
-لقد حان وقت النوم الآن.. أتمنى لك ليلة سعيدة.. وستفاجئين صباحاً، أنت وأصدقائك بلوحة جميلة.
عندما انتهيت من الرسم كانت المناوبة المسائية للمشرفات قد انتهت، وما من مناوبة ليلية في يوم العطلة في الطابق الخامس؛ فلا حالات طارئة فيه، وأجراس الأولاد موصولة بجهاز مراقبة مركزي، وستأتي إحداهن من أحد الطوابق السفلى من حين لآخر للمراقبة والتأكد من سير الأمور على ما يرام.
الجميع نيام، ماعدا الفتى البرتغالي هوجو ابن الخامسة عشر..
كان يجلس على كرسيه المتحرك بجانبي يتأمل الرسم من وراء نظارته السميكة ويؤنسني بحديثه.. كان يكلمني بلغة ركيكة لم يتقنها بعد، ويحدثني عن طفولته، وعن والديه، وعن معاناته مع المرض.
عندما انتهيت من الرسم وقفت أتأمله..
لا ينقصه شيء من التفاصيل؛ فالببغاء "مانجو" رسمته واقفاً في مكانه المفضل على مظلة السطح، وليلى تقف تحت المظلة تلوّح فرحة بيدها.. حتى القط الأبيض "ميتسو" أعدته للحياة ورسمته جالساً على الافريز بجانب ليلى..
شجرة السرو واليوسفي والموز، والدالية تتسلق الجدار حتى السطح، وشجيرة "المجنونة" تتدلى فروعها خارج السور..
ستفرح ليلى حتماً، وتشير بإصبعها إلى الرسم وتقول للجميع هذا هو بيتنا الجميل.. وهاهي شمس الشرق الساطعة تغمره بأشعتها.
-ليلة سعيدة ياهوجو.
-ليلة سعيدة.. هل ستذهبين إلى النوم؟
-طبعاً؛ فأنا متعبة.. إلى اللقاء غداً.
-إلى اللقاء.
****
في الليل زارني طيفك في الحلم..
حلمت أني أنا وليلى في غرفة نومك، وأنك متزوج ولك أولاد.. لكنك زوج سيء وأب مهمل!
ثم حلمت أني أجلس فجأة مع زوجك وأولادك نتابع بالتلفاز فيلماً وثائقياً عن حياتك!!
زوجتك؟!
كيف كانت؟..
كيف كانت ملامحها؟.. هل رأيتها في الحلم بملامح مطابقة؟!
وأولادك؟!.. إنهم لم يولدوا أبداً.
لقد تزوجت لسنوات، ولم ترزق أولاداً؛ لأن زوجتك لم تكن ترغب بالأولاد.. كانت مهووسة بعملها، ولم تكن تعرف كيف تكون زوجة.. فكيف تصبح أماً؟!
وأنت؟!.. هل كنت زوجاً مثالياً؟.. ألم تزرع أنت أيضاً الفوضى في عشكما الزوجي؟!!
كيف كانت علاقتكما الزوجية تلك؟!
أمور تخصك وحدك وليس من حقي سؤالك عنها إن لم تشأ أن تفتح لي قلبك، كما فتحت أنا لك قلبي، وتخبرني عن أمورك كما أخبرتك عن أموري.
أمورك التي سمعت عنها من الآخرين بمحض الصدفة، والناس في بلادنا يحبون الثرثرة.. يحبون الثرثرة كثيراً.
****
انصرم شهر أيار بسرعة واقترب موعد السفر..
موعد العودة إلى سورية..
لقد أوقفوا إعطاء ليلى أحد الأدوية بعد أن تبين أن له مضاعفات تؤثر على تركيب الدم عندها، وينتظرون الحصول على بديل. أثار هذا الأمر الطارئ عصبيتي، وجعلني أفقد صبري؛ فقد طال الانتظار، ومازالوا حتى الآن في طور التجريب مع ابنتي؛ لكنني عدت لأتماسك من جديد وأعزي نفسي أن حالة ليلى النفسية على الأقل قد تحسنت كثيراً منذ قدومي لدرجة أدهشت الجميع.
فلأحمد الله إذن..
في الليلة الأخيرة لتواجدي في المركز طلبت أن أبيت الليلة مع ليلى في غرفتها؛ فجلبوا لي فراشاً وضعوه في غرفتها. جلست في الغرفة أحادثها؛ فبكت فجأة وأنا أحتضنها.. كان بكاءها مرتفعاً؛ فلم أتمالك نفسي وبكيت معها، ثم مسحت دموعي ودموعها ورجوتها ألا تبكي.. رجوتها أن تبقى متفائلة، وتؤمن بشفائها كي يشفيها الله.
خرجت ليلى برفقة المشرفة ميشيل تودعني عند باب المركز.. كنت أتصنع الابتسام بصعوبة، وكان قلبي يبكي. بقيت أقاوم رغبتي بالبكاء، وأنا أسير مبتعدة والتفت إلى الخلف لألوّح لها مرة أخرى حتى توارت عن أنظاري، وعندئذ انسابت من عيني الدموع.
بقيت أبكي بصمت طوال المسافة التي تجاوزت الساعة، والقطار ينطلق بي إلى حيث تقيم صديقتي أجنس التي سأقضي عندها الليلة الأخيرة قبل سفري.
أعرف أجنس منذ ثلاث عشرة سنة، وكانت أيضاً جارتي مثل فيرونيكا..
جاءت لتسكن في البناية الجديدة رقم 6 التي انتقلنا للعيش في إحدى شققها قبل أشهر من قدومها هي وزوجها؛ فدعوتها بعفوية لتناول القهوة.
فرحت كثيراً أني دعوتها بسرعة لنتعارف ولبّت الدعوة شاكرة..
دخلت إلى المطبخ، وأنا أعد القهوة. كانت حاملاً في الشهر الأخير، وبدأت تفتح لي قلبها وتخبرني عن خوفها من الولادة، وأنا أطمئنها أن الأمور ستسير على مايرام.
وتوطدت صداقتنا، خاصة بعد أن اكتشفنا هوايات مشتركة بيننا، ثم انتقلت مع زوجها وابنتها للعيش في منطقة أخرى؛ فحافظنا على الود وتبادل الزيارات.. وعندما وضعت توأمها جعلت مني عرّابة أحدهما.
جلست مع أجنس في الحديقة، وقد أرخى الليل سدوله، وبدأت تحدثني عن متاعبها مع زوجها ألبرت.
-أتعلمين يا كارمن؟.. أن المرأة بعد الأربعين تبدأ بمراجعة حساباتها وتواجه عواطفها بجرأة أكثر، وتضع علاقتها مع شريك حياتها على المحك.. لست وحدي من يعيش هذه المرحلة؛ فكثيرات ممن أعرفهن يشعرن نفس الشعور ويعانين من نفس المتاعب.
(لقد قالت لي فيرونيكا قبل أسبوع نفس الكلام!!).
نظرت أجنس إلي بدهشة غير مصدّقة ما أقوله:
-وأنا كذلك يا أجنس!
-ماذا؟!.. لقد ظننت أنك وبيتر في وئام.
-أجل.. أجل، نحن في وئام، لكننا نعاني من مشكلة… مشكلة مختلفة عن مشكلتكما أنت وألبرت.
-لم أفهم.
-إن مشكلتنا معكوستين تماماً؛ فأنت وألبرت لا تعانيان مما نعاني منه؛ ولكنكما تعانيان مما لا نعاني نحن منه!.. وشرعت أخبرها وهي تنصت بصمت واهتمام، ثم قلت لها:
لقد انقطع الحوار فيما بينكما؛ فعجزتما عن التفاهم، وأصبح من السهل عليكما أن تفترقا ويذهب كلاً منكما في طريقه.
أما نحن؛ فقد تعوّدنا دائماً على الصراحة، رغم كل شيء؛ فبقي الحوار بيننا متصلاً، والتفاهم قائماً؛ ولذا يصعب علينا أن نفترق كما ستفترقا!
-لكن عليك أن تتحلى بالشجاعة وتتخذي قرارك.
-أنا لست جبانة يا أجنس.. أنا أنتظر كلمة واحدة فقط لأتخذ قراري.. القرار ليس في يدي، وأنا لن أجازف إن لم أكن متأكدة من النتائج!
****

ودعتني أجنس في المحطة، وانطلق بي القطار إلى المطار..
كانت طائرة "أليتاليا" متأخرة كالعادة؛ فتم تحويلي إلى السويسرية المتجهة إلى ميلانو؛ لكنها تأخرت هي الأخرى!
بدأت الطائرة تتحرك أخيراً على المدرج، وبدأت الخواطر تتحرك في رأسي.. استرجعت في بالي عبارة سوسن:
-من يدري يا كارمن؟!.. حفلة الزفاف ستكون فرصتك.. هيا.. كوني متفائلة!
قبل أن أسافر إلى ليلى ذهبت إلى الخياطة ومعي قطعة القماش التي جلبتها من الهند.. مددت لها ورقة عليها تصميم الفستان الذي أريد:
-أرجو أن تخيطي لي هذا الفستان بسرعة.. إني مدعوة لحفل زفاف بعد أسبوع.
كذبت عليها؛ فبعد أسبوع سأسافر؛ لكنني أردتها أن تخيط الفستان قبل سفري ليكون جاهزاً عند عودتي إن فاجأني اقتراب موعد زفاف سناء فلا يتيح لي ضيق الوقت فرصة تحويل هذا القماش الجميل إلى فستان رائع ألبسه بهذه المناسبة..
ألبسه خصيصاً من أجلك!
اشتريت الاكسسوارات المناسبة، والحذاء المناسب والحقيبة المناسبة، وحملت كل هذا مع الفستان إلى بيت سوسن، وارتديته أمامها لأتأكد أني أبدو فيه أنيقة:
-أجل.. أجل. تبدين في منتهى الأناقة.. والرشاقة.
-طبعاً.. القالب غالب!
-يا ملعونة.
-آه يا سوسن.. ليت أحلامي تتحقق!
-من يدري يا كارمن؟!.. حفلة الزفاف ستكون فرصتك.. هيا.. كوني متفائلة!

-آمل ذلك، رغم أني لا أتوقع شيئاً البتة.
وضحكنا طويلاً.. ضحكنا وحلمنا بأشياء لم تتحقق أبداً.
**********

 
 

 

عرض البوم صور النهى   رد مع اقتباس
قديم 11-05-09, 12:22 PM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Feb 2008
العضوية: 65992
المشاركات: 389
الجنس أنثى
معدل التقييم: النهى عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 18

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
النهى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النهى المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 




الصيف الثاني:
ثلاثية الحزن والقلق والوحدة







هبطت الطائرة أخيراً في مطار دمشق، وقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً.
كان بيتر في انتظاري.. أخبرته عن آخر تطورات حالة ليلى الصحية والنفسية، وعن دوائها الذي أوقفوه لأن له مضاعفات سلبية، وعن بطئهم في البحث عن بديل لدرجة أفقدتني صوابي…
إنهم مميّزون من حيث الرعاية والتأهيل؛ لكن خبرتهم بهذا المرض بالذات قليلة لندرة الإصابات بها في بلادهم، خاصة في هذا السن المبكر.
وأخبرت بيتر عن سوزانا وأوليفييه..
سوزانا.. الطبيبة الإسبانية من برشلونة التي تعرفت عليها منذ سنوات، وتصر دائماً على أنها قشتالية وليست إسبانية..
بفضلها عرفت أن تلك الكلمة التي نتداولها كثيراً، كلمة قشتالية الأصل، وليست كلمة عربية عندما سمعتها تقولها لأختها: "طاولة"!
أما زوجها اوليفييه؛ فمهندس طيران تجري في عروقه بعض من دماء عربية جزائرية!.
أمضينا أوقاتاً طويلة وراء شاشة الانترنيت نبحث عن مواقع يمكننا النفاذ إليها للبحث عن دواء بديل، وحان وقت سفري ولم يحالفنا الحظ..
أخبرت بيتر عن أجنس وألبرت؛ فسألني مباشرة إن كنت قد أخبرتها عنا، وقبل أن أجيبه أردف إن لا مانع لديه أن كنت فعلت.
أخبرني بيتر عما فعله أثناء غيابي، وأخبرني عنك!
أخبرني أنه رآك في مطعم "طل القمر"..
كانت سناء وخطيبها وأصدقاء لهما هناك، وزوج أختك مع أناس آخرين؛ فنهض زوج أختك وجاء يسلّم عليه. ثم جئت أنت مع امرأة حمراء الشعر، ولمحته من زاويتك..
كنت تتأمله، وكان يلحظ ذلك بطرف عينه؛ فاستدار إليك ليحييك؛ لكنك سرعان ما أشحت بوجهك عنه!! (أنت معذور طبعاً.. قال لي أنه يعذرك، وأنا عذرتك؛ فعذرك عندي أكبر من عذرك عنده!!
..لكن تلك المرأة التي كانت بصحبتك.. تلك المرأة ذات الشعر الأحمر القصير.. من تراها تكون؟!.. هل هي صديقتك الجديدة"؟.)
سألت بيتر:
-.. هل كانت جميلة؟
-من؟
-تلك المرأة التي كانت برفقته.
-لم أنتبه إليها.. ربما كانت جميلة.. هل تشعرين بالغيرة؟!
(يسألني، وكأني لست زوجته.. زوجته التي تستفسر منه عن رجل تحبه، وهو يعلم!!).
-نعم، أغار.. أغار، والأسوأ من ذلك أني، لا أقول لـه؛ بل لك أنت!!.. ألا يبعث هذا كله على الجنون؟!!
حملق بي في ذهول، وقد ارتفع صوتي:
-.. وأنا مجنونة.. أنا امرأة مجنونة!!
الغيرة هي نوع من الأنانية.
والحب.. أليس أيضاً نوعاً من الأنانية؟
إنه يبدو كذلك للوهلة الأولى..
نحن نحب لأننا نريد أن نمتلك.
ونغار لأننا نخاف أن نفقد ما نظن أننا نمتلكه.
لكننا في الحقيقة لا نمتلك أحداً.. لا نمتلك مشاعرنا.
الحب لا يمنحنا أبداً القدرة على الامتلاك؛ بل يسلبنا إياها ويجعلنا نحن ومشاعرنا ملكاً لغيرنا..
لكنه يمنحنا بالمقابل سعادة لا تساويها كنوز الأرض، ويعيد خلقنا من جديد.
والغيرة؟
الحب والغيرة.. كالوردة وعبيرها.
لا يمكن الفصل بينهما، ومن يحب يغار.. يا بيتر.. يا صديقي.
لا تقل لي بعد اليوم أنك تحبني.
لا تذكّرني بأفلاطون..
أنا لا أحب أفلاطون، وأكره حبه!
دعتنا ريما لزيارتها أنا وبيتر. إنها هنا في منزل والديها بالقرية تستمتع بإجازة لمدة يومين.
تناولنا المرطبات مع والديها، ثم ذهبنا إلى المطعم.. إلى مطعم "طل القمر"..
المطعم الذي رآك بيتر ورأيته فيه..
كانت نظراتي تتجه إلى تلك الزاوية حيث كنت تجلس.. أتخيلك جالس هناك، وأتمنى لو تأتي وأراك!
في اليوم التالي، كنت منهمكة في العمل في الحديقة عندما رن الهاتف.. كانت ريما على الطرف الآخر تدعوني لمرافقتها إلى الشاليه لنتمتع بيوم على شاطئ البحر:
-آه يا ريما.. لا أستطيع.. سيكون بيتر لوحده طوال اليوم.
-وما الضير في ذلك؟.. سيشبع منك غداً عندما أعود إلى دمشق.. أرجوك تعالي معنا.
-حسناً.. سأخبره وآتي إن لم يكن ذلك يزعجه.. سأعاود الاتصال بك بعد دقائق.
لم تكن لدي رغبة حقيقة بالذهاب إلى البحر، ولا الرغبة بحديث ليس سوى ثرثرة.. كنت أفضل البقاء معه لو أنه طلب مني ذلك؛ لكنه لم يمانع، ولم يزعجه غيابي، بل شجعني قائلاً:
-اذهبي واستمتعي بالبحر، ولا تشغلي بالك بالنسبة لي؛ فأنا لا يضيرني البقاء وحدي اليوم.
جلست مع ريما على الشاطئ الرملي ندخن سيجارة ونتحدث..
أخبرتني أنك مسافر إلى واشنطن، ولن تعود قبل الرابع من الشهر.. شهر تموز..
لقد سافرت أنت في نفس اليوم الذي عدت أنا فيه.. ستغيب أسبوعين آخرين إذن.
(مسافر أنت وبعيد، ولقد سافرت أنا وبعدت؛ لكنك بقيت مني قريب جداً.. أنا مشتاقة إليك رغم كل شيء أيها المغرور..
ألم يخطر ببالك أن تسأل ولو مرة ريما عني؟!
هي تخبرك عمداً أني سافرت؛ فتتساءل مستغرباً: هل حدث شيء؟!
هل كان سؤالك العفوي دليلاً على أن أمري يهمك فعلاً؟..
أظننت لوهلة أني عنيت ما قلته لك ذاك اليوم في العيادة، وأني عدت من حيث أتيت، وإلى غير رجعة، فتحرك في داخلك شيء أود من كل قلبي أن يتحرك؟!).
سألت ريما:
-هل ترك خالك لكم عنوانه في واشنطن؟
-لا.. لماذا؟
-أود أن أرسل له فاكساً إلى هناك.. لقد أوقفوا إعطاء ليلى أحد الأدوية؛ لأن له تأثيرات جانبية، والدواء مستورد خصيصاً من أجلها من الولايات المتحدة.. من البلد التي يتواجد فيها خالك الآن.
إنهم يبحثون لها عن دواء بديل، وقد فكرت أنه ربما كان باستطاعة خالك مساعدتي.. ربما يستطيع مساعدتي بطريقة ما، خاصة أنه هناك، ومرضها نوعاً ما من اختصاصه أيضاً.
-إنه بالطبع لن يبخل عليك بالمساعدة إن طلبت منه ذلك.
في طريق العودة سألني زوج أختك بلا مقدمات إن كان لبيتر صديقة؛ فهذا أمر طبيعي في أوروبا!!
استغربت؛ بل استهجنت سؤاله.. ليس لأني أعرف أنه أمر طبيعي في أوروبا، (وطبيعي هنا؛ لكننا نتكتم عليه.. وهذا هو الفرق بيننا وبينهم!).
وليس لأني أعرف أن لا صديقة لبيتر هناك؛ ولكن لأني أعجب من الرجل.. يراه أمراً طبيعياً؛ كونه رجلاً أن يكون له صديقة.. ولأن زوج أختك أولاً وأخيراً يتجرأ أن يسألني عن أمر شخصي كهذا!
فقلت له:
ليست الخيانة أن يكون للرجل صديقة.. إن الخيانة هي الكذب!.. أن يكذب الرجل على شريكة حياته ويشاركها فراشها وهو يوهمها أنه يحبها بينما تكون لـه صديقة، وربما صديقات في الخفاء… نحن أحياناً لا نستطيع التحكم بعواطفنا التي قد تكون أكبر منا، والإنسان قادر أكثر على المسامحة بوجود الصراحة والصدق، وعاجز عنها أكثر بوجود الكذب.. أنا أعلم علم اليقين أن ليس لبيتر صديقة، وإن حدث ذلك، فسأكون بالتأكيد أول من يعلم!
وعاد يسألني.. يسألني هذه المرة إن كان لي صديق!
وأحببت أن يكون جوابي هذه المرة صاعقاً، وعلى مبدأ المساواة بن المرأة والرجل؛ فقلت له:
-كان من الممكن أن يكون لي صديق، ولكنه لم يكن!!
****
حلمت أحلاماً غريبة متتالية:
حلمت أني أرتدي الثوب الذي خيّطته لعرس سحر (أمل يتحقق)، وأنك تأتي لتزورني في بيتي وبيدك مسدس تضعه جانباً وتجلس قبالتي تحدثني (علي ألا أثير غضبك)، وأنني أقف أمام لوحة إعلانية (مفاجآت جديدة)…
اتصلت بي سناء لتخبرني أنها ستتزوج في اليوم الأول من شهر تموز، وستكون مجرد حفلة بسيطة.. شعرت بالخيبة؛ فأنت لن تكون موجوداً فيها..
ليت سناء تؤجل الموعد؛ فأنا لم أخيط الفستان إلا لكي تراني أنت فيه.. أردت أن أبدو جميلة (ربما) في عينيك. ذهبت بعد أيام إلى سناء أزورها، وما إن توارت في المطبخ لتعد القهوة، حتى اقتربت أمها مني تهمس لي مخافة أن تسمعها سناء:
-آه يا ابنتي.. لقد ارتحت أخيراً.. ارتحت أن سناء خطبت، وأنها ستتزوج قريباً.
لقد عذبتني كثيراً.. بسببه!
-بسبب من؟!
-بسبب الدكتور "…"، أرجوك لا تقولي لها أني أخبرتك.. سوف يغضبها ذلك!
-….!!
-لقد كان يحبها وينوي خطبتها؛ لكن أهله جن جنونهم عندما عرفوا، وخاصة أخته وابنتها.. لقد شعروا بالغيرة من سناء.. إنه كريم لا يبخل عليهم بالمال والهدايا؛ ولذلك لا يريدونه أن يتزوج!
-..!!!
كانت زيارتي لسناء قصيرة..
كنت مضطربة فغادرت بسرعة أحث الخطى على درب القرية.. أفكر بسناء وأخاطبها في سري:
لا داعي للكلام يا سناء..
لقد أدركت بحدسي القاسم المشترك بيننا نحن الاثنتين، ولذا أحبك الآن أكثر!
أخيراً عرفت اللغز.. ذاك اللغز الذي طالما عرفت بوجوده.
ذاك اللغز الذي يربطك وسناء.
جاءت أمها لتكشفه لي دون أن أسألها عنه.
(عرفت لمن تشكي همك يا أم جميل!).
أنت إذن قاسمنا المشترك!!!
لم تكن سناء تذكرك أمامي إلا بالخير.
أما أنت؛ فقد أزعجك جداً أن أتعرف عليها.. كنت حذراً جداً؛ فلم تجب على تساؤلاتي، وتركتني فقط أستغرب من ردة فعلك، ثم اتخذت من معرفتي بسناء حجة كي تبتعد عني.
(هل كنت حقاً تحبها، وتنوي خطبتها؟!..
هل كان حبكما عاصفاً كالرعد والبرق وانهمار المطر؟!!
أم أنها وحدها كانت تحبك؟.. هل كانت تحبك بتعقل؛ أم بجنون يشبه جنوني؟!).
****
فكرت، وقد عجزت عن الحصول على عنوان إقامتك في واشنطن، أن أرسل لك فاكساً إلى العيادة في دمشق؛ فعساك تستطيع مساعدتي عن طريق الانترنيت.
فكرت أن طيبة قلبك هي أكبر من غضبك، وأنك ستتناسى ماحدث بيننا، وتتذكر أنك أولاً وأخيراً طبيب؛ فلا تتوانى عن المساعدة.. مساعدة إنسانية أطلبها منك؛ ولذا أرسلت لك الفاكس.
لقد سافر بيتر بعد ثلاثة أسابيع من عودتي، واتصل بي في نفس اليوم ليطمئنني عن وصوله بالسلامة، وعن صحة ابنتنا.. أخبرني أنهم لم يجدوا لها الدواء البديل بعد، وأخبرته أني أرسلت لك فاكساً؛ فاستحسن الأمر. في اليوم التالي وجدت نفسي أفكر فيك، ولم يبق على عودتك سوى أربعة أيام.. وجدت يدي تمتد رغم ذلك تلقائياً إلى سماعة الهاتف لأطلب رقمك في دمشق.. إنه الحدس!
فوجئت بصوت ذاك الذي يعمل عندك يرفع السماعة:
-آلو؟!
-مساء الخير.. هل عاد الدكتور من السفر؟
-أجل؛ ولكنه لم يصل إلى العيادة بعد!
خفق قلبي بشدة، وعجبت كيف عرف هذا الخافق اللعين أنك عدت قبل الموعد المحدد؟!!
مرت أيام على عودتك، ولم تصدر منك أية بادرة إيجابية.. إنك تتجاهلني كالعادة.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساء:
ستسافر بعد قليل برفقة ريما إلى اللاذقية، ولابد أن أتصل بها غداً لأستفسر منها عن ردة فعلك بعدما قرأت الفاكس..
في الصباح التالي اتصلت بالعيادة في اللاذقية؛ فقد اشتقت لسماع صوتك.. وعندما تناهى إلى مسمعي أغلقت الخط بسرعة وأنا أفكر:
"يا إلهي.. يبدو أنه لوحده في العيادة.. ليتني أستطيع أن أراه.. عليّ أولاً أن أنتظر حتى تستيقظ ريما التي لا تشبع نوماً"!!
اتصلت بريما بعد الحادية عشر، وجاءني صوتها كالعادة كسولاً يغالبه النعاس:
-آلو؟!.. آه.. أهلاً كارمن.. كيف حالك؟
-بخير.. وأنت؟.. هل أيقظتك؟!
-لا بأس..
-هل سألت خالك عن الفاكس؟!
-لقد قرأه!
-وماذا بعد؟
-حزن كثيراً من أجل ليلى.
-هل يمكنني أن أراه؟!
-لا أعرف!!
-كيف لا تعرفين؟!.. ألم تلاحظي كيف كانت ردة فعله على الفاكس؟!
-يا كارمن.. اتصلي مساء؛ فأخبرك عندما أصحو!!!
يالها من بليدة.. لم آخذ منها لاحق ولا باطل..
ألهمني يارب الصبر حتى المساء!
في المساء.. كانت ريما قد شبعت نوماً:
-أجل.. لقد حزن من أجل ليلى.. قلت له: "يا خالو.. أنا حزنت من أجلها عندما رأيت صورها التي التقطتها لها كارمن في المركز".
-هل تظنين أن بإمكاني أن أزوره وأستشيره؟
-نعم.. لكن اتصلي به أولاً كي لا يتفاجأ بحضورك.. أرجوك كوني صبورة معه!
-حسناً.. سأفعل.. إلى اللقاء.
ذهبت صباح اليوم التالي إلى المدينة؛ فزرت سوسن، ثم اتصلت بالعيادة لأتأكد من وصولك.. كان نديم على الطرف الآخر:
-لا.. لم يحضر بعد.
-سأتصل بعد نصف ساعة إذن.
ولم تحضر بعد نصف ساعة، ولا بعد ساعة.. ونفذ صبري كالعادة، وهذا أحد عيوبي.
ذهبت إلى العيادة أنتظرك هناك، والعيادة مكتظة كالعادة.
ناولت نديم بطاقة مني يعطيها لك كي لا تتفاجأ بدخولي إليك، ومضى الوقت ولم تحضر.
طلب مني نديم الدخول إلى المكتب وانتظارك هناك.. نسيت أمر البطاقة التي أعطيتها له ودخلت، وكان ذلك خطأ شنيعاً.
في المكتب جلس زوجان ينتظرانك..
بادر نديم إلى تعريفهما بي؛ فابتسما لي، وعرفني الرجل بنفسه وبزوجته، وأردف:
-… لقد كنت أستاذ الدكتور عندما كان طالباً في الجامعة.. لقد زرنا بلد زوجك كثيراً، ولنا فيه أصدقاء.. وشرع يحدثني هو وزوجته عن تلك الأماكن التي أعرفها.
وفجأة دلفت من الباب..
وقعت عيناك عليّ، وعرفت من نظراتهما أنك تفاجأت جداً بوجودي، وغاص قلبي بين ضلوعي..
مددت يدك تصافح الأستاذ وزوجته وتقبّلهما على الوجنات، ثم مددت يدك لي:
-أهلاً "سيدة كارمن".
(سيدة كارمن؟!.. هذه أول مرة تناديني بها هكذا!.. تريد أن تشعرني أن علاقتنا أصبحت رسمية جداً).
-أهلاً دكتور، والحمد لله على السلامة.
وجلست ثانية، وبقيت أنت، واقفاً تتحدث إلى الأستاذ وزوجته اللذين كانا يستشيرانك في أمر ما..
كانت هذه فرصتي لأتأملك، وأشبع شوقي بالنظر إليك فقط: "كم اشتقت إليك أيها المجنون.. اشتقت إليك". (كنت متوتراً، والانزعاج واضح على وجهك.. هل كان سببه وجودي في مكتبك؛ أم سبب آخر.. أم الاثنين معاً؟!).
خرج الأستاذ وزوجته..
كنت على وشك أن أفرح بذلك؛ لكن سرعان من دخل بدلاً منهما رجلان جعلا الفرحة تموت قبل أن تولد.
خرجت لهنيهة بعد أن صافحتهما، ثم ناديتني:
-سيدة كارمن؟!
(ما أثقل هذه العبارة، وهي تخرج من بين شفتيك!).
كنت متوتراً جداً وعابساً جداً، وأنت واقف وأنا واقفة في غرفة الفحص الصغيرة الفاصلة بين مكتبك وغرفة الانتظار:
-ألم تخبرك ريما؟
-…
تجاهلت سؤالك الذي أدركت منه أنك لا ترغب برؤيتي..
(يا لحماقة ابنة أختك هذه.. إنها لم تخبرني شيئاً؛ بل شجعتني على المجيء إليك).
-هل تنوين إجراء عملية لليلى؟
-ربما أن هذا هو الحل؛ ولكن متى يمكن إجراء عملية كهذه بالنسبة لها؟
-في الحقيقة.. طالما أن العطب قد وصل إلى الجهاز العصبي؛ فإن الأمل في الشفاء أصبح مستحيلاً!.. فحتى لو تمت عملية الزرع بنجاح؛ فإن هناك مضاعفات ستظهر بعد فترة، والنتيجة ستكون واحدة!
-ماذا؟!.. ماذا تقول؟!!.. لا أمل؟!!!
-لا أمل..
جمدت في مكاني.. صعقني كلامك.. أخرستني من جديد.
وتكرر المشهد..
ها أنت تقف مرة أخرى أمامي جامداً كالصخر؛ لكنك بدل أن تكرر: صفر، صفر.. تفوهت هذه المرة بما هو أخطر:
لا أمل.. لا أمل.
هممت بالانصراف؛ ولكن فاجأتني في اللحظة الأخيرة.. كالعادة:
-اتصلي بي بعد الظهر.
-أين؟.. في منزلك، أو عند أمك؟
وزعق الهاتف في مكتبك؛ فدخلت قبل أن أسمع جوابك.
البطاقة على مكتبك..
لم تجد كتابتها نفعاً؛ لأنك لم تقرأها في الوقت المناسب..
ياله من لقاء!..
همت في الطريق لا أرى شيئاً.. في عيني غشاوة وكلامك مازال يتردد في أذني.
جئت إليك آمل أن تمنحني دقائق تحدثني فيها بهدوء.. تحترم فيها مشاعري كأم، إن لم تحترم من قبل مشاعري كامرأة.
جئت إليك؛ لأن صحة ليلى تتحسن، وتبعث الأمل في قلبي من جديد.. جئت إليك لتعزز الآمال وليس لتحطمها.
جئت إليك؛ لأني أحبك، وأثق بك رغم ماحصل. فأنا لا يمكنني أن أكرهك، إن لم يكن بإمكاني الحصول عليك!!
أردتك أنت أيها "الجراح" أن تجري العملية الجراحية، إن كان لابد من عملية؛ فكان لقاءنا بهذا الشكل المريع..
لم أكن أعلم أن اختصاصك بالجراحة يصل حتى المشاعر!
يالك من همجي قاسي!!
وعدت إلى نفسي ألومها.. أنا ألومها دائماً؛ وكأني أبحث لك في كل مرة دون وعي عن مبرر لتصرفاتك معي:
يالي من حمقاء متسرعة.. لو أني انتظرت حتى يقرأ البطاقة، ودخلت عندما يدعوني للدخول.. لقد أزعجه حتماً وجودي داخل المكتب بعد تلك المكالمة الهاتفية والقطيعة.. لابد أن تصرفي كان وقحاً؛ ولكني كنت متوترة يا إلهي، وكيف كان علي أن أبرر لنديم رفضي للدخول والانتظار في المكتب عندما دعاني؟!
اتصلت بك في منزل أمك في الرابعة؛ فأخبرتني أنك نائم.. بقيت نائماً حتى السادسة.. كنت ما أزال شديدة التوتر عندما أتاني صوتك، ولم أعرف كيف خرجت الكلمات من فمي:
- مساء الخير.. هل من شيء تضيفه لما قلته لي ظهر البارحة ؟
لابد أن توتري جعل نبرتي فظة، وأردت إغاظتي بإجابتك:
- لا.. لا شيء!!
-لا شيء؟!.. مع احترامي لرأيك.. كيف توصلت إلى تحليلك السريع وحكمت مسبقاً على ابنتي بالموت، وأنت لم تسألني عن وضعها الصحي، ولم تعرف بتاتاً كيف أصبحت؟!!
- بيب.. بيب!
- انقطع الخط؛ فعاودت الاتصال:
- آسفة… لقد انقطع الخط.
- أنا مستعجل.. علي الذهاب إلى اللاذقية إلى بيت صهري!
- كيف توهمت أن بإمكاني طلب المساعدة منك؟.. لا أمل يرجى منك.. إني أنا من يتمنى لك التوفيق حقاً!!
أغلقت الخط، وجمدت في مكاني.. أحسست بالعرق البارد يتصبب من جسمي كله، وأصابتني القشعريرة، ثم انفجرت باكية.
اتصلت بي ريما، وأنا ما أزال أبكي:
- كارمن.. ما الأمر؟!
- خالك. استقبلني أسوأ استقبال، وأخبرني أن ليلى مائتة لا محالة!
- يا إلهي.. لقد بالغت، وأخبرته أن ليلى بأسوأ حال كي يشفق عليها ويساعدك؛ لكن النتيجة كانت عكسية تماماً!
- أيتها الحمقاء.. ألم تخبريه إذن أن ليلى تتحسن؟!!
على أي حال؛ فهو لا يراعي مشاعر أحد، وسواء أكانت تتحسن أم على وشك الموت –كما ظن هو- فما كان عليه أبداً أن يستقبلني بهذه الطريقة الفظة، وقد جئت خصيصاً إليه أطلب منه العون.
لم أتمالك نفسي؛ فعاودت البكاء.
اضطربت ريما وسألتني بحذر:
-بالله عليك يا كارمن.. هل حصل بينكما أمراً ما لا أعرفه؟!
أدركت بسرعة أن علي أن أنتبه لانفعالاتي:
-طبعاً لا.. لقد خاب أملي فيه فقط؛ لأني أحترمه، وكنت أعتبره صديقاً عزيزاً.
شعرت بالدوار بعد المكالمة مع ريما؛ فاستلقيت على الأريكة..
بقيت ساعات مستلقية أغفو وأصحو.. أتذكر كلامك فينقبض صدري وأشعر أني مريضة.
بقيت في اليوم التالي متعبة جداً.. وفي المساء اتصلت ريما:
-لقد عاتبت خالي، وقلت له أن ليلى تتحسن، وأنه ما كان يجدر به أن يقول لك ما قاله؛ فأجابني أنه لم يقصد أن يجرحك، وأنه هكذا.. لا يعرف المجاملة!
-هكذا إذن.. لا يعرف المجاملة!!
-أرجوك.. لا تغضبي كثيراً منه؛ فجدي مريض جداً وحالته لا تطمئن، وقد تأخر خالي عن العيادة لهذا السبب، وعندما دخلها كانت مزدحمة، وكنت هناك.. كانت الضغوطات كثيرة.. وكل منكما كان مسدوداً بقشة!
-لم أكن أعلم أن جدك متعب للغاية.. لماذا لم يخبرني؟.. لو أنه فعل لعذرته حتماً وأجّلت الحديث إليه لوقت آخر؛ لكنه بدلاً عن ذلك، زاد الطين بلّة.. كنت متوترة، وكان متوتراً؛ فتكهرب الجو بيننا!
-قال لي أنه يستغرب أن تأتي إليه، وهو ليس بالطبيب الذي يمكن مقارنته بالأطباء "الفطاحل" هناك.
-…
(كم أنت متواضع!.. فكرت، ولم أجب).
-… وأنه لم يشأ أن "يحرق لك قلبك" ويبكيك.
-أخبرته إذن أني بكيت؟!
-أجل.. قال لي أنه حزن من أجلك عندما لاحظ وقع كلامه عليك؛ فطلب منك أن تتصلي به في المنزل؛ لكنك تفوهت بكلام غريب لا يدري ماهو؛ فأغلق الخط!
(أنت إذن من أغلق الخط، وقد ظننت أنا أن العطل من الهاتف!.. أتغلق الخط لأني تفوهت حقاً بكلام غريب تعذّر عليك فهمه؟!!).
قلت لريما في محاولة مني لتغيير الموضوع:
-حسناً.. أخبريني ياريما.. كيف حالك، وكيف حال خطيبك؟
****


 
 

 

عرض البوم صور النهى   رد مع اقتباس
قديم 11-05-09, 12:26 PM   المشاركة رقم: 20
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Feb 2008
العضوية: 65992
المشاركات: 389
الجنس أنثى
معدل التقييم: النهى عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 18

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
النهى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النهى المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 



الرسائل تشفي غليلي منك.. وسيلتي الوحيدة لمخاطبتك.
جلست أفكر قبل أن أكتب:
ملعونة أنا وملعونة هذه الرسائل؛ ولكن ماذا عساي أن أفعل سوى ذلك؟
أكتب إليك وأنا أعرف مسبقاً أنك تسخر من رسائلي ولا تجيب عليها أبداً..
فلماذا أكتب إليك؟!
أكتب إليك، لأني أكره أن تعاملني هكذا.
أكره أن تتجاهلني، وأنت من أغويتني فأحببتك.
أكره أن تتهرب مني، وأنا لا أطالبك بمنحي عواطفاً لا تملكها.
أكتب إليك؛ لأني أكره نفسي من أجلك!
أكره نفسي لأنها ضعيفة لا تستطيع أن تكرهك!!!
فهل عرفت الآن لماذا أكتب إليك؟!
كتبت إليك عن حالة ليلى بالتفصيل.. عن قلقي ومخاوفي.. عاتبتك برقة، وتمنيت لو أنك تفهم هذا كله، واتصلت بك بعد أيام:
-هل وصلتك الرسالة؟
-نعم.. وصلت ولم أقرأها!
-هذا يعني أنه لا يمكننا أن نتحدث.
-لا!!
-باي باي إذاً!
-أهلاً.. مع السلامة!!!
(طبعاً قرأتها، ولو من باب الفضول.. فكرت ملياً، ثم عاودت الاتصال:
-آلو؟!
-لقد قرأتها.. أيها الجبان!
-آلو؟!!
(تظاهرت أنك لا تسمعني).
-لقد قرأتها، وأنا أعرف!
وأغلقت الخط..
****
ذهبت في اليوم التالي إلى المدينة.. طلبت من السائق أن يتوقف قرب مبنى البريد، وما إن ترجلت من السيارة حتى لمحت ورقة نعي ملصقة على مدخل المبنى.. لقد توفي الجد!
توفي الجد؛ فتزوجت سناء بلا ضجة وبلا حفل زفاف، وبقي فستاني معلقاً في الخزانة.. لم ألبسه، ولم ترني أنت فيه!
ومرت الأيام سريعاً، وذهبت يوماً أزور أختك في القرية..
فرحت أختك كثيراً بأخبار ليلى؛ فهي تمشي، ولم تعد بحاجة إلى كرسيها المتحرك.. إنها تتكلم، وأصبحت قادرة على الرسم من جديد..
قال لي بيتر:
-لن تصدقي يا كارمن.. إنها معجزة.. لقد مشيت مع ليلى كيلومتراً كاملاً اليوم.. لقد طلبت مني ورقة فظننت أنها تريد أن تكتب؛ لكنها رسمت حصاناً كما كانت ترسم من قبل.. سأعطيها السماعة لتحديثها وتسمعيها بأذنك!
جلست مع أختك في الشرفة، وقد قاربت الساعة السادسة مساء.. كانت النسائم اللطيفة تداعب أشجار الحديقة وتحمل عبق الأزهار.
أعطيت أختك نقوداً لتوزعها على الفقراء شكراً لله من أجل ليلى، وأخبرتها أن ليلى ستأتي الأسبوع القادم مع والدها لتقضي هنا إجازة أسبوعين.
قالت لي أختك:
-توقّعنا قدومك ظهراً؛ فقد دعوت أخي لتناول طعام الغداء معنا، وطبخت أرز بالبازلاء و…
وشردت أفكر:
"يا للحظ العاثر.. ليتني جئت ظهراً ورأيته"..
نسيت من جديد موقفك السلبي؛ لأن شوقي إليك أقوى دائماً من جفائك.
دخلت أختك المطبخ لتحضر القهوة، ووقفت أنظر عبر حديقتها إلى حديقتك المهملة وبيتك، وأفكر:
"حظي دائماً عاثر معك، والظروف تعاكسني.. ليتك تحضر الآن وأراك".
لم أجرؤ على إطالة النظر.. خفت أن ينتبه أحد أني أمعن النظر إلى وجهة واحدة هي وجهتك؛ فقد انضم زوج أختك إلى مجلسنا وتبعته ريما بعد أن استيقظت من قيلولتها.
ولم يمض بعض الوقت حتى دخل نديم بسرعة ليخبرهم أن الخال العزيز قادم بعد دقائق ومعه ضيوف!!
خفق قلبي بشدة: "هل استجبت يا ربي بسرعة لرغبتي؟!".
ونظرت إلى وجه ريما، الذي كان منتفخاً من آثار النوم؛ فرأيت علائم كالرعب ترتسم عليه!
-مابك!
-سيحضر خالي وأنت هنا، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله إن رآك!!
-يامجنونة.. أنا في بيتكم ولست في بيته.. هل علي إذن أن أنصرف حتى لا يرى وجهي؟!
-لا أدري!!
-إنك حقاً مجنونة.. سأدخل إلى الغرفة؛ فليس من اللائق أن يأتي والضيوف وأنا جالسة هنا وحدي بعد أن دخل والداك لتبديل ملابسهما.. لكن من المؤكد أني سأبقى هنا.
ما إن دخلت الغرفة حتى سمعت صوتك الحبيب يأتيني من الشرفة.
لمحتك من طرف الباب وأنت تجلس وتبتسم، ومالبثت ريما أن دخلت وقد هدأ روعها.
خرجت، ولم أستطع أن أخفي ابتسامة عريضة ارتسمت تلقائياً على شفتي.
كنت تبتسم لي وأنا أمد لك يدي مصافحة:
-مرحباً يا دكتور.
-أهلاً وسهلاً.
مددت يدي أصافح المرأة وزوجها وجلست..
جلست إلى جانبك الأيسر، وجلست ريما إلى جانبي تتأملنا بدهشة وصمت.
نظرت إلي وأنت مازلت تبتسم وتسألني عن حالي وحال ليلى، وأنا أجيبك محاولة إخفاء اضطرابي وراء ابتسامتي، وقد ارتفع وجيب قلبي حتى خيّل لي أنك تسمعه!!
كانت عيناي تنظران إليك غير مصدقة ماتسمعه أذناني.. وابتسامتك..
ابتسامتك الساحرة.. كم أحبها!
أنا أنسى الدنيا عندما تبتسم لي!!
نسيت الدنيا، ولم أعد أرى فيها غيرك؛ لكنك أعدتني إليها وأنت تبادر وتعرّف الضيفين عليّ!..
تحدثهما عني، وعن عائلتي مبتسماً، وأنا بقربك فرحة.. فرحة جداً.
قلت لك:
-حماتك تحبك!.. فقد أحضرت لك كاتو.
فضحكت، ولم تجب.. وفجأة استأذنت بالذهاب؛ لأن ثمة ضيوفاً آخرين ينتظروك في منزلك.
قطعت قالب الكاتو نصفين تركت نصفه في بيت أختك، وأرسلت إليك النصف الآخر مع أحدهم..
كان الكاتو كله لسوسن وصديقاتها، وكنت سأنام الليلة عندها ونذهب غداً في نزهة إلى صلنفة. ولكن حضورك جعلني أستغني عن الكاتو، وعن النزهة من أجلك!
(أنا آسفة ياسوسن؛ فالكاتو لن يكون من نصيبك هذه المرة؛ ولكنك صديقتي التي تفهمني وتعذرني).
****
قلت لريما أنك لا تفهمني البتة؛ فمرة أصالحك ومرة أخاصمك، وأني مجنونة!
وجاءت إلي تخبرني بما قلت.
وشعرت بالخزي..
كيف تتكلم عني هكذا أمام ريما التي تصغرني بعشر سنوات، ولا تعرف ربع ما أعرف؟
بدأت تشكو مني.. تثرثر عني لريما، ولم تكن تفعل ذلك من قبل.. هذا خطير.
هل ستخبرها في المرة القادمة بتفاصيل زيارتك لي؟!!
هل أنت حقاً لا تفهمني؟.. ولماذا لا تفهمني، وأنا واضحة وصريحة وصادقة معك و.. معه؟!
ألأنك لم تتعود على الوضوح والصراحة والصدق؟!!
لم تتعود –أيها الشرقي- على امرأة مثلي تعتبر الكذب أكبر الخطايا، وسبب كل الخطايا، وتجرؤ أن تفتح لك صفحاتها لتقرأها كلها دون حرج.. لأنها أحبتك!
عندما رأيتك في منزل أختك نسيت غضبي كله وظننت أنك فهمتني أخيراً، وأن لطفك معي لم يكن مجرد مجاملة لي أمام الناس.
اشتهيت لك الكاتو، ربما لتدرك ولو للمرة المئة أني لا أحقد عليك.. فلماذا تفضحني أمام أهلك؟!
ربما أنا مجنونة.. معك حق؛ ولكني لم أكن كذلك قبل أن أعرفك أيها العاقل جداً!!
كيف تفسر إذن تصرفاتك معي؟!
طبعاً أنت رجل، ولتصرفاتك في مجتمعنا تفسير آخر غير الجنون؛ لكنه يبقى جنوناً وإن اختلف عن جنوني!
آسفة أني لم أفهم قصدك عندما قلت لي: "تعالي نجن معاً؛ فنحن لا نؤذي أحداً"!..
تمنيت لو نجن معاً؛ لكن جنونك لم يوافق جنوني!
وتمنيت لو نبقى مجرد أصدقاء؛ فأفرح برؤيتك من حين لآخر.
وتمنيت لو تقدر على الأقل مشاعري، إن لم يكن بإمكانك أن تبادلني إياها؛ فقلت للآخرين عني أني مجنونة.
****

اتصل بي بيتر قبل أسبوع من الموعد المرتقب لقدوم ليلى إلى سورية من أجل إجازة قصيرة، ليخبرني أنها لن تأتي..
لقد أصيبت بالتهاب طارئ بالدماغ يحتاج إلى صور وفحوصات وتحاليل!
أخبرني أنها بخير؛ لكن كلامها أصبح غير مفهوم كثيراً بسبب الدواء الذي ينبغي عليها تناوله.
تهدج صوتي وأنا أكلمه وطفرت الدموع من عيني..
لقد فرحت كثيراً وانتظرت طويلاً قدوم ليلى؛ فقد طال غيابها عن المنزل.
وما عساها تفعل الآن، وقد علمت أنها لن تسافر؟!
كنت قلقة من أجلها، وخائفة أن يؤثر عدم تمكنها من السفر على نفسيتها، ولكن بيتر طمأنني أنها بخير.
وكنت قد اتفقت مع سوسن أن تذهب وأفراد أسرتها كلهم إلى دمشق لاستقبال ليلى في المطار، وشرعت أعد في ذهني كل الترتيبات..
كنت سأسبقهم بيوم؛ لأني مدعوة للعشاء في السفارة ثم يوافونني في اليوم التالي.
قلت لبيتر، وأنا أتأمل بحزن الكلب القماشي الصغير الذي اشتريته من أجل ليلى، وكنت سأحمله إليها لاستقبلها به في المطار:
-لن أذهب إذن الأسبوع القادم إلى دمشق.
-بل اذهبي أرجوك.. يجب أن تلبي الدعوة هذه المرة.. هذا مهم؛ فقد انقطعنا مدة عن الذهاب، كما أني أتمنى أن تذهبي لتروّحي عن نفسك قليلاً.
-حسناً.. سأذهب.
****
توزع المدعوون في أرجاء الحديقة في مقر السفير يحملون كؤوس الشراب ويتناولون المقبلات ويتبادلون الأحاديث..
وجئت وحدي.. مرة أخرى.
السفير وقرينته عند الباب كالعادة يرحبون بالضيوف ويتبادلون معهم المجاملات.
معظم الوجوه مألوفة لدي.. أتأملهم يتضاحكون.
السكرتيرة سامية تقبل علي باسمة وتقبلني:
-مرحباً يا كارمن.. كيف حالك؟.. وكيف حال المسيو بيتر؟..
كيف حال ليلى؟.. طمأنيني عنها.
وجاء الباقون يلقون علي التحية ويسألونني نفس الأسئلة..
كانت سيسيليا الغانّية الأصل تعبث بالقلادة الذهبية السميكة في عنقها البني، وهي تتذكر مع زوجها الأبيض اللون الأزرق العينيين، وتذكّر الأصدقاء الذين كانوا معها، وتخبر الذين لم يكونوا.. بذاك اليوم الذي تجمّعوا فيه بعفوية ودون موعد مسبق وجاؤوا يزوروننا في بيتنا في القرية الجبلية باللاذقية.
قالت سيسيليا وهي تضحك؛ فتبدو أسنانها اللؤلؤية:
-لقد كان يوماً رائعاً في بيت كارمن وبيتر الجميل .. لقد… و…
وشردت أتذكر معها ذاك اليوم..
لم يجدوا صعوبة في العثور على البيت؛ فللبيت علامة فارقة، ونحن معروفون في القرية، وأناسها الفضوليون لا يستثنوننا من ثرثراتهم في الأمسيات!
وقفت السيارات في الزقاق تثير بلوحاتها المميّزة فضول الجيران، وترجّل منها الضيوف المزدوجي الجنسية.. كان اجتماعاً مصغراً للأمم المتحدة في بيتنا.. جنسيات تونسية وسويسرية وألمانية ولبنانية وفرنسية وغانيّة وسورية!
وكنا نتحدث كيفما اتفق: بالعربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية.
كنا ننوي دعوة أربعة أشخاص؛ فأصبحوا عشرة، وفرحت بزيارتهم، ولم أجد حرجاً في ذلك؛ بل بالعكس.. إن "مكان الضيق يتسع لألف صديق".. ولقد كان حقاً يوماً رائعاً تعيد سيسيليا ذكراه كلما التقينا.
كنا أسرة منسجمة، وكانت دفاتر حساباتي العاطفية مع بيتر مغلقة لا أنوي مراجعتها..
كان لنا بيت جميل يجمعنا، وهوايات وأشغال تمنع الملل من التسلل إلى نفسينا، وتنسينا ذاك الحاجز اللامرئي القائم بيننا.
كانت ليلى يومها تبدو كأقرانها.. مفعمة بالحيوية والصحة؛ فأين اليوم من البارحة؟!!
****
البارحة كان حفل السفارة، وأنا سأعود صباح الغد لللاذقية.. لدي إذن الوقت كله مساء اليوم.
قادتني قدماي إليك.. صعدت الدرج وبيدي ورقة صغيرة:
"أتعرف؟.. لو حكم علي بالإعدام، وسألوني عن أمنيتي الأخيرة، لما طلبت سيجارة؛ وإنما أن تجلس قبالتي وتنظر مباشرة في عيني وتقول لي لماذا يمكنني أن أتكلم وأتصالح حتى مع العفاريت الزرق، ولا أستطيع ذلك معك؟!".
كان حمزة واقفاً عند الباب؛ فسألته إن كنت موجوداً؛ فأومأ لي بالإيجاب..
كنت أنت في غرفة الانتظار جالساً وراء طاولة المكتب بدلاً منه، وكانت العيادة تعج بالزوار، وكنت أنا آخرهم..
تبادلنا التحية "العادية" ودلفت أنت إلى مكتبك، وجلست أنا في غرفة الانتظار.. أنتظر والورقة الصغيرة مازالت في يدي.
جاء دوري، وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساء، عندما دخلت..
أخذت القصاصة ووضعتها في جيب قميصك دون أن تقرأها..
قلت لك:
-كتبتها لأستأذن بها بالدخول عليك.. لم أتوقع وجودك في غرفة الانتظار.. ألا تريد أن تقرأها؟
قلت لي، وأنت تجلس تلقائياً قبالتي.. كما أتمنى:
-سأقرأها فيما بعد.. ما الأمر؟
كان وجهك جافاً جداً.. وقرأت لك الورقة عن ظهر قلب.
-أنا حر.. أنا دائماً هكذا!!
-حر؟!.. لا.. أنت لست حراً "هكذا"؛ فللحرية أيضاً حدودها، و..
لم أستطع أن أكمل الجملة؛ فقد دخل للتو رجلان!
(ياإلهي.. لقد جاوزت العقارب الثامنة؛ فلم يأتيان الآن؟!).
نظرت إليهما.. أود أن أصفعهما، بينما أنت ترحب بهما وتدعوهما للجلوس!
وخرجت معي إلى الباب الخارجي.. وقفنا عند الدرج نتابع حديثنا القصير جداً.. كنت أعددت في ذهنك إجابة سريعة توهمت أنت أنها مقنعة:
-أنت تخيفينني!!.. أسلوبك.. رسائلك.. أنت تخيفين من يحبك!!
-أنا لا أخيف.. أنت من تهرّب مني دون سبب.
-أنا حر.. أنا هكذا!!
-ماذا يعني ذلك؟.. هل أنت مجنون إذن؟!!
-نعم.. أنا مجنون!!
(لم تعد تجد عذراً مقنعاً أكثر.. أيها المجنون).
اقتربت منك بصمت أعانقك وأطبع على خدك قبلة، ثم أمسكت يدك برفق وقلت لك وأنا أنظر في عينيك مباشرة:
-أحبك أيها المجنون.. وإن حدث وتقابلنا مرة أخرى؛ فأرجو أن تكون لطيفاً معي.
تنازعتني مشاعر متضاربة وأنا أهبط الدرج..
شعرت بحزن عميق.. حزن أعمق من الغضب والنقمة.. حزن أقرب إلى الشفقة عليك!
خرجت زائغة النظرات إلى الشارع المزدحم بالضجيج، والمضاء بالنيونات.. مازال طيف وجهك الكالح في عيني، وكلماتك المؤلمة في أذني، وعدت إلى نفسي أحاسبها كالعادة لأجد لك مبرراً.. كالعادة:
هل أنا مخيفة حقاً؟..
هل أصبحت شرسة ومشاكسة لدرجة تجعلك تنفر معي؟
أتخاف مني وأنت "المثقف" المسافر في أرجاء الدنيا؟
أتخاف أنت بالذات من جرأتي وصراحتي، وأنت من يحسب الناس له ألف حساب؟!
أتريدني أن أتملقك وأجاملك فقط، وأن أكذب عليك وعلى غيرك كي أرضي غرورك كرجل؟!!
أنت لست مثقفاً إذن.. أنت رجل متعلم.. فقط!
أنا لم أكتب رسائلي هكذا.. بلا سبب.
جفاؤك جعلني أغضب، وجعلني أكتب لأعاتب..
أعاتبك لأعرف السبب، وأنت تهرب وتتهرب.. ثم تضع اللوم كله على رسائلي وتقلب النتيجة سبباً؛ وكأنك تتعامل مع ساذجة!
ظننت أنك ستتخلص مني بأسلوبك هذا؛ لكنك كنت واهماً يا عزيزي!
إن أسلوبك هذا يستـفزني ويجعلني أشعر برغبة مميتة أن أحاصرك حتى النهاية.. حتى أنتزع منك جواباً مقنعاً!
أنا لم أعتد أبداً أن يتجاهلني أحد مهما يكن، ومهما تكن الأسباب..
أتجد صعوبة أن تقول لي أني لم أكن بالنسبة لك سوى نزوة عابرة؟
إن ذلك لا يتطلب منك سوى بعضاً من الصدق في التعامل مع نفسك ومعي، وبعضاً من الرقة والدبلوماسية كي أتقبل الأمر بأقل قدر من الصدمة، وأدعك وشأنك!
إن ذلك لا يتطلب منك شجاعة أكثر من الشجاعة التي يتطلبها اعتراف امرأة لزوجها أنها تحب غيره!!
سأراك ثانية إذن!!
****

 
 

 

عرض البوم صور النهى   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ربيـــعا ، للكاتبة عائدة الخالدي, قد يأتي الخريف, قد ياتي الخريف ربيعا
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 04:25 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية