الفصل الثانى عشر
ساد صمت لا حد لعمقه ., وتضرج وجه ميغ إلى منابت شعرها وهى تحاول , مستميتة أن تفكر فى شئ تقوله , ولكن تعاستها المفاجئة عطلت ذهنها عن التفكير .
وأخيرا , قالت السيدة : " إن هذا شئ مثير . دعيها تدخل يا فيليبين واحضرى القهوة بعد ذلك .
وعندما ذهبت هذه ممتثلة , قالت ميغ بسرعة : " دعينى أوضح لك يا سيدتى ... "
قالت السيدة وهى تسوى من نظارتها القاتمة وتدير وجهها نحو الباب : "فى ما بعد , يا طفلتى .
وبعد ذلك بلحظة , برزت مارغوت محاطة بهالة مسرحية كانت تبدو فاتنة واثقة بنفسها بشكل لا يصدق , وهى تقف فى بنطالها الضيق وقميصها الحريرى , وحزام من الجلد برونزى اللون يحيط بخصرها النحيل ويماثله فى اللون حذاؤها وحقيبتها المعلقة فى كتفها .
وتقدمت مارغوت برشاقة نحو السيدة ووضعت قبلة على وجنتها اليسرى وهى تقول : " أوه , ما أروع هذا , هل تخليت عنى تماما ؟ " ونظرت حولها وهى تتنفس الهواء بنشوة , ثم تتابع قائلة : " بورك الهواءالنقى , كيف لأحد أن يفضل سكن المدن ؟ " ووقعت ناظراها على ميغ التى كانت متجمدة فى مكانها , فقالت : " مرحبا , يا ميغ " وركعت على ركبة واحدة قرب كرسى السيدة وهى تستطرد قائلة : " أرجو أنك لم تمانعى فى أن تأخذ ميغ مكانى لعدة أيام , كان مما يبعث على الضيق الشديد أن تأخر طلب إجازتى التى قدمتها لكى أحضر إلى هنا . وأرجو أن تكون هى قد أوضحت لك الأمر تماما . "
قالت السيدة : " هل كان الأمر كذلك ؟ لقد فهمت . "
قالت مارغوت : " أتعنين أنها لم تخبرك ؟ " ونظرت إلى أختها تتصنع الذهول وهى تخاطبها قائلة : "إنك فظيعة , يا عزيزتى . ما الذى جعلك تنسين ذلك ؟ وعلى كل حال , ليس هذا بذى أهمية . فأنا هنا الآن . " وعادت تدير نظرها فى ما حولها
قالت السيدة بصوت بارد كالثلج : " من هى إذن . بالضبط تلك الفتاة الثانية التى كان لى سرور استضافتها ؟ "
وقفت ميغ لتقول بهدوء : " إننى مارغوت لانغتري يا سيدتى . الأخت غير الشقيقة لمارغوت
قالت مارغوت : " إن ميغ عاطلة عن العمل . ففكرت فى أنه قد ينفعها قضاء فترة فى فرنسا . ولكنها أفسدت هذه الفرصة فى الاستغراق بتتبع أخبار الكاثار المندثرين وما أشبه . أليس كذلك يا حلوتى ؟ " وعادت تستدير نحو السيدة مستطردة : " إن أخر عمل اتخذته ميغ كان فى مكتبة قديمة . وهكذا غرقت فى بقايا التاريخ المندثرة . "
قالت السيدة بجفاء : " ربما هذا ما جعلها تتلاءم مع هذا المكان . "
قالت مارغوت : " حسنا . إننى مسرورة إذ كانت ذات فائدة . " وخفضت من صوتها لتقول بلهجة ذات معنى : " أتعلمين أنها فى البداية , قد رفضت القدوم إلى هنا ؟ "
قالت السيدة : " إنك تحيريننى ... آه , ها هى ذى القهوة قد أحضرت . ربما يإمكانك يا ميغ , هل هذا اسمك ؟ ربما بامكانك أن تقومى بآخر واجب , كمرافقة لى , وتسكبى لنا القهوة , هل لك بذلك ؟ "
وصعقت ميغ فى البداية , ليستبد بها الغضب . بعد لحظة موشكة أن تسكب القهوة كلها من الابريق على رأس مارغوت ذى الشعر الأشقر المصفف بغاية الأناقة . ولكنها عادت تطيع بصمت . لقد تعمدت اختها أن تجعلها تبدو بمظهر القريبة البالغة الفقر . وهذا ما جعلها هى تشعر بثورة بالغة , خاصة بجعل مسألة انتحالها لشخصيتها . تبدو وكأنها فكرتها هى , وليست فكرة أختها .
وسحبت مارغوت كرسيها إلى جانب السيدة , وابتدأت تثرثر بمرح وطلاقة , وبدت بمظهر حسن بالنسبة إلى امراة قد تخلى عنها حبيبها منذ فترة قصيرة ,. ولكن ميغ لاحظت نظرة ساهمة فى عينيها الزرقاوين وخطوطا ناتجة عن التوتر والقلق , حول فمها .
قد يكون الغيظ لهجران ستيفن كيرتيس لها , قد تملكها , ولكن قلبها لم يتحطم أبدا , كما بدا لميغ , لقد آلمتها الهزيمة ولكنها استعادت نفسها بسرعة لكى تتسلق طريقها إلى القمة مرة أخرى , ومن وجهة نظرها , فإن ستيفن كيرتيس هو الخاسر .
وارتشفت ميغ قهوتها رغم الغصة فى حلقها , يبدو أنها هى أيضا ستكون خاسرة . فقد سبقتها مارغوت إلى رواية قصتها بمنتهى الحذق , ولم يعد ثمة طريقة , الآن تجعلها تشرح للسيدة السبب الذى جعلها تقوم بهذا الدور المخادع , أو تقدم أى اعتذار عنه .
وعندما سكتت مارغوت عن الكلام , قالت ميغ مخاطبة السيدة : " أسألك المعذرة فى تجهيز أمتعتى للرحيل . " وترددت قليلا , ثم تابعت : " وعلى كل حال, ليس ثمة سبب لبقائى هنا بعد الآن . " وكانت الكلمات تبدو , وهى تنطق بها , وكأنها تنتزع منها انتزاعا .
أجابت السيدة بلهجة شاردة : " هذا صحيح . يوجد مكتب لسيارات الأجرة فى قرية أرينياك فاطلبى من فيليبين أن تتصل بهم لإرسال سيارة لك . هل يناسبك أن يكون ذلك بعد نصف ساعة ؟ "
أومأت ميغ برأسها بشكل متوتر قائلة : " شكرا "
تركت الشرفة رافعة الرأس وهى تشعر بعينى مارغوت تتبعانها . ولكن ساقيها كانتا تهتزان . ولكن ما الذى كانت تتوقعه فى هذه الظروف ؟ لقد كان من الواضح أن السيدة دي بريسو فى غاية الاستياء , ومن يلومها على هذا ؟
وأبلغت فيليبين التى كادت تنفجر فضولا . أبلغتها أوامر السيدة فى أن تطلب لها سيارة أجرة , ثم أحضرت معطفها المنزلى من غرفة المكتبة لتصعد بعد ذلك , إلى غرفتها .
كانت تظن انها ستكون مسرورة لعدم قضائها ليلة أخرى هنا , وحولت ناظريها عن السرير العريض الحافل بالذكريات المؤلمة , إذ عادت إلى ذاكرتها ليلة أمس لكنها ما لبثت أن طردت تلك التصورات من ذهنها وهى تتاوه بحزن بالغ . محدثة نفسها بأن عليها ان تركز اهتمامها على الأشياء العملية , وثمة الكثير منها . وقررت ,. بعد ان أحصت ما بقى عندها من النقود . أن من الأفضل أخذ سيارة أجرة إلى مدينة آلبي , ثم تستقل المواصلات العالمة إلى تولوز حيث المطار . إذ ما زال عندها نصف التذكرة المرتجعة . والمفروض أن تقدم تاريخها المدون بعد حوالى الشهر , حتى ولو ذهبت واقفة إلى الطائرة .
ووضعت التذكرة وجواز السفر فى حقيبتها , وهى تتنهد .
جاءها صوت مارغوت التى كانت واقفة عند الباب يقول : " تأكدى من أنك لم تنس شيئا . "
خطت إلى داخل الغرفة وهى تنظر حولها مغضنة أنفها باشمئزاز وهى تستطرد قائلة : " هل هذه هى غرفة الضيوف ؟ إذن . كيف تبدو بقية الغرف . على كل حال ليس للشحاذين حق الاختيار وهذا مكان يصلح للاختباء إلى أن تنتهى العاصفة . " ونظرت إلى ميغ وهى تتابع : " اظنك سمعت عن الصعوبات البسيطة التى صادفتنى ؟ "
أجابت ميغ : " نعم . ولكننى لم أتوقع أنك ستأتين إلى هنا . نتيجة لذلك ."
هزت مارغوت كتفيها قائلة : " وإلى أين أذهب الآن ؟ أتعلمين أن تلك السافلة قد القت علينا بأولادها الفظيعين ؟ وهى تتحدث عن الانتقام ؟ "
قالت ميغ : " ولكن مربيتى هى التى تحملت كل هذا العبء . " وسكتت لحظة ثم تابعت تقول : " وبهذه المناسبة , ماذا جرى لاتفاقنا ذاك بالنسبة إلى الكوخ ؟"
تثاءبت ميغ ثم قالت : " تبا لك , كم انت مملة احيانا . دعى ذلك ينتظر , من ذا الذى يهتم بذلك الآن ؟ "
أجابت ميغ بخشونة : " أنا أهتم بذلك ., إننى فى الواقع ., مهتمة بأشياء كثيرة . بعمتك مثلا , وأيضا بهذا المنزل . "
زمت مارغوت فمها عابسة وهى تجيب : " إنهما ,هما الاثنين فى طريق الفناء , كما أرى . كنت أظن أن المرأة العجوز تملك مالا . "
وفكرت ميغ عابسة بأن المرأة العجوز ستحصل قريبا على المال , وأن مارغوت , قد جاءت فى الوقت المناسب تماما .
قالت : " ومع هذا . فقد شعرت كأنه منزل عشت فيه مدة طويلة . "
قالت مارغوت بحدة : " لاتكونى سخيفة . فأنت جئت إلى هنا لتوك ."
قالت ميغ : " لكى تكتشفى مكان انتمائك , لا يأخذ ذلك دائما وقتا طويلا . "
قرعت فيليبين الباب قائلة : " لقد وصلت سيارة الأجرة يا آنسة , والسيدة تنتظرك لتودعك فى الصالة . "
قالت مارغوت :" إذن , فأنا أتركك الآن لألقى نظرة على هذه الانحاء . " وهزت كتفيها وهى تقول : " ماذا تراهم يفعلون هنا بالنسبة لحياة الليل , تبا لهم . "
وأنزلت ميغ حقيبتها إلى الردهة فى الطابق الأسفل , حيث كان السائق , وهو رجل قصير القامة متهدل الشاربين ,. كان ينتظر ليضع الامتعة فى صندوق السيارة , ثم مشت نحو الصالة مكرهة , حيث كانت السيدة واقفة بجانب المدفأة الخامدة . وقد عقدت ذراعيها على صدهرا وبدا وجهها ساهما بعيدا عن الابتسام . وكان الوضع كما رأته ميغ وهى تشعر بالتعاسة . كان لايعدو وضع سيدة منزل تطرد مستخدما غير مرغوب فيه .
قالت بهدوء : " إننى اريد أن أشكرك يا سيدتى لكل ما أبديته نحوى من الإكرام . وإننى آسفة لتصليلى لك بذلك الشكل . وكنت أتمنى لوكنت أخبرتك بالأمر بنفسى . "
أجابت السيدة : " لا أظن المسألة تستحق كل هذا . " كان هذا كلام سيدة عظيمة ., ومدت يدها قائلة : " أتمنى لك رحلة موفقة , يا آنسة لانغترى ."
قبضت ميغ على أصابعها وهى تفتش عبثا , عن شئ من اللين فى ملامح السيدة المسنة , وقالت : "إننى ... إننى لم أحتفظ بالدبوس الحلية الذى أهديتنى إياه . فقد رددته إلى السيد مونتكورت ., وارجو أن لايكون عندك مانع فى ذلك . "
أومأت السيدة قائلة : " ربما كان هذا أفضل تصرف بشأنه . " وتركت يد ميغ واستدارت مبتعدة منهية الموقف .
وتمتمت ميغ شيئا وهى تخرج من الغرفة . وكانت فيليبين تنتظر عند الباب الخارجى , لتجد ميغ نفسها مغمورة بعناقها الحار .
قالت فيليبين : " لاتدعى الحزن يبدو عليك هكذا , أيتها الصغيرة ., إن كل شئ يصلح مع الوقت . " وأخرجت من جيب مئزرها مغلفا سميكا وهى تقول : " لقد طلبت منى السيدة أن أعطيك هذا . "
قالت ميغ : " أظن ربما كان ثمة خطأ , وهذا ليس لى أنا . "
أجابت المراة وهى تهز رأسها بعنف , وتدس الطرد فى يد ميغ : " كلا , كلا , إنه لك . يجب أن تأخذيه , إلى اللقاء . "
وعندما ابتعدت بها السيارة , لم تنظر إلى الخلف . ولم تستطع تصديق السرعة التى حدث بها كل هذا .ولكن , هكذا حدثت الأشياء منذ وصولها إلى هذه المنطقة ... سلسلة من التغييرات المفاجئة ., من الشمس إلى العاصفة , من الحب المحموم , إلى الكراهية المحمومة , وبعد , انها لاتستطيع الادعاء بأنها لم تتلق تحذيرا , قبل حضورها من مخدومها العجوز ذاك .
واستقرت فى مقعدها , ثم أخذت تنظر إلى المغلف الذى ما زال فى يدها , راجية الأ يكون نقودا وإلا فسيكون فى ذلك نهايتها المخزية ... والتى هو أسوأ من ظهورها بشكل لا أخلاقى .
ومزقت الغلاف , لتنظر إلى ما يحتويه غير مصدقة لقد كان كتاب الشعر ذاك . وفتحته عند الصفحة البيضاء التى تلى الغلاف لتقرأة ., مرة أخرى . الكتابة الباهتة . ( إلى مارغريت , من كل قلبى . ج . ) وتساءلت ذاهلة . كيف أمكن للسيدة أن تتخلى عن هذا الكتاب. وكيف يمكنها هى أيضا , أن تحتمل الاحتفاظ به ؟
وابتدأت تقلب الصفحات , ليفتح الكتاب من ذاته , على صفحة معينة وكأنه اعتاد أن يبقى مفتوحا عليها . وتألقت الكلمات أمام عينيها مرة أخرى ( حبى الوحيد , حبيبتى التى تسعدنى ) وتابعت القراءة قبل ان تغشى دموعها الكلمات ( حبيبتى الحلوة , يبنوع البهجة كلها هى . )
ربما كانت السيدة تعلم ان هذه الكلمات هى كل ما عليها هى أيضا أن تتذكر , وتأكدت من انها هى الكلمات المطلوبة .
إنها ليست أغانى الأوباد طبعا . ولكن . كيف يمكن أن يكون ثمة سواها ؟
وجفلت إذ أخرجها من شرودها صوت بوق السيارة يزعق فجأة . ثم تمتمة سباب من السائق : " هؤلاء الحمقى المجانين . ما الذى يظن أنه يصنع ؟ "
ونظرت ميغ لترى سيارة تقفل عليهما الطريق تماما , لابد ان هناك حادث ما . انفجار عجلة مثلا جعل السيارة تستدير بهذا الشكل . وتمنت أن لايكون احد قد تضرر.
وعند ذلك , ميزت السيارة , فأغلقت الكتاب ببطء . وهى ترى راحتيها تعرقان ., وتكومت إلى الخلف فى مقعدها وكأنها تحاول أن تندس متلاشية فى داخل ذلك المقعد المهترئ تنجيده
فتح باب السيارة بعنف وصوت جيروم يقول بلهجة عادية . وسط سباب من السائق : "ها أننا نعود إلى الصفر . عودى إلى حيث ابتدأنا يا جميلتى , هيا اخرجى قبل أن تتعرقل حركة السير . "
حملقت ميغ فيه قائلة : " أبدا لن أفعل مثل هذا . "
رفع حاجبيه يسألها : " هل تحبين أن أحملك مرة أخرى ؟ " وتحول إلى السائق الساخط وخاطبه بكلمات هادئة لم تفهم ميغ معناها , ثم ناوله بعض الأوراق المالية .
ورأت ميغ , وهى تنزل من السيارة , حقيبتيها يخرجهما السائق من صندوق السيارة .
ضربت قدمها فى الأرض تسأله ساخطة : " ما الذى تفعله ؟ دع الامتعة مكانها . "
هز السائق كتفيه . ان عليها أن تتفهم أنه , بعد هذا العطاء السخى . أن السيد حر فى أن يقفل الطريق , وأن يختطف منه ركابه وذلك إلى ان ينشف البحر ., ونظر إلى جيروم يغمزه راضيا , قبل أن يحول اتجاه سيارته مبتعدا .
وتقبضت يدا ميغ وهى تقول بحدة : " ما الذى تظن نفسك تفعله ؟ "
أجاب وهو يلقى بأمتعتها فى صندوق السيارة ثم يصفق الباب : " آخذك إلى البيت . "
قالت وهى تتساءل عما إذا كان عمله هذا مبالغة منه فى إكرامها عند الوداع : " إلى انكلترا ؟
أجاب : " بل إلى منزلى أنا , هذا إذا كنت قد ابتدأت تعتبرين منزلى منزلا لك . ذلك أن القصر , بالطبع سيبقى منزل السيدة مارغريت طيلة حياتها . " ونظر إليها بتلك الابتسامة المديدة التى تجعل قلبها يخفق عاليا , وهو يتابع : " حسنا , هل يمكنك أن تمضى حياتك معى فى مسكنى الغونكود ؟ "
كانت أشعة الشمس الذهبية , دافئة , والحشائش على جانبى الطريق , والنسائم تحرك أغصان الأشجار لتنشر معها رائحة الثمار الناضجة .
قالت : " كلا " وأردفت بضعف : " إن هذا جنون ."
فتح لها باب السيارة فصعدت إليها بعد إذ لم يعد لها خياربعد ما ذهبت سيارة الأجرة . وربما , بعد ان يعود إلى جيروم وعيه . ربما يوصلها إلى مدينة آلبي كما كانت قررت.
وسألته قائلة : " كيف صدف ان كنت هنا ؟ "
أجاب : " لقد اتصلت السيدة مارغريت بمسكنى وأخبرتنى انك راحلة , وبموعد وصول سيارة الاجرة إليك . وتكهنت بأنه سيحضرك من هذا الطريق . وإلا فقد كنت مستعدا لمحاصرة المطار فى تولوز ."
قالت : " هل قلت أن السيدة أخبرتك ؟ ولكن هذا غير ممكن إذ أنها طردتنى طردا ."
قال بهدوء : " إنها فكرة بأن من الأفضل لك ان تكونى معى , إلى ان تجد الوقت الكافى لتفرغ من شأن مارغوت . " وابتسم لها وهويتابع : " إنك لست الوحيدة التى فى استطاعتها القيام بدور تمثيلى , يا جميلتى . "
سكتت لحظة , ثم قالت بصوت منخفض : " لقد عرفت بمسألة العروض وحقيقتها ."
فقال : "أرجو ان لاتكونى قد أشركت السيدة فى هذه المعرفة , إذ ان لها كرامتها . فهى ستظن أننى اقدم إليها إحسانا . "
قالت : " ولكن هذا ليس إحسانا . إذ أنه لو ان الامور كانت قد سارت كما يجب , وتزوجت من جدك , لكانت قد حصلت على سعادتها وراحتها على الدوام . وأنت الآن , فقط ... تصلح ما فسد .
قال برقة : " إنك متفهمة إذن للأمور . لقد كنت متأكدا من ذلك فيك . "
فعضت شفتها قائلة : " ولكن ما كان لك ان تعرف ذلك , خصوصا بعد ما أسأت الحكم عليك واطلقت عليك نعوتا شائنة ."
قال : " ربما كنت أستحق ذلك لإساءتى الحكم عليك وإطلاق نعوت شائنة عليك أنا أيضا . "
قالت : " ولكننى انا أدعيت أننى مارغوت ولا شئ يمكن ان يغير من هذا , بينما ذنبك أنت كان لا يخرج عن الرقة الزائدة . "
أوقف جيروم السيارة إلى جانب الطريق , ثم قال بلطف : " ولكننى لم أكن رقيقا معك . لقد ظننت ان من السهولة أن أكرهك لما أخطأت بحق كيرين الرقيقة الدافئة المشاعر والتى تحب زوجها إلى درجة بالغة . " وهز كتفيه متابعا : " مع ان ليس فى أسرتنا من استطاع ان يفهم السبب فى ذلك . عند ذلك قابلتك , ليتملكنى شعور لم أعرفه من قبل . أدركت معه أنه ليس فى إمكانى أن أبعدك عن حياتى . وبعد ذلك رأيت اسمك على أمتعتك . " وهزرأسه متابعا : " أظنها كانت أسوأ لحظة فى حياتى , حين رأيت أننى انجذبت إلى فتاة فاسدة كانت تحاول أن تدمر حياة ابنة عمى . وصممت على أن أبقى بارد المشاعر وأنا ألاحقك , ولكن فى كل لحظة كنت أقترب فيها منك . كانت مشاعرى تتمزق, فمن ناحية كنت أريد أن أنتقم منك دون رحمة , ومن ناحية أخرى , كنت أرى أن أبقيك معى طيلة حياتى , وذلك فى نفس الوقت . "
قالت برزانة : " لا أرى فى ذلك أى شئ خطأ . "
ابتسم وهو يلامس وجنتها : " آه . سأذكرك بكلامك هذا , فى مابعد . "
قالت بصراحة ونظراتهما تتعانقان : " أرجو ذلك " لم يعد ثمة شئ مستورا . فهو يسيطر على أحاسيسها باجمعها , نفسيا وجسديا .
قال : " وفى هذه المرة , سأعاملك بالرقة التى تستحقينها . كان على أن أدرك منذ البداية أنك لست مارغوت . " وأمسك بيدها يضغطها .
قالت مازحة : " هل لأنك وجدتنى طابعة فاشلة ؟ "
ضحك قائلا : " كلا ... وإنما لكل شئ قلته ... وكل شئ قمت به . ولكننى أخرست شكوكى ورأيت فقط الذى أردت أن أراه . " ولوى فمه نادما ثم تابع قائلا : " وفى الليلة الماضية , كان يجب على أن أدرك أنك لم ترتبطى بعلاقة مع رجل من قبل . وعندما تأكدت من انك لست مارغوت , شعرت بالغضب ... غضبت على نفسى لكونى كنت أعمى وأحمق وعديم الإحساس . حتى ان هذا الغضب طالك أنت أيضا . "
وتأوه وهويتابع : " فى تلك اللحظة التى كان علينا فيها أن نتعلم الحب , أخذنا نتبادل الصراخ . " ونظر إليها بألم وهو يسألها : " أما كان عليك ان تولينى ثقتك وتخبرينى بالحقيقة قبل ذلك , يا مارغريت ؟ "
تنفست بعمق قائلة : " لقد أردت ذلك كثيرا . ولكن الأمر لم يكن يخصنى وحدى . ذلك أن مارغوت قد حملتنى على الحضور رغما عنى وذلك بتهديدى ببيع كوخ مربيتى العجوز ووضعها فى الملجأ , إذا أنا لم أوافق . " وسكتت برهة . ثم قالت عابسة : " فى الحقيقة , ربما هذا سيحدث الآن, فأنا لا أثق بمارغوت ولا بأمها بالنسبة لهذا الأمر . "
سألها : " هل تلك المربية مسنة واهنة ؟ "
أجابت : " كلا . أبدا . وإلا لما كانت قادرة على العناية باطفال ابنة عمك كيرين الآن . "
قال : " ربما كان يسرها , إذن . أن تأتى إلى فرنسا للعناية بأولادنا . عندما يأتون ."
طفرت الدموع من عينيها وهى تقول : " إن هذا سيسعدها جدا ..اوه , جيروم . "
قال برقة : " إن هذا , طبعا يعتمد على نقطة صغيرة , وهى إذا كنت تحبيننى كما أحبك . إنك لم تقولى هذه الكلمة بعد . وربما كان الأمر مبكرا . بالنسبة إليك ."
قالت : " كلا . إنه ليس مبكرا أبدا , وما أغرب أن نكون نحن الاثنين واثقين إلى هذا الحد."
قال : " ليس نحن فقط . فالسيدة كانت واثقة من ذلك منذ البداية . يجب أن اتصل بها هاتفيا حالما نصل إلى البيت لاعلمها أنك معى وفى أمان , ولست بإنتظار الطائرة التى تعود بك إلى انكلترا . "
قطبت حاجبيها قائلة : " أرجو أن يسرها ذلك . فقد كانت فى غاية البرود عندما تركتها . "
عبس قليلا وهويجيب : " كانت تريدك أن ترحلى لأنها أحست ان حضور مارغوت سيزيد فى توترك وتعاستك . فهى لم تكن مسروة منى هذا الصباح عندما أخبرتها كيف أننى أسأت التصرف معك من كل النواحى . "
فكرت ميغ لحظة ثم قالت : " أتعنى أنها كانت تعلم , عندما رأيتها فى الصباح . أننى لست مارغوت ؟ "
أومأ برأسه قائلا : " لقد قالت كما قلت أنا , انها كانت دوما تشعر بذلك , لان مثل تلك الطفلة المدللة سيئة الطبع , لايمكن أن تصبح مثل هذه الفتاة الهادئة الرقيقة . " ونظر إلى ساعة يده وهو يتابع : " أظن الآنسة مارغوت ترانت لابد قد غادرت الآن القصرعائدة إلى انكلترا , ربما أكثر حزنا وحكمة , وإن كنت اشك بذلك . وكذلك ضيوفى سيكونون قد غادروا بيتى هم أيضا . وأرجو ألا يتقابلوا فى الطريق . "
شهقت قائلة : " ضيوفك ؟ أتعنى كيرين ؟ إذن فقد كانت هى التى كنت رأيتها .. "
قال ضاحكا : " إن لك نظرا حادا , إن زوجها معها الآن . لقد اتصلت بمنزلى هاتفيا فى أول ليلة كنا فيها معا أنا وأنت فى منزلى , لتقول إنها قادمة إلى . وقد انضم إليها هو أمس . وقد اتصلوا بى لهذا , هاتفيا أثناء العشاء . وهما الآن قاصدان باريس لقضاء شهر عسلهما الثانى فى شقتى هناك . "
فكرت لحظة وعادت تسأله : " ولكن , كيف علم هو أنها عندك ؟ "
أجاب قائلا ببساطة : " لقد دله إحساسه على ذلك , وهذا جعلنى واثقا من مستقبلهما معا ." ومد ذراعه يجذبها إليه قائلا : "هل تقبلين بأن تكونى زوجتى , يا مارغريت , فتشاركينى العواصف واشعة الشمس ؟ "
أجابت بابتسامة مرتجفة : " نعم , حبى الوحيد .... حبيبى الذى يسعدنى . وأنت , هل ستريننى فجرا آخر من نافذتك الواسعة ؟ "
قال يجيبها : " كل صباح من حياتنا , والآن . هيا بنا إلى البيت . "
وعندما تحركت بهما السيارة , قالت : " ولكن , هنالك مشكلة واحدة, ياجيروم . ما الذى سنفعله بالنسبة إلى أوكتافيان ؟ متى تراه سيتوقف عن تسميتى بالإنكليزية ؟ "
ضحك وهويجيب : " ربما , يا حبيبتى , عندما يأتينا أول ولد , فيكون هوبمثابة جده ."
وكان كلامه صحيحا ...
تمـــت بحمد الله اتمنى تعجبكم