الفصل التاسع
كان الجو فى السيارة مشحونا بالتوتر . فقد كان جيروم تائها مع أفكاره دون أن يحاول البدء بأى حديث مباشر .
وكانت ميغ بدورها شاكرة هذا , فقد منحها الفرصة لتتمالك أجزاء نفسها المشتتة .
ما أسرع ما تتغير الأشياء . فكرت فى ذلك وقد ساورتها الرعشة . لقد كان صديقين قريبا . منذ أقل من ساعة فقط , والآن ها هى الهدنة تنتهى لتشرع الأسلحة من جديد
رمقته خلسة . كانت ملامحه متوترة . فاذا كان يفكر فى تلك المرأة الموجودة فى منزله , فان افكاره لم تكن تجلب إلى ملامحه أى قدر من السرور . فهى كانت تحس بذلك الغضب الكامن فيه , مشبها بركانا منتظرا انفجاره فى أية لحظة .
ربما كان ظهورها فى المنزل قد احدث بينهما صدعا لا يمكن إصلاحه . ولكن هذا لم يكن ذنبها هى .
واخترق صوته افكارها المضطربة , يقول : " ماالذى كنت تقولينه لأوكتافيان ؟ "
أجابت : " كنت أحاول طمأنته , ولكننى لم أفلح . " وسكتت لحظة ثم أردفت : " إن أوكتافيان لا يريد إعادة الماضى كذلك . "
صمت جيروم لحظة ثم قال : " يجب ان تغفرى له ذلك . لقد كرس نفسه لجدى كليا منذ الوقت الذى كانا يجوبان فيه التلال وهما صبيان . وكان لا يرى المستقبل واعادة المنزل الى الحياة إلا من خلال هذه المصاحبة والعمل الشاق , وتوسيع الكروم ورؤية أولادهما ينمون معا حين يأتون . " وتنفس بحدة وهو يتابع : " ولكن خيبة الأمل ملأت نفسه مراراة . "
قالت ببطء : " ولكنه يلوم العمة على كل شئ . وهذا ليس عدلا . "
قال : " لماذا تقولين هذا ؟ "
اجابت :" لقد كانت متزوجة . وجدك كان عازبا , ربما كان عليها ان يتمالك نفسه ويفكر مرتين قبل أن يتورط معها . فان خسارته اقل من خسارتها هى . "
قال بهدوء : "هذه وجهة نظر هامة . ولكن الزواج , ولم يحطم الزواج . كان قد انتهى قبل أن يتدخل هو . فهو لم يحطم أى علاقة , وهذا فقط ما لايمكن اغتفاره يا جميلتى . ألا تظنين ذلك ؟ "
قالت : " ربما ليس لنا نحن الاثنين . أن نصدر حكما بهذه القضية .. من هذه المسافة البعيدة . "
أجاب : " حسنا إن أوكتافيان يظن العكس . انه يشعر بأن خالتك كان يجب أن تتذكر اليمين الذى أقسمته يوم زواجها , حتى ولو لم يفعل زوجها ذلك . " وهز رأسه متابعا : " ربما كان ثمة شئ من أخلاق الكاثار ما زال معششا فى تراب وحجارة لانغيدوك ."
بقيت ميغ صامتة لحظة , ثم قالت : " ولكن . عندما حنثت بيمينها . لماذا لم ترحل ؟ فتهجربيت الزوجية إلى الأبد ؟ كان فى استطاعتها أن تؤسس حياة جديدة مع جدك .. لم يكن ثمة حاجة إلى أن يكونا هما الاثنين تعيسين . "
قال بصوت ثقيل : " لم يكن الأمر بهذه البساطة . وقد لا يكون أبدا , لقد أوضح هنرى دى بريسو انه لن يدعها تذهب . وأن ذلك الطلاق كان خارجا عن البحث , فقد كان يتنافى مع تقاليد الأسرة . وكان عازما على إرغام مارغريت على البقاء فى رباط الزوجية . " وسكت برهة , ثم تابع : " وقد اكشف أنها كانت حاملا . وقرر هنرى أن الطفل طفله . "
جمدت نظراتها سائلة : " أكان ذلك ... ممكنا ؟ "
هز كتفيه قائلا : " كان ما يزال مصرا على استعمال حقوقه الزوجية ."
سألت : " وكيف امكنها تحمل ذلك ؟ "
أجاب : " لم يكن لها خيار فى هذا الأمر . وفى كل مرة كان هنرى يعود فيها إلى منزله , كان يظهرالندم البالغ عازما على وضع علاقتهما على أساس جديد فعال . وهذا جعلها تشعر أن من واجبها البقاء معه ... واعادة المحاولة . ولم يستطع جدى ان يقنعها بتغيير رأيها . وكان على استعداد للمغامرة بكل شئ وتحمل اية فضيحة فى سبيل أن ياخذها اليه . ولكن اهتمامها الأول كان بالطفل القادم . "
قالت ميغ : " ذلك لأن هنرى ربما كان على حق ,. وهذا ما كانت تخشاه , وماذا حدث فى النهاية ؟ " وبللت شفتيها بلسانها وهى تتابع : " ولكن . ظهر انه لم يكن هناك طفل . "
قال : " كلا . ليس هذا , وانما لسخرية الأقدار حدث لها حادث . لقد تزحلقت على السلالم ذات يوم وكانت وحدها فى المنزل . لقد كاد هذا الحادث أن يكلفها حياتها كما كلف الجنين حياته . " وسكت لحظة , ثم عاد يتابع : " ولم يغفر هنرى لها ذلك قط . طبعا , وكانت نهاية ذلك الزواج وهكذا . ضحت بنفسها وبسعادتها عبثا . "
سألته : " وماذا جرى لجدك ؟ "
أجاب : " لقد كان قد اقسم أنه إذا هو رحل فلن يعود أبدا . وكان صادقا فى قسمه مع أنه لم يلم مارغريت لاختيارها ذاك ."
وسكت لحظة ثم استطرد : " وهكذا ذهب إلى باريس أولا . ثم إلى الخارج لإدارة املاك فى جزرالمارتينيك آلت اليه من ناحية أمه فى الأسرة . وعندما كان فى اجازة قابل جدتى . ومن ثم وضع اساسا لحياة جديدة لنفسه . "
سألته : " وهل كانا سعيدين ؟ "
أجاب : " كانا قانعين تماما . وربما هذا الأساس لحياة زوجية تدوم طوال الحياة , هو اكثر امانا من غيره . "
شعرت ميغ بغصة فى حلقها وهى تفكر . ربما ... وبدا لها وكأن هذا هو الاختيار الثانى لها بعد الحب .. وبقيت هذه الفكرة تتملكها بصمت , إلى أن وصلا إلى هاوت أرينياك .
علمت أن جيروم سيجعل مكتبه المؤقت فى غرفة المكتبة .
نظرت حولها وفجأة . بدا لها أن الجدران المغطاة بالكتب تظهر عداء نحوها , وكأنها تكاد تطبق عليها لكي تأخذها سجينة .ونظرت بقتزز إلى الآلة الكاتبة الكهربائية المصقولة التى احضرها من السيارة ووضعها وسط طاولة فسيحة .
خطرلها أن هذه هى آلة التعذيب فى سجنها هذا .
قالت له : " إننى لم استعمل مطلقا هذا النوع من الآلات الكاتبة من قبل . " وكانت الآلة الكاتبة التى كانت تستعملها للمراسلات . فى المكتبة العامة حيث كانت تعمل , مختلفة تماما عن هذه . فقد كانت من النوع الذى يحمل باليد . ولكن . كان فى إمكانها على الأقل التعامل معها .
قال وهو ينفض يديه , بعد أن أوصل الآلة بالطاقة الكهربائية : " ليس ثمة مشكلة . فأساس المواصفات واحد . "
ثم فتح محفظته يخرج منها ملفا كان فيه صفحات سجلت عليها ملاحظات بخط يده الحاد الواضح . كانت رزمة تحوى مئات من الصفحات كما لاحظت ميغ وقد سادها الاكتئاب .
نظر فى ساعته قائلا :" سأعود بعد ساعة لأرى كيف يسير العمل معك ."
وفكرت ميغ وهى تراه يغلق الباب خلفه , أن هذا أفضل من أن يقف مشرفا عليها يراقبها وهى تتحس طريقها مرتبكة وقد غمرتها التعاسة . وتذكرت إحدى قصص الأطفال عن فتاة صغيرة سجنت فى برج , حيث أمرت بأن تغزل القش محلية اياه إلى خيوط ذهبية .
وحدثت نفسها بأنها تعرف الآن ماذا كان عليه شعور تلك الفتاة الصغيرة , فى ذلك الحين . وتناولت الورق والكوربون . ولكن لم يكن ثمة معجزة تنقذها , كما أنقذت تلك الفتاة .. لقد أدركت ذلك حالما عاد جيروم , كانت ما زالت محاطة بالقش دون اثر للخيوط الذهبية .
كانت تصرف بأسنانها وهى تحاول السيطرة على مفاتيح الآلة الكاتبة التى كانت تقفز فى كل الاتجاهات ., وهى معها تلاحقها . وذلك لأخف لمسة منها . لها .
كانت مجموعة الصفحات التى انهتها , صغيرة بشكل محزن عندما سمعت الباب خلفها , يفتح وتظاهرت هى فى التركيز على العمل الذى بين يديها . ولم يكن بينهما أى احتكاك ولكنها شعرت بحرارة جسمه تلفحها وبأنفاسه تحرك شعرها .
ازدردت ريقها وهى تشعر بجفاف فى حلقها , ثم جازفت برفع ناظريها إليه , لترى حاجبيه يرتفعان وهو يقول بصوت جامد : " هل هذا كل ما أنجزته ؟ "
منحته ابتسامة أكثر تألقا من المعتاد وهى تجيب : " أخشى أن يكون الأمر كذلك . لقد سبق وأخبرتك بأننى غير معتادة على هذا النوع من الآلات الكاتبة ."
قال بصوت ذى معنى : " ولا أى نوع آخر . كما يبدو . "
قالت : " كما أننى لم اجد ممحاة ولا أى سائل للتصحيح . "
أجاب : " لأن هذا ليس ضروريا عند الطبع على هذا النوع من الآلات الكاتبة . لأن فيها زرا تضغطين عليه هكذا , فيصحح الكلمة بنفسه . " وضغطه أمامها يريها كيف .
قالت ميغ بصوت أجوف : " فهمت . "
قال : " آمل ذلك . " وسكت ليقرأ فى احدى الصفحات , ليقول بعد ذلك عابسا :" يبدو أنه من السهل إرضاء مخدومك ."
عضت على شفتها قائلة : " انه لايشكو . كما اننى سبق وحذرتك من أننى لست طابعة جيدة
قال بابتسامة متهكمة : " من الواضح ان مواهبك الأخرى تفوق مهارتك العملية ." ووضع الورقة التى كان يعانيها . من يده , وهو ينظر فى عينيها قائلا : " يوما ما , يا عزيزتى . يجب ان تخبرينى بما تقومين به من عمل مقابل استحقاقك لراتبك .
قالت بخشونة : " أظن أن هذا ليس من شأنك ."
قال بعنف مفاجئ فى صوته : " ما الذى تقومين به , يا مارغريت , إذ تضيعين حياتك بهذه الطريقة ؟ إننى لا أفهمك . إننى أقسم بأنك أهل لأشياء كثيرة . "
دفعت ميغ كرسيها إلى الخلف , مما جعلها تشعر بقربه منها , وهى تقف على قدميها . وقالت : " أننى آسفة اذ لم أعش تبعا لتوقعاتك . "
قال جيروم برقة وهو يمد يده يزيح بها خصلات شعرها عن جبينها المندى : " آه , ولكن هذه هى بداية فقط . " وابتسم لها متابعا : " ربما غدا يكون عملك أفضل . " وبدا أن الكلمات تتلكأ فى الجو بينهما , غامضة , واعدة , مقدمة كل الاحتمالات , تماما كما كان يقصد بقوله ذاك .
شعرت بقلبها يشتد خفقاته لشدة الاثارة وداخلها نوع من الرجاء الأحمق .. لتدرك ببساطة , أنها انما بذلك تغذى نفسها بالآمال الحمقاء .
وتراجعت إلى الخلف وقد رأت نفسها على حافة الهاوية . ثم قالت بهدوء : " أرجو المعذرة , فإن العمة قد تكون بحاجة إلى . "
قال بجفاء : " انك على الأقل تلبين احتياجاتها بما يفى بالغرض . "
قالت وهى ترفع رأسها : " إن هذا هو الغرض من وجودى هنا . "
قال وهو ينظر إليها بعينين بدت فيهما لمعة خاطفة : " أحقأ ؟ أرجو ذلك يا مارغريت . صدقينى أننى أرجو ذلك حقا . "
سألته : " ماذا تقصد بكلامك هذا بالضبط ؟ "
هز كتفيه قائلا : " إننى لا اريد أن تتألم السيدة من أى شئ قد يبدو لها فى ما بعد ...."
قالت : "أرى انها .. تعنى لك شيئا كثيرا , أليس كذلك ؟ "
أجاب : " نعم , ولكن ليس هذا بسبب الماضى فقط . فأنا على استعداد للقيام بأى شئ لكى أجنبها التعاسة من أى نوع كانت . " وسكت برهة . ثم قال : " إذن فكونى على حذر يا مارغريت ."
هزت رأسها قائلة : " إننى لا أريد أن أسبب لها أى أذى . "
واطلقت ضحكة صغيرة مقتضبة وهى تتابع : " من الغريب انه يبدو أننى .. أننى أنا أيضا يهمنى امرها . " وفكرت وهى تتجاوزه خارجة من الغرفة . بانها تحسد العمة هذه تحسدها من كل قلبها , ذلك انها على الأقل . عندما أحبت قد بادلها حبيبها الحب .
وأمضت بقية الوقت . إلى أن حان وقت العشاء تقرأ مراسلات العمة لها , وكتابة مسودات الأجوبة , لتكتب بعد ذلك الاجوبة كاملة جاهزة لامضاء السيدة دي بريسو . وشعرت بشئ من الغرابة وهى ترى نفسها فى خضم الشؤون الخاصة للسيدة بهذا الشكل .
ولكن السيدة المسنة طمأنتها إلى أن كل هذا كان من الأعمال العادية التى على مرافقتها الغائبة السيدة ألجو أن تقوم بها .
ولكن ميغ شعرت وهى تبدل ملابسها لتناول العشاء بتعاسة بالغة من جراء الشعور بالذنب . ذلك ان ابنة شقيقتها الحقيقية هى من لها الحق فى ان تتدخل بشؤونها الخاصة . ولكنها هى مجرد فتاة غريبة , وهذا يجعل الفرق هائلا .
ولكنها متأكدة الآن من أن أيا من توقعات مارغريت المتفائلة عن امكان وراثتها لها , ليس فيه مجال من الحقيقة , ذلك ان دخل السيدة لا يكاد يفى بنفقاتها , وأن الشئ الوحيد الذى له قيمة هو هذا القصر . أما من أين تأتى نفقات كل هذه الاصلاحات , فلا أحد يعلم . ذلك ان جيروم قد يخدمها محبة منه لها ومن دون مقابل , ولكن ماذا عن النجار والكهربائى ومتعهد التمديدات الصحية والبنائين .؟ انهم يريدون نقودا .
ولكنها ذكرت نفسها , وهى ترتدى ما اختارته من ملابس ., بأن هذا ليس من شأنها ولا دخل لها فيه . وعندما يبتدىء العمل فى القصر . هذا إذا ابتدأ فانها ستكون قد رحلت منذ مدة طويلة وابتعدت كليا عن هذا المكان .
واختارت ثيابها للعشاء بعناية متعمدة عدم ارتداء ذلك الثوب العسلى بذكرياته المؤلمة . لتلبس تنورة سوداء بسيطة مع قميص حريرى أبيض بياقة عالية وكمين طويلين .
كانت تتوقع أن تكون السيدة قد سبقتها إلى غرفة الجلوس . ولكن عندما وجدت الغرفة خالية , رأت أن هذه فرصة مناسبة لتكلم زوجة أبيها فى لندن هاتفيا . ورفعت السماعة تدير الرقم , وتنفست الصعداء حين وجدت تجاوبا هذه المرة .
وجاءها صوت زوجة أبيها واضحا إنما يشوبه التذمر : " نعم . من المتكلم ؟ ماذا تريد ؟ "
أجابت ميغ وهى تطلق بالاسم مترددة : " هذه أنا .. مارغوت ."
هتفت المرأة بحدة : " مارغريت .. أوه , تبا لك . لقد اوشكت على حقا على الجنون . أين أنت ياعزيزتى ؟ "
اجابت ميغ بحذر بالغ : " لماذا , فى فرنسا طبعا . أرادت السيدة دي بريسو منى أن أتصل بك لأطمئنك إلى وصولى بخير وأمان ."
قالت ايريس وقد بدا عليها الارتباك . للحظة : " السيدة دي .. اتعنين أن هذه انت يا ميغ ؟ لماذا لما تقولى ذلك بدلا من الادعاء بأنك مارغوت ."
أجابت ميغ : " لأن هذا صعب بالنسبة للظروف . ماذا حدث ؟ هل هنالك شئ ؟ "
أجابت : " أتسألين ؟ انها تلك المرأة اللعينة زوجة ستيفن كيرتيس . لقد هجرته تاركة له الأولاد مثيرة أمامه كل أنواع الفضائح فى الصحف . لقد توافدت على كل أنواع الاتصالات الهاتفية من مختلف الصحف , وكلها تريد أن تتحدث إلى مارغوت . حتى اننى رفعت السماعة لكى احظى ببعض الامان . لقد نشرت صور , وتحدثت العناوين عن ذلك الحب .. صدقينى , ان الأمر كان كابوسا رهيبا . وكان على طفلتى المسكينة مارغوت ان تختفى عن الأعين . أما ستيفن كيرتيس نفسه فيبدو ان القضية قد عصفت بعقله ففقد توازنه كليا . " وضحكت المرأة غاضبة وهى تتابع : " أتصدقين أنه جاءنى بكل شجاعة إلى بيتى محضرا , إلى أولاده مصرا على ان تعتنى بهم مارغوت إذ ليس لديه مكان آخر يضعهم فيه ؟ وأولئك الصحافيين الفضوليين امضوا كل نهار يبحثون فى ذلك . وقد قلت له ان مارغوت ليست هنا ولكن هذا لم يمنعه من أن يتركهم لدى قائلا ان عليه ان يذهب للبحث عن زوجته . " وعلا صوت ايريس ثائرا وهى تتابع : " أما الأولاد . فلم يكفوا عن الصراخ الى ان فقدت عقلى . عند ذلك خطرت المربية ترومان فى بالى , فاتصلت بها قائلة ان ثمة حالة مستعجلة , فأقبلت بسرعة ."
جلست ميغ على ذراع الأريكة وهى ترتجف , ثم سألتها : " اتعنين ان الاولاد ما زالوا عندك ؟ "
أجابت : " كلا , كلا . لقد اخذتهم المربية إلى الكوخ , ولكن عليه أن يتدبر أمرهم بشكل آخر , إذ ليس من المفروض بى أن .. أن الأمر ليس كما لو كانت مارغوت هنا أو حتى اننى اعرف متى ستعود . خصوصا بعد الأشياء الفظيعة التى قالتها زوجته كيرين عنها فى الصحف مما يجعلها عرضة للذم والتشهير . "
قالت ميغ : " أشك فى ذلك . "
أجابت :" هذا ما قاله لى المحامى عندما كلمته فى ذلك . "
وتنهدت وهى تتابع : "لن يكون بإمكانى أبدا أن ارفع رأسى بين الناس بعد هذا , وأنا هنا وحيدة تماما , وعلى أن أفكر بكل ذلك . لقد كان من الأنانية ان تختفى مارغوت هكذا . خصوصا وقد كان عليها أن تعرف ماذا كان سيحدث . " وسكتت لحظة ثم تابعت : " عليك ان تعودى حالا إلى البيت . يا ميغ , أننى بحاجة اليك . على الأقل لتردى على المخابرات الهاتفية وتفتحى الباب . "
قالت ميغ : "إننى آسفة . لأن هذا مستحيل . فهم بحاجة إلى هنا كذلك . حيث أقيم فهذه المشكلات التى عندك لم يكن لى فيها يد . ولا أريد أن اتورط فيها . "
شهقت ايريس قائلة : " كيف يمكنك أن تكونى بهذا القلب القاسي ؟ ان اعصابى بحالة فظيعة . اننى اريدك ان تعودى فى هذه اللحظة . أليس فى قلبك رحمة ؟ "
وفكرت ميغ وهى تضع السماعة من يدها , أن فى قلبها رحمة حقا ,ولكن لأجل كيرين زوجة ستيفن كيرتيس , ولو انه لايبدو انها بحاجة إلى ذلك , وارتسمت ابتسامة فكاهية على شفتى ميغ وهى تفكر فى ذلك . صحيح ان السيدة كيرتيس مجروحة من خيانة زوجاه لها , دون شكل ولكن هروبها ذاك وفضحها للأمر , استباقا لما سيحدث , وترك مسؤولية الأولاد على عاتق زوجها وحبيبته , كل هذا كان خطوة مدروسة أكثر منه انجرافا عاطفيا .
لوت شفتيها وهى تفكر فى اختفاء مارغوت ساعة ادلهمت الأمور مما يدل على شخصيتها الحقيقية , وكذلك فكرت فى مربيتها الرقيقة الهادئة المتفهمة والتى تعانى الآن فى هذه المحنة , مما ليست هى مسؤولة عنه .
" مساء الخير "
التفتت لترى جيروم واقفا فى الباب المؤدى إلى الشرفة وفى يده كأس عصير .
انتاب ميغ الذعر . إذن فقد كان جالسا فى الشرفة طوال وقت المخابرة الهاتفية . ما الذى تراه سمع ؟ وما الذى قالته هى مما قد يفضحها ؟ وتصنعت ابتسامة وهى تقف قائلة : " لم أكن أعلم انك هنا . "
أجاب باقتضاب وهو يدخل الغرفة وعلى فمه ابتسامة ساخرة من لباسها المحتشم : " هذا واضح . كم تبدين متواضعة ومحتشمة . هل يمكننى تقديم كأس عصير لك ؟ "
أومأت برأسها مجيبة : " نعم . شكرا . "
ونظر اليها متفحصا وهو يقول : " أرجو أن لاتكونى قد سمعت أخبارا سيئة ؟ "
اجابت : " آه ,.بالعكس فالأخبار حسنة جدا . " وبينما كان يملأ لها الكاس , أخذت تفكر فى أن الأمور حسنة فعلا , إذ ربما سيعود ستيفن كيرتيس إلى عقله , فى النهاية بالنسبة إلى زواجه , كما أن مارغوت ستتعلم درسا قاسيا هى بحاجة اليه حتما , وستعود الحياة قريبا الى طبيعتها .
كما أنها كانت تشك فى أن ايريس قد تغفر لها عدم استجابتهالها . وهزت كتفيها فقد حان الوقت , على كل حال لكى تنتقل من ذلك المنزل . ومن الآن فصاعدا ستمضى كل دقيقة فراغ من وقتها فى غرفة المكتبة تتمرن على الآلة الكاتبة إلى أن تتمكن من هذه المهنة , ليكون فى استطاعتها عند عودتها إلى لندن , أن تتقدم بطلب عمل مكتبى تعيش منه , إذ ليس أمامها سوى هذه الطريقة . ونظرت إلى جيروم الى كان يتقدم منها وفى يده كأس العصير , وقد تجلى فى عينيها شوق دون امل .
أشاحت بوجهها تحدق إلى خارج الشرفة , وقد انتابها الفزع من ان يقرأ فى عينيها ما يدور فى نفسها . وعندما اقتربمنها ., تناولت الكأس من يده وهى تتمتم شاكرة . بينما استند هو متراخيا . إلى حافة النافذة . وتضرج وجهها وهى ترى نظراته الفاحصة , وانفجر ضاحكا وهويقول : " مرة أخرى , هذا التضرج غير المعقول فى وجهك . "
ولم تستطع أن تفكر فى جواب لهذا . واستمرت تنظر امامها بجمود . كانت تعلم انه من القرب منها بحيث انها لو استدارت ستلامس كتفها بكتفه .
قال يغيظها : " لم أكن اعلم أن نقوش السجادة جذابة إلى هذا الحد.. "
قالت وهى تعض شفتها : " كنت أفكر . "
قال : " لا أظنها أفكارا سارة . "
وفكرت هى بمرارة , فى أنه يفهم عنها أشياء كثيرة .
وهزت كتفيها قائلة : " إن المكان هادئ جدا هنا , بينما أنا قد اعتدت على حياة المدينة حيث دوما هنالك شئ جديد . "
قال متأملا : " آه , نعم علينا إذن أن نحضر لك بعض الأشياء المثيرة هنا . "
حاولت أن تتجاهل ما يتوارى وراء كلماته هذه من إغاظة ضاحكة , واحتست شيئا من العصير وهى ترد بحدة : " وذلك دون شك . بطبع التخمينات عن تكلفة بناء سقف جديد . "
ضحك قائلا : " حتى هذه الأشياء قد تكون ممتعة . وذلك حين تستعملين مخيلتك فتتصورى الجمال الذى سيكون عليه المنزل عندما ينتهى اصلاحه . "
فقالت ببطء وهى تفكر فى الرسائل التى سبق وكتبتها قبل فترة : " آه . نعم , أظن ذلك . "
نظر اليها متسائلا بقوله : " هل هنالك ما يضايقك ؟ "
أجابت : " كلا . ولكننى لا أستطيع أن أفهم لماذا , بعد هذا الزمن الطويل , يصرف على تصليح منزل كبير مثل هذا , المبالغ الضخمة لأى سبب ؟ بينما من الواضح ان ليس ثمة ولد أو أى شخص آخر ليرثه . "
سألها : "اتظنين أن على هذا القصر أن يترك لحاله إلى أن يندثر بسلام . "
قالت مترددة : " كلا , حسنا . ربما ... إذ من هو الذى يستطع أن يتحمل مصروف منزل ضخم كهذا , بعد الآن ؟ إلى جانب ذلك , لا أظن أن العمة تملك تلك المبالغ من الأموال . "
قال بشئ من السخرية : " وهل هنالك ما يمكنها عمله أفضل من هذا ؟ "
وقابلت نظراته بثبات قائلة : " نعم , ربما فهذا المكان منعزل جدا , كما أنه يحتوى على كثير من الذكريات المحزنة يمكنها أن تبتعد .. أن تسافر .. "
قال : " وتنسى ؟ "
فحركت يدها تظهر العجز وهى تجيب : " ولم لا ؟ "
قال : "لا أظن الأمر بهذه البساطة ., فالحب لايزول دوما , أو ينسى بسهولة . "
قالت : " بعد كل تلك السنين ؟ "
فرد عليها بهدوء : " إذا كان الحب حقيقيا فالوقت لا يعود له حساب , وساعة واحدة أو الحياة كلها تصبح شيئا واحدا . "
اشتدت يدا ميغ على كأسها وهى تقول متوترة : " ولكن إذا اتضح أن ذلك الحب هو لشخص غير مناسب , وفى وقت غير مناسب . وفى مكان غير مناسب ؟ "
قال بخشونة : " إنه يكون عندئذ , مأساة . ولكنه لا يغير من الأمر شيئا يا جميلتى . صدقينى . فالجرح العميق هو نفسه , وآثاره تبقى خالدة . " وفكر لحظة . ثم تابع : " كما أنه ليس فى استطاعتك أن تبعدى السيدة مارغريت عن هذا المكان . فقد امضت اكثر حياتها هنا . وفى الحقيقة لقد أصبح هذا القصريمثل حياتها وحبها , والآن هى تريد أن تفرغ فيه كل عواطفها المحمومة التى تجمعت طوال تلك السنوات الفارغة . فهل تنكرين عليها هذا ؟ "
اجابت ميغ وهى تتنهد : " كلا . كلا أبدا , ما دمت عرضت الأمور بهذا الشكل . "
قال : " أو ربما كنت تضعين فى اعتبارك مصلحتك الخاصة ؟ " وخدعت فى البداية , بلهجته المهذبة , ولكنها ما ان استوعبت المعنى الذى تضمنته كلماته حتى استدارت إليه بحدة , قائلة : " ماذا تقصد ؟ "
قال وهو يهز كتفيه : " ان السيدة وحيدة وضعيفة البنية . وسيلفي ألجو مرافقتها المعتادة هى امرأة طيبة . ولكنها لاتستحق شيئا على مودتها وعطفها . ثم أن السيدة مولعة بك . "
توترت ملامح ميغ وهى تقول : " لقد سبق وأخبرتك بأننى لاأريد شيئا منها . "
قال بصوت عنيف ساخر : " إننى أعرف ماذا سبق وقلت . ولكن كل شخص بامكانه أن يغير رأيه . وفى مدى شهر يمكنك ان تحققى الشئ الكثير . حتى انه يمكنك ان تقنعى السيدة بأن تحول اليك كل ما تملكه , إذ تجد أمامها القصر القديم المتهالك , أو المرأة الشابة الجميلة .. ولاشك أن كفة الميزان تميل فى مصلحتك , ياعزيزتى مارغريت . "
انتابتها ثورة عمياء ورفعت يدها تهوي بها على وجهه , ولكن يد جيروم كانت أسرع بامساك معصمها بقبضة من حديد .
قال بلطف وبرود : " آه . كلا , إياك . "
وسرعان ما كان يأخذها بين ذراعيه يشل بذلك . حركتها .
كان غاضبا بشكل لم تره من قبل . وهو يحتضنها بمشاعر محمومة لم تكن مشاعرها هى بأقل منها .
وفجأة , وبنفس العنف الذى بدأ به احتضانه لها , تركها من بين ذراعيه رافعا إياها عنه وكأنه يطردها عنه طردا .
وهويقول بصوت خشن متهدج : " آه . تبا لك , يا مارغريت . ما الذى تفعلينه بى ؟ "
وسار نحو الباب , قاذفا بقدمه كأس العصير الذى كان قد سقط على السجادة . ثم خرج غالقا الباب خلفه بعنف .
كانت هناك كأس مهشمة على السجادة وعليها ان ترفعها بسرعة . وركعت على السجادة بحذر , ورأسها يدور , تلتقط القطع الزجاجية بمنديلها . واجفلت عندما جرحت احداها . طرف أصبعها .
نظرت إلى خط الدم الاحمر السائل . كان الجرح عميقا , والأثر سيبقى خالدا . وأحست بطعم دموعها المالحة وهى تنحدر إلى شفتيها .
الفصل العاشر
أشارت الساعة التى بجانب سريرها إلى الثانية صباحا , وحدقت فيها ميغ وهى تقول : " يا للتعاسة . "
لقد مر عليها أسوأ مساء فى حياتها . إذ ما كادت تنتهى من التقاط قطع الزجاج المتناثرة , حتى دخلت السيدة دي بريسو ترفل فى الحرير المعطر , وهى تقول : " ها انك هنا , يا صغيرة ؟ " دون ان تنتبه , لحسن الحظ إلى عينى ميغ المتألقتين بشكل غير عادى , وآثار الدموع على خديها وجلست فى كرسيها المعتاد وهى تحدق حولها بنظرها الضعيف قائلة : " ألم يأت جيروم بعد ؟ "
تمتمت ميغ بشئ غير مفهوم . وقالت السيدة : " حسنا ,. هذا غير مهم . اننى مسرورة إذ سنحت لى الفرصة لأراك وحدك . " وفتحت درجا فى منضدة بجانبها وأخرجت علبة مخملية وهى تقول : " أحب أن أقدم إليك هذه . "
ترددت ميغ شاعرة بالضيق , وابتدأت بالقول : " لا حاجة بك إلى ذلك , فى الحقيقة .. "
قاطعتها هذه بحزم : " بل ثمة حاجة . فلقد أهملتك مدة طويلة . " ووضعت العلبة فى يد ميغ وهى تتابع قائلة : " ربما تكفر هذه عن صمت كل تلك السنوات . "
قالت ميغ بذعر : " كلا . كلا . أعنى .. إننى لم آت إلى هنا لأجل هذا ... "
قالت العمة برقة : " ليس بك حاجة إلى أن تخبرينى بذلك . ومع هذا فإننى أريد منك ان تقبلى هذا التذكار منى يا عزيزتى . فلا تحرمينى من هذا السرور . "
ازدردت ميغ ريقها وهى تفتح العلبة , لترى دبوسا رائعا من الياقوت الأرجوانى تحيط به اللآلى .
حدقت ميغ فيه , وقد عصتها الكلمات .
واخيرا قالت العمة : " أرجو أن يكون قد أعجبك ؟ ربما لا يكون له قيمة مادية كبيرة . ولكنه كان يعنى ذات يوم . الكثير بالنسبة لى , وهو الآن لك . "
فكرت ميغ فى ان ليس ثمة حاجة للسؤال عمن أعطاها هذا الدبوس . وقالت بصوت مرتجف : " إنه أجمل شئ رأيته فى حياتى . ولكن , لايمكننى أخذه ياعمتى .. .إنك ... إنك لا تدركين ...
قالت العمة برقة : " ربما أنا أدرك . إنك تشعرين أن جيروم لن يقبل . "
أجابت : " إننى متأكدة من أنه لن يقبل . إنه... إنه لا يثق بى ..."
قالت العمة وهى تربت على يدها : " لقد كان هذا قبل أن يقابلك . فلا تلوميه على هذا ياطفلتى . فهو يبالغ فى حمايتى أحيانا . ولكن هذا ليس ذنبا , صدقينى , فى الرجل بالنسبة إلى المرأة . وكان حكمه عليك فى البداية متسرعا مبنيا على السماع . وأنا متأكدة من أنه أدرك ذلك الآن . "
هزت ميغ رأسها قائلة بهدوء : " على العكس . أظن هذه الهدية ستؤكد اسوأ شبهات جيروم
" وماهى شبهاتى ؟ "
كان هذا صوت جيروم الذى كان واقفا عند الباب يراقبهما .
قالت العمة : " لقد قدمت إلى عزيزتنا مارغريت هدية صغيرة . ولكنها مترددة بشأن قبولها . "
قال ببطء : " يا للأخلاق التى تدعو الى الاعجاب . "
قالت العمة بحزم : " عليك أن تخبرها . إذن , بأن ترددها هذا سخيف . "
قال : " بكل سرور " وتقدم من ميغ ومد يده إليها لتعطيه العلبة . قائلا : " أيمكننى أن أرى ؟
ناولته ميغ الدبوس متمهلة . لكى يفحصه .
قال بعد برهة : " ولكنه رائع " والتقت عيناه الساخرتان بعينيها . مما جعلها تتأكد من أنه عرف قيمة هذه الحلية , وتابع : " وكذلك . هو يتلاءم مع ما ترتدينه . اسمحى لي . "
وأخرج الدبوس من علبته . ووضعه فى ياقة قميصها الأبيض .
وتراجع خطوة إلى الخلف وهو يقول بلطف : " إن مكانه مناسب تماما . "
وبدا أن العشاء لن ينتهى . وعندما كانوا يدخلون قاعة الطعام , استدعت فيليبين جيروم إلى الهاتف , ليعود اليهم عند تقديم الحساء , واختلست ميغ نظرة من بين اهدابها الطويلة اليه , لترى العبوس تكسو ملامحه . كان من الواضح ان الخبر الذى تلقاه فى هذه المخابرة الهاتفية ., لم يكن سارا . ربما قد اتصلت به تلك السيدة التى فى منزله لتخبره بأنها قد سئمت من الانتظار
حولت انتباهها إلى العمة , وابتدأت تثرثر بوجه مشرق ., عن كل ما رأته وفعلته فى المدينة هذا الصباح . ومن وقت لآخر ، كانت تنتبه إلى نظرات جيروم تنصب عليها ، متنقلة بين شفتيها وذلك الدبوس الذى كان يتألق على ياقة قميصها . ولكنه لم يحاول ان يتدخل فى حديثها أو أن يحول الحديث إلى موضوع آخر .
وعندما سكتت ميغ ، لتلتقط أنفاسها ، سألتها العمة : " أردت ان أسالك إن كنت قد اتصلت بأمك ؟ "
فأجابت : " نعم . لقد تحدثت معها قليلا "
قالت العمة : " أرجو أن تكون بخير ؟ " كانت كلمات العمة مؤدبة أكثر منها دافئة ، وهى تتابع : " لا بد أنها تفتقدك ؟ "
ابتسمت ميغ بتحفظ وهى تجيب : " إنها مشغولة قليلا عن هذه الأشياء ، فى الوقت الحاضر ، كما أظن " ورأت عينى جيروم تضيقان فجأة وهو يستند بظهره إلى الخلف ولكنه لم يعلق بشئ .
ولم يكن لدى ميغ شهية للطعام ، فأكلت قليلا ثم دفعت بطعامها فى أنحاء صحنها مما لم يعجب فيليبين عندما رفعت الأطباق .
وعندما انتقلوا جميعا إلى غرفة الجلوس اقترحت العمة أن يتسلى جيروم وميغ بلعبة الطاولة ، ولكن ميغ اعتذرت بسرعة ، بأنها تعانى من الصداع .
أخذ جيروم يد السيدة يقبلها وهو يقول : " وأنا أيضا استأذن بالذهاب ، فقد حدث فجأة فى منزلى أشياء غير متوقعة ولا يمكن تجنبها "
شعرت ميغ بقلبها يكاد يكف عن الخفقان . إذن ، فقد قرر أن يستجيب لذلك الاستدعاء له على الهاتف . حسنا ، ما الذى كانت تتوقعه غير هذا ؟ ولكن ، ما لها تشعر بأنها تكاد تموت فى أعماقها ؟
قالت له السيدة بحدة : " إنك ترهق نفسك فى العمل . هل ستعود فى ما بعد ؟ "
قال بعد برهة : " لست متأكدا من ذلك . على كل حال ، سأراك فى الصباح ، ليلة سعيدة "
وابتسم لميغ ببرود وقال : " أرجو أن يبارحك الصداع بسرعة " ومن ثم ترك الغرفة
اهتمت العمة بتقديم ما يزيل صداعها ، واضطرت ميغ إلى أخذه منعا للشك من ان يراود السيدة ، مع انه لم يكن ليستطيع تخفيف الألم فى قلبها . ولكنها رفضت الذهاب إلى الفراش ، فقد كان الانفراد بنفسها والتفكير ، هو آخر شئ تريده فى العالم .
قالت العمة وهى تسوى الوسائد خلف ظهرها : " من المؤسف ان يضطر جيروم إلى الخروج ، وإلا لكان جعل خاتمة يومك مسليا لو انه استطاع البقاء "
كانت تتكلم بصدق ، ولكن ميغ لم تخدع بذلك ، فقالت : " لقد جئت إلى هنا لأكون مرافقتك يا عمتى وليس مرافقته "
قالت العمة : " ولكنك ابتدأت تعجبين به ، أليس كذلك يا عزيزتى ؟ "
كانت كلمة إعجاب هذه وصفا فاترا لتلك المشاعر الجارفة التى تكتسحها . وقالت باختصار : " إننى لم أفكر بذلك ، فى الحقيقة . هل أحضرت فيليبين الصحف ؟ "
قالت العمة : " إننى لا أريد ان اسمع أية أخبار صحفية ، هذه الليلة . إنها جميعا تتحدث عن الحروب والموت والدمار ... وكلها تسبب لى الاكتئاب . إننى أفضل ان أتحدث عن الأشياء التى تبعث السعادة "
قالت ميغ برقة : " سأتحدث فى أى موضوع يعجبك ماعدا .. ماعدا جيروم .. إننى ... إننى أعرف إلى أى حد أنتما مولعان ببعضكما البعض , إلى أى حد تعتمدين عليه , ولكن ليس بامكانك أن تتوقعى منى المشاركة فى علاقتكما ."
قالت العمة بقوة : " طبعا لا , إذ ان هذه سخافة . ولكنك أيضا لا يمكنك الادعاء بأنك غير منجذبة إليه يا عزيزتى , وكذلك هو . " وضحكت بهدوء وهى تستطرد : "عندما يخف نظر شخص ما , فإن بقية الحواس تقوى . وقد شعرت بذلك التيار من المشاعر يسرى بينكما . "
قالت ميغ : " إنه وسيم جدا , ومن الطبيعى أن أنتبه إلى هذا .. "
قاطعتها العمة قائلة : " كلا . كلا , إننى أتحدث عن شئ أكثر أهمية وعمقا من مجرد الانتباه هذا .. "
قالت ميغ باصرار : " أظنك مبالغة , فأنا والسيد جيروم لم نتقابل إلا منذ فترة قصيرة جدا .
أفلتت من العمة ضحكة عميقة مرة أخرى وهى تقول : " ويا له من لقاء , وكم تظنين أيتها الطفلة الحمقاء , ستأخذ معرفة ذلك من الوقت ؟ أحيانا نظرة .. كلمة ... وهذا يكفى لكى يصبح الرجل فوق الجميع فى نظرك ."
حاولت ميغ ان تبتسم وهى تقول : " إن هذا كلام شاعرى جدا , ولكن الحقيقة هى شئ أخر ."
تساءلت ميغ فى سرها , عما يحدث فى حالة منحها قلبها لرجل لا يبادلها عواطفها , أو ما هو أسوأ , إذ يريدها لمجرد التسلية ..
وعادت العمة تقول بحزم : " لايجب أن تأخذك الشكوك فى الحب يا عزيزتى , بل عليك أن تتمسكى به بكل فرح وبهجة حالما يقدم إليك , وإلا فستمضين حياتك فارعة إلا من الندم ."
فكرت ميغ وهى تعض شفتها . إن هذا شئ هى متأكدة من الوصول إليه , وقالت بصوت عال : "ليس ثمة فائدة حتى من الحديث فى هذا الامر , إذ يبدو أنك نسيت أننى سأمضى هنا عدة أسابيع فقط ..."
فربتت العمة على يدها قائلة :" بهذه المناسبة . بما أننى عدت فوجدتك يا طفلتى فإننى لا أريد أن أخسرك . وآمل أن أراك دوما فى المستقبل . "
وصدمت ميغ لشعورها بالذنب . وحدثت نفسها بأنه ما كان لها أن تقبل تمثيل هذا الدور أبدا , وأن الحياة كلها لن تكفى للاستغفار عن هذا الذنب .
ورفعت يدها تلمس الدبوس , لتشعر أحجاره ببرودة تحت أصابعها , إن من المفروض أن هذا الدبوس تستحقه مارغوت . كما قصدت العمة . على كل حال ولكن إذا وقع بين يدى تلك الفتاة الجشعة , فسيكون ذلك على جثتها , كما انها لا ينبغى أن تحتفظ به هى أيضا . إنها تحتفظ به أثناء وجودها هنا فقط من باب الاستعارة كما هو الشأن بالنسبة لكل الأشياء الأخرى .
لم يعد جيروم . وبعد الساعة العاشرة أبدت السيدة رغبتها فى الذهاب الى سريرها . وقد قرأت لها ميغ قبل النوم . قبل أن تذهب هى أيضا إلى غرفتها , حيث نزعت الدبوس من ياقة قميصها بكل عناية . ثم وضعته فى علبة لتدسه فى أخر درج فى منضدة الزينة . لابد أنه كلف العمة كثيرا من الالم حين تخلت عن هذا الشئ الذى يعنى لها الكثير . شعرت ميغ بالحزن لأجلها , لم تكن تظن بأن هذه السيدة ستتعلق بها بهذه السرعة . كما أنها لم تكن تتكهن بأنها كانت تنظر إلى هذه الزيارة كبداية لعلاقة طويلة كاملة مع ابنتها الروحية .
وانتهت بأن حدثت نفسها بان هذه ستكون مشكلة مارغوت وليس مشكلتها هى .
ولكن هذه المشكلة كانت واحدة من كثيرات , إذ ان ستيفن كيرتيس ابتدأ يحاول انقاذ زواجه باى ثمن . وهذا يعنى بالطبع ان مارغوت ستخرج من عملها ومن حياته أيضا .
ولم تشعر ميغ يوما بأى تعاطف مع مارغوت أثناء ملاحقة هذه الاخيرة لكيرتيس ., ولكن خطر لها الآن , بعد هذا الإحساس الجديد الذى استيقظ فيها , بأن مارغوت لو كانت حقا تحب ذلك الرجل فإن فقدانه سيحطمها وسيمزق نفسها .
وفكرت فى ان مارغوت ربما لم تكن تريد أن تحبه , ولكنها مثلها هى . لم تستطع مغالبة عواطفها , وستتألم لهذا مثلها إلى أخر حياتها .
وتملكها الأرق وهى مستلقية على فراشها فى الظلام تقلب مختلف الأمور , ولكن ذهنها المرهق لم يستطع أن يضع حلا لأية مشكلة من تلك المشكلات التى تشغلها وتسبب لها الحيرة والارتباك . وفى النهاية دفعت عنها الأغطية بحزم .
إنها الساعة الثانية صباحا , وهى لن تبقى مستلقية هنا مستسلمة للأفكار المؤلمة , إنها ستستغل أرقها هذا فى ما يفيد .
وضعت عليها معطفها المنزلى , وأخرجت مصباحها اليدوى من حقيبتها , ثم فتحت باب غرفتها ليواجهها الصمت والظلام . وبحذراتخذت طريقها على ضوء مصباحها إلى غرفة المكتبة . إنها ستواجه الصعوبات وستتغلب عليها . ربما سيأخذ منه اقناع جيوم بأنها غير جديرة بعض الوقت . ولكن بامكانها على الأقل , ان تثبت له بأنها ذات كفاءة فى العمل . وذلك بالتدرب على تلك الآلة الكاتبة اللعينة .
دفعت باب المكتبة , ولكن لتقف مصعوقة . كان مصباح المكتب مضاء وكان هو جالسا إلى المكتب مشغولا بالكتابة . وحدق فيها وكأنه يرى شبحا . ثم جمع الأوراق التى أمامه ووضعها فى ملف .
وسألها : " ما الذى جئت تفعلينه هنا ؟ "
ولم تشأ أن تخبره أنها كانت قادمة للتمرن على الطباعة سرا. و إلا لظنها مجنونة .
قالت تجيبه : " ظننت أننى سمعت ضجة ."
قال بابتسامة جافة : " أرجو أن يكون ألم رأسك قد خف الآن ."
قالت : " نعم " وسكتت لحظة , ثم عادت تقول : "ظننتك لن تعود هذه الليلة . " قالت ذلك وهى تفكر ببرود فى ان تلك الفتاة المجهولة فى منزله لابد أن تهتم به أكثر مما تفعل الآن . لكى لا يتركها فى مثل هذا الوقت
هز كتفيه قائلا :" ثمة بعض تخمينات التكلفة بالنسبة للبناء كانت فى انتظارى فى مسكنى , رأيت أن أنهيها ., ذلك أن السيدة مارغريت تريد أن يبدأ العمل فى أقرب وقت ."
قالت ميغ وهى تشد حزام معطفها بعصبية : " نعم , بالطبع . " لاحظ حركتها هذه لاويا شفتيه ثم التقط قلمه وهو يقول : " إننى لن اعيقك عن العودة , أم لعل هناك شيئا أخر ؟ "
قالت : " كلا .. على الأقل . " وترددت .
قال : "حسنا . تابعى كلامك . "
قالت بشئ من السرعة : " إنه عن ذلك الدبوس . إننى أريد .. أريد أن أوضح لك الأمر بشأنه ."
رفع حاجبيه قائلا : "وهل ثمة ايضاح ضرورى ؟ لقد أرادت السيدة أن تقدم لك هدية , وهذا شأنها هى فقط . "
قالت وهى ترطب شفتيها الجافتين بلسانها : " لا أظن هذا صحيحا . إنه حلية قديمة وجميلة , وليس علبة شوكولاتة . لقد حاولت أن أخبرها أنه لايمكننى قبول مثل هذاالشئ . ولكنها لم تستمع إلى . "
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول : " لقد اعتادت التصرف بطريقتها الخاصة فى أشياء كثيرة . وليس بامكانك تغييرها فى هذه الفترة القصيرة . "
قالت : " هذا بالضبط ما أريد أن أقول . أننى ساتقلد الدبوس أثناء وجودى هنا , وعندما أرحل سأعيده إليك ."
وقطب حاجبيه قائلا : "أتعيدين هديتها ؟. لايمكنك ان توجهى إلى السيدة مثل هذه الإهانة ."
قالت بثبات : " ذلك هو السبب فى أننى أردت أن أعيد الدبوس الثمين إليك أنت . " وسكتت لحظة , ثم عادت تقول : "وعلى كل حال, فقد جاء أصلا , من أسرتك أليس كذلك ؟ "
هز كتفيه قائلا : " دون شك . إذ لو كان تاعبا لأسرة دى بريسو لباعه هنرى وقامر بثمنه ."
أومأت برأسها قائلة : "لهذا ,. أنا سأعيده فقط إلى أصحابه . "
فازداد تقطيب جبينه وهو يقول : " هذا ليس ضروريا أبدا . إن الدبوس ملكك الآن ., احتفظى به . "
هزت رأسها قائلة : " لايمكننى ذلك . "
قال وقد أظلم وجهه : " هل هذا بسبب ما قلته لك قبل العشاء ؟ لم يكن من حقى أن .. "
فرفعت يدها تمنعه من متابعة الحديث , قائلة : " ثمة أسباب أخرى كذلك , وأرجوك ألا تسالنى الإيضاح ."
قال : " حسن جدا . " وسكت لحظة ثم عاد يقول : " هل هذا هو السبب فى حضورك إلى هنا ؟ فقط لتخبرينى عن الدبوس ؟ " وكان فى صوته نبرة غريبة .
قالت : " لقد سبق وأخبرتك بأننى سمعت ضجة . "
سألها متهكما : " سمعت ضجة هنا من غرفتك فى الطابق الأعلى ؟ يا للسخافة . "
وفكرت هى فى ان هذا العذر ليس فى الواقع بسخافة نصف الحقيقة , وقالت تجيبه : " حسنا . ثمة شئ أيقظنى لا أدرى ما هو بالضبط . "
قال وقد بدت المرارة فى صوته . والتفكير فى عينيه : " لقد يكون نفس السبب الذى جعلنى لا أنام الليلة منذ بداية تعارفنا يا جميلتى . " وترك القلم من يده ثم وقف ودار حول المنضدة قادما نحوها .
تراجع ميغ نحو البا وهى تقول بسرعة : " إننى أسفة لإزعاجى لك ... يمكنك أن تعود إلى عملك الآن . "
قال : "إزعاجك لى ؟ " وأطلق ضحكة خشنة قصيرة وهو يتابع : " تبا لك ... أأأزعجتنى فقط ؟ ألا تعرفين ما الذى فعلته بى ؟ يا جميلتى المخادعة المنحلة الساقطة ؟ "
اهتزت قائلة : " كيف تجرؤ على مخاطبنى بهذه الكلمات ؟ "
قال ساخرا : " آه , إننى أجرؤ على ذلك لأننى أعيش الآن فى حجيم , ياعزيزتى مارغوت . لقد أحلت حياتى وخططى كلها إلى فوضى ومع أننى أعرف حقيقتك . فإن هذا لا يغير من الأمر شيئا . أننى أحاول أن احتقرك . ولكننى أشعر فى النهاية ان رغبتى بك تزداد ."
اقترب منها خطوة وهو يتابع : " وإذا كان الأمر هو نفسه . بالنسبة إليك يا حبى , فلا تدعى العكس . فأنت هنا هذه الليلة ., لهذا الشئ . لأنك لاتستطعين البقاء بعيدة عنى . ولقد سبق وقلت أننى سأجعلك تأتين إلى . وها أنت ذى هنا . "
شهقت قائلة : " كلا , هذا غير صحيح . إنك مجنون ."
قال ساهما : " نعم . أظننى مجنونا قليلا , فقد ابتدأت معركتى بمقاومتك , ولكنها انتهت بمقاومة نفسى , وليساعدنى الحظ فى ذلك . "
قالت بصوت مبحوح : " إننى سأرحل . سأخبر السيدة إن على أن اعود الى انكلترا معتذرة بأزمة عائلية ., أو أى شئ أخر ... "
قال بابتسامة ملتوية : " ربما تريدين العودة إلى حبيبك . لكى تنقذى ما يمكنك انقاذه . إن كان هذا بإمكانك ؟ "
هزت رأسها بوحشية وهى تقول : " ليس عندى حبيب . "
قال : " كلا . ربما ستكون هذه هى الحقيقة فى النهاية . مسكينة مارغوت . "
قالت : " لا تنادينى بهذ الاسم يا جيروم . " وازدردت ريقها وهى تقول : "ثمة أشياء عنى أريد منك أن تعرفها . "
قال : " لقد سبق وعرفتها حتى قبل أن تضعى قدمك فى فرنسا , لقد نويت أن أقضى بعض الوقت معك لكى أبرهن على أنك فتاة رخيصة تذهب مع أى كان ."
حملقت فيه غير مصدقة وهى تقول غاضبة : " ماذا تقصد ؟ ما هذا الذى تقوله ؟ "
اجاب : " لقد مضى زمن الإدعاء يا جميلتى , ولنكن الآن صادقين مع بعضنا البعض. " وخشن صوته وهو يتابع : "لقد وقعت فى الفخ الذى نصبته لك يا مارغريت . لقد سحرتنى أنا أيضا لقد تسللت إلى أعماقى , واستوليت على روحى . " ونظر إليها بعينين نهمتين وهو يتابع قائلا : " ولكن . ربما إذا استوليت عليك بطريقتى . يبطل هذا الافتنان . واسترد حريتى وعقلى . "
قالت بصوت مختنق : "كلا . " واستدارت تبغى الهرب . ولكن قدمها اشتبكت بطرف معطفها فتعثرت . وفى تلك اللحظة أمسك بها جيروم ليجذبها إليه بيدين قاسيتين . قاومته هى بضراوة ., وهى تضربه بقبضتيها على صدره .
ولكنها , وهو يشد عليها ذراعيه ابتدأت تشعر بخفقان قلبها يتصاعد . متجاوبا مع خفقان قلبه .
وهمس من أعماقه , وقد استحال العبوس والقسوة فى وجهه . إلى رقة بالغة وكان همسة حافلا بالمشاعر : " مارغريت " واستدار وجهها إليه كالزهرة التى تتفتح أمام الشمس .
وعندما شدها إلى صدره . ثم حملها بين ذراعيه لم تمانع ولم تبد أية مقاومة وهو يسير بها صاعدا إلى غرفتها ليضعها فى سريرها , ثم يستلقى بجوارها .
استلقت ميغ فى السرير , وهى تضغط بقبضتها على فمها المرتجف , شاعرة رغم إغماضها عينيها , بأنه لم يعد بجانبها .
واخيرا , تجرأت ففتحت عينيها تبحث عنه , لتراه واقفا قبالة النافذة . موليا إياها ظهره وقد أزاح الستائر وفتح المصراعين , ومضى يحدق فى أول خيوط الفجر وهى تبدو من ناحية الشرق .
عاد بها الزمن دقائق إلى الوراء ... لترى نفسها تصرخ متوترة . لتسكت لاهقة وقد تدحرجت الدموع على خديها .
وهتف بها بسرعة وهو يقول مذهولا : " ماذا جرى ؟ ماذا حدث لك ياعزيزتى ؟ " وعضت شفتيها بقوة وهى تقول بصوت مرتجف : " لا أعرف .. لم يسبق لى أن .. "
وجمد فى مكانه فجأة وهو يحملق فيها غير مصدق ويقول : " ماذا تقولين ؟ هل ما زلت ... ؟ أممكن هذا ؟ تبا لى . "
وازداد انهمار دموعها تحرق خديها وهى تقول . " أننى أسفة , لاتغضب منى أرجوك . "
وبقى صامتا برهة . ثم قال بهدوء : " أننى لست غاضبا : " ثم رفعها بين يديه برفق ., وارقدها على الوسادة وهو يزيح خصلات شعرها , المبللة بدموعها . عن وجهها ثم يمسح تلك الدموع بطرف ملاءة السرير .
لم يكن يفصل بينها وبينه , حيث كان يقف الآن سوى مترين أو حوالى ذلك . ولكنها شعرت وكأنها تنظر إليه عبر امتداد الكون بأجمعه .
وأخيرا تنهد وهو يلتفت إليها قائلا : " والآن , أخبرينى عن حقيقتك ., ومن أنت بالضبط ."
الفصل الحادى عشر
كان الصمت فى الحجرة ., لانهاية لعمقه .
واخيرا قال بصوت هادئ , وكأنه رجل غريب : " إننى بالإنتظار . من الواضح أنك لست مارغوت ترانت , ولكن من أنت ؟ "
اجابت وقد جف فمها : " أختها غير الشقيقة , إننى ... إننى مارغريت أيضا .. مارغريت لانغترى . لقد حاولت أن أخبرك بذلك فى غرفة المكتبة منذ فترة . ولكنك قلت .. لقد جعلتنى أظن أنك تعلم . "
قال : "آه . هذا صحيح , ولكن هدفينا كانا متعاكسين . ولكن ماهو سبب هذا التنكر ؟ "
أجابت : " لم تتمكن مارغوت .. من الحضور , فطلبت منى أن احضر بدلا منها . "
قال ساخرا ببرود : " إنك تتكلمين وكأن الأمر غاية فى البساطة . لماذا إذن أخفيت شخصيتك الحقيقية مدعية بأنك فتاة أخرى ؟ "
أجابت : " لايمكننى إيضاح الأمر .. "
قال برفق : "حاولى .. "
أجابت : " لم تكن مارغوت راغبة فى أن تظن خالتها بانها لاتهتم بها . "
قال : " مع أن هذا كان هو السبب الحقيقى . "
قالت : " ليس تماما . لقد كان عندها أسباب قوية تمنعها من مغادرة انكلترا .
قال : " بالطبع . من الواضح ان السبب هو ذلك الحبيب الذى لم تعرفى كيف تصفينه عندما تحدثت عنه . " وسكت لحظة . ثم عاد يقول : " لقد كانت القضية وصلت إلى الذروة فلم تجرؤهى على الرحيل لكى لا يغير رأيه فى غيابها , كانت بحاجة إلى البقاء للتشبث به .. لكى تستمر فى الضغط عليه . "
وفكرت بتعاسة أن هذه هى الحقيقة فعلا , ولكنها قالت : " أظن , هذا هو السبب . "
قال : " وكنت أنت سعيدة فى مساعدتها فى هذا الأمر ."
وأثارت سخريته أعصابها بينما تابع : " لقد كنت غاية فى البلاغة وأنت تنتقدين جدى ., بينما لم يزعجك أن تتعاونى معها فى تحطيم حياة زوجية ."
حملقت ميغ فيه وراحت تسأله بلهجة هى مزيج من الارتباك والتعاسة : " هل تعرف شيئا عن هذه القضية ؟ "
قال : " نعم اعرف , فإن كيرين كيرتيس الزوجة هى إبنة عمى . وقد نشانا معا كأخ وأخت . وعندما رأيتها أخر مرة كان واضحا أنها كانت متكدرة جدا من شئ ما . وفى النهاية جعلتها تفضى إلى بالأمر . " وكسا ملامحه العبوس وهو يتابع : " وعند ذلك سمعت للمرة الثانية بإسم مارغوت ترانت . "
قالت ميغ وهى ترتجف : " للمرة الثانية ؟ آه . أظن أن السيدة قد تحدثت إليك عنها . "
قال ساخرا بصوت أقرب إلى الوحشية : " نعم , إبنتها الروحية وقريبتها الوحيدة .. والتى لم ترها منذ سنوات كثيرة .. لأنها لم تشعر نحوها بالمودة منذ كانت طفلة ... لأنها رأت فيها صورة أمها التى كانت لاتحبها . فهى كانت تشعر بأنها لم تكن عادلة معها فأرادت أن تصلح من خطاها ذاك . وعندما أخبرتنى كيرين عن قضية زوجها , تمنيت أن لا تكون هى نفس الفتاة . وكانت ابنة عمى مقتنعة بانها لا تكن له حبا حقيقيا , بل تريده لتحقيق طموحها فقط . وقد حقق مخاوفها ما قمت به من استعلام عن تلك الفتاة إذ لم أجد من يذكر الآنسة ترانت بكلمة حسنة . فقد كانت قاسية أنانية تبحث عن المال ولا يهمها سوى مصلحتها . وقد كنت أتألم لحالة السيدة مارغريت بقدر ما كنت أتألم لحالة ابنة عمى . فقد كنت أحس بمدى شعورها بالوحدة ولحاجتها إلى إعادة الصلة بتلك الفتاة . ولكننى كنت أعرف أن ( صغيرتها ) مارغوت غير أهل لكل ذلك . "
قالت ميغ : " ولكنك لم تقل شيئا . ألم تخبرها ؟ "
أجاب : " لم يكن بإمكانى ذلك , فقد توسلت إلى كيرين بأن لا أذكر شيئا عن متاعبها هذه , فقد كانت مستميتة فى سبيل إنقاذ زواجها , ومقتنعة بأن ستيفن لابد سيعود إليها , وعندما قررت السيدة دعوةمارغوت إلى هنا , بدا لى أننا سنصيب عصفورين بحجر واحد . إذ أنها السيدة سرعان ما ستكتشف شخصية الفتاة فتراها على حقيقتها ." ولانت ملامح وجهه وهويعلق على قوله ذاك . قائلا : " إن فقدها لبصرها قد قوى من حواسها الأخرى من نواح متعددة . هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى فإن حضورها إلى هنا يفصلها عن ستيفن كيرتيس . وكانت كيرين متأكدة من أن الفتاة ليست مخلصة فى حبها لستيفن . ولكنها كانت بحاجة إلى إثبات ذلك . " ولوى فمه ساخرا وهو يتابع : " وهكذا صممت على أن أحقق لها ذلك , وأن أبرهن على أنها فتاة مخادعة تذهب مع أى كان وهذا بإغوائها بنفسى .
واستطرد بصوت عنيف : " إنما ما لم أضعه فى حسابى هو أنت ."
واخترقت كلماته قلبها كطعنة سكين . إذا كانت هى قد قامت بتمثيل دور زائف . قد فعل هو أيضا نفس الشئ , هل كانت كل نظرة منه . كل همسة كل لمسة ... هل كان كل هذا ادعاء وكذبا . وذلك للايقاع بها ؟ إنه يقول كل هذا بنفسه . إن ذلك الحبيب الذى أخذها بين ذراعيه لم يكن له وجود مطلقا. وإذا كان له وجود فهو حبيب تلك الفتاة الموجودة فى مسكنه .
وتمنت الموت وهى تفكر فى أنه لم يرغب قط فيها .
وسمعته يقول : " لماذا فعلت ذلك ؟ " ولملمت بقايا كبريائاها .. واحترامها لنفسها لتقرر , وقد برح بها العذاب . إنها يجب أن لاتدع جيروم يعلم أبدا مقدر نجاحه فى خداعها بادعاء الحب لها . يجب ألا يدرك . مهما كان الأمر أنها واقعة بغرامه .
أجابته قائلة : " لم يكن لدى خيار . فقد كانت هناك ضغوط متعددة على لم تترك لى مجالا للرفض . "
قال ببرود : " إنك دون شك . عاطلة عن العمل طبعا . وهذا الذى جعل من السهل قدومك إلى هنا. أليس كذلك ؟ وقد دفعت لك مارغريت مصاريفك ."
وانغرزت أظافرها فى راحتيها وهى تقول : "إنك جعلتنى بكلامك هذا . أبدو كمرتزقة . ولكن السبب لم يكن هذا فقط . "
رفع جيروم يده يقاطعها قائلا :" اعفينى من ذكر البقية . "
وسكت لحظة وقد بانت المرارة فى ملامحه , ثم تابع يقول : " كان على أن أعلم أنك مخادعة . فقد كان ثمة تناقضات كثيرة مثل قدرتك على التكلم بالفرنسية , وفشلك فى الطباعة على الآلة الكاتبة ... كل هذا كان يبنغى أن يدلنى على أنك لست الفتاة التى أدعيت ."
وأشار بملل إلى الفراش قائلا : " ولكن . ما الذى جعلك تستمرين بهذه اللعبة إلى هذا الحد أيتها الحمقاء , هل ظننت أنك ستكونين فى النهاية رابحة ؟ "
وحنت ميغ رأسها وقد برح بها الألم واليأس , وقالت بصوت لا حياة فيه : " أظن ... إننى لم أدرك ... "
ولم تقل له إن حبها له أعماها عن كل شئ .
سألها : " وأين هى إذن , شقيقتك الجميلة تلك ؟ "
أجابت : " ليس عندى فكرة . " وترددت , ثم سألته : " إنك تعلم , طبعا أن كيرين تركت زوجها وأطفالها . "
أجاب : " نعم , لقد أرادت أن ترى ما إذا كان العنف قد يعيد زوجها إلى عقله , وليس لأنها كانت سعيدة بأن تترك صغارها لرحمة مارغوت . "
قالت ميغ : " إن مارغوت لم تأخذ الأطفال , وهم الآن فى أمان عند مربيتى العجوز , كما أن ستيفن كيرتيس قد ذهب ليبحث عن زوجته . وبهذا يبدو أن خطتها قد نجحت ."
لاحت على شتفيه ابتسامة باهتة وهويقول : "الأمور إذن ابتدأت فى التحسن من ذاتها , باستثنائك أنت . "
ردت عليه بحدة : "أرجوك أن لا تشغل بالك بأمرى , ففى إمكانى العناية بنفسى ."
قال بنفاد صبر : " لا تتكلمى كالحمقى . فليس فى إمكاننا ترك الأمور كما هى . ما زال هناك الكثير للحديث عنه ... "
قالت : "على العكس , فقد تحدثت بما فيه الكفاية , وأيضا فعلت ما فيه الكفاية . " ونطقت كلماتها الأخيرة بالمرارة البالغة .
مشت نحو منضدة الزينة وفتحت درجها , وعندما عادت كانت العلبة المخملية التى تحوى الدبوس الحلية فى يدها وهى تقول : " هذا هو العمل الوحيد الذى لم ينته بيننا . " و ألقت بالعلبة إليه وهى تتابع : " وهذا هو نهاية كل شئ , فاخرج من هنا . "
غصت بريقها وهى تغالب دموعها , ثم استطردت : " عد إلى حيث تنتمى يا سيد مونتكورت
فاقترب خطوة منها وهويقول : " مارغريت ."
ولكنها لم تتراجع ومضت تقول صارخة : " هيا اذهب , ودعنى بسلام ."
فأطلق ضحكة كلسعة السوط وهو يقول : " بسلام ؟ تبا لك , أى سلام سيتمتع به أى منا بعد الآن ؟ "
ونظرت إليه وهو يسير نحو الباب بخطواته الواسعة الرشيقة , ليخرج من حياتها إلى الأبد .
وعادت تقول للغرفة الفارغة : " وهذه هى نهاية كل شئ ." وانخرطت فى البكاء .
عليها أن تبتعد من هنا . كانت هذه هى الفكرة التى سيطرت على ذهنها وهى تقوم بعملها الصباحى المعتاد , من استحمام وارتداء الملابس , بحركات آلية .
لايمكنها البقاء والتعرض للعذاب برؤية جيروم كل يوم وهى تعلم أنه يحتقرها , بينما تتذكر كيف أن تلك السعادة التى وجدتها بين ذراعيه , جعلتها تظن أن كلا منهما ينتمى إلى الأخر . ما كان أغباها . حسنا لقد تلقت درسا الآن . وهى على كل حال سترى السيدة دي بريسو بعد ما ظهر سرها الآن . وعليها أن تخبرها بالحقيقة قبل أن يفعل ذلك جيروم .
ولكن تلك المحنة كانت مؤجلة إلى حد ما . إذ أن السيدة تناولت ذلك الصباح فطورها فى غرفتها , وكان عليها ان تنتظر خروجها إلى غرفة الجلوس قبل ذلك . كان لابد لها من أن تقوم بذلك العمل قبل أن يقوم به جيروم أولا . وعضت على شفتها وهى تتصور ردة الفعل عند السيدة عندما تعلم بهذا الخداع الذى تعرضت له .
ولكنها عندما نزلت إلى الطابق الأسفل , أخبرتها فيليبين أن جيروم ليس هناك , وأنه ذهب فى سيارته منذ ساعتين تقريبا .
وأضافت فيليبين بعنف : " كان يسوق سيارته كالريح . "
فدهشت ميغ وقالت : " ألم يقل متى سيعود ؟ "
فهزت فيليبين كتفيها قائلة : " كان يبدو عليه الاستياء , فلم يكن فى إمكان أحد أن يوجه إليه أية أسئلة . " ومشت ميغ إلى غرفة المكتبة مكرهة , كان عليها أن تسترجع معطفها المنزلى الذى سقط الليلة الماضية هناك عندما حملها بين ذراعيه إلى غرفتها , وذلك قبل أن تدخل الخادمة التى تأتى من القرية لتنظيف البيت , إلى غرفة المكتبة قبلها . وطوته بعناية . ولم تستسغ فكرة حملها له بشكل مكشوف إلى غرفة نومها , أمام عينى فيليبين الحادتين
ونظرت حولها فى الغرفة وقد أحست بغصة وهى تتذكر كل كلمة قالها لها جيروم , الليلة الماضية . لقد اتهمها بأنها فتنته , وقال ( لقد وقعت فى الفخ الذى كنت نصبته لك ... ) وكادت تسمع صدى صوته تعيده الجدران وهويقول ( إننى أحاول أن أحتقرك , ولكنى أشعر فى النهاية , أن رغبتى بك تزداد ) .
ولكن , لم يكن ثمة فائدة من استخلاص أية بارقة أمل من وراء كلامه ذاك , لأنه . كما أخذت تفكر , لم تكن تفتش عن الرغبة عند جيروم بل الحب . وهى الآن فى نظره , لا تفرق عن مارغوت . إن لم تكن أسوأ , هذا عدا أنه مرتبط بامرأة غيرها ... إمرأة حاول أن يتجاهلها ولكنها , لم تستطع هى ذلك .
وكان أفضل ما يمكنها عملها , هو أن تعود إلى غرفتها لتخرج أمتعتها حتى إذا ما طلبت منها السيدة الرحيل , تكون هى على أتم استعداد .
ورأت على المكتب حافظة الأوراق التى كان قد تركها جيروم الليلة الماضية . وقررت أن تستعيرها لتضع فيها معطفها المنزلى . وعندما أخرجت الأوراق من الحافظة , لتضعها على المكتب , تناثر بعضها على الأرض وعندما التقطتها , ألقت عليها نظرة عابرة , وكانت تعرفها لأنها كما سبق وقال عنها إنها عروض من الحرفيين .. النجارين والنباءين والمختصين . بالتمديدات الصحية . وشهقت ميغ بذعر وهى ترى المبالغ التى يطلبونها . وتساءلت عما إذا كان فى إمكان العمة توفير مثل هذه المبالغ الطائلة .
وبينما كانت تنظم الأوراق فى رزمة واحدة , رأت أن نفس عناوين الصفحات تتكرر , فأدركت أن بعض تلك العروضات كانت مكررة . وافترضت أن نسخة منها كان من المفروض أن تسلم إلى السيدة , بينما يحتفظ جيروم بالنسخة الثانية .
ولكنها جمدت فى مكانها وهى تضع ورقتين تقدمان نفس العرض . من نفس المتعهد , وذلك الواحدة بجانب الأخرى . وعقدت حاجبيها . كان العمل واحدا فى العرضين . المبلغ المطلوب فى كل منهما كان يختلف عن الآخر . كان الفرق شاسعا بين الاثنين يبلغ مئات الألوف من الفرنكات , وكانت المئة الف فرنك تساوى ألف جنيه استرليني كما كانت ميغ تدرك .
وأخذت تقابل بقية العروض بيدين ترتجفان . وشعرت بما يشبه الغثيان . كان التفاوت بين كل نسختين هو , تقريبا فى البقية .
وتهالكت على كرسى قريب , وهى تفكر ثائرة . كلا . لا يمكن هذا . هذا غير معقول .
ورأت الصفحة التى كان يكتبها عندما دخلت عليه , وتذكرت كيف طواها بسرعة مبعدا إياها عن ناظريها وهو يقول : " إن السيدة مارغريت قد نفد صبرها وتريد أن تبدأ العمل توا . "
وفكرت ميغ فى نفاد الصبر ذاك الذى جعلها تتقبل بكل ثقة , أى رقم يعرضه عليها حفيد الرجل الذى أحبت , ذات يوم وذلك دون أية مناقشة . عندما تدفع المال لأولئك الصناعين , يشاركهم جيروم بها آخذا حصته . دون ان تشتبه السيدة دي بريسو بشئ , لانه هو جيروم .. جيروم .
وشعرت بهذه الحقيقة التى توضحت أمامها تخنقها , وهى تراه يدينها هى أخلاقيا , لادعائها ذاك الذى يبدو الآن فى غاية البراءة إذ يقابل بعمله هو . ودفعت الأوراق بعيدا عنها باشمئزاز . لقد جرؤ على أن يسميها بالمخادعة . حسنا . لقد كان مخادعا هو أيضا . وبشكل مضاعف . لقد كان عمله هذا احتيالا على سيدة مسنة نصف عمياء . سيدة يدعى هو أنه يحبها ويحترمها .
وتقبضت يداها وهى تتمتم . منافق ... لص . يجب أن لا يفلت من العقاب , إنها ستذهب إلى منزله الآن لتواجهه بكل هذا , وكذلك تلك المرأة التى معه , وتهدده بفضحه لدى السيدة ولدى الشرطة أيضا . إن لم يتلف العروضات الزائفة .
وأعادت الأوراق إلى الحافظة , وعادت إلى غرفتها تاركة معطفها على المكتب وهى تفكر عابسة , ان على ذلك المعطف ان ينتظر , وكانت تعبر الردهة قاصدة السلم , عندما اندفع الباب الخارجى مفتوحا بعنف , لتتدفق أشعة الشمس تغمر الردهة تلك وقد وقف جيروم فى وسطها .
كان يبدو منشغل البال . وقد بدأ التعب والارهاق على وجهه , ورغم كل شئ , قفزقلب ميغ لرؤيته . وزجرت نفسها بازدراء لمشاعرها الحمقاء تلك .
ووقف فجأة لرؤيتها ., ثم قال بهدوء : " كنت أرجو أن أراك . إننى بحاجة للتحدث إليك . "
قالت : " وأنا أريد ذلك أيضا , على أن يكون ذلك فى مكان لايسمعنا فيه أحد ."
وبدا العبوس على ملامحه وهو يرى حافظة الأوراق فى يدها , وقال : " لقد جئت لاخذ هذه , ما الذى تصنعينه بها ؟ "
أجابت : " دعنا نتحدث عن ذلك على انفراد . " ومشت امامه إلى غرفة الطعام . ثم اغلقت وراءهما الباب الثقيل . ثم أخرجت مجموعتين من الأوراق صفتها جنبا إلى جنب على الطاولة . ثم قالت : " كم تبلغ حصتك المئوية من هذا يا سيد مونتكورت ؟ "
ارتفع حاجباه بعجرفة وهو يقول : " ماذا تقصدين ؟ "
قالت : " إننى أقصد سلبك لأموال امرأة مسنة . امراة تظن أن الشمس والقمر يأخذان نورهما منك , بينما تتلاعب أنت والآخرون بها , بهذا الشكل المشين . " وارتفع صوتها بحدة وهى تقول : " ومع ذلك تجرؤ على أن تتحدث معى عن الخداع ؟ "
وتوتر فمه وهويتقدم نحو المنضدة قائلا :" هل أريتها هذه العروض ؟ "
فأجابت وهى تقف بينه وبين الأوراق الثمينة : " كلا . "
فوق وقد علت شفتيه ابتسامة ساخرة وهو يرى وقفتها المتحدية وهويقول : " شكرا لهذا , على الأقل . "
حملقت فيه قائلة : " أهذا كل ما عليك أن تقوله ؟ "
هز رأسه وهو يقول بابتسامة ملتوية : " هل تنتظرني منى أن أقدم بعض الاعذار أدافع بها عن نفسى ؟ كلا يا جميلتى . وظنى بى ما تشائين . "
قالت : "وإذا أن أخذت هذه الأوراق إلى السيدة ؟ "
أجاب : " لايمكننى منعك من ذلك . ولكننى أرجو أن لا تفعلى ., لأن هذا يسبب لى .. مشاكل
اهتز صوتها وهى تقول : "إن ذلك ما تستحقه . إنك تستحق أن تذهب إلى السجن بقية حياتك .لقد وثقت بك السيدة لأجل جدك . فاستغللت أنت ذلك لتكتسب ثقتها وعواطفها . إنك إنسان حقير ."
شحب وجه وظهر التوتر على فكه وهويقول : " هل انتهيت ؟ "
أجابت : " إننى لم أبدأ بعد . كيف أمكنك القيام بهذا العمل , يا جيروم ؟ كيف استطعت أن تعاملها بهذا الشكل ؟ إنك لست فى حاجة إلى مال . " ومدت إليه يديها بضراعة وهى تتابع : " دعنى أفهم كل هذا ؟"
قال بصوت بارد كالثلج : " أظن هذا مستحيلا . وعلى حال . لماذا تريدين أن تعرفى ؟"
ولم تستطع أن تقول أنها تريد معرفة ذلك لأنها تحبه ولأن قلبها يناديه , ولأن هذا يخالف كل ما تعرفه عنه . ولأن أحلامها تحطمت وتريد إصلاحها
وبدلا من ذلك . حنت رأسها وهى تقول ببطء : " لا يوجد سبب . "
قال : " هل لى إذن , أن أخذ أوراقى على أن تضمنى عدم تدخلك فى هذه القضية بعد الآن ؟
وشعرت بشئ ما يموت فى أعماقها , وقالت بفترو : " إننى سبق وقلت لى نفس الكلمات , لا استطيع منعك من أخذها ., ولكنى لن التزم الصمت . لقد عاملتنى السيدة معاملة غاية فى الرقة والطيبة . وأنا لا أريد أن أقابلها بالتجاوز عن محاولة غشها واستغلالها بهذا الشكل .
قال : " إذهبى إليها , إذن وانظرى إذا كانت تصدقك ."
عضت ميغ شفتها وهى تقول : " ولكننى لا أريد لها أن تتألم أيضا . وسيتمكلها اليأس كذلك . " وسكتت برهة ثم قالت : " ولكن هنالك بديلا لذلك . "
نظر إليها ساخرا وهو يقول : " يا للذكاء يا عزيزتى . هل ستخبريننى عن البديل , هذا ؟ "
قالت : " اريدك أن تنفض يدك من هذا الموضوع . اعتذربأى شئ للسيدة . ودعها تستخدم مهندسا أخر . "
قال : " وما الذى سيحدث لى أنا ؟ هل أختفى هكذا , بكل بساطة , وأعود إلى باريس كما فعل جدى ؟ " وهز رأسه قائلا : " كلا . لا أظن أن أوكتافيان سيعيش بعد ردة فعل أخرى . "
قالت : "فكر فى أى شئ . وسيكون من الأفضل على المدى الطويل بالنسبة للسيدة . أن تبتعد أنت عن القصر تماما . "
لوى فمه وهويقول : "يبدو أنك تدبرت أمر كل شئ . ولكننى لا أظن خطتك هذه ستقع ., لأننى لا أنوى تجنب قصر هاوت أرينياك الآن ولا فى المستقبل . ولا أظن أن السيدة تريدنى أن أفعل ذلك ."
قالت : " حتى ولو عرفت حقيقتك ؟"
قال : " حاولى أن تخبريها بكل شكوكك . قد تستاءقليلا , ولكن هذا لن يدوم ."
قالت بخشونة : " إن غطرستك لا تحتمل . "
هز كتفيه قائلا : " إنها تثق بى أكثر مما تثقين بى أنت يا جميلتى ,. وهذا هو كل شئ , ولكننا على كل حال أصبحنا نفهم بعضنا , أليس كذلك ؟ "
ومشى نحو الأوراق , فجمعها ووضعها فى الحافظة ثم دسها فى يدها وهو يقول محنيا ظهره لها باحترام : " مع تحياتى."
حملقت فيه بدهشة وهى تقول :" هل ... هل هذا كل شئ ؟ "
أجابها وهو يأخذها بين ذراعيه : "بقى هذا . " وكان احتضانه لها طويلا حارا وكأنه كان يريد أن يؤثر بها فى أعماق نفسها إلى الأبد . ولم تقاوم هى وعندما تركها . أخذت تنظر إليه وهو يبتعد دون أن يلتفت خلفه .
وعندما أنهت ميغ حزم أمتعتها نزلت إلى الطابق الأسفل حيث كانت السيدة دي بريسو واقفة فى الشرفة المؤدية إلى الحديقة . وسألتها : " هل كانت سيارة جيروم التى سمعت صوتها منذ فترة ؟ "
أجابت ميغ مكرهة وهى تشعر بالتعاسة : " نعم . " ربما كانت هى قد تحررت من أى وهم تجاهه , كما سبق وقال هو , ولكن كيف يمكنها أن تخبر هذه المرأة التى تحبه كإبن لها , بأنه لا يفرف كثيرا عن اللص ؟
وجلست على كرسى بقربها , ووضعت حافظة الأوراق التى تحتوى الأدانة على منضدة بينهما ,
قالت السيدة : " لا بد أنه كان مستعجلا , وأظنه أحضر إليك أوراقا أخرى للطباعة . " وضحكت برقة وهى تتابع قائلة : " إنه مستعجل على البدء بهذا العمل أكثر منى ., ولكن هذا مفهوم . "
قالت ميغ بحذر فى محاولة للابتداء بالموضوع : " إنها ليست أوراق للطباعة . بل بعض العروضات من متعهدى الاصلاحات . وقد فكرت فى أنك ربما تحبين أن تريها . "
أجابت السيدة بدهشة : " حسنا . إن هذه الأشياء تستدعى كثيرا من التفكيروالتأمل . ولكن جيروم سبق وبحثها معى . "
ابتسمت مستطردة : " لقد أحضر لى صينية الفطور هذا الصباح . إنه يفعل هذا غالبا عندما يمضى الليل هنا , ثم ابتدأ يقرأ هذه الأوراق بعد ذلك . "
وازدردت ميغ ريقها قائلة : " هل فعل ذلك ؟ ولكنه تركها معى . لقد ظننت ... " وسكتت برهة .ثم اندفعت تقول : " هل كانت الأرقام مرضية بالنسبة لك ؟"
قالت السيدة : " إنها أفضل كثيرا مما كنت أرجو . " ودست يدها فى حقيبتها المعلقة فى ذراع كرسيها , وأخرجت ورقة مطوية دفعتها إلى ميغ قائلة : " انظرى بنفسك يا صغيرتى .
ونظرت ميغ وكانت الأرقام المدونة بخط جيروم الذى لا يمكن أن تخطئة العين . وهى الأرقام القليلة .
سألت بتردد : " هل أنت متأكدة من أنها أرقام صحيحة ؟ "
أجابت السيدة : " نعم . نعم , وقد كان مستعدا لأن يرينى النسخ الأصلية ولكنى توسلت إليه بأن يعفينى من ذلك ."
واستندت إلى وسادتها خلفها راضية وهى تقول : " عندما أنتهى من دفع نصيبى من تكاليف التصليح , عند ذلك سأرتاح تماما . "
سألتها ميغ بذهول : " حصتك ؟ إننى غير فاهمة تماما . اتعنين أنك لاتدفعين تكاليف الاصلاحات هذه كلها ؟ " وتوقفت عن الكلام قائلة : " إننى اسفة إذ أوجه إليك هذه الأسئلة التى لا تعنينى ."
هزت السيدة كتفيها قائلة : " إن هذا لايهم . فهو ليس سرا فى الحقيقة . وأنت تقريبا , عضو فى الأسرة على كل حال . إننى أدفع حصة من التكاليف يا طفلتى , مع أن جيروم لم يكن يريدنى أن أدفع شيئا أبدا ولكننى أصررت . لقد جعلت فى الحقيقة شرطا لاتمام البيع ."
قالت ميغ ورأسها يدور : "البيع ؟ "
أومأت السيدة برأسها قائلة : " نعم البيع , وستوقع الأوراق نهائيا آخر هذا الأسبوع . وبهذا سيصبح قصر هاوت ارينياك ملكا لجيروم . " وابتسمت وهى تتابع : " وبهذا يتحقق أول أحلامى .
وبادلتها ميغ الابتسام بضعف , بالنسبة إليها هى , لم تكن ثمة أحلام . بل كابوس حقيقى ... وبالألوان الطبيعية .
لقد تسرعت حقا . فى توجيه كل أنواع الاتهامات إلى جيروم زيفا وبهتانا . ونعتته بأشنع الأوصاف مما لا يغتفر . بينما هو لما يكلف نفسه عناءالدفاع عن نفسها , وكان يمكنه ذلك بسهولة وإفهامها الأمور , ولكنه لم يهتم بذلك بما فيه الكفاية . وذلك لأنه لم يكن يهتم برأيها به , وهذه هى الحقيقة المحزنة , لم يكن حبها أو كراهيتها لجيروم تعنى له شيئا , وتصرفه هذا هو أكبر برهان على ذلك . وغمرتها تعاسة لا نهاية لها .
ومالت السيدة إلى الامام تربت على يدها قائلة : " وما زالت لدى آمال أخرى ."
قالت ميغ وهى تنظر إلى يديها المتشابكتين : " أخشى أن تنتهى آمالك تلك بالخيبة . "
فزمت السيدة شفتيها امتعاضا وهى تقول : " لقد لاحظت أن العزيز جيروم كان مشغول البال هذا الصباح . أرجو أن لا تكونا قد تشاجرتما . هل تقلدت الدبوس هذا الصباح ؟ "
ألقت ميغ نظرة على قميصها القطنى البسيط وهى تقول : " إنه لا يتناسب مع ثيابى البسيطة هذه . "
وسكتت برهة مترددة , ثم قالت : " سيدتى العمة , هنالك شئ يجب أن تعرفيه . "
فقالت السيدة : " وما هو يا عزيزتى ؟"
وجذبت ميغ نفسا عميقا , مهدئة بذلك أعصابها , ولكنها قبل أن تبدأ بالكلام , تصاعد صوت خطوات فيليبين قادمة نحوهما وهى تقول : " عفوا يا سيدتى , ويا آنستى . " ومضت تنقل نظراتها بين المرأتين مترددة وقد بان الجد على وجهها بشكل غير عادى , لتستطرد قائلة : " ولكن , هنالك زائرة . "
قالت السيدة : " إننى لا أتوقع زوارا . " وسكتت لحظة , ثم عادت تقول : " أليس لتلك الزائرةإسم ؟ "
قالت فيليبين وقد بان القلق على ملامحه ومالت عيناها نحو ميغ فى ارتباك واضح . قالت : " نعم يا سيدتى . إنها تقول ... تقول إن اسمها الآنسة ترانت . الآنسة مارغوت ترانت . "