كاتب الموضوع :
تمارااا
المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
اختفاء عبد المنعم اليساري
صديقي (عبد المنعم) تعرفت عليه في المدرسة وتماسكت علاقتنا في ندوة شعرية لـ(محمد لافي) اخترقت قلبينا تماماً. هذا الشاعر اشتغل في التدريس في مدرسة خاصة بعد أن وجد صعوبة في المدارس الحكومية. عارض الحكومة ففصل من المدرسة الحكومية.
أنا وصلت المدرسة الخاصة ليس بطيبة خاطر. كنت مجبراً. لم أقدم الامتحانات النهائية بسبب اعتقالي في حملة اعتقالات احترازية قامت بها السلطة لتمنع نشوب مظاهرات أو حوادث شغب. لا أعرف إن كانت الحكومة محقة في اعتقالاتها. لكن لها مبرراتها. أقول ذلك بعد مرور ردح من الزمن. الخطأ التي ارتكبته الحكومة برأيي كان التقييد على الحريات الديمقراطية ومنها: حرية الرأي والتعبير والتفكير والاعتقاد. هذه الحريات من أسس حقوق الإنسان والتعديلات على هذه الحريات تعني مخالفة للقوانين الدولية والشرائع الإنسانية. هناك خطأ آخر ارتكبته الحكومة وهو أنها لم تفتح مجالاً لحرية تكوين الأحزاب وظلت ترعى حركة دينية متخلفة أدت إلى انتشار ظاهرة التطرف فيما بعد. بلا شك أن الحكومة تعض أصابعها ندماً. لكن الآن الأمور اختلفت.
(عبد المنعم) صديقي اليساري لم يكن كافراً أو ملحداً. وإنما كان يسارياً من النشطاء ويمتاز بوطنيته التي تختلف عن غيرها بمميزات خاصة. يكره في الشيوعيين عقيديتهم.
فشل (عبد المنعم) في امتحانات الثانوية العامة. لا أدري إن كان ذلك إهمالاً منه أو كما ادعى أنه لم يعد يستسيغ المنهاج التعليمي أو المقرر. هل الإهمال والتقصير سبب الفشل أم العبثية واللامبالاة؟ تعبير الفشل قد لا يرضيه. لكن هذا هو الواقع.
نجوى حبيبته امرأة عملية تريد شيئاً ملموساً. نسجت علاقة جنسية مع أخيه، وضاجعت من تهوى.
بنت نجوى علاقة عشق معي استمرت عشرة أيام انتهت بحزن وأخطاء لم أدر لماذا. كنت أنا السبب. الشيطان يستحي أن يفعل ذلك.
لما التقيت (عبد المنعم) بعد صدور النتائج واقفاً في ناصية الشارع، كان ساهماً وحزيناً. سألني إن كنت أملك كمية من النقود. أحنيت رأسي بالإيجاب. فأخذ المبلغ الذي يريد وسحبني من يدي إلى دكان. اشترى نصف لتر من العرق. وقال تعال نحتفل. خجلت من نفسي. بماذا نحتفل. بنجاحي وبفوزي بصديقته؟! أم نحتفل برسوبه وبفشل علاقته معها؟ لمحت في عينيه رغبة في الانفلاش والنسيان والهرب. إلى أين يا صديقي؟ كفو فاديس..كفو فاديس..
اقتربنا من تل محاذ لكومة زبالة. مزبلة عشوائية ككل مزابل شرق الأردن.
أراد (عبد المنعم) أن يجلس هناك في ظل صخرة.
قال لي: هذا هو مكانه المفضل بعيداً عن الأرض المبسوطة والجافة حيث لا يمكن الاحتماء بشيء.
وقال: تعال أحدثك عن نجوى.
قلت في نفسي: من يحدث الآخر عن نجوى.
قال: تعال نتصارح.
قلت: تعال نتعاتب.
"لماذا يموت الأنبياء".
هكذا بدأ الحديث (عبد المنعم).
لم أصدق أذني؟ كنت أفكر في نفس الموضوع.
تابع عبد المنعم:" لو لم يمت سليمان الحكيم ـ مثلا ـ لعرفنا ما لم نعرف ولظل نبياً ولم يحيرنا في معضلة الكذب والصدق، ولو اصطفاه الله إلى جانبه بطريقة عادية غير الموت لكان إيماننا بما قيل عنه وبما قال أرسخ. المسيح الفلسطيني عيسى بن مريم لم يقتل وشبه لهم وانتقل إلى هناك بأسلوب غير مألوف. محمد ص كان آدمياً ، انتقل إلى جوار ربه وعاد على ظهر البراق ولكنه مات ميتة عادية.
ولكن أي موت نفتح صفحته الآن ونحن نبحث عن السلوى والنسيان".
بدا (عبد المنعم) بالشرب فقلت له " بصحتك!".
"الأنبياء المزيفون ذئاب في جلود خراف، والأنبياء غير المزيفين خراف بجلود ذئاب"
قلت لصديقي (عبد المنعم)
ابتسم وقال: هذا كلام يعجبني. أنا دائماً أشتاق لأحاديثك.
ـ وماذا تريد أن تسمع أيضاً.
ـ خبرني عن نجوى. اشتقت إليها.
ـ لا أظن أنني سأراها في الأيام القريبة، ولكن تناساها، هذا أفضل لك.
ـ ماذا تقول؟!.
ـ قلت لك ما سمعت. لا يجوز أن تستنزف نفسك في مشروع خاسر.
ـ وأين تكمن الخسارة!؟
ـ لا أعتقد أنها خسارة بالمعنى الصحيح، ولكني أراك متيّما وعاشقا في اتجاه خاطئ. هي لا تستحق إنسانا مثلك. أنت أكثر نظافة وطهارة. وعليك أن تجد طريقاً آخر غير الذي تسير عليه..
ـ نعم..هكذا أفكّر. أتطلع لإعادة الثانوية والاهتمام بنفسي قليلاً. لتذهب نجوى إلى الجحيم. لقد نسيتها. لم تعد تهمني. لكني شغف بسماع آخر أخبارها.
ـ هل ما زالت تمشي مع لاعب كرة القدم الوسيم.
ـ لا..لا أعتقد أن الخطر يأتي من طرفه..
ـ الحذر يأتي من مكمنه.
رد (عبد المنعم) وابتسم. وتابع:
ـ لم لا تحاول أنت معها، فهي امرأة.
تجهم وجهي قليلاً، ورأيت أنه يريد استدراجي، فدفعت الاتهام عن نفسي، وقلت له:
ـ يا صديقي، لا أريد أن أخفي عليك، حاولت أن أقنعها بالعودة إليك ولكنها أفصحت لي بسر جعلني أقدم على خطوة كنت أخشاها.
عدّل (المنعم) من جلسته وتفتّح وجهه استعداداً للاستماع فعلق:
ـ ملحت الجلسة يا صاح
ـ قلت لك إنها معذورة. وصارت الآن معي ولا أعرف إلى متى. والسبب هو أخوك.
ـ ماذا تقصد؟
ـ طلبت مني أن لا أفشي سرها لك. ولكن بحكم الصداقة التي تربطنا، أود أن أقول لك أن أخاك هو السبب. لقد نام معها أكثر من مرة دون أن تعرف زوجته بالأمر. كان ذلك قبل أن تصير بينكما علاقة حب. ولما نشأت بينكما تحيّرت بين أن تقول لك أو لا تقول. فهي لا تريد أن تجرحك. أنت طيب وقلبك غض. وهي تخشى عليك. فتراها تهرب منك وترتمي في أحضان الآخرين. وأنا من الناس الذين لمسوها.
ـ لا أصدق.
ـ إنني أقول الصدق.
ـ أصدقك..ولكني لا أصدّق
ـ لا تصدق ماذا..؟
ـ لا أصدق أن أخي يستطيع أن يفعل ذلك. لقد كان مثالاً يحتذى به. كان بالنسبة لي نموذجاَ للزوج الذي لا يخون. كان يريني أن علاقته الزوجية نموذجية. شيء مضحك. كان النموذج. علاقة نموذجية.. علاقة نموذجية. هكذا كنت أطمح. هكذا كنت أريد. أردت أن تكون العلاقة بيني ونجوى علاقة نموذجية. تركت الأمور تسير كما تشتهي.
كنت أقول دائماً: كل قادم جميل. القادم أجمل. أنا غير عاتب عليك. أن تنام معك أفضل من أن تنام مع غيرك.
ـ ولكنها طلبت مني أن لا أقول لك عن الموضوع..
شرب..وشرب، فأكثر.
"استغفر الله العظيم. إننا نرتكب المعاصي يومياً. ولكنه غفور رحيم. سنعقل يوماً. اليوم خمر وغداً أمر". قال.
ـ كيف الأوضاع عندك. هل من جديد. دعنا من نجوى وقصصها.
ـ لا جديد.
ـ لم لا تشرب معي..
ـ لا شكراً !
ـ ومن أين هذه الرسميات؟
ـ منذ اليوم.
ـ من تخشى؟
ـ أخشى نفسي.
"وعليك الآن أن تتصرف مع نجوى وكأن شيئاً لم يحدث. لديها قابلية جيدة وقدرة هائلة، وعليك أن تمتع نفسك بالطيبات. عليك أن تتعامل مع الموضوع ببساطة وأن تترك المثالية وأن تفكر بنفسك." تابعت.
ـ ...
ـ وأرجوك أن لا تخبرها بأنك عرفت عن علاقتها بأخيك مني. لقد وعدتها بكتمان السر.
بدأ صديقي يشعر بخدر في رجليه. حاول أن يقف فقعد. حاول أن يقف مرة أخرى فلم يستطع. لحسن الحظ أن بيته قريب. "هل تريد العودة إلى البيت"، سألت ولم يجب. بدأ يشرب بشكل متلاحق ويترنح يميناً وشمالاً في جلسته. شعرت أن لا فائدة من مواصلة الحديث معه. خاطبته ولكن عبثاً. رجوته أن يكف عن الشرب. لا حياة لمن تنادي. بقيت أنادمه حتى غابت الشمس وعتّمت الدنيا. لا يصح أن يعود إلى بيته في ضوء النهار. ماذا سيظن الجيران. (عبد المنعم اليساري) سكران. هذا الأمر يسيء إلى سمعته. وهذا ما لا أريده له. بقيت معه إلى أن امتلأت الدنيا بالعتمة. حملته على ظهري كصليب متهاو ، جرجرته إلى البيت. استقبلتنا أخته (سمر) بالباب. فتاة طويلة القامة. ذكية. منشغلة في أمورها الخاصة. قلما تحادثنا. طلبت منها أن تضع (عبد المنعم) في الفراش وتغلق الباب وأن تفتح النافذة وأن تقدم له إبريقاً من الماء لكي يشرب وأن تتكفل بإطعامه لمدة يومين متواصلين. هزت رأسها بالإيجاب. فابتعدت مسرعاً.
عدت إلى بيتي ماراً بصديق يعزف البيانو. يسكن في الجبل المحاذي للمخيّم. اسمه منحوت من لغة أجنبية. لكنه مسلم. وهو من عائلة غنية. تعرف المستوى الاجتماعي للفرد من اسمه. الفقراء يسمون أبناءهم هكذا: محمد، أحمد، محمود والأغنياء هكذا: روبين، فادي، شادي وغير ذلك. ليست هذه قاعدة ثابتة. فالملوك يسمون أبناءهم بـ "محمد".
صديقي (روبين -وأسميه ماهر) يعزف على آلات موسيقية متنوعة. البيانو يتصدر الغرفة. آرائك مثيرة جميلة يحلو للمرء التمدد عليها والغوص فيها. في الصالون يجلس مجموعة من الأصدقاء والزملاء. يتناقشون في أمور سياسية. وللمصادفة كان صديقي المهذار(عارف) يتصدر المجلس ويتحدث، لكن هذه المرة في السياسة. سلّمت على الجميع وجلست استمع وأفكر.
من أين جاء هذا الإبليس (عارف). أنا أحبه لحسن إطلاعه وسعة معرفته، ولكني بدأت أهابه وأخشاه. أراه في كل مكان، حيث لا أحتسب. قد يضحك الناس من أقوالي هذه فأنا لست مركزاً للكون بكل تأكيد.
قطع حبل أفكاري ما قاله صديقي عارف:
ـ العالم مليء بالتناقضات. صار قرية صغيرة. لكننا نفتقد الشروط الديمقراطية للعلاقات بين الأشخاص. نحتاج إلى قنوات أفضل من القنوات المعهودة في العلاقات بين الأشخاص للوصول إلى الناس. ويجب دمقرطة هذه القنوات...
وقال كلاماً مشابهاً كثيراً وأضاف:
ـ لا أعتقد أن مجتمعنا تحكمه قوى خفية. قوى ظلامية كما يفترض بعض الناس. الظلام إن وجد فهو داخلنا. نحن بحاجة إلى قليل من الضوء لنفتح أعيننا. لا أظن أن أحدا يتآمر علينا سوى سوء اطلاعنا وسوء فهمنا وقلة معرفتنا. لا أظن بوجود قوى خفية تلعب وراء ظهورنا في الظلام. أخطر عدو لنا هو الجهل.
ملأ قلبي طرباً بأقواله هذه. شعرت بانتشاء في فضاء الكلمات التنويرية لصديقي عارف. أي عصر تنوير نعيش! شعرت بفارق كبير بين أحاديثه عن الأرواح والشياطين والعفاريت وأقواله عن أهمية دمقرطة وسائل الاتصال وتنظيف قنوات التخاطب بين الأشخاص من المعوقات. امتلأت فخراً بصداقتي له.
استمعنا إلى عزف على البيانو. وظهر للجميع، أو لي أنا للمرة الأولى، أن صديقنا (ماهر) لا يعزف فحسب بل ويكتب النوت الموسيقية. عزف لنا مقطعاً من ألحانه، وألحق ذلك بمعزوفات مشهورة لموزارت وبيتهوفن وشوبان.
تركت المجلس. الوقت تأخر حتى قارب منتصف الليل. صديقي المهذار رمقني بعينين متوقدتين دون أن ينطق بكلمة.
وفي صباح اليوم التالي نهضت يبللني العرق. حلمت أحلاماً مزعجة. صداع كاد يفجر رأسي. لعله خير. حلمت أن كلاباً تنهش جسدي نهشاً. جاء الأقارب للتهنئة بالنجاح. هل لنجاحي كل هذه القيمة!؟.
والدي كان يستقبل المهنئين ويودع المغادرين، كان يتحدث عن المعاني المعنوية والاعتبارية للنجاح في التوجيهية. كنت غائباً تماماً عن الوعي. لا يعنيني هذا الاحتفال الشكلي. هناك قضايا أهم. أكثر معاصرة. أكثر مصيرية. الحياة صعبة. تحتاج إلى كفاح. لست أول ولا آخر من ينجح في هذه الدنيا.
وماذا بعد؟
ظهراً، وبعد أن هدأت الحركة في البيت، ذهبت إلى أقرب بدّالة تلفون. تبعد البدّالة عن البيت مسافة نصف ساعة مشياً على الأقدام وعشر دقائق بالسيارة. اتصلت بنجوى.
ـ من يتكلم؟!
ـ أنا يا نجوى
ـ من أنت؟
ـ صديقك فرج الله
ـ اسمع، أرجوك أن لا تتصل بي مرة أخرى
ـ ماذا حصل؟
ـ أنت لا تعرف؟!
ـ لا أعرف!!
ـ ماذا قلت لـ (عبد المنعم)
ـ يجب أن نلتقي وسأخبرك بكل شيء
ـ لقد تأخرت..(عبد المنعم) ودّعنا..اختفى!
ـ ماذا تقولين
ـ ...
ـ ماذا؟
ـ أنت السبب!!
ـ كيف حصل ذلك؟!
ـ أنت تعرف جيداً ماذا حصل. كل شيء بيننا انتهى. أنا لا أعرفك. ولا تحاول الاتصال بي مرة ثانية.
ـ ...
وسمعت إغلاق سماعة التلفون.
وقفت كالمخبول. درت حول نفسي مرة، مثنى وثلاث ورباع. لا أدري ماذا أفعل. تجوّلت في المدينة. كنت ساهماً كمن أصابه مس. صرت أحدث نفسي.
تذكرت مقولة لـ (توماس شاش) "إذا تحدّثت مع ربك فهذا يعني أنك تصلي. إما إذا تحدث ربك معك فهذا يعني أنك مصاب بالفصام". لكني لا أتحدث لا مع ربي ولا ربي معي. إنني كالمطرود. التائه، الملفوظ أو المنبوذ. مصاب بحالة من الإحباط. لا أقدر على صنع شيء يذكر. درت في المدينة دون هدف.
اهتديت إلى مقهى (السنترال). هناك يحتسي الشاي بعد العصر صديقي وظلّي عارف. وجدته. كأننا على ميعاد. وقف في الحال وأقعدني. قال لي إنه يعرف ما حصل مع نجوى. وقال لي كما نقول في الدارجة "تسلم روحك" كأنه بذلك يعزّيني بصديقي. كان لطيفاً جداً معي. نزّل لي القهوة المرّة وربّت طويلاً على كتفي.
ـ لا تظن أنك أنت السبب. إن حصل وأعطانا عمره، فهذا قضاء وقدر. وغير معروف أين هو. لا أعتقد أنه تبخر.
ـ لكن كيف حصل ذلك؟!
ـ لا تقلق. اهدأ. اشرب القهوة. خذ قسطاً من الراحة. تبدو عليك علامات إعياء وإرهاق. لم تنم الليل.
ـ قل لي بالله عليك كيف حصل ذلك. أوصلته إلى باب بيته ثملاً، هذا صحيح، ولكن أن يقدم على ذلك، فهذا مستحيل.
وبعد أن جففت عرقي المنسكب، قلت:
ـ بعد أن أوصلته مباشرة، حصلت مشاجرة بينه وبين أخيه (عاصم). صفعه أخوه على خده قائلاً: "ألا يكفي أنك رسبت وتعود سكران إلى البيت".
حاول (عبد المنعم) تجاهله وتجاهل أقواله. ولكنه بدأ يقدم لـه مواعظ أخلاقية. فصرخ فيه (عبد المنعم) أن يذهب إلى الجحيم وإلى معشوقته نجوى ليعلمها درساً في الأخلاق بدلاً منه. وطلب منه أن ينصرف وألا يزعجه. وفي الصباح فتحت أخته الباب. لم تجده. كان الباب مغلقاً بالمفتاح. والمفتاح ظل معها.والشباك مشبك بالحديد. وجدت بقعة صغيرة من الدم وفراشا منفوشا. هل قطع أوصال يده؟ غير معروف أبداً ،أين ذهب، غير معروف؟
سرَتْ قشعريرة في جسدي، فلم أطق الاحتمال، وانهارت الدموع من عيني. صرت أهذي:
ـ لا أصدق.. لا أصدق..
ـ هذه إرادة الله. أضاف صديقي.
وبقيت أعتقد أنني أنا الذي قتلته.
" إنني أنا السبب في اختفائه أو موته. قتلت صديقي." حدثت نفسي.
صار الحادث هاجسي اليومي طويلاً. وصرت أزور المكان الذي جلسنا فيه آخر مرّة. المزبلة احترقت وصارت رماداً، كنت أقرأ قصائدي له. وأمامي يقعي الرماد وكلب ضال.
كنت أقرأ شعري للرماد، لروحه، له، أناجيه، أطلب منه أن يعود. استحلفه أن يكف عن الرحيل:
لن أقول وداعاً يا صاح
أنا ما تقوله الريح للريح
سفر ومواسم
ألعن هذا الصمت
أوقد قنديلا
لتأتي حبات المطر
كل نساء الأرض
عرائس البحر
ترقص لك، تلفظ اسمك
وتغني:
تنثر الأغنيات لك
في الريح
كي تستريح
من عبث السفر والانتظار
كيف أنت الآن؟
كنت تعرف جيداً يا صاح
ألا وقت للانتحار
لن أقول وداعاً
إن ارتحلت
وارتحلت النوارس
وإن وزعتنا الحدود
مزقتنا الوعود
طاردتنا القيود
في دول الكلام
سلامي عليك..سلام
اصدقائي..
لا أعتقد أن (عبد المنعم) مات بضرب من الجن. إن حدث ذلك فعلاً فهو شهيد. فقد قال رسول الله ص "فناء أمتي بالطعن، والطاعون: وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة" (رواه أحمد والطبراني) ومعناه: من أسباب هلاك الأمة: الطعن بالحراب في الجهاد، والطاعون: الذي هو ضرب الجن لبعض الناس، والميت بأحدهما شهيد.
لا أعتقد أنه مات، وإن اختفى فسيعود. هذا اعتقاد راسخ لدي. كان من أعز الأصدقاء.
وأصدقائي منذ الطفولة بعدد أصابع اليد الواحدة.
(منذر):
كان يسبقني بصف واحد في المدرسة. ومن أذكى الأصدقاء. أو هكذا كنت أعتقد، لأنه كان يقرأ لي قصص سوبرمان.
لم يقرأ لي أحد غيره قبل تعلمي القراءة والكتابة. لم يفارقني منذر لما أصابتني الحصبة. وأعطاني قصصاً كثيرة كي أتسلى. ولما كانت تأتيني الحمّى الملعونة. كان سوبرمان يطارد كل الأعداء. ينطلق كنفاثة. يطارد العفاريت والقرود. هي أيضاً مخيفة تشبه الجن. سوبرمان كان يدفع كل تلك الشرور عنّي. ينطلق من القصص المصورة يدفع بيده وجسده كل ما هو مخيف.
أنا ومنذر وبقية أولاد الحارة بزعامته كنا نرسم على الأرض مصائد للغاصبين الصهاينة الذين طردونا من بيوتنا وأرضنا.
المصائد كانت لليهود وكل ما هو مخيف من جن وغيره. وهذه المصائد عبارة عن حوض مسيّج بسور صغير من الحجارة والتراب. كنا نملأه ببولنا وبقطع الزجاج. إنها ألغام طبيعية كنا نضيف إليها روث الحمير.
لم تبق عائلتي تسكن في حظيرة (أبو سعد) طويلاً. كان بخيلاً يقطّر الماء علينا بالقطارة. أما أجرة البيت فكانت لا تطاق. سكنا عنده بعد خروجنا من فلسطين مباشرة. (أبو سعد) طويل القامة، أسود الملامح كالشبح. كان عدواً للأطفال يغلق باب الحوش قبل أن تغيب الشمس تماماً. يحشرنا كالدجاج.
ولما اشتعلت الاشتباكات أوائل 1969 بين عناصر مختلفة من مختلف الفصائل، وصارت الطلقات تمر من أمامنا بحكم قرب حوش أبو سعد من قواعد المقاتلين، قرّر والدي أن يـُرحلِّنا إلى مكان آخر. افترقت عن (منذر) صديق الطفولة.
بقي أن أقول أن منذر برغم حولِه كان ثاقب النظر. ينظر إلى جانبه لكنه يرمقك. كنت أتأمله وأتعجب من أمره. كنت أسأل نفسي كيف يتطلع إلى زميلنا الذي يقف معنا ويستمع إلي. شيطان حوله. لو كان الله حوله لا يفعل ذلك. بالإضافة إلى هذا، قلما استخدم منذر يده اليمنى. كان يضرب الحجارة باليسار ويأكل باليسار. كانت يده اليسرى أقوى من يدي وأيدي الآخرين. هذا التمايز عنا لم يقلقنا كثيراً، فمنذر منا وإلينا وعلى أعدائنا.
بماذا كنا نشغل أنفسنا في أيام الطفولة: بجمع النحاس، أسلاك الكهرباء وقطع الألمنيوم وأحذية البلاستيك نبيعها في سوق الخردة ونشتري بثمنها القشطة والحلوى والبلالين والقصص المصورة التي أذكر منها قصص سوبرمان.
أما السجائر ودخان (اللولو) فكان من الطقوس والرموز التي تثير الدهشة لدينا. من منا كان يظفر بعقب سيجارة مشتعلة، يسير بها مختالاً كالطاووس، لا تسعه الأرض كلها. يتبختر بها كالأبطال المنتصرين. كان الواحد منا ينقلب فجأة إلى رجل بعقب سيجارة لولو حتى لو كانت دون فلتر.
وبماذا كنا نتسلى أيضاً؟
كان موسم تسليم المؤن ـ الطحين ـ من وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين مناسبة هامة للعبث واللعب والعمل. كنا نبحث عن الحمير ونؤجرها بالتعاريف والقروش القليلة. وإذا لم نجد حماراً ضالاً جمعنا الخيوط البيضاء التي ينزعها العمال من أكياس الطحين وربطنا بعضها ببعض. استخدمناها فيما بعد في إطلاق الطائرات الورقية في السماء. حفنة طحين واحدة كافية لتلعب دور الصمغ والورق، أما الخوص أو البوص فموجود في الحقول. يبقى علينا ربط تلك الأشياء لتصير طيارة يقودها ميزان من الخيوط الدقيقة. دون الميزان لا طيارة تطير ولا طيران يسلينا.
(قاسم):
لي صديق آخر اسمه (قاسم) تعرفت عليه في المدينة بعد أن رحلنا من مخيم اربد. كان الأول في الصف ـ أي أشطر الطلاب ـ يحكي لغات مختلفة لا أعرفها ولم أعرفها. ويتكلم من بطنه.
كان أشطرنا في التخطيط والكتابة. هو الذي علمني على كتابة (ملح) على الحيطان على شكل غرافيتي. كان يربط ذنب الحاء باللام. يلف ذلك ليعود ويلتصق باللام. فملح يتحول إلى (وجه بقسمة جانبية).
للكتابة العربية إمكانات تصويرية هائلة. الخطاطون يجدون متعة في اللعب بالأحرف العربية وتحويلها إلى قطع فنية أو لوحات غرافيكية بديعة. كنت أحسدهم على ذلك.
كنت أعتقد أن لقاسم علاقة بالشياطين. تخبره بكل شيء وتفتح له الكتب والدفاتر. كان يعرف كل شيء. موسوعة صغيرة. كان يسير وأنا في ظله كالذنب.
تعلمت منه أشياء كثيرة. كان يضحك منا وعلينا. متكبّر للغاية حين ينفع التكبر. يرانا نرتجف في حصة الإملاء. نبسمل ونقرأ الفاتحة ونخاف وضع النقط فوق الحروف أو حذفها. هو كان يفعل ذلك بصورة أوتوماتيكية كالآلة. يتعامل مع اللغة كمعجون (الملتين). كنت أغار منه. فصرت أفعل مثله، ألف ذنب الحاء وألصقه برأس اللام. وصرت أنافسه. لما عرف المدرس أننا نقترب من بعضنا بعضا في المستوى، صار يقسم قلم الرصاص من وسطه بيننا. فصرنا نكتب من قلم واحد.
رحلنا من إربد بعد اشتداد القصف الإسرائيلي مطلع السبعينات.
في غضون ثلاث سنوات غيّرنا ثلاثة بيوت: بيتنا في فلسطين، بيت أبو سعد وبيتنا في المدينة. كل سنة بيت. هربنا من القصف الإسرائيلي لندخل أتون ما سمي بـالحرب الأهلية.
صديقتي الجنيّة (حكيمة)
كانت أكبر مني بعدة سنوات. منذ سكنا مقابل بيتها أظهرت ودها لنا. صارت تبتسم لي ولاخوتي. منذ البداية صارت تفتح شباك غرفتها على مصراعيه. تمشّط شعرها أحياناً وتغيّر ملابسها مرة أخرى وتحرك في كل مرة يديها إلى الأعلى في حركة إيمائية وكأنها تقول إنها تحترق، أو إن الطقس حار. لعبة تغيير الملابس أعجبتني كأنها نوع من تغيير الأقنعة. الملابس بحد ذاتها عبارة عن أقنعة لنا. الملابس لغة تعبيرية أو رمزية نعبّر فيها عن أنفسنا. كنت أقول لها بحركات تعبيرية إيمائية، أن اخلعي ملابسك إذا كان الطقس حاراً. كانت تبتسم وكأنها ممتنة من رغباتي. تختفي قليلاً وتعود بصدر مشرع للريح والضوء. لحمها أبيض تكشف لي عنه باستمرار. ولما كنت أرفع قامتي لأرى أكثر وأكثر من جسدها كانت تتراجع خطوة أو خطوتان إلى الخلف وتكشف تماماً عن صدرها. أنظر إليها وألتصق بالحائط، أما هي فكانت تبتسم شفتاها وتنفرج عن أسنان لؤلؤية جميلة وتلمع عيناها. من أين لها هذه العيون؟ لا أعرف. (حكيمة) تعودت علينا وتعودت على رؤيانا.
عندما تغلق شباكها. هذا يعني أنها غير موجودة أو مشغولة أو يعني أن أحداً في البيت. وعندما تختفي عدة أيام فهذا يعني أن الأوضاع سيئة ولا برامج مسائية للتعري تفرح بها قلوبنا.
اكتشفت بعد فترة أن (حكيمة) نسجت علاقة مع أخي الأكبر مني. كانت تلح عليّ أن أبحث عنه لأخبره أنها تسأل عنه. أما هو فكان يقول لي:
ـ انس موضوعها.
صارت حكيمة تقفز من النافذة وتحضر إلى باب دارنا وتسأل عن أكبرنا بجرأة. أمي أحبتها لأنها شقراء قليلاً وبعيون زرق. تمنّتها لأكبر أبنائها. أنا كنت أرى فيها جنيّة كاملة الأوصاف. أمي تعتبرها حورية ماء.
نشأت علاقة بين أمي وحكيمة. طنجرة ووجدت غطاءها. شربتا القهوة المرّة. ونجّمت لها أمي بالفنجان. قرأت لها فيه ماذا تقول لها النجوم. لا أدري من أين تعرف أمي ماذا تقول النجوم! ربما علاقتها بالأولياء الصالحين جعلت منها امرأة مقدسة لها صلات بالوحي والأرواح الطيبة أو الشريرة. سيناريو قراءة الفنجان عند أمي معروف. سمعته أكثر من مرة. قرأت فناجين كثيرة قبل ذلك لعشرات النساء. السيناريو كالتالي:
صلي على النبي محمد، وبعد أن تصلي. تقول لها أن تلعن الشيطان. فتلعن الشطيان وتذكر اسم الله. يجب أن يطهر المجلس. المرأة الحائض يفسد فنجانها. الدم الفاسد يعطل مهمة الوحي. ويخرّب قنوات الاتصال. إذا أرادت امرأة بإصرار أن تقرأ لها أمي بالفنجان فعليها أن تعود بعد انتهاء العادة الشهرية وبعد أن تغتسل. ليكون كل شيء نظيفا. فلا يجوز مقابلة روح الله على نجاسة.
وتضع المرأة إبهامها الأيمن على قاع الفنجان المقلوب. وتنظر قليلاً. لا يجوز استعمال فنجان آخر غير الذي شربته تلك المرأة. وتقول أمي:
طريق سالكة رزق وفير سفر ودموع ـ انظري نقطة تسيل ـ شيء يقلقك. الأمور ستوضح عما قريب.
(حكيمة) كانت تشرب القهوة في بيتنا مرة أو مرتين في الأسبوع.
|