كاتب الموضوع :
النهى
المنتدى :
القصص المكتمله
الشتاء الأول
شوق آخر وانتظار
أقلعت بي الطائرة في ذاك اليوم الشتائي، , وأطلقت مع انطلاقها من مدرج المطار لدموعي العنان.. تسيل على وجنتي بلا حرج.
أسافر إلى هناك مرغمة؛ فابنتي بحاجة إلى وجودي بقربها أكثر من أي وقت مضى، وأنا بحاجة لأن أضمها إلى صدري وأبكي ألماً من أجلها.
كان بيتر ينتظرني في المطار، وأحسست بالبرد ينفذ حتى عظامي وأنا أدخل السيارة في مرآب المطار الكبير. أمطرت بيتر طوال الطريق بوابل من الأسئلة عن ليلى…
لقد استدعى جليسة أطفال لترعى ليلى أثناء غيابه ليجلبني من المطار؛ فوالديه يقضيان أياماً في اجازة.
استقبلتني جليسة الأطفال العجوز بلطف وأخبرتنا أن ليلى أوت إلى الفراش، ثم استأذنت بالانصراف، وذهب بيتر معها ليوصلها إلى بيتها بالسيارة .
لم تكن قد غفت بعد، وما إن سمعت أصواتنا حتى هرعت إلينا، وارتمت بين ذراعيّ تعانقني وتحاول أن تتكلم؛ ولكن الكلمات لاتخرج أبداً بوضوح من بين شفتيها..
يداها متشنجتان وأصابعها مضمومة، وجهها متوتر وذراعاها تتحركان بطريقة عشوائية كلما حاولت أن تشرح لي أمراً ما استعصى علي فهمه من المرة الأولى.
جلست وحدي مع ليلى أتأمل وجهها الشاحب وجسمها النحيل.. كنت أحاول قدر الإمكان أن أخفي انفعالي وأبدو طبيعية ولا أجعلها تشعر كم تؤلمني رؤيتها هكذا.
عاد بيتر ونحن مازلنا نتحدث، ثم كان لابد من النوم..
ذهب بيتر إلى الغرفة الأخرى، وضممت ليلى إلى صدري ونمنا..
اليوم الاثنين..
المسافة مابين المنزل والمشفى، حيث ستجري فحوصات ليلى، لا تتعدى الربع ساعة بالسيارة، لكنني شعرت أنها تمتد ساعات..
أصبح الرعب يتملك ليلى كلما اضطرت لركوب السيارة فتبدأ بالصراخ الهستيري وتهتاج.
قال لي بيتر، وقد قرأ المعاناة في وجهي:
ـ أرجوك لا تنفعلي.. حاولي أن تتجاهلي تصرفاتها.
ووصلنا المشفى وأعصابي علىوشك الانهيار؛ فأنا لم أرها من قبل في حال كهذه.. أما بيتر فلم يعد ذاك المشهد بجديد عليه..
ما إن توقفت السيارة حتى هدأت المسكينة، وقد تبلّل وجهها الأحمر وشعرها بالعرق الغزير من شدة الانفعال. في المشفى أخذوا خزعة من نخاعها الشوكي، وجسّوا أعضاءها عضواً عضواً بأجهزتهم المتطورة، وأجروا لها صوراً شعاعية وغير شعاعية…
لم تمر الفحوصات بسلام؛ فقد كان لابد لليلى من الاعتراضات المصحوبة بالصراخ.
اليوم الأربعاء..
كان لابد في الصباح من أخذ خزعة أخرى من النخاع الشوكي، من منطقة الحوض هذه المرة، وفي المساء استقبلنا الدكتور شميد الطويل القامة جداً في مكتبه بالمشفى…
شرع الدكتور شميد، بعد الاستئذان منا، بتصوير ليلى بالفيديو معللاً ذلك بأن حالة ليلى حالة خاصة لم يسبق له أن عرفها من قبل، وأن عليه تصويرها ليسهل عليه دراسة حالتها بشكل أفضل.
كان يركز التصوير على حركات يديها وأصابعها المتشنجة.
جلسنا معه بعد ذلك بدون ليلى حول المنضدة الصغيرة المستديرة، وبدأ يشخص لنا مبدئياً، ولحين الحصول على النتائج النهائية للتحاليل، حالة ليلى المرضية:
ـ أشك بنسبة 95% أن يكون مرضها عصبياً نادر الوجود، وهذا المرض ـ في حال ثبوت إصابتها به ـ مرض ينتهي بها إلى….
ـ أينتهي بها إلى الموت؟!..
سألته بعد أن استجمعت شجاعتي.
قال لي وهو يناولني بطريقة روتينية جداً علبة المناديل الورقية:
ـ أجل.. للأسف.. تسوء حالتها تدريجياً ثم…
أجهشت بالبكاء وارتفع نحيبي، وبيتر ينحني فوقي ويضغط على يدي.
عدنا إلى البيت وأنا أسيطر على أعصابي.. أحاول كبت مشاعري فلا يبدو منها ماقد يحرّك الشك في نفس ليلى. إنها ذكية وتدرك فوراً من تعبير وجهي أن ثمة أمراً ما..
لكني في المساء، وأنا أحتضنها في الفراش، وأحكي لها حكاية قبل أن تنام ترقرقت الدموع في عينيّ.. حدّقت ليلى فجأة في وجهي وسألتني:
ـ ماما.. ما الأمر؟!
ـ لاشيء يا حبيبتي.. يبدو أنني أصبت بالزكام؛ ولذا تدمع عيناي قليلاً.. تصبحين على خير.
ـ تصبحين على خير.
قبّلتها على الوجنتين وخرجت مسرعة من الغرفة وأنا أحس بالاختناق.
أسرعت إلى الشرفة لأبكي بصوت عالي حيث لا يسمعني أحد؛ فالظلمة أطبقت على الدنيا من حولي؛والوقت شتاء، والجميع ينعم بالدفء، وراء الأبواب المغلقة..
بكائي أشعرني ببعض من راحة؛ فمسحت دموعي ودخلت..
كان بيتر يحتسي القهوة مع والديه ويحدثهما عن تشخيص الطبيب المبدئي لمرض ليلى.
قال والده ببرودة وهو ينفث دخان سيجاره:
ـ إن كان الأمر كذلك؛فمن الضروري فك التقويم الموضوع عن أسنانها كي لا يضايقها حتى النهاية!
نظرت إليه بقرف وكأنني على وشك أن أتقيأ وقلت له:
ـ يا لأهمية هذا الأمر الذي تلفت انتباهنا إليه الآن!.. فعلاً لم يتبق لدينا سوى مسألة التقويم لنفكر فيها!… لقد سلّمت حقاً بنهايتها المحتومة مع أن تشخيص الطبيب مازال مبدئياً؛ ومازال لدينا نسبة 5% من الأمل على الأقل.
تمنيت من شدة الانفعال لو أصفعه.. لكنني عوضاً عن ذلك أجهشت مجدداً بالبكاء.
لم يعرف عمي النبيه بما يجيب؛ فقد أخرسه كلامي وأدرك أنه تفوّه بما لم يكن ينبغي له أن يتفوّه به؛ فالتزم الصمت كزوجته وابنه.
في تلك الليلة أصابني الأرق وأنا أفكر بابنتي الغارقة في النوم بجانبي.. أتأملها وأمسح برفق وجهها الشاحب كي لا أوقظها، وأقبّل يدها الصغيرة التي لا تسترخي إلا أثناء النوم فقط.
أفكر في كلام الطبيب وأتساءل:
ماذا لو كان تشخيصه صحيحاً؟
هل أصبحت أيامها حقاً معدودة، وسأفقدها بعدئذ إلى الأبد؟!
يا إلهي.. لا تجعل تلك إرادتك.. أرجوك..
قبل بزوغ الفجر بقليل، استسلمت للنوم وحلمت بليلى تذهب إلى المدرسة، ثم لا تلبث أن تعود منها لأنها مريضة.
****
أتأمل من النافذة الثلج يتساقط خفيفاً في هذا اليوم الرابع من كانون الأول، ويغطي تدريجياً أسطح البيوت القرميدية وأغصان الأشجار الصنوبرية الباسقة، وقد استحال لون البحيرة رمادياً كالسماء
الملبّدة بالغيوم.
ليلى مازالت على حالها لا تعرف كيف تستلقي ولا كيف تستريح ولا كيف تأكل..
أصابعها مازالت مضمومة ويداها مازالتا متشنجتين والدكتور شميد لم يتصل بعد؛ إذ يبدو أن نتيجة الفحص الأخير لم تظهر بعد.
بعد يومين اتصلت بي ريما من اللاذقية لتسأل عن ليلى وعني وتستفسر عن موعد عودتي إلى سورية.
لا أدري متى سأعود ولا أدري أيضاً ماذا يمكنني أن أفعل هنا، والانتظار مقيت.
أتذكرك رغم الهموم الكثيرة التي تقض مضجعي و… أشتاق إليك.
وبيتر؟!.. لطيف وحنون! لكني يئست حقاً من إذابة جليده.
أغيب عنه ويغيب عني ولا يكون للقائنا أبداً، ومهما طال الفراق تلك الحرارة التي أفتقدها.
لقد اقتصر تواصلنا الجسدي بعد غياب على مجرد قبلة عابرة استقبلني بها في المطار!
وقبل هذا الغياب؟!
منذ متى لم تجمعنا لحظات حميمة؟!.. ربما منذ سنة، أو أكثر؟!.. لا أدري حقاً!..
"لحظات"؟!.. بل دقائق.. دقائق!!.. (فالدقائق أطول من اللحظات، والكذب حرام!)..
نتلامس لدقائق قبل أن يأتي الملل وينتهي الأمر، فنبقى صامتين، أو نتحدث.. ربما في السياسة!!
نتلامس، فلا تسري في جسدينا تلك الكهرباء التي ينبغي أن تسري فيهما..
نوهم أنفسنا أننا نمارس الحب؛ لكننا لا نعرق أبداً!!..
"العرق دموع الجسد، ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، لا نبكي جسدنا من أجل أية امرأة، ولا من أجل أية لوحة.. الجسد يختار لمن يعرق".
هكذا خاطب العاشق حبيبته في الكتاب؛ وأنا لم أكن بحاجة لممارسة الحب معك كي أعرق!..
كانت تكفي يدك تمسك بيدي في تلك الأمسية لتصيبني الحمّى، وأعرق.
تلك الأمسية أصبحت بعيدة.. بعيدة جداً.. كالحلم.
الآن .. ربما أكثر من أي وقت مضى أردت أن أضمه ويضمني..
أردت أن ألتمس من جسده ويلتمس من جسدي دفئا…
أردت أن أمنحه ويمنحني من تعانقنا قوة…
قوة تجعلنا على الأقل قادرين على مواجهة محنتنا..
قوة تجعلني أطرد من رأسي أفكاراً مجنونة محورها أنت.
أردت أن أجرّب للمرة الـ…؟
ولكن.. عبثاً.
فلا اللمسات ولا المداعبات ولا حتى التلميحات تؤثر فيه….
في ذاك المساء، وليلى نائمة، ووالديه مازالا مسافرين، قلت له وهو مستغرق بمشاهدة برنامج ما على التلفاز:
"أنا ذاهبة لآخذ حمّاماً سريعاً، ثم أذهب إلى الفراش، فهل توافيني… إلى هناك.. بعد ربع ساعة؟!"..
أجابني بلا مبالاة ودون أن يرفع عينيه عن التلفاز: "نعم.. نعم"..
لم تكن ردة فعله أو جوابه مشجعاً؛ لكنني رغم ذلك اندسست في الفراش، في الغرفة الأخرى أنتظره… وانقضت ربع ساعة، ونصف ساعة، ثم ساعة كاملة، ورغبتي فيه تتلاشى ويحل بدلها غيظاً بدأ يغلي في داخلي.. كما في كل مرة، وصوت التلفاز مازال يلعلع من الطابق السفلي!
بدأ النوم يداعب أجفاني عندما شعرت بيده تلامس كتفي، وهو يهمس:
ـ كارمن… هل نمتِ؟!
ـ أجل!
ـ تصبحين على خير إذن..
كان هذا كل شيء… لم يعترض على جوابي؛ بل بدا لي أن جوابي أراحه!..
لم يحاول أي شيء؛ بل ذهب تلقائياً إلى الغرفة الأخرى، حيث تنام ليلى، لينام!
وأنا لا أريد أن أفتعل معه شجاراً؛ فظروفنا الحالية تجعلني أخجل أن أكون أنانية وأطالب بحقي كزوجة.. كامرأة..
أريده أن يدرك ذلك بنفسه بطريقة غير مباشرة.. ولكن هيهات!
كانت هذه أول محاولة طوال فترة تواجدي هناك، وآخر محاولة إلى أجل غير مسمى!!
******
|