كاتب الموضوع :
تمارااا
المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
(6) ماذا حدث
أصابت أحد الأولاد لوثة. واللوث نوع من الحمق. وهو أيضاً مس الجنون. جاءت به أمه إلى أمي. فقالت أمي: "أنه ممسوس أو مصاب بالعين". سألته سؤالاً فجاوبها هذراً ومذراً. بكت أمه وقالت: "يا أم المؤمنين" أما أمي فقالت: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أنا لا أفعل هذا إلا بإذنه تعالى وبإرادته". وتابعت أم الملووث: "قال الناس إن يدك طاهرة تداوين الجراح بالبصاق. لعابك برهم وصلواتك بلسم". ردت أمي بطمأنينة ووقار: "قولي إن شاء الله".
واصل صديقي قائلاً: أخرجت أمي الأولاد والبنات من الحجرة المظلمة. وفي غفلة منهم اختفيت خلف الستارة الثقيلة. أغلقت النافذة الصغيرة وانزلق مزلاق الباب. أجلست أمي المريض. قرأت سورة الفاتحة والإخلاص. جلس المريض وأنا أنظر إليه متلصصاً من خلف الستارة. طلبت أمي إحضار وعاء وإبريق ماء. عتّمت الدنيا فجأة. راقبت عينيّ أمي. جحظتا متسعتين. اقتربت من الصبي المرتبك. طلبت من أمه أن تصب الماء على يديها. صبت. طلبت من الولد أن يدلع لسانه. مده. أمسكته بيدها أو حاولت. تمتمت. أدارته. وبحذائها ضربته على ظهره ضرباً موجعاً. تدفق الدم من فمه. ملأ الوعاء حتى طفح. رشت وجه الصبي بالماء وصبت قليلاً منه على رأسه، فنطق بكلام معافى. وتهلل وجه أمه وأشرق وجه أمي. وطلبت فتح النافذة وإزاحة الستارة. دخل الضوء الغرفة. وجه أمي كان مختلفاً تماماً بدخول الضوء. أخذ وجهها يعود إلى أصله بعد أن كان مختفياً قبل لحظات قليلة. ظهرت أنا من خلف الستارة. فعلتها في بنطلوني ولم تكن المرة الأولى. انطلقت عدواً للخارج لأتنفس الصعداء.
سألت صديقي في الحال: هل تقصد أن الفتى عاد إلى وضعه الطبيعي.
أجاب: لا أعرف. ماذا تقصد بالوضع الطبيعي؟ لقد فارقه اللوث. ولما انفتح الباب اختفى الدم وكأن شيئاً لم يحدث.
وهل يجوز ضرب المصروع؟ سمعت أن فتاة بكراً فضت بكارتها من الضرب، ومات ولد من يد الضارب. ليس معروفاً ما الذي دخل في الولد، هل هو من الجن أو غيره. لا أحد يعرف، إلا رسول الله ص.
الرسول ص فعل ذلك من قبل. ضرب صبياً خطم الشيطان (على) قلبه. ضربه بشفقة ورحمة حتى شفي.
(7) موت العنكبوت
اعتذرت من صديقي. خرجت للتبول. بيت المراح معتم ومخيف. أكرهه. حملت الفانوس. ارتجفت يدي. فوق سطح المرحاض المعدني سقط حجر وماء قط. لوح الزينكو مثبت على خشبتين عريضتين. تدلى من واحدة عنكبوت على خيط. دفعته بعيداً عني. سقط. دسته بقدمي خوفاً منه. كان ذلك دفاعاً عن النفس. لا أعرف إن كانت قرصته مؤلمة أم لا. فعلت ذلك. اقترفت جريمتي بحركة لا إرادية. ربما أردت أن أبعد المؤذيات عني. عدت مسرعاً أرتجف من الخوف. نظرت مرتين إلى الخلف. المرحاض ركن منزو ومعتم وقذر وواطئ ومرعب في آن.
ـ قتلت عنكبوتاً.
ـ كيف تفعل ذلك يا مجنون. (أنبني صديقي).
ـ دسته بقدمي. لا تقل "مجنون" أرجوك.
ـ لا أصدق ذلك وأنت الوديع. ألا تعرف أن العناكب حمت الرسول ص من الموت في غار حراء؟ العنكبوت يرمز للسكينة والهدوء.
ـ أي هدوء. إننا نعيش هنا في مقبرة أو أسوأ..
سكت صديقي قليلاً ولمعت عيناه. رغبت في دعوته إلى لانصراف. ولم أرغب في البقاء وحدي في غرفتي السفلية. أمي وأبي وأخي الصغير ينامون في إحدى الغرفتين العلويتين. في الغرفة الجانبية تنام أختي. أما في الغرفة السفلية فأنام أنا.
ورثت الغرفة السفلية الواطئة عن أخي الأكبر. وأخي الأكبر ورثها عن أكبر أخوتنا. مقابل غرفتي توجد غرفة من "الزينكو". نغتسل فيها ونخفي أمتعتنا القديمة والحاجيات المهملة. هناك تنام الفئران والعناكب. هناك أيضاً برميل الطحين. ذلك المخبأ الرائع، في زاوية تلك الغرفة. فيه أخفيت أوراقي وأشياء أخرى. خجلت من نفسي لأني كبرت وأخاف. كنت أود لو أن صديقي يستطيع أن ينام أيضاً.
(8) اذا جنح الليل
تنحنح صديقي وكأنه يود الانصراف. نهض ونظر عبر النافذة ثم بدأ الحديث مجدداً."إذا جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً."
وصمت قليلاً ثم واصل:
ـ هذا حديث للنبي ص، رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي. وورد هذا الحديث في صحيح مسلم وافياً كالتالي: "إذا جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقا، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم. واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليهم شيئاً وأطفئوا مصابيحكم" واقترب صديقي أكثر من النافذة، وقال: أطفئ النور فضوء القمر يكفي.
وددت لو يختفي هذا الولد اللعين. حينئذٍ أغلق الباب والنافذة وأطفئ النور على عجل، وأنام القرفصاء حتى يجيء الصباح. كدت أصرفه. هذه الليلة تكفي. ولكنه نهرني بقوله:
ـ ألا تعرف ماذا يعني الرسول ص "أوكئوا قربكم"، أي أوثقوا بإحكام إغلاق ذلك الوعاء الذي يحوي الماء أو اللبن أو نحوهما. أما "خمروا آنيتكم" فتعني إغلاق أواني الطعام وغيره. وصمتنا معاً.
أصغيت وأصغى. الماء ينقط من حنفية برميل الماء المحاذي لغرفتي. دار صديقي حول نفسه دورة كاملة وتناول إبريق الماء. كان فارغاً يصفر فيه المرء. نحن نشرب من إبريق البلاستيك في المخيم 1975، فلم تصل بعد حضارة أكواب الزجاج.
يا للأشياء. إنها شريرة أحياناً من غير أن نحتسب. كنت دائماً أملأه قبل النوم. هذه المرة نسيت. لا أدري لماذا؟! لن أطلب من صديقي أن يملأه. فلا يجوز تشغيل الضيوف. عرفت أنه يرغب في الماء. لماذا لا ينصرف ويشرب في بيته؟! صرت أشعر بالضيق. خجلت من نفسي. أخذت الإبريق ومددت يدي لالتقاط المصباح.
ـ أنت خائف، لا تنس إغلاق الحنفية جيداً.
لم أجب. تركت (مصباح الكاز) معلقاً على مسمار الحائط. فتحت الباب على مصراعيه لكي يتسرب الضوء من الغرفة إلى الخارج. فتحت الحنفية على وسعها وملأت الإبريق بسرعة البرق. أحكمت إغلاق الحنفية بشدة، ولم أطرق هذه المرة على البرميل لكي أعرف مستوى الماء. انطلقت عدواً إلى الغرفة وأغلقت الباب خلفي مسرعاً على الرغم من أن حرارة الجو في الغرفة كانت مرتفعة نسبياً. تصنعت الهدوء وتحركت في الغرفة باتزان حتى لا ينتبه صديقي لخوفي وارتباكي.
اختطف الإبريق من يدي وفتح فمه واسعاً ورفعه عالياً جداً وصب الماء في حلقه فدلق الماء في فمه وعلى رقبته.
ـ الماء ساخن. (قال)
وأوقف الإبريق بين قضيبي الحديد المثبتين في الشباك. ربما أراد بذلك أن يبرد الماء. المنظر غير مريح، ومخيف في أجواء مثيرة كهذه، ولكن ماذا أقول لهذا الشيطان؟! لم أطلب منه أن ينزله إلى الأرض. تحاشيته، وقلت له:
ـ أتعرف يا صديقي، لن يصدق أحد أنك شيوعي وتعرف كل هذه الأشياء عن الشيطان والجن وإبليس وغيره. ومن يصدق أنك غير مؤمن وتحفظ هذا الكم من الآيات الـقرآنية والأحاديث النبوية؟
لم يجب صديقي وظل وجهه جامداً.
رغب في الانصراف. تمسكت به بحركة لا إرادية وطلبت منه البقاء. بقي. ولم أطلب منه نزع الإبريق من النافذة وإغلاقها، فالجو خانق، وإبليس لا يفتح الأبواب. من يعرف، ربما يدخل من النافذة! تنهدت واقتربت من النافذة. سحبت الإبريق وشربت جرعة ماء ساخن. صوت محرك سيارة جاء من بعيد. دخلت معه نسمة هواء ساخنة.
سأخبرك كيف صرت شيوعياً! قال صديقي. " ربما تكون هذه الحكاية أفضل من حكايات العفاريت والشياطين "، قلت لنفسي، فأصغيت إليه.
أحب أن أخبرك بصدق أنني لم أكن ولست شيوعياً أو كافراً. إنني أقرأ وأفكر وأربط الأشياء بعضها بعضاً بشكل جدلي. أحلل وأقرأ بشكل نقدي ـ جدلي. هذا كل ما في الأمر. ما يقوله بعضهم عني زوراً وبهتاناً باطل. ببساطة بدأت أقرأ الكتب الفلسفية مبكراً. تعرفت على ولد اسمه (راجح). كان يقرأ بنهم وله ذاكرة عجيبة. يحفظ مقاطع طويلة لفلاسفة ومفكرين كبار. لماركس وانجلز ولوكاس ونيتشه وسارتر وغيرهم. تصادقنا. تبادلنا الكتب والمعلومات. صرنا ننزل الشارع نتجادل ونتأبط الكتب.
ذات مرة جاءني طالبان من مدرستي. أحدهما ملتح والآخر حليق. أرادا أن يدعواني إلى التوحيد والذهاب معهما للصلاة. وقالا إنهما من رجال "الدعوة".
ـ لماذا أنا؟ تساءلت.
ـ سمعنا أنك ملحدً. قال أحدهما.
كانا لطيفين معي لدرجة أنني توجست شراً. وتابع الآخر:
ـ أتريد أن تجيء معنا إلى الجامع كي تتوضأ وتصلي ركعتين لوجهه تعالى؟
ـ بصراحة أنا لا أحب جماعتكم، أما الصلاة، فسأقوم بها في جامعنا.
قلت لهم ذلك بجرأة. تنبه الأول لجرأتي، وأراد إنهاء الحديث بسرعة، فقال:
ـ انتبه يا كافر لنفسك، وكف عن نشر الأفكار الشيوعية، وإلا سنعاقبك.
خفق قلبي وارتجف. أردت أن أنطق بشيء دفاعاً عن نفسي، لكنهما ابتعدا بسرعة. رفع الثاني سبابته نحو السماء ولوح بها. لا أدري إن كان يشير إلي بالتحذير أو يشير إلى الله بأنه واحد أحد أو يشير إلي بالشهادتين "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
لم أرتد. ولم أكف عن قراءة الكتب الفلسفية، ووجدت في (راجح) ملاذاً. صرت أصعد الجبل يومياً كي أقابله هناك. في سفح الجبل حفرة على شكل أريكة تطل على المخيم. وعندما يخرج من بيته القريب مهرولاً نحو السفح، أراه، فأخرج من البيت على عجل. أقطع الوادي الآسن. أصعد بسرعة إليه في المكان المعهود. لم أره قط دون كتاب. كان يفتح إحدى الصفحات ويقول: سمّع لي. من هنا. ويقرأ غيباً. ذات مرة قال لي عن الشخصية السوية وغير السوية من كتاب بعنوان "قضايا فلسفية"ً:
الحديث عن الشخصية السوية يقتضي الحديث عن الشخصية غير السوية. فكلمة غير سوي، تعني بصفة عامة، ومن الناحية اللغوية، الشذوذ أو الانحراف عن القاعدة أو المعيار. الشخصية غير السوية إذن شخصية مغايرة، شخصية تخرج عن المعيار. وبهذا يكون الشخص السوي من كان سلوكه يتطابق وهذا المعيار."
ـ أي معيار تعني؟! تساءلت مستغرباً.
ضحك صديقي من اهتمامي وتابع مستفسراً عن رغبتي في مواصلة الاستماع، فأشرت له بالإيجاب، قال:
ـ الحديث سيطول، ألا تريد النوم؟
ـ كلا. وألححت على صديقي أن يكمل محاضرته، فواصل
|